المثاقفة والاختلاف

 

كلمة العدد-4-صيف 2021-  مجلة مثاقفات

المثاقفة و الإختلاف

 

 

لا يمكن النظر إلى عملية المثاقفة  التي توخّتها المجلة ، إلا بكونها عملية حضارية في المقام الأول، وذات طابع ديمقراطي لا يفرض وجهة نظر أو رأي خلال فعل التثاقف . وبذا كان اختيار اسم المجلة معبّراً عن ذلك حين جاء بالجمع، فالمثاقفات توجه القارئ لقبول سمات التنوع في الثقافات التي تنالها عملية التثاقف، ويكون بينها ما يقرّب المسافات للفهم والحوار والتبادل المعرفي والحضاري .

فمن أسس فلسفة المثاقفة – كما أورد المفكر العربي فتحي التريكي في افتتاحية العدد الثاني (( احترام الإختلافات البنيوية للثقافات)).وذلك يفترض في مقدمة  دلالات هذا التعريف أن يكون المتثاقف معتقِداً،وبيقين يتجلى في فكره وممارسته، بحق الآخر في استقلالية خطابه وهويته،ومنها ثقافته التي تكون بمنجزها الروحي موضوعاً للتفاعل.

هنا سينعدم التمايز بالأفضلية أو التراتب أياً كان نوعه: إثنياً أو دينياً أو جغرافياً، ويتم استبعاد الرؤى الضيقة التي ترى بتفوقها المزعوم على الأعراق والأجناس أنها أحق بالإحتذاء والتبعية ، حيث يكون الآخر طرفاً قصياً ، يتم البحث في هويته وثقافته ووجوده بكونها انعكاسات للذات المتثاقفة كطرف أوحد يشع على العالم ،ولا يأخذ من ثقافاته وحضاراته شيئاً .

إن تلك الرؤى الضيقة التي تسبّب التقوقع والإنغلاق ،تدفع إلى خيار العنف بأشكاله حجْباً للتراث الإنساني والفكر ،وتجليات الثقافة في الفن والأدب و مدوَّناتها ،وتؤدي بالمنغلقين كي يفرضوا إطروحاتهم بالتفوق وإنكار الآخر بسبل التدمير المتنوعة ؛ كالحروب والإرهاب و العسف ، وتطبيقها بما يحرم المجتمعات من التثاقف ، كرافد حيوي لإغناء الذات ، وإكسابها بعداً إنسانياً وأخلاقياً ضرورياً لتقدمها .

لقد مرت بمنطقتنا العربية حروب ونزاعات كانت تستهدف ضمن ردود أفعالها النتاج الإنساني، فتمنعه وتصادره على أساس هويته. فيتم حجب  الماضي الإنساني والحاضر المعاصر، فتخسر الإنسانية وآدابها وفنونها وفكرها فرصة(( الحوارالثقافي مع العالم الحضاري)) كما شخّص مديرالمجلة وناشرها الشاعر والكاتب أزراج عمر في افتتاحية العدد الأول من(مثاقفات ) ،منوّهاً بضرورة ما أسماه(( التناص الحضاري بصورِه المتقدمة )) .وهو فعل متوسع من عملية المثاقفة بعناصرها الإنسانية والفنية التي تهَب للجميع صفة الطرف المتفاعل، إذا ما سعى لفهم الآخروإدراك خصوصيته دون تجاهل او انفعال.

ونرى كمهتمين بالمثاقفة ومتتبعي تجلياتها بكيفياتها الممكنة وتنويعاتها،أن ما قدمته المجلة في مواد أعدادها الثلاثة ترجمةً وتأليفاً، وملفاتها الطموحة للتقارب الحضاري وتفعيل المثاقفة وتنشيط ((التناص الحضاري)) ، ينبئ عن مرحلة جديدة في التعامل مع الثقافات ، لا بالحماسة والتطرف رفضاً أو قبولاً، بل بفهم عناصرها وبيئاتها وسياقاتها المختلفة.

و يعضّد هذا الفهم والتمثل الصحّي للثقافات ،التوجهُ صوب المنهجيات الأكثر حداثةً، والمتوائمة مع متغيرات الحياة الفكرية ومعطياتها، والإقتراب من مصادرها الأصلية لا روافدها وهوامشها التي تقتصر على تلخيصها دون استيعاب حقيقي، بإسقاط الرؤى التقليدية عليها عند التطبيق . وأحسب أن ملفات مثل ملف الدراسات الثقافية والنقد الثقافي الذي قدمته المجلة، وحواراتها وترجماتها ودراساتها ، تسهم في بلورة هذا الفهم الجديد للصلة بالآخر وثقافات العالم وسبل الإفادة منها بالحوار والتمثل الواعي دون شعور بالنقص والتدنّي، أوالإعتداد السطحي بالذات وشعارات الإنعزال والتفوق.

إن الممارسة التثاقفية باحترامها التباينات بين الثقافات ، تسمح بأن يرانا الآخر أيضاً في الفعل العكسي المتنافذ للمثاقفة كما يوحي بها اشتقاقها ومعناها وشروطها أيضاً، وتلك القواعد التي تواطأ البشر على التزامها، وحرصوا على توفرها، كي لا تسود مقولات التفوق من طرف جاهل، أو جهة تغلِّف فكرها بالعنصرية ووهم التفوق، وتصغير الآخر بتجاهلِ أو تسفيه منجزه الروحي .

لقد مثَّلت المثاقفة فرصةً نادرة ومناسبة معرفية تتوخاها الذات في بحثها عن تحديث سياقات حياتها وفكرها معاً، ويكون الآخر معياراً من المعايير القيمية ، تجد فيه الذات مدى قربها من عصرها ، وتختبر متانة بنيتها ؛ لأن الهويات المتذبذبة والمترددة والمنعزلة هي التي تهرب من فعل المثاقفة وتتجنبه. ينقل تودوروف في كتابه عن

باختين قوله(( في مملكة الثقافة ، تعد عملية العثور على الذات في الآخر الرافعة القوية للفهم.إنها عيون ثقافة أخرى، حيث تكشف الثقافة الغربية عن نفسها بصورة أكثر كمالاً وعمقاً.)) وإذا كان باختين قد خصَّ الثقافة الغربية بهذا التفاعل، احتكاماً إلى تجربته الموضوعية وسياقاتها، فإننا – وبِهدْي اشتراطات المثاقفة ومزاياها- نستطيع أن نستفيد من ذلك في حياتنا الثقافية وتعاملنا مع منجز الآخر، فنرى عبر ((عيون)) ثقافته ما يمكن أن يمنح الذات جزءاً من تلك (الرافعة القوية ) للفهم، والخروج من الدوائر المغلقة والمنغلة على نفسها ،كما يُراد لها في تجاذبات التفسيرات المغلوطة للهوية والخصوصية ، وتصويرها بأنها ضرب من النأي عن حركة الفكر في العالم، وما تفرزه من نتاج روحي تجسّده المنهجيات والرؤى ، والأدبيات ومفرداتها التي تختزنها المدوّنات المتاحة.

مهمةٌ تتكفل بها الرؤية المتقدمة للحياة، والتي أعلنت المجلة في كلمة إصدارها الأول أنها معنية بها من خلال سعيها (( لإدراك الروح)) التي تصدر عنها الثقافات الأجنبية في ((محاولة لغرسها في تربة ثقافتنا)).

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*