حوار مع الناقد د.حاتم الصكر: الســـــــيرة الذاتيـــــة نــــوع أدبــــي مقمــــوع عـــــربيـــاً- نادية الدليمي

 حوار أجرته: نادية الدليمي

الناقد د.حاتم الصكر علامة فارقة في الثقافة العراقية واسم واضح في النقد الشعري العربي ..
ولد في بغداد ـ وعمل محاضرا في جامعة بغداد و أستاذا للأدب الحديث والنقد في جامعة صنعاء حتى نيسان 2011 ، ترأس تحرير مجلة “الأقلام” التي تعنى بالادب الحديث ومجلة “الطليعة الأدبية” التي تعنى بأدب الشباب وفي هيئة تحرير مجلة “الاديب المعاصر” التي يصدرها اتحاد الادباء في العراق ومجلة “غيمان” بصنعاء . أصدر العديد من المؤلفات في حقل النقد ، منها “في غيبوبة الذكرى”عام 2009، “المرئي والمكتوب” عام ، 2007، “حلم الفراشة” عام 2004، وغيرها من الإصدارات الشعرية والنقدية، “انفجار الصمت”..الكتابة النسوية في اليمن 2003، “مرايا نرسيس” عام 1999، “ترويض النص: تحليل النص الشعري في النقد العربي المعاصر” عام 1998، ” البئر والعسل: قراءات معاصرة في نصوص تراثية” عام 1992، “رفائيل بطي وريادة النقد الشعري: دراسة ومختارات” عام 1995م، و”كتابة الذات: دراسات في وقائعية الشعر” عام 1994، “ما لا تؤديه الصفة: المقتربات اللسانية والشعرية” عام 1993، “مواجهات الصوت القادم دراسات في شعر السبعينيات” عام 1987، “الأصابع في موقد الشعر: مقدمات مقترحة لقراءة القصيدة” عام .، 1986، .. وللتعرف على تكوين ملكته النقدية  المتميزة .. كان لنا معه هذا الحوار
ــ هل يحدد لك موضوع الدراسة النصوص التي تتناولها بالنقد ، أم العكس ؟ وما نوع النص الذي يحفزك على النقد  ؟
.يبدو لي أن علاقة النص بنقده أو قراءته بالمعنى الأدق تحدده عدة عوامل تنافذية، أي متصلة الجريان بين النص ونقده.العودة للنصوص غالبا ما تواتيني من خلال قضية نقدية.قبل أشهر عدت لقصيدة المخبر للسياب.لقد مر على كتابتها قرابة نصف قرن، لكن اهتمامي بقصيدة السرد أو السرد في النص الشعري أعادني لتأمل القناع في هذه القصيدة التي تتوفر فيها عوامل أو عناصر سرد كثيرة ، والطريف فيها هو كونها قصيدة قناع ضدي، أي يفارق فيها السارد الأول أو الشاعر ما يسرده، ويخالف الشخصية التي يتقنع بها ضديا، أي ينطلق  من موقف رفضها أو إدانتها ،كعمله في مطولته (حفار القبور).وأحيانا يكون النص ذاته مناسبة لتناول نقدي يخدم قضية أو فكرة نقدية ، وهذا ما لفت نظري مثلا في قصيدة (حانة الكلب) لسركون بولص  التي تناولتها في كتابي (قصائد في الذاكرة) وخاصة ما فيها من موقف أو رؤية خاصة بالشاعر بصدد المكان الأمريكي؛ لأن القصيدة تتناول ضدية الملوكية والكلبية،فوجود حانة باسم الكلب في شارع في كالفورنيا يحمل اسم الملوكية جعل الشاعر يناظر بين الحالتين، ويرى أمريكا كما في وعيه: صراعا بين حضارتين: كلبية وملوكية.أما النص الذي يحفزني للكتابة عادة  فهو المخالف أو المفارق للمألوف والمتكرر والسائد في النظم أو الفكر؛ فهو يدعو للتأمل والمعاينة، وأعني بالمغايرة هنا أية إضافة تسوغ القراءة المعمقة والحفر في ثنايا أو طبقات النص. ــ النقد فعالية ترتكز على الرؤية والمنهج ، ألا يعد تطبيق الناقد أبعاد رؤيته وفق مناهج وليدة فكر مغاير للفكر الذي نشأ في رحابه النص المنقود ظلما ً للنص ؟ .أنت تقصدين في سؤالك سياق النص أي زمن كتابته وربما مناسبته أو مكانه أحيانا أو انتظامه في سلسلة نصوص أو دخوله في تناص مع سواه.وهذا أمر طبيعي تأخذه القراءة في حسبانها، وتتوفر له أعراف لا يمكن إغفالها.أعني أن سياق النص يأتي من داخله ويعكس ما لا يمكن للقراءة أن تغفله.أما الرؤى والمناهج النقدية فهي تجهزنا بأدوات القراءة وتنظم  الخطاب ولا تلوي عنق النص لتدخله في إطارها إذا ما تكيف استخدامها مع ما يفيض به النص من مستويات فنية.القراءة إذن تنصف النص وتحيي خلاياه بما تلقي من ضوء جديد عليه مهما اختلفت سبل المناهج التي هي من ضرورات الكتابة.رغم إيماني بأن الرؤية تسبق المنهج .أعني أن الاصطفاف الحداثي مثلا يوفر للكاتب أو الشاعر رؤية معينة شاملة.ثم يأتي المنهج كسبيل إجرائي للتعبير عن تلك الرؤية.
