محمود البريكان: في غيبوبة ذكراه

محمود البريكان: في غيبوبة ذكراه

 

لطالما وصف الشاعر محمود البريكان(البصرة 1931-2002)بأنه الصامت الأكبر في الشعرية العراقية.صمت (ذهبي) جلب فضول قرائه ونقاد شعره.وذهبت بهم التأويلات بعيدا عما يسميه دارس شعره وصديقه حسين عبداللطيف (مزاجه الخاص وطبيعته) فقد بدأ النشر باسم مستعار وظل ينشر في فترات متباعدة ، فهو رجل متحفظ ومتأنٍ ومدقق كثيراً في ما يكتب وكيفية نشره.ولعل خوفه المفرط من الأخطاء الطباعية المشوهة للنص  أحد التأويلات  المقبولة لتبريرصمته وانقطاعه عن النشر رغم أنه يكتب الشعر ولا ينشر .ونشطت تكهنات صمته حتى وصلت لآتهامه بالفوبيا من النشر  أو سرقة نصوصه وأنه لذلك يخفيها بعيدا عن الأعين ،وربما في صناديق الأمانات في البنوك..

حارس الفنار – نسبة لواحدة من أهم قصائده كنبها عام 1970- اكتفى بالإطلالة الفنارية تلك: مراقباً موجات الشعر المتعاقبة، ولكن ببوصلته التي أنشأتها حساسيته الشعرية الهائلة.واهتمامه خاصة بلغة الشعر أو الجملة الشعرية، كما تنوه دراسة أكاديمية لباحثة من البصرة هي الدكتورة ولاء محمود، نشرتها مؤخرا في كتاب بعنوان ( الجملة الشعرية في قصائد البريكان)، وضمنتها رأيأً للبريكان بلغة الشعر قدمه في محادثة مطولة أجراها معه  الشاعر الراحل حسين عبداللطيف حيث يقول (اللغة الشعرية هي مادة الشاعر في تجسيم ذاته.لغته وسيطة..لا أحب اللغة الفضفاضة. المتميعة العائمة.ولا أغتفر اللعب بالكلمات وانتهاكها..إنني أطمح إلى أمرين:أن تكون الكلمة محددة تماما من ضرورتها في السياق، وأن تكون ذات إيحاء غير محدد..).

وتعكس مرحلة حارس الفنار التي صمت بعدها اثنين وعشرين عاما انشغاله بالمصائر والنهايات التي هيمنت على موضوعات شعره، و استشرافه للمستقبل الشخصي، إنه مسكون بهاجس  الغياب والذكرى التي يستبق حدوثها  ،وبذلك القادم الغامض المجهول :

أعددت مائدتي..وهيأت الكؤوس..متى يجيء

الزائر المجهول

..وهل يطول الانتظار

ولم تكن ثمة وسيلة للاحتكاك النقدي بشعره في تلك المرحلة إلا بالتلصص عليه واقتحام صمته، وإنطاق نصوصه المجمدة كذكرى تعز على النسيان.

وتجيء المرحلة اللاحقة بعودته للنشرباشتراطات وتعهدات، وبإصرار غريب على أن تظهر النصوص كما سطَّرها خطّيّا.

ثماني عشرة قصيدة مؤرخة بين أعوام 1970 و 1992هي مادة ديوان خروج الشاعر من صمته ، و الذي أعطاه عنواناً دالاّ: عوالم متداخلة.كانت تلك القصائد بين يديَّ بعد رحلة للبصرة أواخر عام 1992 للحصول على ما يمكن نشره  في مجلة (الأقلام ) من شعر البريكان. داهمناه صديقاي الراحلان الشاعران رياض إبراهيم وحسين عبداللطيف  في عزلته الاختيارية التي تبين لي  أنها لم تبعده عن نبض الثقافة والحركة الشعرية ، بعد لقائه في منزله بمحلة العباسية  الذي سيشهد ميتته المأسوية مقتولا في يوم بارد آخر أيام شباط -فبراير2002.

