الشاعر الكردي العراقي لطيف هلمت :  القصيدة كالريح لا تصادق احدا!

 
 
 
 
 
مثل ما جرى في تجييل الشعراء العراقيين الذين يكتبون بالعربية ، تواطأ نقاد الشعر الكردي العراقي والباحثون فيه على تقسيم شعرائه ضمن أجيال بحسب انعكاس قضية الحداثة في قصائدهم، واستجابتهم لموجات التحديث التي عرفها الشعرفي تطوره، واحتكاما إلى ذلك يوضع الشاعر لطيف هلمت(كِفْري 1949) مع شعراء الحداثة الثانية بجانب زملائه  شيركو بيكس وعبدالله بشيو وأنور قادر وأنور شاكلي ورفيق صابر  وغيرهم، ممن دشنوا التمرد على تجديد الرواد من الشعراء الكرد  أمثال (عبدالله كوران وكمران ونوري شيخ صالح وابراهيم احمد..) .
شعراء الحداثة الثانية تثاقفوا مع القصيدة العربية وموجات التحديث المدوية ،  فقفزوا بالقصيدة الكردية صوب الحداثة التي لها سمات شبيهة بقصيدة الستينيات العربية، وإن تأخر ظهورها في الشعر الكردي لمرحلة السبعينيات لأسباب يعزوها محرر انطولوجيا الشعر الكردي الحديث الشاعر عبدالله طاهر البرزنجي إلى أسباب سياسية ،حيث كان شعراء التجديد مشغولين بقضايا الكفاح والتحرر ومقاومة الانظمة ، بينما هيمن الإحباط في السبعينيات على المنافحين عن القضية الكردية ، وانفك الشعر عن الغرض السياسي المباشر  والإيديولوجيا ،ما أتاح للحداثة الفنية والرؤية الجديدة أن تاخذ مكانتها في القصيدة ،وأن يستعان بالسرد والنثر  وتقنيات القناع والرمز والأسطورة والمونتاج والاستفادة من الموروث المتنوع  المصادر.
 
