في غيبوبة الذكرى – دراسات في قصيدة الحداثة

 
كتاب دبي الثقافية
ديسمبر 2009
 
 
 

د. حاتم الصكَر

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 إلى:
ولدي عدي
في غيبوبة براءته وشبابه التي  طالت  بين أنياب  خاطفيه 
وإلى حفيدي أحمد:
 و سؤاله الغائب في ارتباكات  طفولته  التي تكبر بعيدا عن الأب
وإلى محمود البريكان حتما
وهو في غيبوبة الذكرى التي قال عنها:
تحتضر الطيور في أوكارها
تنطرح الوحوش في الكهوف
تنكفئ الثعالب الشمطاء في الأوجار
تنجذب الأفيال
إلى مكان صامت في آخر الغابة
مزدحم بالعاج والهياكل
حيث تموت موتها
 
ووحده يموت في داخله الإنسان
في العالم الباطن
في مركز السريرة الساكن
في غيبوبة الذكرى
 
صنعاء
2009
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
هذا الكتاب
                                                                بقلم: سيف المري
                     رئيس تحرير مجلة دبي الثقافية والمدير العام لدار الصدى
 
     النقد الأدبي في عالمنا العربي نادر ومهمَّش، فلا تكاد تشعر بوجوده إلا في الدراسات الأكاديمية. أما الصحافة الثقافية والأدبية، فإنها أبعد ما تكون عن ذلك، إذ مع كثرة ما تنشره من نصوص وأعمال شعرية، فإن الدراسات النقدية الجادة صارت أندر من ” الكبريت الأحمر”..
وربما يؤخذ على عموم القراء عدم شغفهم بالنقد والتحليل، واكتفاؤهم بقراءة النصوص والاطلاع عليها بعيداً عَمّا يعدونه “فلسفة” من جانب النقاد، ما جعل الشعر والشاعر بمنأىّ عن قلم الناقد الذي يسهل تشبيهه بمبضع الجراح..
    وربما أن جزءاً من الأمية الثقافية التي يعيشها العالم العربي، قد أسهم في إقصاء دور النقد، وربطه بالدراسات الأكاديمية بعيداً عن الحياة اليومية للمثقف، مع خطورة ذلك على تطور الحركة الشعرية، إذ لا يُعقل أن نكون، نحن العرب، أول من اخترع نقد النصوص الشعرية بدءاً من سوق عكاظ، حيث كان هناك مُحَكِّمون يصنّفون القصائد، ويطلقون على أصحابها أحكامهم..
ومع بدائية ذلك الأسلوب القديم الذي يختصر تجربة الشاعر في نص واحد، وأحياناً في بيت واحد، ليكون ذلك الشاعر مستحقاً أن يكون أشعر الناس، أو أشعر أهل زمانه، بمجرد أنه قال البيت الفلاني!..
    وعلى الرغم ما في هذا الأسلوب من سذاجةٍ لا تخفى على المبتدئين، فإنه مثّل بداية ظهور النقد، فكيف بنا بعد مرور أكثر من ألفي سنة، ومازلنا ندور في نفس الدوائر، فلا نعطي الدراسات النقدية ما تستحقه من اهتمام!.. وأظن أن القصور هذا نتحمله جميعاً، سواءٌ أكان ذلك التقصير من قبل التعليم، أم الصحافة، أم النقاد أنفسهم الذين يقع جزء من تطور الحركة الشعرية في العالم العربي على عاتقهم، وإنه من الأهمية بمكان أن يُعطى النقد الشعري ما يستحقه من عناية..
   ونحن إذ نقدم لكم، أيها القراء الكرام، هذا الإصدار الرائع للناقد المتميز الدكتور حاتم الصكَر في نقد الشعر الحديث، فإننا نأمل أن نكون قد وُفّقنا في القيام، ولو بقليل من الجهد، عبر إثراء المكتبة العربية بهذه الدراسة النقدية المهمة، والله من وراء القصد.
 
 
 
 
حاتم الصكَر
والنقد الممتع.. المتوازن
 
                                                                           بقلم: ناصر عراق
مدير تحرير مجلة دبي الثقافية
     أظن- وليس كل الظن إثماً على أي حال- أن النقد الأدبي إذا خلا من المتعة فقد الكثير من حضوره وتأثيره، فالنقد مثل الفن ينبغي أن يضع نصب عينيه إمتاع القارئ- أو المتلقي- بالدرجة الأولى حيث يتم ذلك بالتشابك والمواكبة مع المهمة التي يتصدى لها هذا النقد وهي تحليل النص وإضاءة مافيه من بؤر جمال وفرادة، أو فضح ما يحتويه من قبح وقتامة!
الدكتور حاتم الصكَر يعد أحد القلائل من نقادنا الكبار الذين يدركون هذا الأمر، فالكتابة النقدية عنده تتكئ بصورة رئيسة على امتاع القارئ من خلال مقدرته الفائقة على كشف كل مخبوء في النص ليقدمه لنا في صياغات نقدية بالغة الرقة والعمق، خالية من تعالي بعض الأكاديميين وجفاف كتاباتهم!
     “في غيبوبة الذكرى” هو الكتاب الذي نقدمه هذا الشهر في سلسلة كتاب دبي الثقافية التي أضحت أحد معالم واقعنا الثقافي العربي بامتياز، حيث ينتظر القراء بشغف المجلة وكتابها كل شهر، وهو أمر يسعدنا- لا ريب- بالقدر الذي يلقي علينا بالمزيد من المسؤولية لنطور أنفسنا وأداءنا حتى نؤدي رسالتنا الثقافية على أكمل وجه!
   في هذا الكتاب يطوف بنا الناقد الكبير الدكتور حاتم الصكَر على دروب الشعر المتنوعة خصوصاً تلك التي عبدها وطرقها شعراء “ثوريون” قاوموا الرتابة والتكرار منذ نصف قرن، من أجل البحث عن جماليات جديدة توائم العصر وتلبي أشواق الذواقة إلى الجديد الذي يخاطب ميولهم وأمزجتهم!
   بحذق ونباهة يسير ناقدنا الكبير بين حدائق الشعراء، فيشير إلى وردة مضيئة هنا، أو غصن أخضر هناك أو شجرة مورقة في الزاوية، فنتأملها معه ونستمتع بكيفية التعامل مع هذه الكنوز “الطبيعية” من الشعر!  

إن الدكتور
حاتم الصكَر نموذج مثالي للناقد الحصيف الذي يشرح ويعلم، يمتع ويؤرخ، من دون أي افتعال أو عنجهية، وما أحوجنا إلى مثل هذا الناقد الآن!
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
الدراسات
 
–         في مطلع ألفية شعرية ثالثة: تقديم
–         قصيدة الحدث
–         قصيدة المنفى
–         القصيدة السياسية والقصيدة الوطنية
–         قصيدة النثر وحجاب التلقي
–         قصيدة القراءة وجمهور الشعر
–         مداخل مقترحة لقراءة شعر محمود درويش
–         أجراس السياب وأمطار قصيدته
–         قال قلب الشابي للإله
–         عزلات الماغوط
–          البريكان في غيبوبة ذكراه
–         قصيدة الأنا المنفعلة: الجواهري
–         قصيدة الجسد: أدونيس
–         قصيدة المكان: المقالح
–         قصائد الغياب: سركون بولص- محمد حسين هيثم- عقيل علي
 
 
 
 
 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
                                               في مطلع ألفية شعرية ثالثة
                                                          تقديم
 
 
 
 
 
هل تصلح الذكرى مناسَبَة للقراءة.؟
هل تحل غيبوبة الإنسان نصا ووجودا مبررا بديلا لتلك الذكرى الغابرة التي تظل كاسم الوردة بعد زوال كيانها وانقضاء عطرها؟
من العطر والكيان والاسم تتدرج قراءة الغيبوبة والتذكار، لأن النصوص المعروضة في الكتاب وقعت في حيز الانقضاء زمنيا ، وهذا ما ظلّ منها تتشبث به القراءة لتمنحه الكينونة وتقاضي حداثته ، وتؤوله على أساسها بالاقتراب الحميم منه.
الناقد قابلة النص لا والده ، لكنه قد يكون أكثر حنوا منه عليه .
 
