ناجون من البحر ..غرقى في المنفى

التخطيط لموفق أحمد من كتابه (أيام الموت)
 
لست أدري إن كان الفنان التشكيلي العراقي المغترب موفق أحمد محظوظا أو غير محظوظ لصدور كتابه ( أيام الموت – قصة الفرار مرسومةً) قبل زمن قصير من التراجيديا العالمية المدوية التي خلقها غرق مئات المهاجرين في البحر وهم في طريقهم هربا من أوطانهم: سوريون وعراقيون في الغالب وبعض الجنسيات المنكودة التي حكمت عليها أوطانها بأن تلفظها من جحيمها حاملة ماتبقى من ذكريات وآلام ثم تهبهم لأمواج البحر يدفن اجسادهم وهي تتعلق بقشة الهجرة والعيش بسلام فلا تلقاه إلا وهي تطفو على السطح هي وأحلامها وأوهامها.
كان الفنان موفق أحمد قد أصدر كتابه( أيام الموت )في هولندا عام 2013 قبل عامين تقريبا من التراجيديا المدوية التي نبهت الضمير العالمي لمأساة المهاجرين واللعنة التي تطاردهم: محاصرين في اوطانهم ومخدوعين في المهاجر المؤقتة وموتى في قوارب العبور صوب الأمن الذي تخيلوه. كتاب موفق أحمد – نشر باللغتين العربية والهولندية متضمنا رسوما أو سكيتشات بالأحرى منفذة بالقلم الأسود المعتم، وهي تبدو كمنحوتات أو كوابيس تمثالية لا مجرد تخطيطات نفذها موفق في سجنه باليونان التي حكمته؛ لأنه دخل أراضيها بلا تأشيرة ،فساعدته المترجمة العراقية في الحصول على ورق صغير قياس13-18 سنتيمتر وقلم أسود؛ ليدون ما اختزنته ذاكرته من رحلة الموت التي ستتكرر وتشيع في أواخر صيف 2015 .كان ما سجله موفق ورسمه اختزالا للقصص كلها .تلك التي سيهتز لها وجدان البشر وتغدو جثث ضحايا الهروب عبر البحر من تركيا إلى اليونان فأقطار أوربا الأخرى شيئا أشبه بالأيقونة التي ترمز لماراثون بشري من العذاب والعناء.
لقد عرفت موفق أحمد خلال عمله مدرسا في صنعاء في نصف التسعينيات الثاني و شهدت ضيق حياته وسكنه ما أثر كثيرا في أعماله وحدد اشتغاله الفني .ثم تابعت هجرته للأردن وعمله في التدريس وتوسع رؤيته ومعاودة حيويته ونتاجه. لكنني لم أعلم بما عاناه كي يصل إلى منفاه الأخير في أوترخت  إحدى مدن هولندا القصية .في الجزء السردي من الكتاب يحكي موفق عن بداياته وقراءاته وتأثره ودراسته ، لكن ذلك كله ليس الا عتبة أو مدخلا لتجربة الهروب الخرافية التي شهد فيها الموت في الحياة، لكنه استنجد بفنه وذاكرته ووعيه ليسلطها على واقعة الهرب والغربة والمجازفة والموت والحياة ثانية ،ويرصدها بكثافة القلم الأسود والخطوط الخارجية بالغة الكثافة والقريبة من المنحوتات.لقد رصد كل شيء : البحر والزوارق الخادعة التي يغش المهربون ضحاياهم من خلال حشرهم داخلها.الغابات التي عبروها مشيا على الأقدام في ظلام الليل حين يستبدل حراس الحدود نوبات عملهم.الأكياس المحمولة على الظهر كميراث وحيد خرجوا به من حياتهم الأولى.العطش والجوع والعناء ثم العجزعن المواصلة. يسقط الفنان على الأرض إعياء فيظنونه ميتا. سيترك الدليل ضحيته ملقى على الأرض بل يجرده من آلة التصوير والنقود والاوراق الرسمية.وسيدرك موفق أن ثمة حيوانات تتشمم أعضاء جسده وتدور حوله.يستيقظ كما لو في حلم أو كابوس ليسير بواسطة عصا مقتلعة من شجرة دون أن يدري بأي اتجاه هو.بصيص الأمل الوحيد هو المزرعة التي تضم أقفاصا لتربية الخنازير سيصلها متعبا نصف حي؛ ليسلمه راعيها لمركز الشرطة، ولتبدأ معاناة جديدة . محاكمة وسجن وتدخلات إنسانية تنجده خلالها أعماله وموقعه على الإنترنيت الذي يضم أعماله في الرسم والخط وأرشيفه ومعارضه التي أقامها في عدة عواصم. لقد نجا موفق من البحر ووحوش التهريب والغابات، لكنه سيغرق في المنفى ،وسيمرض بعد وصوله هولندا ويعيش بكلية واحدة .
رسومه المصاحبة للكتاب تغرق في سواد يفهمه اثنان : قارئ كتابه ومهاجر نجا مثله ثم غرق في المنفى.الطبيعة التي مجدتها رسومه الأولى بنور اللون وبهجته كانطباعي واقعي محتف باللون ستكون ذكرى مجردة من دلالتها إزاء عتمة تخطيطاته المعبرة عن بلاغة نصه أو قصة موته ومفردات أيامه.شهادة موفق أحمد تعبير فني وسردي عن عناء تلك الأرواح التي صارت مادة شائعة في الأشهر الأخيرة : أرواح نجت ثم غرقت ثم عادت لتروي قصصا بلا نهاية.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*