يعرف القراء العرب شعر شيركو بيكه س خاصة لحضوره وفاعليته وانتشاره ، وكونه في مقدمة حداثيي القصيدة الكردية، لكن لطيف هلمت المجايل له  يكتفي حتى التسعينيات بحضور داخلي ، جعله معروفا لقراء الصحافة الثقافية ببغداد ؛لأنه اشتغل فيها ، وواصل حضوره مترجما من العربية وإليها .وهذا ما ينعكس في شعره متعدد المؤثرات والتأثرات، فهو يعكف  منذ ديوانه الاول مطلع السبعينيات(الله ومدينتنا الصغيرة) على تجسيد طبيعة الأرض والبيئة الشمالية وجغرافيتها  وموجوداتها الخليقية ، متجاوزا الرومانسية المتغنية بها كجوامد توحي للشاعر ولاتحس او تنوب عنه في بوحها وجماليتها وعنائها، معتمدا نوعا من البساطة الجارحة  المكملة لاهتماماته بأدب الأطفال وأناشيدهم خاصة ،لكنها تلك البساطة  المنطوية على مفارقة مفاجِئة ؛ فتنمو القصيدة بهدوء ورتابة مؤسسةً طبقات من المعنى لا غرابة فيها  ولا تعقيد ، ثم تنعطف فجاة ؛ لتفجر شعريتها مرة واحدة في بؤرة دلالية أو بيت قصيد- كما اصطلح النقاد القدامى على لحظة تلخيص القصيدة لحكمتها في بيت أخير- وبذا يقترب من عوالم محمد الماغوط في الصنعة الفنية القائمة على صور متقابلة تتنامى متوالدةً  ؛ لتصطدم أخيرا بما يحوّل وجهتها لتقول حكمتها او خلاصتها.
يتضح في شعر لطيف هلمت أيضا ما يرد في ادبيات التصوف من عناية بالزمن كعامل محفز على تأمل الحياة وصولا للزهد بها، استنادا الى واقعة الموت ، ما يجعله مترفعا على  الغنى والحكم والمظاهر الحياتية الباذخة ، فتتركز في قصائده  قيم  الحرية و العدل والمساواة والانتصار للضعفاء  والفقراء..ويسرد ذلك كله من خلال تمثيل خيالي يسند للاحياء كلها ما يحس به البشر،  كما في قصيدته (الامل) ، حيث تتوسل الشجرة بمن يضربها بالفأس كي لا يصنع من جسدها إلا تابوتا للطغاة والقتلة.
ويستلهم لطيف هلمت موروث الشعب وإنجازاته الروحية في التراث الديني والشعبي وتركيزه على الولادة الجديدة للبشر وقيامتهم من سباتهم الحقيقي والرمزي اي التأخر والتكاسل ، محاولا عبر الغزل بالمراة أن يعيد لها أبرز ما تمثله في حياة البشر من وجود جمالي وشعري وعاطفي ،فكان كثير البوح العاطفي ،ولا نكاد نحس  أنه يتحدث عن حبيبة محددة أو تجربة  عاطفية معينة ..فتكفيه مثلا زرقة عيني فتاة عن زرقة السماء!
على مستوى الأداء الفني والكتابة الشعرية لا يتعمد لطيف هلمت الغموض أو التعقيد رغم عمق –وخطورة – ما يتناول من موضوعات، وهذا ما جعل تلقي شعره المترجم للغات أخرى يحظى باهتمام طيب ، سمح بدراسة شعر جيله ووطنه من خلاله.
سنلاحظ في قصائده  سمات  المباشرة والتدرج الموجي الشبيه بتضاعف الأغلفة  الملتفة حول نواة الفكرة او بؤرة النص ، هاهو في قصيدة بعنوان الشاعر و عبر جزئيات صورية  تلتقطها الحواس المستنفرة دوما في شعره ، يصل إلى فكرة الذوبان والاتحاد الصوفية لدى الشاعر ، وكينونته جزءا من قصيدته متماهيا بها ؛فيقول:
(أصغيتُ إلى الماء/كان يغني للضفاف/أصغيت إلى الطائر/ كان يغني لشجرة/و أصغيت إلى الشجرة/فكانت تغني للربيع/وأرهفت السمع للربيع/ كان يغني للشاعر/وحين أمعنت النظر في الشاعر// رأيته يذوب قطرة قطرة/ ويتحول إلى لهيب..!) إننا نحس أحيانا ان تداعياته سوف تستمربلا توقف، فالصور تلد بعضها ، وتتفرع عن سابقاتها.في قصيدة بالعنوان نفسه (الشاعر) يستفيد من فكرة الحلول الصوفية، وعودة القطرة إلى نهرها بعد تبخرها وانضوائها في غيمة .لكنه يتدرج من الهم الذي ينطوي عليه النهر ولا يحسه الناس الذين بلا بصائر ، لكنه مهموم ، بدليل  أنه يسمعه يئن،كما يرى للنهر حبيبة يسوق لها الزهور في موجات مائه، ولأنه يغضب يرتطم بالصخور .أما الشاعر فيحيل دمه قطرات تشربها غيمة وتمطرها عبر القصيدة في نهر كبير.
في قصيدة أخرى من القصائد القصيرة التي يميل لكتابتها  يشبه لطيف هلمت القصيدة بالريح التي لا تصادق أحدا في هبوبها ، رغم أن هذا الوصف لا ينطبق كثيرا على شعره  الذي يوحي بألفة غريبة مع الأشياء ويتحسس ما تكتنزه في صمتها وجمودها.
يترجم الشاعر إحساسه بالزمن وثقله وعبثيته في قصيدة بعنوان الأيام يتحدث فيها عن سلسلة متلازمة من عراك أيام الأسبوع يختمها بالسؤال الوجودي الإشكالي عن مصير اجساد تلك الأيام الميتة ( ابداً السبت يغتال الجمعة/الاحد يقتل السبت /الإثنين يغتال الأحد/ والثلاثاء الإثنين../ترى أين تدفن الايام/  كل هذه الأجساد؟).
تلك السمة الغلافية أضحت امتيازا لقصيدة هلمت المتعالية على الرومانسية رغم رقة لغتها وبساطة موضوعها ..ووصولها إلى غرضها بنمو فطري يذكرنا بالحدوتة أو الحكاية الشعبية ، وتكرار العبارات المفتاحية أو الختامية في الليالي العربية والفولكلور الكردي  والحكي الشعبي عامة.ففي قصيدة الملك يتدرج الشاعر في تسلسل الجمل الشعرية من عبارة(أمر الملك باعتقال البحر/ فصار البحر غيما/)وحين يأمر الملك باعتقال الغيم يصبح مطرا ،فيأمر الملك باعتقاله ،فيصبح نهرا يتحول بدوره سيلا يفيض بعد ان يأمر الملك باعتقاله، فصار المطر فيضانا وحين أمر  الملك مر باعتقال الفيضان التهمه السيل بأسنانه الحادة (………) – الشاعر من ذا يقول : أن ليس للأنهار هَم إنها إن لم تكن حزينة , فلماذا تئن إذن ؟! ومن ذا الذي يقول : أن ليس للنهر حبيبة إنه إن لم يكن يحب فلمن يجلب كل هذي الزهور ؟! .. ومن ذا الذي يقول : إن النهر لا يغضب أبدا إنه إن لم يكن يغضب .. فلماذا يهشم رأسه بصخور الضفاف ومن ذا الذي يقول : إن الشاعر لا يصبح نهرا أليس هو الذي يجمع دمه قطرة فقطرة في غيمة القصيدة كي يجعل منها نهرا كبيرا
 