  1-     ماذا يبقى من حداثة الرواد ؟
في الأعوام الأولى من الألفية الثالثة يحق لنا الحديث عن ألفية شعرية عربية جديدة ، بما للزمن من استحقاقات ، تأتي عبر ما تراكم في مجال النوع الشعري والإضافات التي شهدتها القصيدة العربية.
وأولى اللحظات الشعرية الجديرة بالمراجعة والمساءلة لحظة الحداثة الأولى التي عرفت نقدياً بحداثة الرواد منتصف الأربعينات ، وهو المشروع (التجديدي) الذي مثله مقترح القصيدة (الحرة) كتأسيس أولي ومشروع مغاير ، ليليها سؤال مستحق أخر عن الحداثة الثانية التي مثلها مقترح (قصيدة النثر) كتحديث أكثر جذرية واصطدام بلغة القصيدة وبناها الإيقاعية ورؤاها ، وصولاً إلى لحظة الحداثة القائمة التي أصطلح عليها (الكتابة الجديدة) القائمة على (النص) انشقاقاً واضحاً على المألوف الشعري في تراث الحداثة الشعرية العربية.
والسؤال عن حداثة الرواد بعد قرابة ستين عاماً من إنطلاقها ، يبيح لنا التساؤل: عما تبقى منها كمحصلة ؟ وهنا لن نُسائِل (النصوص) المنجزة كتجليات لنياتهم التجديدية ، بل نراجع (الخطاب) الذي صدرت عنه تلك النصوص ، والمنطلقات النظرية والمبررات التي صاحبت الوعي بضرورة التحديث في تلك اللحظة من مسيرة القصيدة العربية ، وعلى خطها المتميز بالتحول والحنين إلى التجديد .. امتثالاً لظروف داخلية (فنية) وأخرى تتعلق بتغير أفق التلقي ومكونات الشاعر وبعناصر أخرى في الخطاب التجديدي ، تحف به وتضغط على وعي صانعيه من الشعراء والمتلقين (نقاداً وقراءً) …
يتجمع – ويمتد – خط الحداثة الشعرية العربية من نقاط ، تذكرنا بما يراه الصوفيون في نظريتهم عن النقطة والخط ، فالخط عندهم هو مجموعة نقاط ، إذا أخذت أياً منها ، تجد فيها ما في البدء من مزايا … وفي خط الحداثة الشعرية العربية تكون النقاط هي الاختراقات الصغرى والكبرى ، الخروجات والتمردات ، الرضات والضربات ، العقد والمفاصل ، تحولات البنى والموضوعات ، الأشكال والأساليب ، لغته وصوره ، الإيقاعات والموسيقى ، وكذلك تحولات تداوله واستهلاكه ، قراءته وتقبله ، ثم تحليله ونقده .. وهي أمور لها تجليات في عصور قول الشعر العربي المتعاقبة ثم كتابته وقراءته في يومنا هذا: المضطرب والشائك والمشتبك…
في البدء يجب ألا يوهمنا وجود هذا الخط التطوري المفترض ، فإننا بذلك نستجيب لسلسلة وراثة مرجعية ، لها سمات وراثية (مرئية) أو واجبة الالتزام ، بل لعل ذلك سيدعونا لمواقف من القطيعة والنسيان ، كضرورة تكتيكية للوصول إلى ذلك الجديد المطلوب دائماً .. ولا أجد في ذلك جموداً أو انقطاعاً ، بل هو احترام للمنجز (القديم) الذي كان – وتلك مفارقة يجب ملاحظتها – (جديداً) في حينه.
وما بين يوم (القديم) الأول – أي الجديد – ويوم (الجديد) الأخير الذي سيغدو قديماً ، تنجز الحداثة برنامجها النصي الذي غالباً ما يكون تجريبياً أو اختبارياً ، وعلينا –كقراء- أن ننظم المقروء النصي للتعرف على هوية الخطاب الحديث ومقترحاته ، وهكذا تتكون أطياف شعرية وملامح جديدة تنمو وتتبلور بما نمنحه لها من هواء ضروري ، وزوايا نظر جديدة بمستوى ما تتطلبه قراءة هذا المنجز دون أن تزهدنا به (حداثته) أو (مغايرته) ، إنطلاقاً من القناعة بوجود الخط التطوري ونقاطه ومفاصله وانحناءاته ، ومن القناعة بضرورة مخالفة مساره والتقاطع مع ثوابته ، استجابة للمتغيرات المحيطة ، وهنا نصل إلى لحظة المراجعة والتقييم التي تدعونا إليها مناسبة الدخول في الألفية الجديدة والتوغل فيها.
وإذا صح عدم جدوى المراجعة – لمناسبة الألفية الثالثة – في نواح أخرى من حياتنا العربية كالعلم البحت والإعلام والفلسفة والعمارة الخ … مما ليس لنا فيها  – نحن العرب – محصول متراكم طيب نوعاً وكماً ، ومازلنا نعتمد فيه مرجعية الآخر ومنجزاته .. إذا صح ذلك هناك ، فإن الشعر يسمح لنا بهذه المراجعة والمساءلة لأنه يضرب عميقاً في جذوره عندنا عبر أساطير التاريخ القديم وملامحه وحكاياته وأشعاره القصصية ، وإلى أدبنا الكلاسيكي المتمركز حول الشعر الذي ارتبط بالإنسان وارتبط الإنسان به ، لا كأشكال رسمية ذات هوية فنية واضحة ، وإنما كرؤى وتعبيرات تجد في الخرافة والخيال والأمثال والأحلام والتشكلات الغنائية الفطرية ، كمرادفات محايثة لصورة الشعر المكرسة عبر شكله الوحيد المتاح والمتعارف عليه ، وأعني القصيدة.
وحتى بهذا المعيار فللقصيدة العربية ماض يؤهلها للحظة التحول ، والمقايسة ، واختبار الاستحقاق الألفي الماثل اليوم.
وإذا انصرفنا – مسرعين – عن المستوى الخطي المتسلسل عبر التاريخ ، والمتنوع في الأراجيز والقصائد والمعلقات وغيرها ، وتأملنا النوع الشعري وتحولاته الشكلية والأسلوبية (لغة وإيقاعات وموضوعات وبلاغة صورية ولغة وزوايا نظر) لوجدنا الشعر العربي جديراً بلحظة التأمل والمراجعة في سياق الألفية الجديدة ، فشعرنا ذو فاعلية حياتية ، لا يضيق بالوجدان وتجليات الذات ، كما يتمدد ليستوعب الخارج ، ويتمثل مفردات الواقع والتاريخ ، يضم الحادثة والوقائع اليومية ، كما يتلمس ذبذبات الروح وهواجسها: من الرجز حتى المعلقة ، ومن الموشح حتى البند ، ومن القصيدة الحرة حتى قصيدة النثر ، بتلوينات وتنوعات يؤطرها الشعر كروح وإيحاء ، ولا يحدها بثوابت ، رغم نزاعها الظاهر وتباينها وخلافها الذي هو جزء من آليات الدفاع الغريزي عن الوجود.
سنتوقف إذن عند (حداثة) الرواد الذين هم أقرب إلى لحظتنا الشعرية ، وعصرنا ، فالرواد الذين تمثلوا منجز الشعر العربي الموروث ، طرحوا مشكلة الصلة مع الأخر ومؤثراتها الأسلوبية عملياً ، بعد أن ظل شكل الصلة الوحيد مع الأخر هو في الكتابة النقدية التي تأثرت بالمنهج الأرسطي وأطروحاته في (الشعرية) وفي البلاغة العربية التي خضعت فنونها الثلاثة لجزء من أثر المنطق الأرسطي المتشدد.
كانت دراسة (الرواد) وثقافتهم منفتحة على النص الأخر في لغته الأصلية ، مدفوعين كذلك بعوامل سياسية وإنسانية سمحت برؤية النص عبر لغته الأصلية ، وما ترجم إليها من لغات أخرى ، وهكذا تعرف الرواد على قصائد وأشعار لشكسبير ودانتي ، لأليوت وستويل ، باوند وكيتس ، ناظم حكمت ولوركا ، إيلوار وماتشادو وغيرهم .. فحفزهم ذلك كما تقول نصوصهم وتلفظاتهم النظرية لتحريك الإطار الإيقاعي واللغوي والصوري والدلالي لقصائدهم ، مما تمخض عنه محاولتهم كتابة القصيدة متعددة التفعيلات والقوافي ، ومرسلة الأشطر المتفاوتة في طولها ، وتضمين الرموز والأساطير والشخصيات داخلها .. واصطلحوا على ذلك بالقصيدة الحرة .. بما يحمله المصطلح من بلبلة ، وربما تم ذلك كله بوعي ناقص ، محكوم بمحدودية (الحرية) وفهمهم الخاص لمداها داخل النص ، ولآنشدادهم إلى التربية (الشعرية) التقليدية التي نشأوا عليها ، ولكن ذلك لم يعطل طاقة التجريب والمحاولة ، أو يقلل من شأن حنينهم المتولد عن إحساسهم بوجوب التغيير ، والخروج مما أسمته نازك الملائكة الجمود والتحجر أو التقليد لأطر وأنماط لم تعد ملائمة لروح العصر ونبضه المتسارع من حولهم.
والملاحظ أن نقطة افتراقهم عن الموروث سواء التراث (أي الماضي الشعري) أو النتاج المعاصر لهم والمجتر للقديم بتقليدية ورتابة ، لم تكن بسبب (عقدة نقص) من هذا الموروث أو قصور عن مجاراة شعريته ، فالرواد دون استثناء بدؤوا بالكتابة الشعرية السائدة ، ولهم فيها – دون استثناء أيضاً – محصول طيب منشور في دواوينه الأولى ، ربما كان سيؤهلهم ليكونوا شعراء بارزين في الشعرية الموروثة ومقاييسها أو ما عرف بالقصيدة العمودية ، لاسيما وأنهم تأثروا بوعي وإحساس بشعراء مميزين في ذلك النوع في عصرهم ، وظلت لهم آثار واضحة حتى في شعر الرواد اللاحق.
المفارقة والمغامرة إذن لم تكن عن قصور وضعف ، رغم إن ذلك اتهام تردد في الحجاج والمساجلة بينهم وبين رافضيهم من التقليديين ، لكن درجة وعيهم بعصرهم ومتغيراته ثم بلغة الشعر وإيقاعه ، هي التي هيأتهم لتلك الطفرة المفصلية في تاريخ الشعرية العربية ، وأعني الانعطافة الحقيقية الحادة التي لم يسبقهم إليها من المجددين الكثر عبر عصور الشعر العربي المختلفة الذين اكتفوا بالتنويعات والاختلافات داخل الشكل التقليدي ذاته.
وسوف يتآزر وعيهم بعصرهم (سياسياً واجتماعياً) بالقياس إلى اللحظة التاريخية التي عاشوها ، أو قدر لهم أن يشهدوا عليها عقب انتهاء الحرب الكونية الثانية ، مع تبدل لغة الشعر وإيقاعه بالضرورة ، احتكاماً إلى تغير إيقاع الحياة العربية ، مما خلق أو هيأ لظهور وعي جديد بدور اللغة والإيقاع تحديداً ، مع بقاء الموضوعات كما كانت عليه.  وتلك نقطة الاختراق في مشروعهم الشعري …ونقطة التقائهم بمشروع الحداثة الشاملة.
ويكتمل المثلث بثقافة هؤلاء الشعراء التي تستوعب التراث ومفهوم الشعر نظرياً ، إلى جانب إطلالتهم الواعية على المنجز الشعري الحديث في الغرب ، فالرواد يجيدون قراءة الشعر بلغته الأجنبية وينظرون إلى مشهده الجديد في الغرب دون عقدة نقص أيضاً ، انطلاقاً من (إنسانية) و(كونية) منظورهم الذي يرى النتاج الشعري إنسانياً في المقام الأول ، يدفعهم إلى ذلك عدد من المشغلات الفكرية والسياسية والثقافية أيضاً.
وسوف يوجههم هذا الاهتمام بالآخر من خلال منجزه الشعري المتجاوز لضوابط الإيقاع التقليدي (الوزن والقافية الموحدة) إلى محاولة تغيير خطط القصيدة العربية التي تكمن في جذورها بوادر حنين إلى تغيير ذلك الإيقاع الذي كسرته محاولات سابقة ذات أثر في ذاكرة الرواد الشعرية كالموشح والبند والرباعيات والمقطعات الشعرية وتجارب المهجريين ، وغيرها من المحاولات المبكرة السابقة لمقترحهم ..
ويأتي بعد ذلك دور اللغة التي اكتشف السياب ونازك (خاصة) أنها لم تأخذ طاقتها الرمزية والتعبيرية ولم تؤد وظيفتها الشعرية داخل القصيدة ، بسبب ما يحف بها من إكراهات وضرورات فنية ، تتطلبها القافية الموحدة وهندسة البيت الشعري ذي الشطرين وثبات عدد التفعيلات في البحر الواحد. وتداعياً عن ذلك ستتسع القصيدة لعالم من الرموز والأساطير لم تكن ذات وجود في الشعر السائد ، لكنها أصبحت ممكنة استناداً إلى إنسانية المنظور التحديثي ، ومجافاة المباشرة ، والبحث عن معادل رمزي للشعور والإحساس والأفكار والرؤى ، رغم أن وجود تلك الرموز والأساطير كان وجوداً خارجياً يعضد الصورة أو يعمق الفكرة ويظل وجوداً طارئاً ومنعزلاً لا ينصهر في الرؤية الشعرية ذاتها ويغيب في ثنايا بنية النص.
لقد كان مجهود الرواد وفقاً لتلك القراءة التي اتجهت إلى الخطاب الشعري لا النصوص، مجهوداً أولياً له فضيلة التأشير واقتراح إمكان التحديث ، والإيغال في مغامرته مما مهد للأجيال الشعرية اللاحقة أرضاً شعرية خصبة ستثمر في لحظات الحداثة التالية التي انبعثت عن لحظة الرواد التحديثية ..
وهذا في ظني هو ما سيظل أخيراً من حداثة الرواد ومشروعهم التحديثي المنطوي على كد وكفاح واضحين في إنجازهم النصي ، وتلفظاتهم ومنافحاتهم النظرية على السواء.
وهذا يقودنا إلى تفحص لحظة حداثية ثانية أو تالية تمثلها قصيدة النثر ..
2-   2-  إمكان النثر في الشعر (لحظة الحداثة الثانية):
يبدو أن (الحداثة) لا تزال المقياس الاختباري لاندماج أفق ثقافتنا العربية بالعصر ، أما تجليات هذه الحداثة ومظاهرها في الكتابة الشعرية ، فلم تزل تعاني الرفض أو التردد أو القبول على استحياء ، رغم الثلمة الكبرى التي ألحقها (الشعر الحر) بالمتن الشعري التقليدي منذ نصف قرن تقريباً ..
إذ أن هذا الجسم الصلب الذي تكيف قليلاً مع الدعوة إلى وزنية جديدة ، ونظام بيتي مستحدث ، لم يقبل الانفتاح على الحداثة كلياً ، وإنما أراد أن تمر كمية محدودة منها عبر الثلمات المتلاحقة في سد التقليدية المنيع ..
وهكذا إذ نصل إلى مقترح قصيدة النثر ، نكاد نستعيد الخطاب النقدي المألوف الذي عرفناه في منتصف الأربعينيات ، وهو يواجه مقترح الرواد حول تجديد القصيدة العربية ، فلا يزال الخوف من الحرية في الشعر ، والتشكك بمقدرة الشعراء الجدد (والشباب على وجه التحديد) ونياتهم والصلة بالأخر عبر الفنون والآداب ، يحكم عناصر هذا الخطاب ويوجه رفضه لمعاينة التجارب الجديدة ، رغم الزحزحة التدريجية التي تحدث عبر الدوريات ووسائل النشر ، ومؤتمرات الأدب ، ومهرجانات الشعر .. لكن وتائر هذه الزحزحة لا تناسب التراكم الكتابي الكمي الذي يعطي أحياناً الذرائع للمواقف المحافظة ، إذ ترى في ضعف بعض محاولات كتاب قصيدة النثر ، أو فهمهم الخاطئ لاستراتيجياتها ودواعي كتابتها  ، مبرراً لرفض النوع الشعري كله ، متجاهلة أن ذلك يحصل في أغلب التجارب الجديدة ، لا سيما وأن عمر التجربة ذاتها قصير بالقياس إلى الأنواع الشعرية الأخرى.
من هذه النقطة يبدو الحديث عن (قصيدة النثر) دفاعياً ومسبوقاً بتكرار الذرائع النظرية على المستوى الفني – أي كتابة القصيدة – والجمالي – أي تقبلها وقراءتها – .
وقد عرضنا في دراسة سابقة لما رأينا أنه خلفية تحرك الجدال والحجاج حول قصيدة النثر ، ووجدنا أن ثمة أخطاء وتصورات مغلوطة كانت وراء سوء فهم الجمهور لهذا النوع الحديث من الكتابة الشعرية ، وبعض هذه الأخطاء ارتكبه روادها أنفسهم بسبب حماستهم التبشيرية والأوهام التي أسرت نظرتهم إلى قصيدة النثر ، وصلتها بالشعرية العربية ، والأشكال الغربية ، بينما كان جزء من سوء الفهم متأتياً من غياب منظور القراءة المناسبة لهذا النوع .. إذ أن قراءة قصيدة النثر ونقدها وتداولها ظلت محكومة بآليات و(إجراءات) قراءة الأنواع الشعرية السابقة عليها .. وهذا أساس الخلل في قبولها وتحديد هويتها وشرعيتها ، احتكاماً إلى قوانينها ونظم كتابتها وإيقاعيتها الخاصة ، وباختصار فإن قارئ قصيدة النثر ، هو الطرف المطلوب وجوده بالقوة التي ظهرت فيها القصيدة ، وبالحساسية ذاتها.
لقد لاحظ النقاد ما تعاني قصيدة النثر من إشكالات ذاتية وموضوعية ؛ بدءاً بمصطلحها الداعي إلى البلبلة ؛ وغير المعبر عن جوهرها ، وتصورات بعض كتابها المنطلقة من نثريتها أو سهولة كتابتها ، أو مجافاتها للشعرية العربية بسبب نشأتها الغربية ، وهي تصورات قاصرة طبعاً ، أضرت كثيراً بقصيدة النثر ، وتسببت في مناكدة التراث الشعري واللغة ، في سنوات انطلاقتها العربية الأولى ؛ ثم إغراق منابر النشر بنماذج ركيكة تدرج نفسها تحت نوع (قصيدة النثر) ، ومحاولة استعارة عناصر الخطاب الشعري الغربي وتقليد نماذجه ؛ وأخيراً الاستنساخ الصوتي وتشابه نصوصها الذي يوحي بأن قصيدة النثر نموذج واحد ، يكرر كتابته شعراء متعددون ، نظراً لتشابه زوايا الخطاب والموضوعات والعبارات أحياناً ، إلا أن ذلك كله لم يكن ذريعة كافية لهدر دم قصيدة النثر ، والتغافل عن دراستها سواء في المدرسة العربية ، أو فعاليات النقد الأدبي ، ولا يبرر الاكتفاء بما يشبه التصويت بـ (نعم) أو (لا) ، و (مع) أو (ضد) دون الخوض في قوانينها الداخلية وإيقاعاتها ومزاياها الفنية ، ولكن ذلك لا يعني طمس جهود نقاد عرب اقتربوا منها في السنوات الأخيرة بالدرس والتحليل ومحاولة تنميط نماذجها ، ومقاربتها نصياً ، ومناقشة مشكلاتها سواء الفنية منها أو التوصيلية ، وهو جهد أفلح في جذب القارئ إلى منطقتها ، والتأمل في ذرائعها وفحص نماذجها ، ووصول ذلك إلى شرعية مناسبة تقبل وجود قصيدة النثر في المحافل والمنابر والنشر ..
يستلزم فحص نصوص (قصيدة النثر) مفارقة الخطاب السائد ؛ سواء على مستوى كتابتها أو تلقيها نقدياً ؛ فقراءة نماذجها تتطلب معاينة خاصة ، نابعة من استعانتها الأساسية بالسرد وتأثيث القصيدة بعناصره: على مستوى ضمائر السرد التي تساهم في العثور على مفاتيح قراءة تحدد انضباط السرد وجريانه ، وهو أمر يجب ملاحظته على مستوى الكتابة (من الشاعر نفسه) والقراءة أيضاً ، وعلى مستوى الدلالة التي هي توسيع وتمدد للمعنى ، وتعويض عن غياب عناصر الإيقاع التقليدية ، وعلى مستوى البناء حيث تقترن الفوضى الظاهرية لقصيدة النثر بنظام دقيق ينبث في أجزائها ، ويتنامى عبر متنها، وعلى مستوى الإيقاع حيث يغيب الوزن تماماً ، وتنبذ التقفيه ، فتنوب عن ذلك أنواع من التوازيات والتقاطعات والتكرارات وغيرها من جوانب الإيقاع الداخلي ، وعلى المستوى الخطي حيث يكون للهيئة التي تُكتب بها القصيدة أثر في قراءتها ؛ بدءاً من العتبات النصية كالعنوان وما يوحي يه أو يثيره في القارئ، ويوجه قراءته من خلاله ، وكذا التناصات بأشكالها المختلفة تضميناً ومفارقة وإشارة وتوسيعاً وتعديلاً ، والانتباه إلى فراغاتها وأساليب القطع والوصل والبناء الجملي ، … وأرى أن الانتباه إلى هذه المكونات بالدراسة والتحليل النصي سيرينا تنوعاً أسلوبياً واضحاً ، تغدو معه قصائد أدونيس النثرية ذات أسلوبية خاصة ، تختلف تماماً عن نصوص أنسي الحاج مثلاً ، ونصوص سركون بولص عن نصوص أمجد ناصر ، وعباس بيضون عن نصوص سيف الرحبي وشعر كمال سبتي عن قصائد طالب عبدالعزيز وهكذا ….
إن قصيدة النثر هي قصيدة رؤيا في المقام الأول ، لكنها بتفجير طاقات النثر والاستعانات السردية ، تباين النموذج الجبراني الشائع في (الشعر العربي المنثور الذي كتبه جبران والريحاني) أو (الشعر الحر) حسب اجتهاد جبراً وأطروحته المعروفة داخل تجمع (شعر) ، ولكن الإحساس لا يزال قائماً حول الشكل الإنشائي أو الخطابي لقصيدة النثر ، مما يعزز نصوصاً ذات كيانات لغوية موشاة بالصور الزاهية والتشبيهات المبتذلة (أي المستهلكة صورياً) والمتميزة بميوعتها العاطفية ، وانشدادها إلى بريق النثر ، في ظن أن قصيدة النثر نوع هجين ، يأخذ وجوده من خلايا حياتية متباينة ، لإنتاج نوع زائف ، لا هو شعر ولا نثر.. ولعل هذا الإحساس حدا بأدونيس للتراجع عن مصطلح (قصيدة النثر) لصالح مصطلح أكثر بلبلة هو (كتابة الشعر بالنثر) لتأكيد الحاضنة (الشعرية) لقصيدة النثر.
لقد كان  جبران في كتاباته النثرية الإشراقية أحد مراجع قصيدة النثر ، كما أن الكتابات الصوفية والإشراقية في التراث العربي هي مرجع أخر مهم لها ، إلا أن الخلط بين النثر الفني والقصيدة الحديثة يضر بهذه الأخيرة أيما ضرر ، ويؤكد نثريتها في ذاكرة القارئ ، العربي المتكون بخبرة قراءة راقية لنماذج شعرية عالية ، تقف قسيماً جباراً لفرع الأدب الأصغر أي النثر ، وأية رؤيا ميتافيزيقية معبر عنها بنثر فني خالص  ستظل أبعد عن مرمى قصيدة النثر ، المنطلقة أساساً عن حاضنة الشعر ، وإيقاعاته ، وتلاوينه ..
كان على كاتب قصيدة النثر وقارئها معاً التعامل معها كتابة وتلقياً ، بكونها حالة جديدة أو (الأجد) – بتعبير الدكتور المقالح – وذلك يجعلها على مبعدة من النثر الشعري ، والشعر المنثور و(قصيدة التفعيلة بداهة) فهي لا تخضع لقواعد جاهزة كالأنواع الأخرى، وإنما لقوانين مستخلصة شيئاً فشيئاً من النصوص ، وذلك جزء مهم من شعريتها ؛ فهي انعكاس لتمرد وخروج على المألوف: فنياً وإيديولوجياً ومعرفياً ، وهذا من أوليات التعاضد بين الشكل والمضمون .. فالحداثة التي من سماتها الشمولية في الفكر وتمثيله معاً ، في النظر إلى الواقع وتوصيل هذا الموقف ، إنما حتمت أن يكون اختيار الأشكال مطابقاً للبنى الفكرية والمضمونية التي تصب فيها ، وهكذا كانت القصيدة الأجد انقطاعاً تاماً عن الشعر القائم على الإيقاع العروضي قديمه وجديده ، ولهذا انطبعت قصيدة النثر بحس المشاكسة والتمرد ، سواء كتبت ضمن مفهوم (الرؤيا) الميتافيزيقية ، أو اقتربت من الواقع ولغته وموضوعاته (كما في النماذج التالية لرواد قصيدة النثر) وتجسد ذلك في أبنيتها وأشكالها ولغتها وصورها.
مهمة قراءة قصيدة النثر إذن عسيرة دون شك ، لكنها ليست مستحيلة. إن عسرها متأت من: تناقض فوضاها ونظامها ، النثر والشعر ، رفض القاعدة وترسيخ القانون ، استبدال المعاني الجزئية بالدلالات ، والتبعثر البيتي بكلية النص ، والغنائية المسطحة بالسرد والوصف ، والبلاغات المستهلكة بالسياق النصي ، والموسيقى الوزنية الرتيبة بالإيقاع الداخلي ، والنموذج العام للشعر بخصوصية كل نص .. وعلى هذا الأساس تفارق قصيدة النثر الأشكال السابقة عليها ، فتغدو قصيدة المرحلة الراهنة في ألفيتنا الجديدة لكنها ليست الشكل الوحيد الممكن للتعبير عن الراهن ، فزاوية النظر الخاصة تفرض التعبير المناسب ، ويكون ثمة مكان دائماً للتعبير بالأشكال المتاحة كلها ، تلبية وامتثالاً لدواعٍ ذاتية ؛ أو ظرفية ؛ أو نصية. لكن ذلك لم يمنع عدداً من النقاد العرب من الحديث عن مستقبل الشعر العربي وآفاق تطوره من خلال قصيدة النثر ذاتها ، دون أن يعني ذلك إلغاء أو نسخ الأشكال المجاورة ، مادامت زوايا النظر التعبيرية بحاجة إليها.. أي أن ثمة
 