ــ بإمكاننا تفسير الغرائبية وتغميض النص على انه محاولة لتمويه النقد والايقاع به في شرك الاستقراء الخاطيء للمضمر ، ما موقفك كناقد أمام حالة كهذه ؟
.الغرائبية والغموض مشكلتان جماليتان .أعني تتصلان بطبيعة بناء النص ذاته، وجزء من مستواه التركيبي.جماليات النص مشتركة بين المرسل والمستقبل سواء أكان النص شعريا أو سرديا، مقروءا أو مبصرا، وبالنسبة لي أفهم الغموض كما قرأناه في النصوص المؤثرة التي يكون غموضها مدعاة للتأمل والمشاركة في إنتاج دلالات تعمق النص وتزيد من شاعريته. وأحسب أن هذه المشكلة الجمالية  قديمة عرفها الأدب العربي التقليدي وآداب الشعوب في  تاريخها . وستظل تلازم الشعر نتيجة طبيعته البنائية والفنية ؛  أعني عدم إمكان الإحاطة بدلالاته دون ذخيرة قراءة توازي ما يقدمه النص ذاته.تلك مسألة أكدها أبرز  النقاد العرب في تراثنا النقدي أعني عبدالقاهر الجرجاني  ودعا المتلقي ليبذل من الجهد ما يوازي جهد كاتب النص ممثلا لذلك  بمن يتأمل لؤلؤة بذل الغواص جهده لاستخراجها من الأعماق، فيكون على هذا المتأمل أن يتذكر ذلك. و لنظم الشعر أو انتظامه في شكل القصيدة  هيئة خاصة يقتضيها البناء الشعري إظهارا وإخفاء وذكرا وحذفا وتشبيها واستعارة وتصويرا وتقريبا مع مراعاة المستويات الأخرى : إيقاعا ودلالات وسواها.لهذا يظل الشعر بحاجة لتفسير وتحليل.الشعر المنكشف للقراءة لا يعطي لقارئه فرصة القيام بفعل قراءة فاعلة ومتفاعلة مع النص، وليست منفعلة به ومتأثرة بسطحية وعفوية وبساطة تقلل من قيمة النص ومن فعل القراءة ذاته.أقول ذلك دون إغفال رفضنا الخلط بين الغموض الداعي للتأمل والفكر وبين العشوائية  والاستعراض  والتعويص المتعمد في البناء الشعري دون فنية أو صنعة متقنة.
ــ ما رأيك في البرامج الشعرية والمسابقات التي تقيمها فضائياتنا ، وهل ترى فيما قدمته وتقدمه تحقيقا ً فعليا ً لما تروج له من أهداف ؟
.يفترض أن المباريات والبرامج الشعرية  تنشط الحراك الإبداعي وتحقق له جماهيرية يفتقدها الشعر في المنتديات والحلقات المغلقة على الأدب وفروعه. ولكن ما يحصل غالبا على العكس، فكثير من تلك المباريات والبرامج قامت بتنشيط الجانب الشفاهي والسطحي لدى المتنافسين، وكثر التقليد والتكرار والتوسل بسبل غير شعرية: صوتية  ضاجة أو أدائية حركية لا تضيف للنصوص أو تلقيها أية قيمة جمالية.