لقد بدأ محمود البريكان تجربته  مع الشعراء الرواد في النصف الثاني من الأربعينيات.وهو يلمّح كثيرا في لقاءاته وأحاديثه إلى دوره الريادي الذي لا يذكره مؤرخو الحداثة غالبا حين يعدون أسماء الرواد ،ويُدخلون مع نازك والسياب عبدالوهاب البياتي الذي بدأ بكتابة شعر التفعيلة -الحر بعد أعوام.فيما يغفل اسم البريكان الذي لم يكن خلال دراسته ببغداد قريبا من مركز الحداثة التي انطلقت من دار المعلمين العالية التي درس فيها الرواد ومن تلاهم مثل سعدي يوسف وعبدالرزاق عبدالواحد .فالبريكان درس في كلية الحقوق  عامين ثم قطع دراسته سنوات ليعود فيكملها في زمن متأخر.كما أنه عمرياً لم يكن منهم كونه مولودا عام 1931.ولعل ميله إلى الوحدة وتجنب الجماعات  والتحزب واللقاءات العامة كانت سببا في غموض شخصيته لدى متلقيه .ولقد تزامن ذلك  مع قلة نشره لشعره وزهده.

وقد أعطى لتلك القصائد عنوانا شاملا بالجمع .فهي (عوالم)  تبدو مختلفة المراجع والمحركات ، لكنها رغم تفتتها وتعددها تنتظمها وحدة تمنحها إياها صفة التداخل ،حيث تفقد استقلاليتها وتخضع للتعدد أو التمدد ضمن الوحدة .وذلك تلخيص بليغ لحالة البريكان الشعرية.إن نصوصه تتمدد من بؤرة واحدة تنبني عليها القصيدة ، وتتصل بعناصرها شعريا أي بأدوات النظم المعروفة، لنقرأها مجتمعة ملتمة تؤدي بالدلالة والإيقاع والصور إلى بعضها ،وتتحد معها.

كان إلحاح الشاعر قويا على أن يكون صفّ القصائد طباعياً كما  هي في المسودات دون أي تغيير لضرورة ما. تمسك بكل شيء:عدد النقاط بين الكلمات أو بعدها..

فواصل البياض بين الجمل أو المقاطع ..اصطفاف أجزاء السطر الشعري الذي يتكون من جملتين أحياناً، علامات الترقيم التي يحرص على وضعها…

الآن حين نستعيد نصوص (عوالم متداخلة 9 سيدهشنا هذا الاستباق المصيري واللقاء بالزائر المجهول  الذي قابلناه في حارس الفنار.والذي يسميه هنا(الطارق) حيث تبدأ القصيدة بهدوء لا يناسب نهايتها الفاجعة:

على الباب نقر خفيف

على الباب نقر  بصوت خفيض ولكن شديد الوضوح

يعاود ليلا..أراقبه..أتوقعه ليلة بعد ليلة..

ويخفت

أفتح بابي

ولا أحد

من الطارق المتخفي ترى؟

شبح عائد من ظلام المقابر؟

ضحية ماض مضى وحياة خبت

أتت تطلب الثأر؟

…..رسول من الغيب يحمل لي دعوة غامضة

ومهرا لأجل الرحيل؟

هكذا يحدس البريكان نهايته كما ستحصل بعد أعوام ،إذ يقتحم  قاتل سارق بيته الذي يسكنه وحيداً في تلك الليلة الباردة.إنه لا يشخّص حالته وحده.فهو مهموم بمصير الإنسان عموما .ومن أجل ذلك يرى أن الشعر يجب أن يحمل فكراً لن يفقده  حرارته الخاصة بل سيحمل من الإحساس (أكثر مما يسمى شعرا عاطفياً.)

يرقى الفكر بقصائد البريكان ويمنحها حداثة خاصة.إنه لا يتنازل عن الإيقاع الذي يمنحه الوزن للشعر.لكنه يذيب إيقاع الوزن الصادي ،ويلغي التقفية كثيراً.فلا يواجه القارئ غنائياً أو موسقة للفكرة تطفو فوق بنيتها وبؤرتها الفكرية.لذا نجد مرحلة عوالم متداخلة الممتدة من عام 1970 حتى التسعينيات تندر فيها التقفية بشكل واضح.

استعاض الشاعر عنها بأدوات إيقاعية عدة ؛منها الاستطراد والتداعي، حيث تنثال المفردات والصفات والجمل لتكمل تأثيث الفكرة في النص.أو يلجأ إلى التكرار الإيقاعي المدروس بدقة وقصديّة ، وأخيرا هناك الاهتمام المفرط بالبنية الخطّية أو الهيئة التي يتخذها النص .وأحسب أن البريكان من أكثر الشعراء اهتماما بذلك.