 
شعراء يتوحد إيقاعهم وخطابهم مع الوزن بأشكاله منتظماً أو حراً .. والقول بمستقبلية قصيدة النثر لا يعني ارتهان زمن المستقبل الشعري العربي بها بل مراقبة سيرورته من خلال انطلاقتها وأفق سيرها ، لكونها مقترحاً جديداً يتنوع على حداثة القصيدة العربية .

 
 
 
 
 
 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
   
                                                     قصيدة الحدث
                                                  بين الموضوع  والفن
 
 
 
 
 
1
يبدو أننا – الكتاب العرب والمهتمين بالكتابة – نصل إلى قضايا عصرنا متأخرين دائماً. هذا واضح فيما يخص الحداثة ( تعريفها – مفهومها – زمنيتها ..) وتمظهراتها وتجلياتها ( قصيدة النثر – الكتابة النسوية – التجريب – مناهج النقد .. ) وهذا شاهد آخر على ذلك، فما إن امتحن الشعراء العرب بأحداث ثقيلة الوقع ، حتى تردد السؤال المنسحب من جماليات الكتابة الشعرية ونظرية الأدب إلى التداولية  والموقف والرؤية أو ما يعرف بالاستجابة للأحداث أو التفاعل معها.
ولعل من فضيلة تلك الأطروحات  أنها أقصت موقف  (الانفعال ) بالأحداث ، وهو موقف يعبر عن رؤية متخلفة تضع الشعري وراء ألحدثي ، يتبعه ويحاول استيعابه وتمثيله ، وفنياً : موازاة وقعِه ومباراة أثره . لكن النقطة الأكثر إثارة للتأمل والمساءلة هي تشخيص التعارضات بين  مفاهيم الحداثة التي ( تنأى) بالعمل الشعري عن  هيمنة المباشرة والاهتمامات المضمونية ، وسخونة الحدث ود راميته وآثاره الثقافية والوطنية والإنسانية بحجة التفاعل أو الاستجابة للحدث .
تعطينا اللغة العربية على المستوى الصرفي مفارقة أخرى، فالألف الفارقة بين ألحدثي والحداثي تنشط ذاكرتنا اللغوية بكمائن المعجم ومفارقاته .
والاشتقاقات والجذور تجعل من الحداثة (حدثاً) (1) لم يؤَّّلف من قبل، فهي أصلاً (حدث)  لكنه ذو جدة وخروج على السائد والمجتر ..فالحديث نقيض القديم- كما في لسان العرب والحديث نقيض القُدمة وحداثة السن كناية عن الشباب وأول العمر ، فيما تقبع في زوايا المعجم تداعيات ونداءات أخرى تجعل الحداثة مرادفة للخرق أو المروق ، فتقترن بالزنا وتكون محَدثات الأمور : (هي ما ابتدعه أهل الأهواء من الأشياء التي كان السلف الصالح على غيرها.). هذه التناغمات الصوتية تباعد – مفهومياً- بين الحدث الحادث والحديث المبتدع بقدر تقاربها الصرفي واللفظي.
فالحَدَثي والحداثي يتقابلان بضدية واضحة ، رسخت في أطروحات الحداثة العربة وارتضاها أنصارها وخصومها ، فالغموض مثلاً هو  أبرز مزايا النصوص الحديثة ، بمبررات الضرورة الفنية ، ومستويات التمثيل وتبدلات الوعي باللغة  والصورة والإيقاع ، لكن الغموض – ذاته – هو أبرز العيوب التي يأخذها الخصوم على شعر الحداثة، فكيف يلائم الغامض الواضح ، بل كيف يرى النص خطته وهو فاقد النظر تحت قوة ضوء الحدث؟
 
 
2
في مجال نظرية الأدب ، تنّبه منظرو الحداثة إلى هذه  الثنائية الضدية ، ولا يكاد مؤَّلف في الحداثة  أو أحد مظاهرها يخلو من تأملها.
فالحداثة لا  تُستخدم اصطلاحيا للدلالة على المعنى الزماني ما دامت ذات إشتراطات فنية ، من هنا يصبح انتماء نصوص أي عصر ( غير  عصرنا) إلى الحداثة ممكناً بوجود تلك الاشترطات ، كما يصبح ممكناً سلب تلك الصفة من نصوص معاصرة لنا .. وبصدد  ( الحدث) تتوجه نصوص الحداثة لا إلى ( النأي عنه ) فحسب ، بل نفيه كلياً ، كي لا يكون للموضوع وجود متعين يوجّه قراءة القارئ ، كما يسلب قبل ذلك  موقف الشاعر ورؤيته ويصغّرها داخل حدوده.
وفي تطورات خطاب الحداثة برزت موضوعة ( التمثيل) وإعادة التمثيل للموضوع وتدرجاته : فكرة أو مضموناًً أو حدثاً.
لكن الوظيفة التمثيلية  للغة الشعر رغم حداثتها الظاهرية لكونها تهضم المادة وتعيد إظهارها كما يظهر الطعام في الدم: خلايا وحجيرات وليس غذاءً ، رُفضت من المنظرين التفكيكيين خاصة ، ونقاد  القراءة والتلقي الذين رأوا صواب ما ذهب إليه ييتس من أن الشعر الحديث هو ” التعبير الواعي عن الصراع بين وظيفة اللغة كتمثيل ، وبن اللغة كفعل ذات مستقلة ” ([2])
وهكذا صار حضور أي موضوع خارجي شيئاً زائداً بل أصبح بعبارات ياوس   ( اختفاء الموضوع هو الثيمة الأساسية ). ([3])
يقابل ذلك ويكمله في برنامج الحداثة وما بعدها : إقصاء (المعنى ) لصالح تعدد الدلالات ، الأشمل من وحدة المعنى أو المغزى.
بعد مراجعة وظيفة اللغة والموضوع والمعنى يصل التنظير الحداثي إلى ( الصورة ) التي كانت وظيفتها التقليدية : أن تجعل المعنى يبرز بحيوية أكثر ، وجرى تبني رأي مالارميه الملخّص في أن الصورة المجسّدة لا تؤدي إلى رؤية  أوضح ، فما دامت الكلمات لا تملك معاني نهائية بل دلالات يتيحها الاستخدام الشعري داخل النص، فإن مفهوم ( الصورة) سيتخذ مداه خارج الوظيفة التمثيلية ، وداخل سياق النص فقط . وبشأن ( الذات ) تشدد إطروحات الحداثة على آن الشاعر  ينتقل عبر الذات إلى ما وراء الذات ([4])  ويعكس وعيه بالصراع المتواصل الذي يقابل الذات ، لا الصراع الذي يحصل خارجها : حدثاً أو موضوعاً.
 