ــ نلاحظ عزوف النقاد غالبا عن الخوض في مجال نقد النقد ، هل يرجع ذلك الى كون علاقته بالأدب غير مباشرة ، أم أن لذلك أسباباً أخرى ؟
.في كتابي نقد الحداثة 2014 قدمت عدة دراسات تدخل في باب نقد النقد لأنها تمحورت حول كتب أسهمتْ في الإجابة على سؤال الحداثة المتشعب : ثقافيا واجتماعيا وأدبيا. ولاحظتُ فعلا قلة ما يكتب في هذا الباب؛ لأن تقليد نقد النقد لم ينشط عندنا بغزارة توازي النتاج النقدي ذاته.على عكس ما تقدمه الثقافة العربية التقليدية والتراثية  في فترات الحرية والازدهار والتثاقف مع الآخرمن محاورات عقلية وردود نقدية واشتغال على نقد النقد بعلمية ومنهجية انقطعت للأسف كتقليد ثقافي .وأنا أرد ذلك لغياب نزعة الحوار العقلي في ثقافتنا المعاصرة والضيق بالآخر وإقصائه بالتغافل عن منجزه أو تجاوز وجهات نظره. الفعل الديمقراطي والحضاري يشجع على ازدهار نقد النقد، وغيابه لا يتيح تنشيط أي من جوانبه أو أشكاله.
ــ غالبا ما ينفي النقاد مفهوم ـ النسوية ـ وينكرون وجوده كظاهرة ، فيما يؤكده الواقع الثقافي بقطبيه المنتج والمتلقي ، ما السبب في رأيك ؟
.بالنسبة لي أكدت على النزعة النسوية  منذ فترة مبكرة وعلى قراءة النتاج النسوي بتلك المناظير والرؤى التي تسمح بكشف الكواتم والموانع والمصدات إزاء الكتابة النسوية،  وخلال مساهمات أكاديمية في التدريس أو ملتقيات خاصة بالنسوية ،أو إصدارات مشتركة أبرزها موسوعة المرأة العربية الصادرة في القاهرة التي تشرفت بكتابة فصل من فصولها .فالنسوية يؤكدها كما ذهب السؤال كل من المرسل والمتلقي والمحيط وأعراف الكتابة ذاتها، رغم أن بعض الكاتبات أنفسهن ينكرن وجودها ،ولا يرين فرقا بين كتّاب أو كاتبات النصوص. ويهمني هنا التأكيد على النسوية النقدية التي تستمد تقاليدها من  المناهج والمنطلقات النظرية لحركة النقد النسوي في العالم. إن المسكوت عنه أو المتاح للقراءة معا يكشف عن معاناة لعل السيرة الذاتية كنوع أدبي مقموع عربيا تبين مدى فداحتها وعمقها وتوفر عوامل البوح النسوي أو الترميز القهري للمعاناة، وكذلك ما في أدب الرجال من ذكورية تهمش المرأة أو تجعلها- لا سيما في السرد- سببا في الخراب والانهيار الاجتماعي وسوى ذلك من المعتقدات التي تعكس صورة المرأة في وعي أو لا وعي الكتاب.
ــ أنت شاعر وناقد ، هل أخضعت تجربتك الى النقد ؟
من المؤكد أن تجربة الكتابة الشعرية تخدم في كثير من آلياتها  التجربة النقدية.وتمنح الكاتب خبرة مضافة بما يحف بالكتابة الشعرية من معضلات ومحفزات، وما يعتري اللغة الشعرية من تعديلات وانزياحات وتوظيف للمخيلة والذاكرة واستثمار الثقافة في تقوية المتن النصي وامتصاص العامل الثقافي في خلق علاقات تناصية ،يكون لوجودها في النص دور في إظهار الدلالة. تجربتي في الشعر متواضعة ،وانقطعتْ بانصرافي للكتابة النقدية واشتغالي على النصوص وتحليلها تحديدا .وجدتُ بعد تأمل تجربتي عبر ثلاثة دواوين في الشعر الحر أني أستطيع البقاء قريبا من الشعر ولكن بمعاينة القصيدة ، وعناصر شعريتها وتحولات الكتابة .كانت تجربتي متماثلة مع الستينيات الوزنية المقيدة ، كنت  أحاول تجسيد رؤيتي للحداثة ولم أكتب القصيدة العمودية، لكنني اندرجت ضمن موجة ستينية فيها تقليد ومحافظة بسبب تركيزنا على الموضوع الشعري والتصورات الإيقاعية المرتهنة بالبحور الشعرية وأصوات القوافي وجماهيرية الشعر- رغم اعتقادنا بمشروعية التجريب والتحديث الشكلي – ولربما كان طغيان الذرى الشعرية  حينها وتياراتها العنيفة سببا في انزواء تجاربنا وتوقفها. هكذا كان تقييمي لتجربتي في الشعر الحر، وربما لا ينطبق على قصائد لاحقة كتبتها وأنا في الضفة الأخرى قريبا من الشعر ،وأعني قصائد  النثر التي كرست لها ديواني الهبوط إلى برج القوس  والذي اكتفيت بنشره في موقعي الشخصي على الانترنيت وفي الصحافة الثقافية .ذلك لا يعني أني أوافق الرأي الشائع بأن ناقد الشعر هو شاعر فاشل .فذلك غير مطرد أو مقبول عقليا ومعرفيا ،فضلا عن أنه لا ينطبق على نتاجي الشعري الذي حظي نقديا بالدراسة والتقييم لكنها قناعة خاصة مني بقربي للنقد  الشعري،وعدم ابتعادي عن الشعر؛ لأنه عندي أوسع من القصيدة وكتابتها.
