هايكو الحرب:   آثار الرصاص وثأر المترجم

 
 
 
 
 
أيها المحارب القديم
هل أنت سكران بالنبيذ الردئ
أم بالذكريات؟
باتريك فيتو- فرنسا
 
يريد الكاتب آزاد إسكندر في كتابه ( هايكو الحرب-آثار الرصاص من أنحاء العالم)-دار فضاءات -عمّان 2017 أن يتلمس شظايا الحروب و جرائم مقترفيها كما عكسها البشر في بلدان شتى وجغرافيات وثقافت متنوعة. لكنه في تقديم موجز للمختارات التي أختارها بنفسه وترجمها ، يفصح عن حقيقة ستجعل قراءة النصوص موجهة بفعلها ،حيث يقول( إن هذا الكتاب ثأر شخصي صغير من الحروب ومقترفيها ).
لكن إفصاحه شحيح بقياس الفاجعة التي يلمح لها حين يقول(غيرت الحرب حياتي مرتين، ونفتني مرتين،مرة إلى بلادي الأم ومرة منها، مرة طفلاً ومرة شاباً)
لذا توصل إلى طريقة يثأر فيها من الحرب عبر كتابه هذا الذي عكف على جمع نصوصه بصبر وتقصٍ؛ لتأتي النصوص قصيرة لا تتعدى الثلاثة أبيات وبروح الهايكو التي نعلم أنها تنبثق من الطبيعة وتمجدها، وتحتج على ما يسيء لها.هكذا ولدت في منشئها الشرقي وجاءتنا مترجمة عبر لغات وسيطة.وقد تعقب آزاد نصوص الهايكو الحربية هذه، ولكن بالإحتكام إلى مدى قربها من جذر الهايكو التقليدي. أي بارتباطها بالطبيعة غالباً -كما سنرى-  وما ينعكس عليها من دمار جراء الحروب وحرائقها ، أو أن تكون الطبيعة شجرا ومطرا ورياحا وسماء وأرضا ونهرا وسواها مناسبَة للوصول إلى الرسالة الثأرية من الحرب التي تعهد الكاتب بإيصالها.
الشعراء ليسوا مكرسين أو معروفين غالباً، يقدمهم لنا الكاتب بكونهم محترفين وهواةً: جنوداً ومحاربين سابقين ،ضحايا وقتلى – على قيد الحياة- كناية عن هول ما جرى لهم ،إذعصفت بهم الحرب وشهدوا مآسيها الدامية ،فقضت على ما تبقى من حيواتهم وتفاصيل أيامهم القادمة..
العراقي الذي أُتخم حرباً وأهوالاً يفتح نافذة حزنه على العالم، يتقرى ما حل ببلدانه وبشره من فظائع وكوارث.معتقداً في التقديم بأنه ما مِن بلد على الأرض  وعبر الزمن لم تمسسه نار الحرب ،فيكتوي بشره بها. لكن آزاد اختار أن يقدم نصوصا من أكثر البلدان تعرضاً للحروب وويلاتها.
هكذا حضرت أسماء من فيتنام واليابان وأفغانستان والصومال  وصربيا وأمريكا  ومن أوربا أيضا.نصان  يحملان اسمين عربيين فقط:أحدهما  من فلسطين ، والآخر غفل من النسبة ،ولادليل لنا  سوى الإسم الأول.لكن العرب حاضرون هنا بفواجعهم ومحنهم وخراب أوطانهم.حيث تناولت بعض النصوص مآسي الحرب على العراق أو ما حلَّ بأسَر أولئك الذين فقدوا حياتهم هناك من جنود الجيوش التي شنت الحرب.وثمة نصوص عن فلسطين ولبنان تستوحي ما شهدت وتشهد من حروب وخراب ومظالم .
ولكن؟
–  كيف تحقق للكاتب شرطه الفني والشكلي بأن تكون النصوص المختارة والمترجمة كلها عن الإنجليزية مقاربة لروح الهايكو كما يقول؟
– وكيف سيجتمع النقيضان: بشاعة الحرب ورقة الهايكو؟مناظر الدم المراق والطبيعة الحبلى بالأمل والجمال؟
ذاك ما تساءلتْ عنه أيضاً الروائية العراقية إنعام كجه جي وهي تقدم للمختارات. ولكن النصوص وحدها  تقدم الإجابة العملية على التساؤل.
أغلب النصوص تبدأ من الطبيعة لتتدرج ببلاغة وتكثيف إلى بشاعة الحرب.
تبدأ بحقل أو سماء أو غيوم ومطر وريح ، أو يلجأ النص لكائنات الطبيعة وسيلة لغرضه ، فنجد الحمائم والفراشات والنحل والغربان والشجروالرياح والحقول تشارك في اقتسام الألم ،وتتلقى شظايا وجراحاً من دوي قنابل الموت  وأوزارها ، بل تشارك أحياناً في فرح السلم أو الهدنة التي تعطي فسحة للحياة.
صفارة إنذار
الناس يهربون إلى الملاجئ
الطيور إلى السماء
تكتب شاعرة من كرواتيا عن كائن وحيد قادر على اختراق حقل الألغام:
وحدها الريح
تدوس على
حقل الألغام
أو الحديث مع الشجرة عن المطر..والحرب!:
 
