يوم حدثنا المتنبي -د.علي حداد

 
 
العمود الأسبوعي في جريدة (الحقيقة) 2015/1/7
عقد في محافظة واسط ـ قبل أيام ـ مهرجان (المتنبي)الثاني عشر.وعلى نهج من النبل متبع في هذا المهرجان ـ عبر استذكار واحد من مثقفي المحافظة أو مبدعيها ، وإطلاق اسمه مظلة احتفاء خاصة ضمن المهرجان نفسه ـ فقد سميت دورته لهذا العام بـ (دورة الناقد الدكتور حاتم الصكر)،وهو الشخصية الثقافية المنتمية أصولها إلى ريف هذه المدينة ، والاسم النقدي الكبير الذي تجاوز حضوره مجال الممارسة الأدبية والنقدية العراقية ، ليصبح واحداً من الأسماء التي أشرت وجودها على صعيد الثقافة العربية ومجالات فعلها الإبداعي، من خلال دأب قرائي متميز أشر خصبه الخلاق وتنوعه، فهو شاعر وناقد لمختلف جماليات الإبداع الأدبي والفني تلك التي أصدر فيها أكثر من عشرين كتاباً ودراسة ، وهو رجل إعلام ثقافي ورئيس تحرير واستشاري لعدد من المجلات الأدبية العراقية والعربية ، وكتاباته المعرفية والجمالية مما اتسعت لها صفحات الدوريات العربية ، ومثلها في عدد من بلدان الغرب ، ولاسيما وهو في مغتربه الأخير في الولايات المتحدة الأمريكية. ومن هنا يصبح الاحتفاء به في بلده ـ وفي المحافظة التي عرفته صبياً وشاباً ، ومدرساً وأديباً أطلق في فضائها الثقافي أول أعماله الشعرية ـ حالة من الوفاء النبيل ، وتشريفاً للمحتفي والمحتفى به.
تربطني بالدكتور (حاتم الصكر) أكثر من صلة غير صلة القربى التي لم تكن وحدها من عرفتني به وقربتني إليه ، فقد توطد حضوره في رغبة الاطلاع والقراءة التي وجدنا ذاتنا تلوذ بها مبكراً ، لتتسع بما وصل إليّ من نصوصه الشعرية في ديوانيه الأولين:(مرافئ المدن البعيدة ـ1975م) و(طرقات بين الطفولة والبحرـ 1980م)،ثم تحوله إلى الكتابة النقدية اللافتة بذكاء رصدها،ولاسيما مقاله الأسبوعي في صحيفة (الجمهورية) الذي سيحيل عتبة عنونتها (الأصابع في موقد الشعر)عنوان كتاب نقدي مهم أعلن فيه عن مشروع قرائي جديد رفد فضاء النقد العراقي المتعطش إلى المثير والذكي والعميق من القراءات .
وتعمقت صلتي بالصكر في خلال سنوات الإقامة في اليمن التي تجاوزت السنين العشر ، حيث توطدت بيننا علائق من الود والتماثل الوجداني وحميمية البوح لبعضنا ، ونحن نعايش غربة كنا (نلاويها) بالذي نتأمله أو نستعيده ، أو نعبر عنه كتابة مهمومة بالوطن الذي كانت مكابداته تزداد قسوة كلما قال بنوه لأقدارهم : يكفيك .
وعبر تلك السنوات من تأمل وجود الدكتور (حاتم الصكر)الإنساني والثقافي فلعلي أستطيع الزعم الآن أني أمتلك بعضاً من مقومات الحديث عنه ، وعن فضاء وعيه الذي صفت بين يديه مياه المعرفة حد إصغائها المندهش لمقدرته على الكشف والاستنطاق والتمثل المعرفي .
يكاشف من يستقري السيرة الثقافية للصكر بتأسيسها الأكاديمي التراثي ، فهو خريج كلية الشريعة ،ليتواصل ذلك عنده عبر تكريس حيز مهم وخصب من ممارساته القرائية لموضوعات التراث ووثائقه التي قدم فيها واحدة من أعمق مشاريعه في قراءة المتن التراثي التي طالما عبر عن اعتزازه بها ، وأعني تلك التي حواها كتابه (البئر والعسل ـ 1992م).
وحين شرع آفاق انشغالاته المعرفية نحو المزيد فقد تملكته وجهة دائبة من القراءات والتأمل والاستعادة واستنطاق مقدرات الذات وخبراتها عبر مناحي وجودها الإنساني المتسع ، ليندس ذلك كله بإطلالته العميقة على المعاصرة ومنهجياتها الحديثة ، تلك التي قرأها بذائقة ووعي خاصين تحققا في متن من الإنتاج النقدي حفلت به كتبه ومقالاته ودراساته التي كانت رصيداً من التميز الذي جلب الانتباه إليه ، وبوأها مكانتها في ساحة الانشغال الأدبي والنقدي في العراق. ولأن إمكانات(حاتم