كتاب المدن للمقالح-قصيدة السيرة

لماذا الكتاب؟

 

سلسة من الإصدارات الشعرية الأخيرة للشاعر  عبدا لعزيز المقالح حملت عنوان : كتاب ، مثل: كتاب الأصدقاء وكتاب القرية وكتاب صنعاء وكتاب الأم ، وكتاب المدن الذي نقرؤه هنا ( دار الساقي –لندن-2007).

والمغزى وراء التسمية المشيرة إلى الشمول والإحاطة تستلهم القديم حين كان العرب يحوون علما تاما بين دفتي كتاب، كما أنها تمثل في تفسيري الخاص تجسيدا لحنين شعراء الحداثة للاقتراب من النثر الذي يحمله مدلول (الكتاب) في الذاكرة بمقابل (الديوان) الدال على مجموع القصائد والأشعار،فالتسمية إذن تعكس الاعتقاد بزوال  الحدود بين الشعر بالمفهوم التقليدي القائم على النظم ، والنثر بالمفهوم المتداول الذي يضعه قسيما مضادا ومعاكسا للشعر.

ويؤكد ذلك الاستنتاج لجوء المقالح نفسه في الكتب الشعرية  التي ذكرناها إلى الاستعانة بالنثر، ففي كتاب صنعاء مثلا يتبع كلَّ مقطع شعري موزون مقطعٌ نثري يستكمل المشهد ، كما يحصل ذلك التناوب الشعري النثري في كتاب القرية ، وهما حاضران في هذا الكتاب أيضاً. فكأن الذاكرة تريد استكمال تصوير ما تستعيده عن تلك الأمكنة شعرا ونثرا مستفيدة من جمالياتهما معا.

وبناء على هذا  الافتراض بقرابة النثر والشعر في الكتابة الجديدة يبرز  النزوع الواضح نحو السرد وتعيّناته  بكيفيات خاصة في شعر الحداثة العربية المعاصرة ، فالمكان عنصر بنائي بارز ومكون هام من مكونات المتون والنصوص السردية كونه مسرحا للحدث ، ونشوء الأفعال وتتابعها  ،وهو ملمح جديد ومبتكر جاءت به الدعوات لتحديث القصيدة، وانتشالها من غنائيتها الصارخة وهيمنة الموسيقى التقليدية.

وإذا كان العرب قديما  يرون أن المكان بالمكين،  والرومان يرون أن الأمكنة إنما تكون بالناس ، فإن الفلسفة الظاهراتية تربط رؤية المكان بالإنسان للحدّ الذي لا يرى فيه فلاسفتهم وجودا مستقلا ونهائيا واحدا للمكان
بل هو مرتبط بما يشكله الإنسان عنه من هيئة تبعا لإدراكه وشعوره وإحساسه المسقَط عليه في لحظة إدراكه ، فلا غرابة أن تتباين النظرة جماليا للمكان نفسه من شخص لآخر ، وربما تباينت نظرتنا له من حين لآخر تبعا لظرف رؤيته وإدراكه.

 السرد في القصيدة

 

إن ذلك الوعي  بالاستفادة من عناصر السرد مهدت له القصيدة الحرة ثم كرسته قصيدة النثر بانفتاح سطحها وتمددات إيقاعها وتنوعه  ليشمل تمثيل الوقائع والشخصيات والأمكنة بوجه خاص.

لكن الإضافة الفنية الأهم هي امتزاج المكان بالذات الشاعرة ، فتغدو للشاعر مدينته أو مكانه المصنوع من تآزر المخيلة والذاكرة معا لاستحضار مفردات المكان وأشيائه المميزة.

بذا تجاوز الشعراء المواقف الرومانسية من المدن والتي صوّرتها لهم كأمكنة عدوة تدعو للخوف.

لكن المدن التي يقدمها المقالح مرسومة شعريا بما تمثلته الذاكرة من جمالياتها الموضوعية ، مضافا إليها انعكاسات وعي الشاعر وإدراكه لها في تلك اللحظة الظاهراتية الفريدة التي تترجم فيها المخيلة ما تمده بها حيوية الذاكرة وما تختزنه من مرئيات صورية .