وفي (عوالم متداخلة)  دشن البريكان نوعا شعريا لم يكن متداولا في حينه(1970) هو القصيدة الشذرية كما أسميها أو قصيدة الومضة ،وهي شديدة القِصر حتى تصل عنده أحيانا إلى بيت واحد.كان ذلك قبل أن تشيع قصائد الهايكو وتقليدها العربي الذي أخرجها من موضوعها الخالد أعني الطبيعة ومفرداتها لتشمل موضوعات شتى .وقد أعطى البريكان لتلك القصائد القصيرة جداً عنوان(بلّورات) وتتميز بكثافتها الشديدة واقتصادها اللغوي،مع حفاظها على الفكرة كمولّد أو بؤرة للنص.وأحسب أن البريكان كان بإمكانه تطوير التجربة والكتابة فيها، وضخِّها بمزيد من النصوص .لكن طبيعة البريكان تميل إلى التحول والتجريب غالبا.ومن هذه البلورات نقرأ:

كساعة خفية يدق قلب الصمت

في نقطة واحدة يشف عمق الكون

تصادف الاحلام

تفسيرها في لحظة اليقظة

تصادف اليقظة تفسيرها

في حلم تدفنه الذاكرة

ويميز البريكان عن معاصريه نزعته التجريبية ، فرغم أنه من جيل محافظ على تقاليد الشعر الحر ووحدة القصيدة والموضوع ومضامين النص،نجد لديه تركيزا على عمق الفكرة وتأملاتها المتنوعة لاسيما المصائر والأخطار المحدقة يالإنسان في حاضرة ومجهول غده ويركز على الغياب والأختفاء ليس بفعل الموت كواقعة بل في غياب الأشياء ، لذا تكثر ثيمة الذكرى بمقابل النسيان في قصائده كما في قصيدته (غياب الشاشة) فبمقابل العنوان الذي يوحي بانطفاء المكان وغياب شاشة العرض نجد النهياة تبدأ بالتذكر:

من ترى يتذكر؟أين الوجوه التي ائتلقت؟

والعيون التي شاهدت كل شيء؟ وهل غادر الناس أحلامهم وانتهوا؟

وانطوى مهرجان الحياة، كما تتلاشى الظلال

على شاشة خالية؟

اما الإنسان فإنه يتفوق على الكائنات الحية كلها بغيابه في حالة تجعله قابلاً للتذكر:

تحتضر الطيور في الأوكار

تنطرح الوحوش في الكهوف

تنكفئ الثعالب الشمطاء في الأاوجار

تنجذب الأفيال

إلى مكان صامت في آخر الغابة

حيث تموت موتها

ووحده يموت في داخله الإنسان

في العالم الباطن

في مركز السريرة الساكن

يموت في غيبوبة الذكرى..

و يبقى للبريكان على دارسيه الحق في تفحص مزاياه الشعرية الخاصة ،كالتجريب الذي عكف عليه بجرأة ، كما في قصيدته (قصيدتان متوازيتان) حيث تكون البداية منشطرة إلى جملتين  في الأعلى:

في البدء

كانت البذرة

ثم تشير كل منهما إلى نص موازٍ يفصل بينهما خط ليلتقيا في خاتمة واحدة.

ومن أبرز اهتمامته الريادية بجانب القصائد الشذرية والتجريب الشكلي اعتماده السرد في وقت مبكر دون تعينات قصصية كما في مطولات السياب ومعاصريه .السرد في قصائد البريكان يخدم الفكرة ولا يغرق في القص التقليدي ويجرد من الحدث ما يمكن تعميمه إنسانياً.

ولا بد لنا من التنويه ثانية بعنايته المفرطة بالبعد الخطي أو هيئة النص وتشكله البصري.ففي قصيدةالمأخوذ مثلا ينتهي كل مقطع بجملة فعلية هي (يخطو نحو الباب)

بينما تكون النهاية بالفعل (يخطو…) متبوعا بنقاط تدل على نهاية مفتوحة.

نهاية تشبه ما حلم به البريكان الذي  يبصر الآن من  الفنار ذلك الطارق الزائر المجهول، وهو يخطف حياته المؤرخة بالأعوام، لكنه لم يستطع أن يسلبه حياته المتجددة في غيبوبة ذكراه..

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*