الصكر)من الاتساع المعرفي المشتجر فقد كانت الوجهة الأكاديمية في متناول يديه ، إذ سرعان ما حصل على شهادتي الماجستير والدكتوراه ، عبر كتابين كانا عنده إضافة نوعية إلى مسار إنتاجه الثر ، وعدا ـ بالنسبة للدرس الأكاديمي العراقي،وكذلك للنقد العراقي والعربي معاً ـ فيوض معرفة وكشوفات قراءة حصيفة ، من خلال تخير الموضوعة ورصد مكنونها المعرفي وتكييفها في مساحة من التداول الفاحص بعمق. ليضعنا في أفق التمثل بمقولة تروى عن الدكتور (طه حسين ) مفادها : إن هناك الكثير الذين يفخرون بشهاداتهم العليا ، ولكن هناك القليل الذي تفخر الشهادة العليا به . وكان (حاتم الصكر) من ذلك القليل ، بل من صفوته.
كانت واحدة من تجليات شخصية الصكر الملأى بقيمية معرفية وأخلاقية عالية أنه تبنى التبشير بالقادم من الأفكار والتجارب والمنجز الثقافي الذي يجده جديراً بذلك . لقد كان من أوائل الذين واجهوا التجارب الشعرية الواعدة للشعراء الشباب في العراق ، فكان كتابه (مواجهات الصوت القادم ـ1987م).وحين شرع تأملاته تستقصي واقع أدب المرأة في اليمن ـ سني إقامته فيها ـ ومسعاها لمماحكة الوجود الثقافي في مجتمعها فقد كانت تلك منطلق كتابه (انفجار الصمت ـ2003م) ، وإذ سعى إلى إشاعة ما راحت فضاءات الإبداع الحديث تخبر عنه من تداخل بين الأجناس الأدبية كانت أطروحته للدكتوراة ـ كتابه فيما بعد ـ (مرايا نرسيس ـ 1999م).
أما تمليه للحداثة ووعيه بها فلعل أبرز سمات تمسكه بوجهتها واعتمادها دستور مثاقفة ومآل مكاشفة قرائية مايتجلى في تبنيه الجاد لقصيدة النثر تلك التي خصص لها مدارج عليا من تنظيراته وفحوصاته النصية ، وبعض ذلك ما حواه أكثر من كتاب عنده ، ومنها كتابه (حلم الفراشة ـ2004م).
ومع اتساع مساحة المقاربات الفاحصة عند الصكر لمجالات الإبداع الأدبي والثقافي وانهماكه بما يرصده ويؤوله من شعريتهما تبقى الهوية الغالبة لتوجهاته أنه ناقد شعر ، يذهب في معاينة منجزه بعين مدربة وحاذقة ومزودة بأدوات حفر رصينة تستدرج النص نحو اشتغالات صاحبها وذائقته في مكاشفات تأويلية أخاذة ، وذلك ماتنبئ المتلقي به قائمة مؤلفاته السابقة واللاحقة.
وربما كان علي أن ألفت انتباه التلقي بدءاً إلى شعرية العنونة عند الدكتور (حاتم الصكر) تلك التي تحمل إشارات تكاشف التأويل القرائي بقيم من التمثل الدلالي الذي كان الصكر من أوائل النقاد العراقيين ذهاباً إلى استثمار طاقته ، وتوجيه الدرس القرائي إلى أفق من العنونة المنتجة.
أخيراً … يطول الحديث عن الدكتور (حاتم الصكر) لأن في القلب والروح وانهمارات الوعي الكثير من مستندات مودته . ولم يبق لي هنا ـ وهو الغائب الحاضر ـ إلا أن أعتكف على شيء من التفاؤل الآمل بعودة إلى وطنه يوماً ، ومعه الكثير من مثقفي هذا البلاد ومبدعيها وعلمائها وفنانيها أولئك الذين كلما قلنا سيقتربون من جرف اشتياقنا نأت بهم أقدارهم وحظوظنا ـ نحن العراقيين ـ بعيداً ،لتمنعنا أن نتدفأ بالحضور البهي لهم ، وبما غمرته مواسم عطائهم من أصقاع الدنيا كلها ، تاركين بين يدي تلهفنا ما لا يكفي لأن يمد رداء دفئه ليدثر شوقنا إليهم بشيء من الصبر الجميل ..وأمل الانتظار.
* * *
أدري بأن إناء البوح منكسر
وأن شوقي إلى ما فيه شوق ظمي
لكن ليلين غاما… فانكفأت على
متاهة الروح أحسوها بملء فمي
أعيد تكرار ذاتي … كلما ارتعشت مرآة وقتي
تدلى يابساً حلمي.
أقدارنا أننا فيها نلوب إلى فضاء أخرى،
وأخرى أسرجت بدم
وكل مابين أيدينا شراع غد
ومحض أسئلة من يابس الألم :
متى سنرجع يا… نحن ، وقد كسرت
مرآتنا صمتها …والقلب لم ينم ؟!
Top of Form
إعجاب ·  · مشاركة

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*