البيان الشعري وشعراؤه- مراجعة نقدية

البيان الشعري وشعراؤه

 

 

تضمنت  الإشارة التي سبقت متن كتاب الشاعر خالد علي مصطفى( شعراء البيان الشعري) وعداً بأن يكون( إعلاء الصوت) بديلاً (لصمت العقود المنصرمة) ويعني السنوات التي تلت صدور البيان الشعري ببغدادعام  1969.وذلك الوعد يحفز القارئ – أو يوجهه – لتلقي شهادة عن البيان الذي شغل الكتابة الشعرية العراقية كثيراً ، ونال من الجدل والنقاش ما ظل صداه لعقود تالية ،انطلاقاً من طليعية البيان ،ودعوته للكتابة بطريقة يمكن وصفها بالإختلاف عن السائد. وتوقيعه من الشعراء المعروفين حينها بحيويتهم  وحضورهم ،وهم فاضل العزاوي وسامي مهدي وخالد علي مصطفى وفوزي كريم.

وذلك  يزيد من  فضول القارئ ، ويوسع أفق تلقيه وتوقعاته ،لكون الشاعر خالد علي مصطفى مؤلف الكتاب هو أحد الأربعة الموقعين على البيان الشعري الذي ظهر في أول أعداد مجلة شعر 69 التي صدرت ببغداد تعبيراً عن المغايرة والإختلاف والإحتفاء بالنص الجديد .

كما أن البيان جاء في سياق تحول في الشعرية العربية ذاتها تأثراً بما حصل في حزيران 1967، وبيانات الشعراء وتجمعاتهم ،وقصائدهم المتناغمة مع حالة الشارع المحبط بفعل الهزائم.وهذا سبب مباشر في ما ظهر في البيان من روح التمرد والدعوة للمغايرة والجرأة ،والإيمان بالقصيدة التي وصفها البيان في أسطره الأخيرة بأنها(آخر طلقة في بندقية هذا الكائن البدائي المتحرر، والمعقد، الواعي غير المتأكد، والذاهب إلى غايات عالم لا يمكن معرفة مغزاه ابداً.) وهذه الكلمات تلخص الأزمة العامىة لا أزمة المثقف وحده ،بعد السقوط الهائل للقناعات والأفكار والرؤى السائدة بعد هزيمة حزيران 67.

لكن ذلك لن يتحقق في الكتاب .فقد نأى خالد بنفسه عن تقديم أية شهادة عن البيان  الذي وصفه باقتضاب في أسطر قليلة من كتابه المكوّن من قرابة مائتي صفحة، بالقول إن ما اشتمل عليه من مثيرات موضوعية أو ذاتية  كمدونات الستينيين الأخرى التي تقع (خارج الفضاء الشعري).ولا أفهم كيف يستقيم هذا الحكم على بيان كان يتناول الكتابة الشعرية في الصميم ، مهما اختلفنا حول أطروحاته وأفكاره. بذا خسرنا شهادة  ذات قيمة فنية وتاريخية من داخل الفكر البياني ذاته، تتصل بظروف كتابته ودوافعها، وحقيقة صياغته وعائديتها لفاضل العزاوي، وتعديلها من الجماعة ، وسوى ذلك مما ظل روايات متناقضة غالباً في ما صدر عن الجيل الستيني العراقي، وما أثار من قلق كان مطلوباً لتحريك المياه الشعرية الراكدة ،بعد موجة الرواد القوية، وتعديلات الخمسينيين الخجولة وغير المؤثرة غالباً.

تراجع البيان الشعري إذن إلى الهامش ،وهذا ماحصل إذ ألحق المؤلف نص البيان في ملاحق الكتاب، بل في آخرها.

وإذا كنا نأمل في الأقل أن نقرأ شهادة على الجيل نصاب بخيبة أمل أخرى ، فالكاتب لا يؤمن بالتجييل، ويضطر إلى استخدتم المصطلح اضطراراً، ومتابعةً لخطأ شائع لكنه مستقر في المفاهيم النقدية .ولا يحظى مقترحه باستخدام مصطلح جيل مابعد السياب بالقبول، حتى أنه لم يستخدمه في سياق كتابه.

الصوت الموعود إذن سيكون دراسات نقدية ثلاثاً لها قيمتها في التحليل النصي، وربط تجارب الشعراء  بمراحلها المختلفة من البدايات حتى التحول والنضج.

الشعراء الأربعة يتصدرون برأي الكاتب قائمة جيل الستينيات وهم واجهته.لذا جوبهوا باللعنات من طرفين متناقضين: السابقين الذين لم يرضهم شغب الجيل وتمرده ودعوته للتجاوز، فحاكموه بمختلف إيديولوجياتهم، واللاحقين الذين نفوا الشعرية عنهم كما يقول الكاتب.ولكن الكتاب يصب لعنات اخرى على  هذه الواجهة الجيلية المدروسة في الكتاب ، وأقل تلك اللعنات مثلاً اتهام من هاجر منهم بأنه ترك مهنته في الغربة ،فالموهبة برأي المؤلف لا تتجلى إلا في الوطن!

يندرج شعراء البيان في مكان دراسي واحد هو كلية الآداب ببغداد، فيما كان شعراء الريادة من خريجي كلية التربية التي كان اسمها دار المعلمين العالية .ولا ندري ما دلالة هذا الإصطفاف المدرسي، ولم يقدم لنا الكتاب استنتاجاً ما بصدد ذلك.