ــ ما رأيك في المشهد النقدي العراقي ، وهل للمرأة دور بارز فيه ؟
.الشقان اللذان يتكون منهما سؤالك يتطلبان متابعة جدية ومستديمة لم يسمح بها وضعي أو موضعي في العقود الاخيرة . فقد خرجت من العراق للتدريس في اليمن أواخر عام 1995 وهاجرتُ للعيش في المغترب الأمريكي عام 2011.هذا الابتعاد لم يمنع تفاعلي الثقافي والمشاركة نشرا ومتابعة ،ولكن ليس بالقرب الكافي للحكم على التجارب النقدية كلها ،ولدور المرأة الناقدة فيها.الحركة النقدية العراقية بالمجمل ذات حيوية واضحة .ميزتْ الأجيال والأشكال والتجارب، وتابعتْ التحولات في الكتابة وقدمتْ تمهيدات للحداثة الشعرية والسردية- كي لا يكون حديثي عن النقد الشعري فحسب-وفي كتابي الجديد قبل الأخير(نقد الحداثة ) وضعت فصلا عن الحداثة النقدية في العراق انطلاقا من كتاب الصديق الناقد سعيد الغانمي (مئة عام من الفكر النقدي ) وتتبعه لأجيال الكتابة النقدية وتبدل مواقعها وفكرها ،دون الادعاء بالإحاطة الشاملة بها.تظل المناظير والرؤى هي المتحققة واقعيا والتي لا يكاد يعترف المبدعون بمنجزها. أعني أن كثيرا من الشعراء والكتاب يقللون من قيمة النقد كمعرفة أولا وكمحصول تطبيقي او وجود أدبي ،وذلك يبخس حق النقد العراقي ،  وما قدمه عبر تعاقب فاعلياته وتنوعها لترسيخ وقبول وتمثل الحداثة .   وأعترف أن ما يصلني من مطبوعات وإصدارات وما أتابعه عبر النت من فاعليات نقدية عراقية تلفت نظري لغياب المرأة إلا بحيز أكاديمي ضيق لا يوازي نشاط الكتابة النسوية العراقية شعرا وسردا.ولهذا الغياب أو الضمور النقدي النسوي له أسبابه التي لا يتسع مجال الحوار هنا لعرضها أو مناقشتها.    ــ ما هي مشاريعك الجديدة ؟
.أجمع الان  وأحررعدة دراسات لي عن السرد الروائي لتكون اول إصدار لي خارج الحقل الذي اشتغلت فيه منذ بدء تجربتي النقدية وهو الشعر. وتلك الدراسات عن الرواية تهتم بالنتاج العراقي أولا، ثم بالقضايا التي تشغل قراءة السرد ،وتصنيف اهتمامات الكتاب والكاتبات، بجانب الدراسات عن بعض التجارب الروائية العربية.. لقد صدر أخيرا في القاهرة كتابي عن السيرة الذاتية( البوح والترميز القهري).وقبله بوقت قصير صدر كتابي في نقد بعض ما كتب من النقد المتصل بالحداثة (نقد الحداثة).وتوقفت  مؤقتا لأسباب خاصة عن استكمال  قراءة ثانية للسياب هيأتها لمناسبة الاحتفاء بما أسميناه عام السياب وهو عام 2014 الذي صادف اكتمال نصف قرن على غياب بدر. وأحاول جاهدا التغلب على تلك الظروف للعودة لاستكمال تلك القراءة. وبي رغبة لطبع بعض كتبي طبعات جديدة بعد النشاط المدهش لدور النشر العراقية في السنوات الأخيرة، ولأعدل وأضيف ما استجد إلى تلك الكتب لا سيما كتيبي (بريد بغداد) الذي صدر عام 2012؛ لأضيف إليه ما وصلني خلال-  أو بعد- صدور الكتاب من مؤلفات المبدعين العراقيين. وكذلك  كتابي( قصائد في الذاكرة) الصادر عام 2011 وأشعر أن به حاجة لجزء آخر يغطي قصائد مهمة لم يتسع لها الكتاب أو ظروف نشره.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*