-3-
يتوفر( الحدث) بما له من مفردات فاعلة ، وزمنية ودرامية واضحة ، على قدرة أصفها بأنها ذات طبيعة التهامية ، سرعان ما تحيط بالنص وتتخلله وتنشر في نسيجه ، مانعة ظهور العناصر التي تشكل هويته الفنية ، وتساعد عملية التلقي في ترجيح ( الحدث) خارج النص على أية كيفية تمثيلية له داخل النص ، فوقع ( الحدث ) أشد قوة ، وأوضح صورةٌ ، وأبلغ تعبيراً من أية صياغة فنية له ، أو صلة به ، حتى لو افترضنا في النص قدرةً على  اختيار نقاط تماس دالة للدخول إلى الحدث، أو ابتكار زوايا نظر جديدة بصدده.
لذلك – ربما- صار من الضروري الابتعاد زمنياً عن الأحداث الكبرى لتتوفر إمكانية احتوائها فنياً بعد هدوئها ، وفراغ المتلقي من دوّيها. وهي مسافة ضرورية أيضاً لتأمل الحدث قبل تمثيله، وضمان بعد هدوئها، وفراغ المتلقي من دويها وهي مسافة ضرورية أيضاً لتأمل الحدث قبل تمثيله وضمان الخلاص من أثره المباشر في الشاعر نفسه ، أي أن مطلب المسافة الزمنية هذا يخص الشاعر ومتلقيه في آن واحد .
لقد نبّه نقاد القراءة والتلقي إلى ” أن الإعمال الأدبية تختلف عن الوثائق التاريخية الصرف ، لأنها تقوم بدور أكبر من مجرد توثيق حقبة زمنية بعينها، وتظل قادرة على “الكلام” ([5])   فالحدث من جهة تاريخيته سيكف عن خلق الأثر، فيما تمتلك النصوص قدرة الحديث إلى المتلقي بصيغة الحاضر، وهو ما يظهر أيضاً ليس في صلة النص بالتاريخ كحدث ، بل عبر صلة النص بالحياة والواقع اليومي وأحداثهما أيضاً، فعند نفي المهمة الانعكاسية أو المرآتية للأدب باعتبارها (نسخاً) للواقع ومفرداته وأحداثه وليست (خلقاً) فنياً لها، سيظهر جلياً التعارض بين جماليات العمل ونثرية الحدث ومباشرته ، ولا يمكن هنا قيام العمل بأثر جمالي في متلقيه إذا تحددت وظيفة هذا العمل بالنسخ. ([6])
 
-4-
لحل إشكال التعارض بين وَقع الحدث وأثر النص ، جرى تكييف المصطلحات  والمفاهيم : فكاتب  مثل برتولد بريخت لا ترضيه المفاهيم الميكانيكية المتحصلة من (الواقعية) وتحديد براعة الأديب باحتواء مفردات ( الواقع ) ومحاكاتها ، لذا يقدم لنا بريخت فهماً خاصاً بالواقعية ، إذ يدعو إلى واقعية تقوم على ” اكتشاف علل تعقيدات المجتمع” ولما كان الواقع نفسه غير مستقر أو متعين  فإن طرق تقديمه أديباً يجب أن ينالها التغيير والتنوع معاً ” فالمضطَهدون لا يعملون بالطريقة نفسها في كل زمان ولا يمكن تعريفهم بالشكل نفسه دائماً” ([7])
ونرى  أن محاولة إقصاء الحدث والاكتفاء بتمثيل أثره قد أزعجت الواقعيين وشوّشت مراياهم التي يرفعونها أمام الواقع ، لذا حاولوا من طرفهم التقدم بحلول جمالية وسطى ، وهو ما سيشيع تحت مسميات مكيَّفة مثل ( الواقعية الجديدة) و (جماليات الواقع)أو اكتشاف قوانينه الفاعلة لا سطوحه ..  وهو دور منوط بالنقد أيضاً حيث يدعو لوكاتش إلى ” أن ينفذ النقد عميقاً إلى قوانين الواقع الموضوعي الخفية وغير المدركة مباشرة لأنها ليست قائمة في السطح” ([8])
وبالتالي لا تفعل مفردات العمل الفني أثرها في القراء” إلا إذا أتخذ تصويرها في العمل الفني شكلاً من الخلق الأدبي” ([9])  لكن المهمة الانعكاسية ستتراجع وتتقدم المهمة الفنية للعمل ، ونعود نحن بدورنا إلى إشكالية تنافر الحدث والنص الحديث ، لكن تراجعات الماركسيين والواقعيين لا توصلهم إلى حد الإقرار بهذا التنافر ، فرؤية الحدث هي جزء من إيديولوجيا لا بد أن يحتويها النص ، ولا فصل إذن بين عناصر النص الجمالية وعناصره الإيديولوجية ولا عزل ، وإن جرى ذلك فإنما هو لأغراض الدراسة وليس تمييزاً حقيقاً كما يرى تيري إيجلتون ([10]).
وهذا التصالح بين الجمالي والحدثي سيكون مرتكزاً للشق الماركسي من البنيوية ، أو ما عرف بالبنيوية التكوينية التي رفضت مفاهيم الانعكاس والنسخ ، لكنها رفضت قراءة النص مغلقاً على بنيته ومستقلاً بذاته . و ذلك جعل أبرز منظري التكوينية متهمين من طرفين متناقضين : فالماركسيون المتشددون يرون في مفاهيم لوسيان غولدمان عن (رؤية العالم ) التي تجسدها بنية النص، تحريفاً نظرياً، وبصفها البنيويون المدرسيون بأنها ( حتمية متنكرة). أي تنطوي على يقين بالثوابت الأصولية للماركسية وقولها بالحتمية التاريخية. (11)
وقد لاقت المصالحة التكوينية هوى كبيراً في نفوس نقاد الحداثة العرب الآتين من حاضنات ماركسية ويسارية ، فجرى تبني أفكارها وظهر أثرها في دراسات كتّاب مثل يمنى العيد، ومحمد بنيس ، وفاضل ثامر وغيرهم ، وبرزت في تطبيقاتهم النقدية وممارساتهم التي تجاوزوا فيها أطروحات حسين مروة والماركسيين التقليديين العرب عن الواقعية التي يسميها مروة ( الجديدة أو الحديثة ) ويرى أنها ترتكز إلى مفهوم شامل عن ( العامل الموضوعي) لكن ذلك لم يمنعه وهو يحلل قصيدة خليل حاوي (لعازر عام 1962) أن يسحب النص إلى مغطس الحدث المباشر، فرأى أن الشاعر أراد ” أن يعالج فكرة انبعاث منتظر في حياتنا العربية يطلع من قلب أحداث هذا العام))(12) 
ملغياً الدلالات الرمزية والتناصات مع الأسطورة لعكس أزمة وجودية عارمة كان الشاعر يمر بها.
وليس بعيداً عن ذلك ورغم التكييف البنيوي واللساني لخطابها النقدي، ما تفعله يمنى العيد وهي تحلل قصيدة محمود درويش ( أحمد الزعتر ) فترى أن ” منطق حركة الواقع هو منطق حركة البناء الفني للقصيدة ” (13)  لذا تلاحق وجود الشخصية الشعرية (أحمد الزعتر) في الواقع وليس على مستوى تكوّنه وخلقه شعراً، فلا يعود غريباً إغفالها الإيقاع والتركيب في النص وتركيزها على المضامين.
 
-5-
إذا ما استقصينا تفوهات شعراء الحداثة حول إشكالية الحدث كفعل خارجي له دوي تنفر منه نصوصهم المستجيبة لضروراتها الداخلية ، ومنطقها ، وإيقاعها الخاص ، فسوف نجد أمثلة للوعي بهذه الإشكالية التي لم تخل منها حتى ( بيانات) الحداثة ، أو إعلاناتها ، وأي ما نفيستو حداثي يواجه المتلقي والعالم بأفكاره بعيداً عن النصوص.
فأدونيس يعلن في بيان الحداثة ( بنسخته الأولى 1979) أن القصيدة – النص ” لا تعود مجرد خيط نفسي أو فكري أو مجرد سطح انفعالي، وإنما تصبح نسيجاً حضارياً، شبكة / فضاء، يتداخل فيها إيقاع الذات وإيقاع العالم”14  وفي النسخة الملحقة بالبيان ( بعد ثلاث عشرة سنة ) يشخص مظاهر انحطاط الشعر العربي وتهميشه فيرى أن الشعر صار ملحقاً ” بالحادثة الوشي: الحادثة العابرة التي تذوب في زمنية الذاكرة ، والشيء الجزئي الذي يذوب في الشيء النموذج “((15 )
ويقترب بيان قاسم حداد وأمين صالح  بشكل أكثر وضوحاً حول علاقة النص بالواقع فيرد فيه: ” نستمد مصادرنا من الواقع ، لكنننا لا نعكسه ولا نحاكيه . ما نراه لا يمثل حقيقة الواقع ، بل صورة مصغرة ناقصة ، وغالباً ما تكون زائفة ومشوهة . خلف ما نراه يكمن النصف الأخر، المكمل الذي هو ربما أوسع وأشمل . إننا نحاول الوصول إلى هذا المستتر الخفي بأدوات الحلم والمخيلة” (16).
ولا تخفي نبرة المصالحة( في بيان حداد – صالح ) بين الواقع والفن ، فكان الحل هو افتراض وجود آخر للواقع عميق ومختف ، أوسع وأشمل ، فلابد من الوصول إليه بأدوات حداثية هذه المرة : الحلم والمخيلة .
وبأوضح من ذلك يجّسد محمد بنيس في (بيان الكتابة ) تابعية الشعري للسياسي رغم تكبيره للولادة السياسية أو ما سماه ( الشهادة ) في حالة الشعر المغرب الحديث ، وإقراره بوجود ( سياسي حديث ) قدم ( إمكانات ) للتحولات الشعرية ، فهو يرى أن النص الشعري جرى اختزاله ، لأن السياسي قد حدد وظيفة الشعر في الجواب على السؤال السياسي ، لا السؤال الشعري التاريخي” (17 )
محمود درويش وحده يظل حالة خاصة في تلك التفوهات ، فهو يحارب على أكثر من جبهة : نفي القراءة السياسية ( النضالية خاصة ) عن شعره كي لا يندرج أو يتنضد في صورة نمطية تصادر خصوصيته ، وهذا يفسر لنا انزعاجه المبكر من إلصاق صفة المقاومة بأي ملفوظ شعري فلسطيني في لحظة من لحظات الصدام مع الاحتلال الإسرائيلي ، ويفسر كذلك صرخته : ” أنقذونا من هذا الحب القاسي”. وفي نيسان من عام 2002م  يكتب درويش مقالاً مهماً في صدد ما نحن فيه من موازنة السياسي والفني أو الحدثي والحداثي ، فينوب عن شعبه ليقترح آمالاً ومطامح ، لقد سئم الفلسطيني ( دور القربان) ، والعيش في ( فضاء الاستعارة ) بينما يريد الفلسطيني – يقول درويش ” أن يحيا خارج الاستعارة . في المكان الذي ولد فيه ، يريد أن يحرر حيزه الجغرافي  والإنساني من ضغط الأساطير ومن همجية الاحتلال ، ومن سراب سلام لم يعده إلا بالخراب” (18)
وكتجسيد لإيمان درويش بأن المقاومة بالشعر لها خصوصية الحداثة ذاتها ، يتعمد أن يصدم قارئه ، فيلتقط كل ما يتصل بذلك المكان المهدد بالانمحاء والتهجين بجزئيات لا تراها إلا عين شاعر كدرويش وبنظام خاص داخل النص يوجه القراءة بعيداً عن الشعارات وسخونة الحدث الآني.. وهو ما جعله يقود جمهوره مضطراً إلى طريق الشعر الحديث – الحقيقي- الذي لا يتخلى عن جوهره ليلهو بالقشور بتعبير الشاعر عبده وازن (19)  وذلك سيرشحه ليغدو – على يديه – حتى أكثر الموضوعات انكشافاً ومباشرة ، ذا دلالة حداثية ، فلسطين ذاتها ستصبح لغة أكثر منها موضوعاً ، وحساً وإيقاعاً أكثر منها مسألة ، ورمزاً خفياً (20)  وكاعتراف قراءة يقول الشاعر أمجد ناصر- الطالع هو أيضاً من الموضوع إلى حداثة الرؤية – إنه كان لبعض الوقت يعد درويش شاعراً وطنياً وسياسياً وغنائياً  ، لكنه في الاعتراف متأخراً سيرى أنه شاعر يخترق الحدود والتصنيفات، شعره ليس شعر ( قضية ) بل شعر مؤرق ” ومهجوس بالعمق بسؤال الأرض بصفتها الحيز الوحيد المتاح لنا لنحيا حياتنا فيه ” (21)
لقد أفلح درويش في حل مشكلة الحدث والحداثة ، والوطني والإنساني ، والشعري والسياسي ، وكذلك في حل ثنائية أكثر تعقيداً هي أنا الشاعر وأنا الجماعة التي تضغط عليه ، لا من خلال إدماجها ذاته في أحداثها الكبرى ومفردات حياتها الصاخبة ، بل في استعارة هذه الأنا الشعرية لخدمة الجماعة .. لكن شهادة درويش تضع الأمر في نصابه الصحيح ، فهو إذ يروي في ( لماذا تركت الحصان وحيداً) ما يسميه  (شبه سيرة شعرية)، إنما يريد أن ” تتعرف الجماعة إلى صوتها في صوته الشخصي ” (22) وهكذا إذ تمتد يده إلى ما يحدث له شخصياً ( حادثة الموت السريعة أو العودة من الموت إلى الحياة ) كما يسميها ، وكما عبر عنها في ( جدارية)، وحادثة مقتل المغني الذي يطارده المحتلون نهاراً ، ويروي كفاحه وغربته غناء في ليل القرية(23)  واعتراف درويش بمرجعية هاتين (الحادثتين) الخارجية تعطينا فرصة تأمل الكيفية التي حوّل درويش بها مفردات الحادثتين شعراً حديثاً ، مضيفاً ومتخيلاً ومعدلاً ومستطرداً . ولكن سيرته الشعرية (لماذا تركت الحصان وحيداً ) ستظل أمثولة لأسطرة الواقع ، وتفجير الشعر من ثرثرات اليومي وعادياته ومن الماضي وأحداثه(24).
 