أتحدث إلى الشجرة
عبر النافذة
عن المطر..عن الحرب
شاعرة من بلغاريا تستلهم الصحراء التي غدت ساحة حرب طاحنة، ولكن بشاعتها لا
تُرى لأن الريح تمحو الأثر، و(تحجب) المشهد عن الناظرين:
الرياح حجاب
على وجه الصحراء
لا أحد يرى الألم
لقد وظفت كل ما توحيه حرب الصحراء وما يمثله أهلها (الحجاب)، وما يطفو على أديمها  (الرياح)، تلك التي غدت حجاباً على وجهها ،فلا يعود بإمكان أحد رؤية ألمها.
لقد توفر في النصوص رغم جهلنا بكتابها-حيث لا تعريف بهم، وإغفال بلدانهم أحيانا، ما في الهايكو من اختزال سأمثل له بنص دال يفيد من تبعات الحرب دون التعرض لها مباشرة .
إنه يذهب ببلاغة ورمزية عالية لما يشبه عمل الكناية بذكر لوازمها دون ذكرها:
في أكياس سوداء
هواتف نقالة
ترن دون انقطاع
إنها قلوب الأهل الذين انقطع صوت أبنائهم الجنود عنهم، أوصوت المدنيين الذين ماتوا ،وظلت هواتفهم ترن دون رد، بعد ان جمعت كنفايات حرب في أكياس سود ؛لتلائم جو الحداد الذي أراده كاتب النص.
تأثيث النصوص كلها يتم بلوازم الحرب وديكورها المطلوب بصرياَ.ثمة مفردات الحرب ومستلزماتها: القنابل والطائرات ،وصفارات الإنذار ونقالات الموتى، والدمار المتبقي والأقدام المبتورة والأيدي المتطايرة، وحقول الألغام وخطوط التماس ،وعدة الحرب كلها صغيرة وكبيرة: الخوذة والملجأ ، والطلقة والمدفع.وبجانبها تستكين الطبيعة.لذا كانت عبارة المترجم شديدة الدلالة حين تحدث في تقديمه عن (الأغنية  التي وقفت في وجه المدفع، وقطرة الندى التي أغرقت نهر الدم).
كثير من النصوص بسبب اختزالها وبلاغتها ورسمها لمشاهد الحرب وتبعاتها تقترب من اللوحات المرسومة.تلك الأهوال التي خلدها فنانو العالم عن الحرب .كهذا النص من سلوفينيا مثلاً وهي من البلدان التي نالت حصة ضخمة من الألم:
يد بتراء
تحاول عبثاً
أن تمسح الدموع
 
صورة تليق بمنحوتة خشنة وبمادة صلبة ،لكنها تخترق القلب وتدميه.
وهذا نص يدل ببلاغة على الإفادة من قاموس الحرب بجانب استحضار الطبيعة:
هجوم بري
الزهرة البرية
في مكانها
تشهد الطبيعة على الجريمة في هايكو مؤثر:
مطر خفيف
يغسل دماءََهم
بدمائِهم
وكما في أعنف التراجيديات لا ننتبه لأسماء الكتّاب قدر انتباهنا لما يحصل من أحداث وتفاصيل.
ها هنا تسجيل ذكي عما حصل في العراق حين تلقت مدنه ومواطنوه أعنف الضربات الجوية مع ساعات الفجر الأولى:
 
بغداد
في فناء بيت قُصِف
زهرة خوخ مزهرة
أما أطفال العراق فيظهرون في كادر الصورة بكلمات نص من تايوان بهذه الهيئة :
قطرات ندى ربيعيى
تعلقت بورقة عشب
أطفال العراق
ومن فرنسا يلتقط نص موتيفات  أو شذرات من بغداد:
بغداد
سجادة الصلاة
القصف
الضحايا مختلفون.هذا جندي عاد من غزو العراق فالتحق برعيل الضحايا:
عاد من العراق
في موسم جني التفاح
بلا يدين
اليابانيون يجدون حتى الآن في ذاكرة هيروشيما أمثولة لبشاعة الحرب:
ذكرى هيروشيما
الأنهار
تذكرني بالعويل
 
ومن لبنان مشاهد أخرى يرصدها هايكو من ألمانيا:
هنا مطر صيفي
في لبنان
قنابل عنقودية
ومن فلسطين عن أطفالها اللاجئين هذا النص:
مخيم لاجئين
تسأل أباها
((ما معنى كلمة(لاجئ)؟))
ثمة مشاهد من كابول وأخرى من فيتنام.الضحايا متنوعون، ولكن يتوحدون بالألم ذاته.إنها لغة الحرب ولعنتها.حيث يتباعد الحب كما ينقل لنا هايكو طريف يستفيد كاتبه من التكراربالتداعي :
الحب والحرب الحب و
الحرب الحب  والحرب الحب والحرب
الحب والحرب الحب و
ينقطع الصوت هنا ،والكلمات تتوقف كناية عن انفصام الحرب والحب عن بعضهما، رغم محاولة اللغة ترويضهما.الهايكو نفسه لا ينجو.مثل جندي جريح فقد ساقه، يعثر أمريكي شاعر على هايكو من بيتين!
وجدتُ في مكان الإنفجار
هايكو من سطرين!
لقد طالت الحرب كل شيء وفقد النص سطره الثالث..فتماهت القصيدة مع الحدث وجاء الهايكو ببيتين فقط.
هي الحرب إذاً ..تلك التي قال عنها شاعر جاهلي إنها تلك التي علمتم وذقتم ،وليست خبراً او حديثاً. هي تنسل  شؤما من  مواليدها، وهي نار تضرم بضراوة كلما أججها البشر.درس تنساه ذاكرة البشر أنفسهم ؛ فيعودون لاختراعهم الشائه الدميم : الحرب ،كلما عزت عليهم الوسيلة.
 
 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*