لكن الكتاب سيكون إضافة أخرى للإستعادة النقدية والذاكرة الشعرية كما كانت كتب سامي مهدي وفاضل العزاوي وعبدالقادر الجنابي شهادات مماثلة عن الجيل ذاته وما أثار من قضايا  ، ولكن خالد أراد لكتابه أن يكون عن القصائد لا الشعراء ،في نزعة نصية تريح القارئ، وإن لم يلتزم بها المؤلف دوماً.فقد تسللت للكتاب كثير من الأحكام الشخصية سواء بصدورها عن مزاج الكاتب ،أو اتصالها بأمزجة الشعراء الثلاثة وشخصياتهم.

في الفصول المتعلقة بالشعراء الثلاثة زملائه في البيان الشعري الذي صار مظلة لجمع  شتاتهم في الكتاب، يقدم خالد علي مصطفى  دراسة صبورة واستقصائية لنتاجهم الشعري ،لاسيما بداياتهم وتأثراتهم المشروعة في اعتقادي بالمؤثرات المألوفة .فهم يبدؤون سيّابيين، وينحون منحى أدونيسيا في مراحل محددة، ثم يستجيبون لأصواتهم الخاصة ،وأساليبهم الشعرية التي يتميزون بها.

وهذا الجانب تكشفه الدراسة النقدية في الكتاب ،ولكن أيضاً دون ربط ذلك بالبيان ومدى تمثل شعرهم أو استجابته للقناعات النظرية التي انطوى عليها البيان؛ كدعوته مثلا للحلم وسيلة للتعبير ورفض الواقع ، وعدم انسياقه وراء الإيديولوجيات وأطروحاتها الصماء. وقد كان في معالجة هذا الجانب باعتقادي نفع كبير للقارئ لو أن خالد أولاه اهتماما . وفي ظني أنه أرد الإبتعاد عما يراه خارج الشعر كنصوص متحققة وأساليب تتحول وتتغير تبعاً لوعي الشعراء .

هكذا وجد في قراءته لشعر سامي مهدي المتميز بوعيه النقدي المبكر اختلافاً عن سواه في عنايته بتركيز الملفوظ الشعري في القصيدة .ولذا سمّى الفصل الخاص به: القصيدة القصيرة.ورأى الكاتب أن ديوانه الأول ( رماد الفجيعة) 1966المتأثر فنياً كبداياته بالسياب ، قد حمل (من اليأس والإحباط ما يعكس الأثرالإيديولوجي، وخيبة الثوري بالثورة ،وما تؤول إليه من عذاب داخلي وعجز ذاتي عن تغيير الوضع المتردي).لكن تطوره اللاحق سينقله لأسلوبية تميز بها عن زملائه وذلك باعتماد القصائد القصيرة ذات الكثافة الأدائية والإقتصاد اللغوي.وترافق ذلك مع تخففه من (البواعث الإيديولوجية وتطوره من المدركات الحسية إلى التعبير عن المدركات العقلية ،أو من المشهدية إلى الشعورية والتأملية) .

وفي الفصل الخاص بالشاعر فاضل العزاوي المعنون (الوقوف على حافة السريالية) يتم تفكيك تجرية العزاوي منذ بداياته ، في مخالفة واضحة لتلك التجربة التي سيصفها المؤلف بما وصفها به خصوم العزاوي والجيل الستيني .وهنا نستذكر مقولة اللعنات الثنائية من السابقين واللاحقين؛ لنضيف لها لعنة المجايلين الممثلة بكلام خالد عن تجربة فاضل.فتجريبه ليس إلا ( حذلقة مبتوتة الصلة بالشعر والنثر معاً.. ولعبة لفظية لا تؤدي إلى غناء) والدليل ما يورده المؤلف من أمثلة لقصائد تأكل نفسها، وذِكر  اسمه في النصوص، أو تركه لموعد موته شاغراً في بيت من القصيدة ،ومن تكرار أيام الاسبوع والأشهر وغير ذلك.. أما شعريته فأهميتها متأتيىة برأيه من(هذه القصائد الغريبة المستفزة) وما لاحظ في قصائد فاضل لاسيما في ( تعاليم ف العزاوي إلى العالم) من تغريب شكلي. والخلاصة المستنتجة من دراسته  أن ثمة يسارية  متطرفة وفوضوية في شعره ،كما يسمه على المستوى الشخصي بالنرجسية والتضخم احتكاماً إلى تلك الأمثلة الـي أوردها. وهي كلها قابلة للنقاش والجدل.

ويختم المؤلف بفصل عن الشاعر فوزي كريم وبداياته الشعرية في ديوانه ( حيث تبدأ الأشياء) ولكنه انصرف لتقصي المتشايهات من شعره مع شعراء  كالسياب وحسب الشيخ جعفر وأدونيس، وخلص إلى أنه سيابي النشأة وأدونيسي النضج لاحقاً ، وان شعره يمضي في وتيرة واحدة،وتعيق خياله وانثيال صوره رقابة عقلية في نصوصه.

لكنه ينصفه في الخاتمة حين يقرر أن شعره ظل أليفاً غير مؤدلج ،حتى وهو في منفاه، فكانت قصائد المهجر كما يسميها المؤلف  تمثلاً لذاكرة تستعيد وتستمرئ ما تعيده بحس رثائي عاطفي، مع الإحتفاظ بأطياف من الواقع الذي يعيشه ومفردات       الحياة اليومية في المهجر.

إن كتاب خالد علي مصطفى قراءة نقدية للشعراء لا بيانهم الشعري الذي التموا حوله، وكانت دراستهم مثلاً في الكتاب ذاته ملتمين إنما بفعل ذلك البيان الذي لم يحظ للأسف بما انتظرنا من شهادة ..فكسب النقد النصي ممارسة جادة، وخسرنا أجزاء من ذاكرة صمت عنها خالد رغم وعده للقارئ بالخروج من الصمت إلى الصوت…

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*