-6-
أشياء كثيرة تجمع الحالتين الفلسطينية والعراقية ، كما تفرقهما بعض الأشياء، فإن
الشعر العراقي هو الآخر ممتحن منذ سنين ، فكرياً أولاً : فكل كلام عن جور الحصار والحالات الإنسانية التي تسبب بها قد يفهم على أنه دفاع عن نظام عاني منه الشعراء قبل سواهم : عسفاً وحرماناً ورقابة.
وحين بدأت نذر الحرب الأمريكية جرى الأمر نفسه ، فكل شجب لها قرئ قراءة سيئة بكونه دفاعاً عن النظام رغم وضوح مواقف كثير من الشعراء وبياناتهم الملخصة بأنهم ضد الدكتاتورية وضد الحرب والاحتلال.
في القصائد التي كتبها شعراء العراق على مدى الأعوام الثلاثة عشر الماضية امتزج المشهد وإن تفاوتت جزئياته حدةً  وهدوءاً بحسب الحدث نفسه ، فالأمر لم يتغير كثيراً من الدكتاتورية والتلويح بالحرب فالاحتلال ، حالات القهر مستمرة ، والمنفى والمهجر يتسعان لمزيد من النصوص المنفية والمهاجرة .
وكانت ( أحداث ) العراق امتحانا للشعراء العرب أيضاً . وسترينا النماذج المختارة ، للدراسة هنا ، بعض جوانب هذا المأزق.
فالشاعر أدونيس عانى أكثر من سواه من المنع ومصادرة دواوينه وكتبه يرصد الحرب الأخيرة فينشر نصاً  بعنوان تقليدي يلخص رؤيته كلها : ( تحية إلى بغداد)(25) وهي قصيدة نثر في مقطعها الأول الطويل، بينما جاء مقطعها الثاني ( الأبيات السبعة فقط ) موزوناً وكأنه قرار أو خروج موقع من مرثية حزينة . أما تحية فلسطين التي كتبها في الانتفاضة الفلسطينية(أفصحي أيتها الجمجمة) فهي موزونة  بمقاطعها التسعة . ربما يعلل قارئ متفلسف نثرية بغداد ووزنية فلسطين بأن الحرب كونية الرؤية والتفاصيل ، لذا احتاجت هذا الهدوء الذي يغلف النص ، ونجحت في إنقاذ النص من سطوة الحدث الهائل ، وفي نفي الموضوع أو محوه  كما هي طريقة أدونيس الشعرية(26)
بينما تحتم المواجهة في قلب الانتفاضة بين الفلسطينيين ومحتليهم الإسرائيليين ومشاهد الموت المنبثة من شوارع فلسطين إلى العالم عبر الشاشات ، أن يكون الإيقاع عالياً متوتر العبارة متنوع الأساليب : استفهاما وتعجباً وإخباراً، حكمة وصورة واسترجاعا ، أسطورة وتأملا وواقعاً.
وقد صنع أدونيس لنصّه(27) لازمة من ثلاثة أبيات تعبر عن رحلة دموية ميّزها بالحرف الأسود :
–      فلك من دم
–      الهبوط . يد الغيب ممدودة.
–      لا أظن يد الغيب إلا دماً.
ينبثق نص أدونيس من رؤية جحيمية ، تحاول تصوير المشهد وهي تطير فوقه دون أن تتقيد بحدوده:
                                   الجحيم . إله جسد من حديد.
                                       وعينان جرثومتان .
                                            أبجدية هول
                                      والطريق إلى موتنا ترجمان
ونلاحظ في النص دفاعات ذاتية تحاول النأي به عن مباشرة مفردات الحياة ، فأدونيس يستل دالات الوحشية ويقيم لها مدلولات من عنده بخياله الثري وصوره التي تنهل من هذا الخيال، فتتناسب الصور مع الوحشية والعنف ومناظر القتل ،أو الموت الفلسطيني ، لكنه يفلح في تهدئة إيقاع قصيدته ، فالوزن مغيّب كعادة أدونيس ، مختلط التفعيلة : فاعلن / فعلن / فعولن ، يوحي بالنثرية لولا صدى القافية هنا وهناك ، ثم يخدم التقطيع الجملي هدوء النصوص ، فثمة جمل تنتهي على السطر الشعري نفسه ، الذي يستمر ، ويكون على القارئ مراعاة تلك الوقفات الداخلية :
عالم يصلب اليوم . آخر ينكر : من منهما الآن يخرج من جرحه .
ويدخل في جرحنا؟
ويكون على القارئ لإتمام الوزن أن يصل الجمل ببعضها ، فيما هي تنتهي معنوياً.
صحيح أن بعض الأسئلة والنداءات تعلو لتصل مجال المباشرة مثل:
ما الذي يولم العقلَ للقتل في شرقه المتوسط
في القدس ، بين جنائن بغداد ،
أو في دمشق ، وبيروت ، والقاهرة؟
ما الذي يتبقى ، ما الذي يتلاشى ، ما الذي
يتقطّر من هذه الذاكرة ؟
ولكن الشاعر يواصل طيرانه فوق الحدث ، لا لينجو من سطوة مفرداته ، بل لينشر فوقه فضاءً كونياً يجعل العسف والاحتلال والموت أشياء وجودية تتلون بإنسانية كارهة للحرب والقتل، متسائلة عن الصدام بين الذات والأخر ، بين ماضينا وحضارته ، بين الديانات وسب نشرها ، والأفكار وطرائق تحققها ، نشوء البشرية وفنائها ، الطبيعة مزهرة ومخربيها….
–  وفي نصّه المنثور عن حرب العراق ( تحية إلى بغداد ) تتسلل مفردات الحدث ، الغزاة ، صواريخ ، طائرات ، غبار ذري ، حرائق ، حرب وقائية .. وفيها يتقابل الشرق والغرب أيضاً بعداء واضح لم نعهده في أطروحات أدٍونيس السابقة:
ضع قهوتك جانباً واشرب شيئاً آخر،
مصغياً إلى ما يقوله الغزاة ك
بتوفيق من  السماء
ندير حربا وقائية ،
حاملين ماء الحياة .
من ضفاف الهدسون والتايمز
لكي تتدفق في دجلة  والفرات
إن هذه الحرب عابرة القارات ألغت أطروحات التعايش البشري، وصار بالإمكان رؤية خيوط الدم من بحار أمريكا وأوروبا سائلةً في مجرى دجلة والفرات ، هو لقاء دموي إذن ، وحرب ( على الماء والشجر ، على الطيور ووجوه الأطفال) كما يقول أدونيس ، والذريعة دائماً : الحضارة . لذا يهتز يقين أدونيس ويتساءل:
هل علينا كذلك أن نصدق ، أيها الغزاة ،
أن ثمة  صواريخ نبوية تحمل الغزو ،
أن الحضارة لا تولد إلا من نفايات الذرة؟
ويعود أدونيس  بعد مساءلة الحضارة بزيها الحربي القاتل ، إلى تراث العراق الإنساني الذي يدخل إليه عبر جلجامش الذي يستعد للترجل ثانية بحثا عن الحياة ، أما نحن فقد  ( أغلقنا النوافذ)، أيعني ذلك انتهاء الحوار العقيم مع الآخر الذي غطينا نوافذنا بصحف تؤرخ لغزوه لأرضنا كما يقول النص؟ وفي قفلة التحية يلخص أدونيس  ويكرر وصاياه ( لن توقظ الأرض غير المعصية  )
خلاصة نرى أن أدونيس لم يبتعد كثيراً رغم أنه خلق فضاءً إضافياً لكن مشهد الحرب والموت يشف عبره ويصل إلينا ببلاغة ..
 