ولكن ما يميز تلك المدن في الكتاب  شيئان:

– الرؤية الذاتية لها أي خصوصية النظر إليها بتجربة الشاعر أساساً

-العمق التاريخي والحضاري لها بحيث لا تبدو منظورا إليها سياحيا

وبتوفر هاتين الميزتين تبدو لنا مدن المقالح ماثلة  في كتابه الشعري الذي جعل له عنوانا فرعيا هو(جداريات من زمن العشق والسفر) فأضاف للعنصر المكاني بُعده الزمني ليكتمل البناء السردي، فتوجهت قراءة القارئ صوب الزمن الذي تمت فيه ملامسة الشاعر ومعايشته لتلك الأمكنة ، وهو زمن يبدو عليه المضي والانقضاء بحكم الوصف بالإضافة( العشق والسفر)،  وأما وصفها بالجداريات فهو تعضيد لعمل الذاكرة التي تقيم صورا وسيراً لهذه المدن التي مر بها الشاعر أو أقام فتركت في نفسه ما يسوغ اليوم أن  يتذكرها ويصنع لها هذه الجداريات  الرمزية أو المجازية ..

مدن كالنساء

من الموجّهات القوية والعتبات النصية التي تتقدم صور المدن في الكتاب ولا بد لنا من التوقف عندها : الفاتحة التي وضعها المقالح قبل البدء بعرض مدنه ، فأخبرنا بإيجاز وبلاغة بما تمثله المدن كأمكنة ومرئيات:

مدن الأرض مثل النساء

ومثل البحيرات

غاضبةً

صلفاتْ

وأخرى كما الضوء في همسهِ

ناعماتْ

فهي مطلوبة ومشتهاة رغم طباعها تلك ، وذلك يقتضي بالضرورة أن تكون ثمة مدن على العكس لا تهب زائرها شيئا يظل في الذاكرة، ولا تصلح أن تكون (إذا جئتها وردة أو قصيدة) بعبارة الشاعر.

مُوجّه آخر سيستقبل القارئ على عتبات القصائد بعنوان ( إلى القارئ) يتساءل فيه الشاعر أسئلة كان القارئ حريّأً بأن يسألها : وكان المقالح أحس بذلك فناب عن قارئه وباح بها. وهي تتلخص في قوله:

كيف لي..

كيف للعين أن  تتذكرَ

ما  أبصرتْ منذ عشرٍ، وخمسٍ

و عشرينَ عاماً؟

ومما يزيد مهمة التذكر صعوبةً هذا التقهقر في الروح المعنوية لساكن المكان وفقدان بلدانه حريتها وكرامتها:

بعد موت العراق

وذبح الشآم

وصمت الكنانة

وعلى المستوى الشخصي هناك أسئلة تحفّ بالعمل:

كيف للروح أن تتذكر

….بعد أن ضجرت

واستكانت

وأدركها من دخانِ الطريق

ورائحةِ الوقت

وهي  تسافر في المدن الميتات

حريقٌ بلون الغراب

وصمتٌ بلونِ الممات؟!

المدن الأولى

إحدى وعشرون مدينة زارها  الشاعر أو عاش فيها و استعصت على المحذورين اللذين ساقهما في الفاتحة: خيبة العصر والناس، وذبول الروح التي كانت خضراء أيام السفر والعشق، فظلت لها ملامح وسمات ومعالم ، نقلها الشاعر وكأنه يراها ويرينا إياها بعدسة البصر الماثل الآن،  لا المستعاد بقوة الذاكرة و تلا وين المخيلة.