 
لقد انحاز الشاعر للحرية ؛ فهاجمت قصيدته الطغاة ،ولكن بصنع صورة خرافية لهم .يستعيد صورة نيرون مرمزا في طاغية. حين يطلع من جسد المدينة دخان،  تتساءل عنه القصيدة في حوار مسرحي ذكي :هذه المدينة لم لفها الدخان؟؛  فيجيب صوت آخر بأنه ربما أشعل فيها جنرال سيجارة أو غليونا. كناية عن عذاب الأرض والبشر بوحشية العسكر وقسوتهم.
وفي حديثه عن الأمكنة يلخص هلمت الشعور بتنوع الدروب وتعددها ، لكنه يبحث كأي متأمل واعٍ غير عابرعادي  في ممر  الحياة عن درب يصفه بأنه  أجمل درب: فهو  (لا ينطلق من مكان ولا يبلغ أي مكان). إنه مكان أو طريق يقع في موضع خيالي ،يصنعه الإيهام الذي يعقد عليه الشاعر رهان قصيدته. فيقول:
مائة نجمة تدخل مرآة صغيرة أمّا هذه الأرض الكبيرة فلا تسعني كخرم الإبرة !
كثير من نصوص الشعر الكردي في موجة الحداثة التالية ستنقل القصيدة  إلى موقع حداثي أكثر جرأة وتجاوزا لما اقترحه زملاء بيكس وهلمت ، لكن ما تركه هؤلاء سيظل  له أثره  في التحولات الفنية والرؤى ،وفي مجمل الخطاب الشعري، فنصوص هلمت حملت في ثناياها ظلال الرقابة والقمع للحريات ، بينما يشتغل شعراء التسعينيات في فضاء حر ولا يشوب قصائدهم خوف من تسلط أو تحفظ من تاويل.ولكن ما يجعل القصائد غاضبة كالريح فلا تهادن أو تصادق بتعبير هلمت هو توسيعها للهم السياسي وتماسها مع الإنساني في أكثر صوره بلاغة وتأثيراً ،سواء بالرصد الداخلي للمكنونات البشرية، أو تأمل الكائنات الخليقية واستلال الصور المؤثرة وتسلسلها الدرامي حتى النهاية .وهي مظاهر يحرص لطيف هلمت على تركيزها كعلامة فارقة له ،وميزة تمنحه تلك الخصوصية التي لا تجعل معالجاته ومقارباته الموضوعية والاسلوبية ممتثلة لموضة أو نزعة مهيمنة ،قدر استجابته لحافزواحد هو فضاء القصيدة وهاجس الحرية الذي يلازمه منذ بداياته الشعرية حتى الآن.
ملاحظة: القصائد المختارة بترجمة الشاعر عبدالله طاهر البرزنجي.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
قصائد
 
 
أسرار

  • الريح

لا تصادق أحدا

  • والقصيدة كالريح

احيانا تقبل
وتتوارى أحيانا أخرى

  • حين يسترسل الشعر في النوم

تنمو اعشاب الصمت
في بقاع الأرض.
 
الملك
 
أمر الملك باعتقال البحر
فصار البحر غيما
أمر الملك باعتقال الغيم
فصار الغيم مطرا
امر الملك باعتقال المطر
فصار المطر فيضانا
الملك أمر باعتقال الفيضان
فالتهمه السيل بأسنانه الحادة
 
(………)

  • هذه المدينة

لم لفها الدخان..؟
+ ربما
جنرال
أشعل بها
سبجارة
أو غليونا.
 
(….)
مائة نجمة
تدخل مرآة صغيرة
أمّا هذه الأرض الكبيرة
فلا تسعني كخرم الإبرة !
الشاعر
من ذا يقول : أن ليس للأنهار هَم
إنها إن لم تكن حزينة , فلماذا تئن إذن ؟!
ومن ذا الذي يقول : أن ليس للنهر حبيبة
إنه إن لم يكن يحب
فلمن يجلب كل هذي الزهور ؟! ..
ومن ذا الذي يقول : إن النهر لا يغضب أبدا
إنه إن لم يكن يغضب ..
فلماذا يهشم رأسه بصخور الضفاف
ومن ذا الذي يقول : إن الشاعر لا يصبح نهرا
أليس هو الذي يجمع دمه
قطرة فقطرة في غيمة القصيدة
كي يجعل منها نهرا كبيرا ؟!
 
 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*