-7-
محمود درويش يطالعنا بقصيدة نشرها بعد دخول القوا ت المحتلة إلى بغداد ، قصيدة قصيرة تستعير عنوانها من بدر شاكر السياب ( ليس سوى العراق) وتختم  ببيت السياب ( عراق ، عراق ، ليس سوى العراق)  فالصلة بالعراق تتم إذن عبر قرين شاعر هو السياب بما حملته حياته من مأساوية وما دلَّ عليه موته من دراما فاجعة ، ثم عبر ( جلجامش) أيضاً ، وحمورابي، والأخوة الخونة الذين ” يعدون العشاء لجيش هولاكو” وكانت لازمة القصيدة المكررة في صدارة الجمل الشعرية الخمس في القصيدة هي ( أتذكر السياب) وفي المقطع الجملي الثالث يندمج صوت الشاعر والجماعة بالسياب حتى المقطع الأخير:
أتذكر السياب .. لم نحلم بما لا يستحق
النحل من قوتٍ ، ولم نحلم بأكثر من
يدين صغيرتين تصافحان غيابنا.
وقد ساعد ذلك الدخول الجماعي واشتراك المصائر واقتسام الألم في تخفيف القرب من (الحدث) الذي كان محرّك القصيدة القصيرة التي تصاعدت حتى ختمها الشاعر بصيحة السياب/ عراق عراق، ليس سوى  العراق، وواضح أن كتابة النص بعد دخول الاحتلال نأت بالقصيدة عن الحماسة والتفاؤل ، فالحزن طاغ ، تعبر عنه خيبة السياب وموته دون تحقيق  حلمه البسيط ( حياة كالحياة ، وأن نموت على طريقتنا ) .
لكن قصيدة درويش ( محمد) المكتوبة بعد عرض خبر مصور عن موت الطفل الفلسطيني محمد الدرّة برصاص جنود الاحتلال الإسرائيلي ، قد عرض معالجة درويش لأسئلة من قرائه ونقاده لأنها التقت بالحدث في أبرز نقاطه خبريةً وإثارة :موت الطفل في حضن والده لائذاً به من الرصاص ، والكاميرا ترصد حياته وخوفه وموته . وأجد في قصيدة درويش آستمراراً لخطّه الشعري رغم دراماتيكية حدث مقتل الصبي الصغير ، وبرودة دم قاتليه وإصرارهم على موته ، فدرويش يحط على موضوعه لكنه سرعان ما يحلّق في فضاءات المجاز وآنزياحات اللغة الاستعارية :
ما زال يولد في اسمٍ يحمّله لعنة الاسم . كم
مرة سوف يولد من نفسه ولداً.
ناقصاً بلداً .. ناقصاً موعداً للطفولة؟
أين سيحلم لو جاءه الحلم ..
والأرض جرح ومعبد ؟
كما يغذّي درويش نصه بإشارات ثقافية من جدارية مذبحة  غورنيكا التي رسمها بيكاسو ومن أبن طفيل حيث تربي الوحوش حي بن يقظان وتحنو عليه ، ومن رمز يسوع الصغير النائم حالماً في قلب أيقونة .
إذن كيف أساء القراء تفسير القصيدة وحسبوها امتثالا للحدث ؟ في ظني أن المسألة تتعلق بالقراءة ذاتها ، لأنها طابقت بين صورة ( محمد ) الحديثة لحظة مقتله وبين صورة محمد الشعرية في النص ، وآنسلت إكراهات التلقي متأثرةًً بهول ما رآه المشاهدون على الشاشة حياً عن مقتل محمد الدرة فصار كل نص أقل مما أرسلته مشاهد الموت المصوّر .
لكن نص درويش الطويل ( حالة حصار) المكتوب في رام الله في شهر يناير /2002م يقدم مستوى آخر لمعاناة الجماعة التي حمل درويش صليبها ولكن بطريقته الشعرية المتفردة ، فحالة الحصار ليست تخصه كفرد ، بل هو يتحدث عن حصار جماعي ، وكما قال الكاتب الأسباني خوان غويتسولو وهو عائد من لقاء الشاعر مع عدد من كتاب العالم في رام الله ، فإن حالة حصار الشاعر” ليست إلا تشخيصاً لوضعية مواطنيه ، بداية من رئيس السلطة الفلسطينية حتى آخر مولود بين الأسلاك الشائكة”(29)
لكن درويش سوف ينأى عما يصغّر النص لصالح تكبير الحدث ، وسوف نجد تطبيقاً جيداً لمخاوف الحداثة التي بيّناها في الفقرة (2) : انكشاف المعنى ، والصورة المفسرة ، الوظيفة التطابقية  للغة ،  والجماعة مقابل الذات ، والموضوع بطبيعته  الالتهامية . فالضرورة الفنية لبناء النص ستننبذ تلك العناصر ، فرغم العنوان المباشر الواعد بانكشاف ووضوح ووعد بعرض ( حالة حصار) لها في أفق المتلقي أبعاد وأشكال ومراجع وصور، لن يقدم درويش للقارئ الموعود شيئاً من ذلك .
لقد شدّد درويش على أن التاريخ الذي يعوض عن الجغرافية المفقودة ويسمح بمراقبة الذات والأخر قد أيقظ عنده ” حاسة السخرية ، فهكذا تخف أعباء الهم الوطني ، وتجد الذات نفسها في رحلة كونية عبثية المصير” (30)
وفي هذا المقتبس دلالتان تؤكدهما ( حالة  حصار) ، فالقصيدة لا تقرأ إلا بهذين الضوءين المهمّين : السخرية ، وتخفيف الهم الجماعي لصالح الذات.وهكذا نقرأ المفتتح:
هنا ، عند منحدرات التلال ، أمام الغروب.
وفوهة الوقت .
قرب بساتين مقطوعة الظل.
نفعل ما يفعل السجناء،
وما يفعل العاطلون عن العمل،
نربّي الأمل
وأخشى أن يتسلل مفهوم الضحك أو الفكاهة إلى مصطلح ( السخرية ) الذي يقصد به درويش المفارقة والانزياح  الاستعاري واللغوي لدلالات تعبر عن عبثية الذات في رحلتها الكونية . ففي البساتين ومنحدرات التلال تتم تربية الأمل.
وتبدو القصيدة نفثات أو جملاً  شعرية مكتوبة في أوقات مختلفة ، لكن شذراتها أو شظاياها تدل على أنها منتظمة في خيط واحد مؤطرةً بالحصار منظوراً إليه من وجهة نظر الشاعر الذي يلاعب موته وحصاره معاً.
ويعود درويش إلى تقنياته الشعرية المفضلة : التكرار وصنع متواليات متناغمة كرسائله( إلى  شاعر – إلى حارس- إلى الحب … )   وحضور الشهيد في أكثر من جملة شعرية مكررة . ولكن ذلك لا يعني إغفال درويش لمفردات الحصار، فهو يذكر الدبابات وأضواء المدفعية في ليل الحصار والجنود والحراس والغرف  المحاصرة لكنه يدرجها كلها في إطار تمثيل حالة الحصار شعرياً وتكريس السخرية ، وحضور الذات وسط محرقة الجماعة  التي لا يهملها درويش تعالياً أو نرجسية فهو – كما يصف صبحي حديدي – له معادلة شعرية ” لا تستطيع طويلاً احتمال الكثير من درجات إقصاء الآخر ، حتى في ذروة الموقف الغنائي الذي يلبي شجن الروح ويوفر الشفافية التي قال الشاعر إنه يحتاجها للتعبير عن المناخ الإنساني الحزين” (31).
ومن أجل الابتعاد والنأي عن الحدث – رغم أن درويش يؤرخ له ويهبه تحققاً شعرياً – فإن الشاعر يلجأ إلى ترميز عناصره أو ( أسطرتها ) كما فعل في ( قصيدة الأرض) التي كان مشغّلها  ( يوم الأرض) الفلسطيني الذي بدأ في شهر آذار عام 1976 (32)
وفي هذا الاتجاه ملجأ آخر لتحقيق الحدث هذ ه المرة برفعه إلى مصاف الأسطورة حيث تشهد الأرض أعراسها في آذار ، وتستعيد الذاكرة أعراساً موغلة في التاريخ لتؤاخي يوم الأرض الذي تنبثق  عنه القصيدة ، وتحتويه دون الوقوع تحت وطأة حدثيته . كل ذلك في سعي من الشاعر لما  يسميه فخري صالح (( محاولة لخلق تعبير موازٍ وغير مباشر عن التجربة الفلسطينية” (33)
 
-9-
لا تمثل الحرب في شعر سعدي يوسف إلا تصاعداً ذروياً في مسلسل النفي والاضطهاد ، وحالة التجاذب المحيرة بين وطن مشتهى وواقع مرفوض ، فلا تعود للمكان البعيد جاذبيته وسحره إلى الحد الذي ينتزع الشاعر من تردده ويقبل به عائداً إلى مواقع طفولته وشعره وعراقه الذي تأثث في شعره الأخير كما في بداياته جميلاً وجارحاً في آنٍ واحد .
يكتب سعدي كثيراً عن تداعيات الحرب ، متخيراً أدق زواياها ، ملتقطاً – كما في شعره كله- ما هو يومي وعابر وأليف، ليضعه في متوالية شعرية ويهبه وجوداً جديداً في سياق تداعياته. في نص ( الخونة) وفي سعار الاستعداد للحرب  وذرائعها ، والقلق القاتل على العراق مدناً وبشراً وذكريات وحضارة ، يتفحص سعدي يوسف كِسرةً من تاريخ العراق الحديث حين كان ( لورنس العرب) كما يعرف في تاريخ السياسة ، يجوب صحراء العراق ومدنه ، متنكراً وموطّئاً لجيوش البريطانيين الغازية ، محصياً الأنفاس والطرق والمفاوز ، مجنداً الخونة الذين يحضرون كمفردة لازمة في الحروب والطغيان والاحتلال  في تواريخ الشعوب كلها.
في النص يسرد سعدي يوسف أحداث ليلة من ليالي لورنس الغابرة وهو يجند رجاله وخونة شعبهم ليقطعوا طريق القطار بين الحجاز وتركيا عبر العراق ، ثم بعد فاصل من النقاط التي يستخدمها  سعدي ، دائماً ، فواصل سردية ووقفات زمنية ، يبدأ فصل جديد من سردية النص ، حيث يتعين زمان جديد يقع لورنس خارجه تاريخياً،  لكنه في القلب منه دلالياً….. فيعود لورنس بهيئة أخرى:
                         واليوم
                        وفي آخر شهر شباط
                        من القرن الواحد والعشرين
                        يقّلب لورنس البصر:
                        الصحراء هي الصحراء
                    وأعمدة الحكمة ما زالوا السبعة
                     والسكة مثقلة بالألغام  (34)
لقد استمد   سعدي تاريخية الحادثة الأولى ليبني عليها ما يحدث الآن ، ربما تغير وجه محتلي البصرة وبغداد لكنهم سلالة لورنس وامتداد حلمه الاستعماري، وإزاء ذلك يرى لورنس أعمدة الحكمة السبعة ( عنوان مذكراته) ويرى الصحراء كما كانت عليه ، لكن خاتمة القصيدة تخبئ سراً، فالألغام تملأ السكة وتعيق الطريق .. يعاين سعدي في النص شخصية لورنس ويعابثها، ويقطع تأملاته بعبارات تعلق على ما يحصل يضعها  بين أقواس ، تؤثر في سير خط القصيدة ،  وتحتم  خلق استدارة دلالية في القراءة مثل ( تعرف أن الرمل تقيم به حيّاتٌ وعقارب) و ( الجاسوس يفكر حتى في الحلم ) .
والقصيدة تعكس موقف الشاعر من الحرب ، فهو إذ يبتهج لإزاحة  كابوس الدكتاتور ، لا يبهجه أن تعود خطى لورنس إلى الصحراء مرة أخرى، وبالخونة الذين يتكررون في مفاصل انتقالات الشعوب وأحداثها الكبرى.
وهذا هو مقترحه للكتابة عن الإنتفاضة الفلسطينية في قصيدته ( إنه يحيى) لكنه هذه المرة عالي النبرة ،  ربما للسبب  نفسه الذي أتخذ أدونيس من أجله مسار إيقاع قصيدته عن الانتفاضة ،  بينما هدأت إيقاعاته ولغته في ( تحية إلى بغداد) .
في ( إنه يحيى) يبدأ باندفاعة  قوية تجسدها الجملة الخبرية ( رايات يحيى ثوبك المنخوب بالطلقات ) ويسير مع شخصية ( يحيى) المنبثة في الماء وأفئدة الصغار والتي تجوب بيوت الشعراء   الفلسطينيين إبراهيم ، وعبد الرحيم، وهاشم ، وتمر بمقاليع الحجر الذي آرتبط اسمه بالانتفاضة وارتبطت به .. وأجواء النص تذكرنا بقصائد سعدي النضالية في دواوينه الأولى ، وحرارة عبارتها المتراوحة بين الخطاب المباشر ، والإخبار الواثق المتيقن لا سّيما وأنها مؤرخة في شهر الانتفاضة الأول ، وحرارة الحدث متوهجة بشدة ، فلا غرابة أن أستعاد فيها الشاعر أجواء من شعره الأول
كقوله :
سلاماً أيها المتقدم القدوس
يا ملكاً يسير مخضب الرايات
يا يحيى
سلاماً ( 34)
وأرى أن نص سعدي لم ينج من ضغط الحدث بالمعنى اليومي ، فتسلل إلى  نصه الذي جاء كشحنة غضب مرتفعة الصوت  وشديدة الوقع .
وتلك خطة سعدي في التعامل مع الموضوع ( السياسي) أو الحدثي بعد أن يضع لمسته عليه .
 