وأولى تلك المدن: مكة التي كانت القوس الذي ينفتح لتأتي داخله   المدن الأخرى، مكة هي عنوان أولى المدن التي تأخذ القصائد في الكتاب أسماءها عناوين لها،  والملاحظ أن المقالح قد وضع لنصوصه مخططا هندسيا موحدا :

يبدأ بعنوان النص= اسم المدينة

ثم يليه بمقتبس من مأثور شعري أو نثري قيل فيها

ويتبعه بنصه الشعري حولها

ويختم بفاصل من نقاط

يمهد للنص النثري الذي يكتبه حول المدينة ويضعه بين قوسين يسرد فيه قصة رؤيته المدينة أول مرة.

في قصيدته عن مكة يمهد بآية كريمة ثم يسرد سيرة تاريخية للمدينة:

من هنا خرج النور

وامتد بين السموات والأرض

بدّد عتمة بادية الله..

لكنه يعود ليمزج رؤيته للمدينة بمفرداتها المتكونة من تاريخها وجغرافيتها وقبل ذلك مكانتها الروحية:

كأنك نهر من الودَ

يجري إلى أبدٍ

لا تحدده الأرض

وإذا كانت مكة مرسومة شعريا بهذا الصفاء فغن المقطع النثري يتسامى ليقدمها بالقول (ليست مدينة بل تميمة معلقة على صدر الأرض إلى حين يتشقق الزمان…) و ملاحظ أن النثر هنا يقوم بمهمة شعرية أيضا، فتشرق فيه العبارة وتتسامى لتخلق أثر الشعر في متلقي النص.

أما في الجزء الأخير من النص النثري فإن العبارة تتسع للذكريات المباشرة كزيارته للمدينة وجوها واختلاط الأجناس في الموسم ووعيه بالمكان لأول وهلة، وأعد ذلك ضربا جديدا من سيرة المدن والأمكنة والوعي بها وإعادة تشكيلها من الذاكرة، فلقد عرف العرب الكتابة شعريا عن المدن ووصفوها بل رثوها بعد سقوطها أو خروجهم منها، أما الشاعر الحديث فيشهد على جماليات المدن وما علق منها رسوما وأمكنة في ذاكرته.

وهذا ما يحصل في استذكار مدن عربية كالقاهرة وبغداد ودمشق وبيروت ومراكش والقدس والقيروان ووهران وواد مدني، ومدن غربية مثل باريس وروما برلين وأثينا وفينا و لا تفوته مدن اليمن الكبرى: صنعاء وتعز وعدن فيرسم لها صورا مقربة تستبطن ما تخفي هذه المدن فضلا عن صلة الشاعر بها.

القاهرة –باريس نموذجا

 

قضى الشاعر شطرا ليس بالقليل من غربته وتعليمه في القاهرة لذا يشعر أنه( يحتاج حبرا ، بمقدار ماء المحيط ، ليكتب  أفراحها ومواريث أحزانها) وفي المقطع النثري يروي قصة تعارفه بها بدءا من كتاب القراءة زمن الطفولة وما ضمه عن أهراماتها وأساطير سيف بن ذي يزن ثم صوت عبدا لناصر وكتاب الأيام لطه حسين وصولا إلى جسد المدينة التي تعني عنده ما هو أبعد من حدائقها و حاراتها، إنها المعرفة والفكر والنيل والأزهر.

ومدينة عالمية كباريس تبدو عصية على الوصف:

سدى

عبثا يمسك القلب بالكلمات

بماء اندهاشي

يفاجئني في فضاء مجراتها

لقد فتنه فيها الضوء الذي يلتصق بها مجازا كمدينة للنور لكنه يراها حقا كذلك إذ يجول بها ليلا ويتملى متاحفها ومعالمها والناس في شوارعها وساحاتها وحدائقها.

وبهذه الطريقة تحضر المدن الأخرى بعذاباتها وأفراحها: بغداد وقد اصطبغت بالدم بين أيدي مغول قدامى وجدد ، والقدس (سيدة المدن العربية) التي يحج إليها في المنام ،  وبيروت بوابة الشمس ،  وبرلين التي كادت بسبب الحرب والدم أن تغدو (  يوتوبيا  ضائعة)…

لا تعليقات

  1. احمد الفلاحي

    جميل هذا الالق دكتور حاتم

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*