-10-
كخلاصة ، وبعد أن أوضحنا استعصاء توافق الحدثي والحداثي بالاقتراب الشديد من الحدث أو التضحية بالضرورات الفنية للنص ، نجد أن المخارج المقترحة ، والتي أجراها الشعراء في نصوصهم المختارة للتطبيق هنا تتلخص في :
–    –  دمج الأسطوري  والرمزي بالحدث وإعلاء ما هو مشهدي ليغدو شعرياً.
–     – اختيار قطع أو كسر مؤثرة وانتزاعها من سياقها لبناء متخيل شعري وسردي يخلق الأثر والإحساس ولا يرصد الواقعة .
–       – تعجيل لحظة الحدث واستباق ما سيترك وراءه برصد بعض حالات تكونه ونشوئه وما سيتداعى عن ذلك .
–    –  إيقاف الحدث كلحظة زمنية ذات أثر في مكان محدد لخلق  سيرورة  مشابهة من التاريخ البعيد ، والقريب أحياناً.
–      – حضور الذات كمولد لانبثاق النص وترتيب الصلة بالحدث على أساس ذلك حسماً للصراع مع الخارج وكي لا يدور كل شي (خارج ) الذات والنص معاً.
–       – السخرية وملاطفة الحدث باستيهامات ورؤى ذات دلالة بعيدة رغم اتقائها على التبسط والمفارقة
–  الاستعانة بالسرد وإمكاناته لصنع عالم فني مواز للحدث ، ومتفوق عليه بالقص الذي رصدنا من مظاهره في قصائد الحداثة عدة عناصر: كالتسميات والشخصيات والحوار والوصف والفعل أو الحدث السردي.
–        – تجسيد الرؤية المجهرية التي تعني في رأيي تسليط الرؤية على جزئية من الحدث ثم تكبيرها نصياً، وهذا التكبير أو التجسيم  يمنح النص قوة إضافية لمواجهة التهامية الحدث وقوته ودويّه.
–      – استثمار طاقة التمثل وإعادة  تمثيل الحدث بما يضمن مداورته والاحتيال على ( حدثيته ) الضاجّة والمؤثرة بإيجاد (صيغ) تلائم الضرورات الداخلية – الفنية – للنص .. وفي هذا المجال تتآزر (ذات) الشاعر ، وإسقاط وعيه وشعوره على (الحدث) ونفيه كصيغة كلية ، لصالح إعادة تمثيله بقوة الخيال والسفر الحر في التاريخ وإمكان استحضار رموزه ودلالاته .
–  ولكي نختم سنستعيد أمثولة تيري إيجلتون حول مهمة محلل النص التي شبهها بمهمة المروّض الذي يدرك أن الوحش أقوى منه لكنه يتصرف عكس ذلك ، فيحتويه و يروّضه، وإذا ما أحس الوحش بأنه أقوى من مروّضه ستنتهي اللعبة كلها.(36)
ولتقريب وجهة نظرنا سنغير الأمثولة مفترضين أن ( الحدث) هو الوحش الذي يريد التهام النص ، لكن النص يخاتله  ويؤطره داخل سياقه وضروراته ، فيحتويه وينفي قوته ، ويروضه لتغدو وقائعه الخارجية ، وقائع فنية لها وجود آخر داخل النص الذي لا يضحي بحداثته وإشتراطاتها في هذه الحالة .
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
الهوامش
1) لسان العرب:مادة (حدث)وما يحف بها من استطرادات لغوية ومعنوية كالفتوة والكفر والحوادث….
2)بول دي مان :العمى والبصيرة،ترجمة سعيد الغانمي،المجمع الثقافي،أبوظبي1995،ص266.
3 )نفسه ، ص 270
4) نفسه ، ص266
5(روبرت سي هولب:نظرية التلقي،ترجمة الدكتور عزالدين إسماعيل ،النادي الأدبي ،جده1994،ص172
6)نفسه،ص294-295
7)برتولد بريخت:شعبية الأدب وواقعيته،ترجمة رضوى عاشور،مجلة عيون المقالات،العدد11،الدار البيضاء1988،ص25
8)جورج لوكاتش:دراسات في الواقعية،ترجمة د.نايف بلوز،ط3،المؤسسة الجامعية،بيروت1985،ص132
9)نفسه،ص19
10) تيري إيجلتون :النقد والإيديولوجية،ترجمة فخري صالح،المؤسسة العربية،بيروت1992،ص10
11)القول لرولان بارت في وصف أفكار لوسيان غولدمان التكوينية، ضمن كتاب البنيوية التكوينية والنقد الأدبي،ترجمة محمد سبيلا،مؤسسة الأبحاث الجامعية،بيروت1984،ص42
12) حسين مروة :دراسات نقدية في ضوء المنهج الواقعي،مكتبة المعارف ،بيروت1972،ص407و140
13) يمنى العيد: في معرفة النص،-دراسات في النقد الأدبي،ط3،دار الآفاق الجديدة،بيروت1985،ص127 وكتابها :في القول الشعري،دار توبقال،الدارالبيضاء1987،ص112
14)البيانات ، تقديم محمد لطفي اليوسفي،دار سراس للنشر،تونس 1995،ص54
15)نفسه،ص73.وقد عنون أدونيس الملحق بعبارة(بعد ثلاث عشرة سنه).
16)قاسم حداد وأمين صالح:البيانات،ص127
17)محمد بنيس ،البيانات،ص86
18)محمود درويش، جريدة القدس العربي،5/4/2002
19)عبده وازن، نجومية دروويش،جريدة الحياة،23/8/2001
20)عباس بيضون ،درويش المختلف،جريدة القدس العربي،26/6/1998
21)أمجد ناصر،اعتراف متأخر،القدس العربي،16/6/1998
22)حوار عباس بيضون مع محمود درويش،( التراجيديا الفلسطينية تجد تعبيرها الأرق)مجلة مشارف،العدد3،القدس،تشرين الأول1995
23)نفسه
24)درست سيرة درويش الشعرية في ديوانه (لماذا تركت الحصان وحيداً)وحاولت تجنيسها سردياً ، حاتم الصكَر:مرايا نرسيس،الأنماط النوعية والتشكلات البنائية في قصيدة السرد الحديثة،المؤسسة الجامعية ،بيروت1999،ص140وما بعدها.
25 )أدونيس ،تحية إلى بغداد،القدس العربي،1/4/2003
26)جودت فخر الدين : الإيقاع والزمان،دار المناهل،بيروت1995،ص178
27) أدونيس، أفصحي أيتها الجمجمة، القدس العربي ،22/4/     2002
28)محمود درويش، ليس سوى العراق،القدس العربي،13/4/2003
29)حاتم الصكر:محمود درويش الحياة خارج الإستعارة، القدس العربي،14/4/2002
30)حوار بيضون مع درويش ،سابق
31)صبحي حديدي ،ضمن كتاب :زيتونة المنفى،/دراسات في شعر درويش،تحرير جريس سماوي،المؤسسة العربية ،بيروت1998،ص21.
32)محمد جمال باروت،ضمن كتاب زيتونة المنفى……ص56
33)فخري صالح:مجلة فصول،صيف1996،ص242
34)سعدي يوسف، الخونة،جريدة السفير،7/3/2002
35) سعدي يوسف،إنه يحيى،القدس العربي،23/10/2001والنص مؤرخ في 22/10/200
36)تيري إيجلتون :مقدمة في النظرية الأدبية،ترجمة: إبراهيم جاسم العلي،دار الشؤون ،بغداد1992،ص234.
وللتوسع في مفهوم الترويض وعمل المحلل النصي يراجع حاتم الصكَر: ترويض النص –تحليل النص الشعري في النقد العربي المعاصر، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة 1998.
 

 
 
 
 
 
 
 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
                                  قصيدة المنفى
                                     أو المهجرية الجديدة
 
 
يحتفي خطابنا النقدي العربي المعاصر، بما أنه منتج حداثي، بالمصطلح ، ويطيل الوقوف عند الدال الاصطلاحي، ويتعقب المدلول المفهومي ( او المدلولات المتسعة عنه أو المتمددة منه). وتلك سمة يشيح عنها ناقدو نقدنا العربي لساخطون تجنبا لمجاراة الاستقصاء اللغوي القريب من الفيلولوجيا، أو التنظير الجمالى الممتثل للتذوق على مستوى نظرية الأدب.
ولكن الخوف من التحليل اللغوي أو الجمالي للمصطلح لا يعفي المهتم من رؤية الكد المبذول في تدقيق المصطلح ومحاولة اجتراحه مستوعبا لمدلوله المفهومي. على هذا الأساس لن نتوقف طويلا عند وصف ( الكتابة) المهجرية الجديدة بأنها( ظاهرة) ولا نبحث في مستندات التسمية ومبرراتها، فهي لا تتحمل إصرارا نهائيا أو تصنيفا متعاليا بل تحاول – أي التسمية – أن تحيط بأنحاء تلك الكتابة الأدبية العربية المنتجة في مكان محدد يمكن وصفه بأنه ( الخارج) مقايسة بما يكتب عربيا من ( الداخل) أو البعد الجغرافي للكاتب العربي.
لكننا سوف نتساءل عن المحذوف في عبارة (ظاهرة المهجرية) لنرى إن كانت المهجرية ونعتها بالجديدة يتصلان بالكتابة عموما أي الشعر والنثر؛ أم أنهما يعنيان (الشعرية) تحديدا خاصا أم (القصيدة) بشكل أخص.
وسوف نصل دون عناء إلى أن المقصود هو (الشعرية) المهجرية التي تقدم للقارئ والمتابع في هذه اللحظة الثقافية من حياتنا العربية المعاصرة ، مشهدا متفرعا وغنيا، نتفق مع القائلين بأنه يستحق المساءلة والكشف بعد التشخيص والدرس والوصف.
هكذا، إذن ، أفهم اللافتة الاصطلاحية وأنا اجتاز عتبة العنوان: (ظاهرة المهجرية الجديدة)(1) وصولا إلى تفكيك عناصر هذه الأطروحة التي سأعاملها على أنها مسألة معرفية وفنية أي موقف وجودي وشعري تكرر تاريخيا، لك التمثلات المعرفية والفنية لجيل المهاجرين الأوائل الذين كونوا الظاهرة المهجرية الشعرية الأولى ، وأترك نفي في سياق المقايسة والمعيار لأخلص إلى رصد نظري وتطيبقي ينحصر لأسباب إجرائية بالشعر المكتوب في الخارج رغم ما تفرزه الكتابة السردية من محصول جدير بدراسة متنوعة تستقصي التيمات والأساليب والأشكال من جهة ، وصلتها بالمورث الكتابي للمهاجر والصلة بالمكانين: القديم والجديد.. ولن استطيع من اجل ذلك اعتبار المهجرية الأول مرجعا للمقايسة والمقارنة واستجلاء العلاقة بين ماضي الظاهرة الجديدة وحاضرها، فأنا اعد المهجرية والمهجر والمهاجرة والمهاجر ظاهرة واحدة سواء أحدثت في الربع الأخير من القرن العشرين أم في الثلث الأول منه. بل لعل التبدلات في (شكل) الصلة بمكان المهجر وروحه وضرائبه وامتيازاته وتمثلها عميقا ثم التعبير عنها، ما هي إلا تجسيدات وتحققات لجدل التقليد والتجديد الذي شهده الشعر العربي كله منذ ما عرف بالإفاقة أو النهضة أو بدايات العصر الحديث عربيا.
ولكن.. ثمة أسئلة تلح على الباحث عند هذه المرحلة من إيغاله في رصد الظاهرة المهجرية ، من أهمها: إمكان وجود (صلة) ما بين جديد المهجر وقديمه ، لا سيما وان الحاضنة التي نشأ فيها شعراء المهجر الجديد تتمثل منجز المهاجرة الأوائل ، وتتجاوزه بحكم ابتعادها تاريخيا عن زمن الولادة التجديدية الحقيقية التي انطلقت في العراق في النصف الثاني من أربعينيات القرن العشرين.
أي أن المقترح التجديدي والميراث الشعري لشعراء المهجر الأول وكذلك شكل المغايرة وصيانماتها، قد اندرجت كلها في أصوات البدايات التجديدية وكفت الآن عن التأثير في الشعرية العربية المتكونة وفق مؤثرات أخرى.
يظل للصلة المفترضة بين جديد المهجر وقديمه وجه واحد ممكن على سبيل الافتراض أيضا.. وأعني المكان أو أرضية (الخارج) المشتركة كهواء آخر يتنفسه المهاجر، ويجلب معه بالضرورة وبحضوره مكانا أخر غائبا وبعيدا هو (الداخل) الذي جاء منه المهاجر يجر مشاعر ومواقف ورؤى شتى، تتراوح بين الغضب والرفض لما لحقه من أذى فيه ، والحنين اللازم والقاسي إليه كرحم شهد الولادة والصبا والحلم والنشأة ، لكن ذلك (الخارج) الذي صار إليه المهاجر هو مكان معاد أيضا في تصور المهاجر ورؤيته لا سيما لأولئك الناشئين من المهجريين  على تربية قومية أو وطنية ، أو في ظلال لافتات إيديولوجية معاكسة لما يسود المكان الجديد من نظم ومؤسسات. فالداخل إذن كما الخارج مكانان: مرفوضان ومطلوبان في آن واحد.
ويتحصل لنا من ذلك التقسيم المكاني لأرض الخارج أربعة أمكنة مفترضة:
– داخل مرفوض مهجور.
– وداخل مطلوب شعوريا وعاطفيا.
– خارج مسكون ومستقر فيه.
– وخارج معادٍ ومعاكس للحلم القديم.
ومن هنا تتضاعف أغلفة الغربة لتغدو اغترابا حادا بالمعنى الفلسفي الذي يضمرا لوحدة والوحشة والعزلة.
وفي  حالات كثيرة يتشقق عن فلسفة المكان الجديد وتأمله مكانان آخران يأتيان هذه المرة من ماض أبعد، ماض جمعي يمكن وصفه بأنه تراثي. فالمهاجر يستعيد هنا أندلسه التي هي حلم جماعي وهزيمة جماعية أيضا.. لكنه يردها الآن بحسرة أكبر وجزع أعمق.. فإذا كان المكان المفقود فردوسا تهرع إليه الجماعة لترهيب ذاكرتها وإنعاش ذاتها المنكرة فانه يضيق عند النظر إليه من الخارج ويغدو أكثر خصوصية وانتماء لذات المهاجر الجديد الذي ينشغل وعبر جدلية مرهقة بتأكيد هويته وإكساب وجوده المهجري معنى جديدا.
وبذا صار المكان التراثي أو الماضي المتعين مكانا ذا دلالتين أيضا لنستكمل بذلك ستة أمكنة مقترحة لفحص طرق النظر إليها واجتلابها موضوعا شعريا وأسلوب صياغة بالضرورة.
وعلى أساس هذه الأمكنة الستة سنختار نماذجنا في الجزء التطبيقي من ورقتنا هذه. لكننا نعود ثانية للصلة المفترضة بين مهجر اليوم والمهجر الأول لنشير إلى إحساس كامن غير معلن في لب أطروحتنا عن المهجرية الجديدة ، تلك هو هاجس التأهيل والبحث من أب شرعي لكل مولود، وهو ما يتحكم في خطاب الثقافة العربية منذ القدم ، فإن وجد شيء ما جديد، فلابد من البحث له عن رسّ أو نسغ عربي: حصل ذلك حين اقترح شعراء الريادة في العراق القصيدة الحرة ، وحدث من قبل عند كتابة القصة القصيرة والرواية وفي مناقشة المسرح ووجوده التاريخي،. وعلينا ألا نندهش، إذا ما جاء باحث ما لينفق جهده في تأهيل السينما مثلا عبر وقائع وإرهاصات تاريخية كذلك !
إن المكان الجديد المهاجر إليه ، لا يعد للمهاجر الجديد مثل هذه الفخاخ ، فهو لا يرى جبران ونعيمة والريحاني وغيرهم من شعراء المهجر الأوائل وكتابه إلا تعبيرا من لحظة تحديثية استوعبها مسار القصيدة العربية وتجاوزه ولن يكون لهذه الصلة نفع في ترسيخ أطروحتنا عن المهجرية الجديدة إلا في جانبين:
-تاريخي: يستذكر شعراء عانوا تجربة مماثلة برؤاهم وظروفهم وثقا فتهم.
-موضوعي:0(نسبة إلى الموضوع الشعري) يقايس تشظيات المكان وتمظهراته  والتعامل معه شعريا في حالة المهاجرين القداس والجدد.
فالمهجرية الجديدة إذن تبدأ من الانقطاع التام عن أي ماض وارث للمكان الجديد، سواء ماضيها الشخصي والثقافي أي كينونتها هناك في الداخل والانتماء إلى مشروع ثقافي أوسع هو مشروع الحداثة العربية.
لقد كان الجيل الأول في ظاهرة المهجرية العربية يبدأ من انقطاع مماثل ولكن لسبب مختلف ، فشعراؤه لم يجدوا إرثا في مهجرهم يلهمهم كيفيات أو أساليب التعبير عن المكان ، فكان ذلك الغياب فرصة لهم كي يولدوا أشكالا جديدة على مستوى الصلة بالمكانين (الخارج والداخل) ويقترحوا صياغات كانت تعد جديدة وجريئة ومغايرة في السائد من الكتابة الشعرية آنذاك.
لكنهم من جهة أخرى راحوا يرتبون صلتهم بثقافة المكان الجديد لأنهم لم يرتبطوا به ثقافيا ولم يتمثلوه في أوطانهم ، على عكس ما يحصل في حالة الجيل المهجري الجديد الذي جاء إلى (الخارج) مستوعبا، بطريقة أو أخرى وكجزء من عناصر المشروع التحديثي الشعري العربي، لثقافة الخارج ، فهو يعرفها قبل أن يحتك بها جسديا ومعيشيا. لذا كأن أثر (الخارج) شعريا وثقافيا أثرا بسيطا في حالة جبران وزملائه ، لا يتعدى في أحسن الفروض تجربة الشعر الحر والمنثور على وفق النموذج الويتماني (نسبة إلى والت ويتمان) ويرقى إلى نيتشه في عمل جبران المدهش والفريد: (النبي).(2).
ولكن المهجر ليس مكان استيراد واستلاف فحسب ، فثقافة الشعراء العرب وتمكنهم من لغة الخارج سمحت لهم في الجيل المهجري الأول أن يجسدوا مقولة التثاقف أو التفاعل الثقافي بشكل واضح عبر جبران هذه المرة ايضا الذي صار لمؤلفه (النبي) وبعض مؤلفاته الإشراقية الأخرى المكتوبة بالانجليزية إشعاع معاكس، فدخلت ضمن أدبيات اللغة الانجليزية المهمة والمؤثرة حتى الآن.
إلا أن هذا لم يحصل في حالة المهاجرين الجدد، فم زاهدون في ذلك التأثير المعاكس، حتى لمن كان منهم يغامر قبل هجرته بالكتابة باللغة الأجنبية وبدلا عن ذلك عكفوا على تطوير رؤاهم وأساليبهم بالاتجاه ذاته الذي بدؤوه في أوطانهم.. ونحن هنا نستبعد كتابا عربا في الشعر والسرد مثل (أمين معلوف وصلاح ستيتيه وبن جلون وادوارد سعيد- في الفكر-) نعلم أنهم تكرسوا كتابا وشعراء بالفرنسية أو الانجليزية ،. فحالتهم تقع خارج أطروحتنا، وتستلزم حوارا آخر بصدد كتابة العرب المهاجرين بلغة المهجر،. وما يتفرع عن ذلك من مشكلات أسلوبية واستشراقية تشكك في جوهر تجاربهم ووصفها- المشكوك فيه – ككتابة عربية.. ولكن المهجري الجديد وها قد تعدد الوصف الاصطلاحي: بين مهاجر ومهجري- لا يجد من يتشكك في لغته وأسلوبه ، فهو متكون ضمن الحاضنة الثقافية العربية ذاتها، وأخطاؤه وامتيازاته هي أخطاء الحداثة العربية ومزاياها.
أما المهجريون القدامى  الذين تفتحت مداركهم وتشكل وعيهم في الخارج غالبا، فان لغتهم مطعون بها من نقاد عموهم وأدبائه ، وكثيرا ما نالتهم سهام التجريع والاتهام الذي يصل إلى حد وصفهم – بعبارة رفائيل بطي عام 1924- بالوهن الثقافي وضعف النشأة والتعلم والخروج على اللغة والعجز من التعبير بالعربية تعبيرا صحيحا(3).، وذلك ما لا يرد في محاورة التجربة المهجرية الجديدة أو مساءلتها، للسبب الآنف والملخص في مجيئهم إلى الخارج متجاوزين الكينونة اللازمة والإعداد ومنغمسين في تجربة الكتابة كليا.
ولما كانت دوافع الهجرة مختلفة ؛ فقد كان النظر إلى المكان القديم أو الداخل مختلفا كذلك. فإذا كانت حالة الفقر والحروب تدفع الجيل الأول إلى الهجرة فإنهم يظلون مرتبطين شعوريا بالمكان الأول او الداخل: يحنون إليه حنينا حادا لا يشربه سخط أو ذكرى شائهة أو معاناة ذاتية إلا في كسرات نادرة من تذكر الفقر أو الاحتلال ، وذلك يجعل كاتبا كالريحاني يقول كلمته الشهيرة ( في لبنان روحي.. وفي نيويورك جسدي)(4)ويلفت النظر هنا احتفاء الجيل الأول بالحرية والحضارة وهما سمتان منتقدتان في عموهما العربي، لذا نوه بهما المهجريون الأوائل كثيرا، ولم يجدوا المكان الجديد معاديا إلا في حالات نادرة تنبثق من الموازنة بين جمال الداخل وصفائه وهدوء قراه وأهله وبساطته وبساطتهم ، وبين قبح الخارج في لحظة معاينة إنسانه تاجرا أو عابرا يزاحم سواه دون أن يعرفهم.. وتذهب بالمهاجر مخيلته إلى لحظة ظاهراتية فذة يرى فيها- مثلا- «أشجار كاليفورنيا وهي من عجائب الدنيا مجرد جماد هائل لا سر فيه ولا معنى ليكون بالمقابل لشجرة الأرز- الإشارة اللبنانية المتجددة – صوت يدوي «حتى بعد الغناء»(5).
ولعل ذلك كان إقصاء لأي عامل إيديولوجي يكرس غربة المهاجر ويبعده لا عن المكان الجديد- الخارج – فحسب ، بل عن مواطنيه الذين يعانون الهجرة مثله. وهذا سبب في ظهور التجمعات المهجرية لا على أساس جغرافي فحسب أي المهجر الجنوبي والمهجر الشمالي ، بل عبر نزعات وحساسيات مختلفة يمكن ملاحظتها في اهتمام مهاجرة الجنوب بالوطن والهموم القومية ، وانصراف الشماليين من المهاجرة إلى أفق إنساني أوسع مع جرأة أسلوبية على الموروث ويمكننا تفسير غياب التجمعات المهجرية الجديدة ذات الطابع الأسلوبي أو الفني بهيمنة عوامل الهجرة المختلفة وتغلب الدافع الإيديولوجي لها، رغم التقائهم الممكن على أرض المكان الجديد ومؤثراته الشعورية والنفسية ، وكذلك برابطة التحديث التي يلتقون عند حدودها الدنيا وبدرجات متفاوتة.
وإذا كان تجمع الرابطة القلمية قد أوحى للشعراء العرب في الداخل بثورات تجديدية محدودة ، تجسدت في حالة مدرسة (الديوان) واحتضانها لآراء (نعيمة لم تحديدا(7) فان شعراء المهجر الجديد زاهدون كذلك في مثل هذا التأثير، كما وجدناهم زاهدين في التفاعل والتأثير المعاكس في ثقافة المكان الجديد (الخارج).. بل اندمج الشعراء المهجريون الجدد في حركة الثقافة العربية في الداخل واستكملوا عناصرها بوجودهم الشعري على مستوى النصوص والمشروعات الشعرية أو الحضور الثقافي صحفيا وحواريا وفي اللقاءات والندوات ، مع اطلاعي على منابر مهجرية ، بهيئة منتديات او صحافة ، لم أجد في أدبياتها ما يشير إلى أنها تقدم نفسها تجمعا بديلا او مشتركا يفرز سمات محددة مغايرة او مبشرة. لكأن الهجرة ، والحال هذه ، صليب شخصي محمول في ارض تحتشد بالصلبان.. لكننا لا نستطيع أن  نحكم ونحاكم درجة الصلة بالمكان المهجور (الداخل) على أساس ذلك ، كما جرى في حالة المهجريين الأوائل ، لعدة أسباب:
– منها ما هو فني يتصل بشكل التعبير عن ذلك الحنين. فهو مباشر وغنائي وصارخ لدى المهجريين الأوائل ، ومندرج في الكتابة والرؤية الوجودية للأشياء لدى المهجريين الجدد.
– ومنها ما هو تداولي يتصل مباشرة بالصلة بالوطن ، حيث لم يعد المهاجر الجديد بعيدا عن أحداث وطنه وثقافته وحياته ، لما تقدمه الحضارة من سبل اتصال (8) لعل أهونها الصحافة والتليفزيون والمراسلة اليسيرة.
– ويترتب على السبب السابق ، حذف الانقطاع عن المقروء الثقافي سواء أعان تراثا ام حديثا، فالمقروء متيسر وحاضر، يسعف المهاجر الجديد على استكمال عدته ، بل وجدنا بعض الشعراء وقد توثقت صلتهم بذلك التراث درسا وتحليلا واسلها ما بعد هجرتهم.. مع استثمار العلم الحديث وما يقدمه من تسهيلات في ذلك.
لقد تعددت مهاجر اليوم قاريا، ولم يعد بالإمكان الحديث عن مناخ جنوبي وآخر شمالي ، فالشعراء العرب لم يظلموا أحدا في استحقاقات هجرتهم ، حتى وصلت إلى دول آسيوية قصية وأخرى افريقية.. لكن لقاءهم الثقافي يظل تابعا للمراكز الكبرى في أمريكا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا واسبانيا وهولندا والسويد والدنمارك وسواها: وهم بذلك يكرسون مركزية المركز الثقافي ويستفيدون منها أيضا. لكننا لا نتخيل استيعابا أو تمثلا للخارج بالدرجة أو القوة نفسها، فثمة من يتعمق المكان وينادي- ما يسميه أمجد ناصر- « روح المكان هي واستحقاقاته اليومية »(9). ومنهم ن يصبغه بسواد النوستالجيا للمكان الأول وينخرط في بكائيات أو منادب عائمة أو غارقة في الميوعة العاطفية ، ومنهم من يجعل من المكان معرضا لحشر الأسماء والمواضع بطريقة استعراضية داخل النص.. فيما يمكن للمكان أن يكون حافزا لفعاليات ثقافية متنوعة ، على رأسها الترجمة إلى العربية وبالعكس ، الأمر الذي غاب عن برنامج المهجريين الأوائل ، وصار الآن من علامات الهجرة الجديدة ، مع ملاحظة أن كثيرا من المترجمين بدؤوا مشروعاتهم أصلا في أوطانهم.. أما أولئك الذين فاتتهم فرصة الإفادة من لغة الخارج فقد أدى بهم الآمر، وبدافع الغربة اللغوية ، إلى مضاعفة الحنين للمكان المهجور،. وتكريس الاغتراب عن المكان المهاجَر إليه.. وسوف تفوتهم تلقائيا فرصة تقوية دم نصوصهم بأجواء المكان الجديد وإشاراته وثقافته.
لقد استطاع كاتب مثل أمين الريحاني أن يقدم جرأة أسلوبية لا تتحدد برفض الأطر التقليدية للقصيدة كالوزن والقافية ، بل بلغ به الأمر حد اجتراح أشكال وأنواع عصية على التجنيس في عمله (كتاب خالد) الذي يوصف بأنه “شبه قصة – نصفه قصة ونصفه قصيدة »(10)0وهو يماثل ما فعله جبران في (رمل وزبد) حسر الحكمة والنبوءة المعمقة مقدمتان بتركيز شعري وتكثيف عال. وشبيه ذلك ما فعله نعيمة في (كرم على درب 946) أيضا.
إن كشفنا للمزايا المهجرية الأولى: نقائص وحسنات ، إنما هو رسالة للمهجريين الجدد بحثا عن اجتراحات واجتراءات لم نرها فيما نتابع من شعرهم. ولهذا سننتقل إلى جزء بحثنا الأخير معاينين تمثلات المكان الجديد وتعيناته الصورية والأسلوبية والموضوعية في نماذج مختارة من أشعار المهاجرين الجدد ولكن بعد أن ننهي بالقول إن مَهاجرة الأمس الأوائل لم يعدوا هجرتهم امتيازا لهم على شعراء الداخل المهجور، فيما نلحظ تكرارا مملا للقول بأن الداخل كف عن أن يكون صالحا لسياق ثقافي أو إبداعي مناسب ، وكثيرا ما رفعت فرارات الرفض وسياط الجلد في وجوه مبدعي الداخل وجلودهم ونصوصهم لمجرد أنهم ما زالوا هناك: أحياء يكتبون !
إننا لا نريد أن نزن النصوص جغرافيا؛ فليس لنص مكتوب في الخارج فضيلة إضافية لمجرد انه منتج هناك، ولا لنص مكتوب في الداخل لأنه كتب هنا.. كما أننا لا نطمئن لتهم قليلة مقابلة يرمي بها بعض شعراء الداخل زملاءهم المهاجرين ، للسبب نفسه.
ذات يوم ، من (على جسر بروكلين) اكتشف الريحاني رغم انبهاره بالعالم الجديد أن نيويورك مدينة قاسية ، رغم جمالها، لا تحفل بأحلام شعرائها، واكتشف خلف غطاء الحرية ، ما اسماه (العبودية الجديدة) التي تتخذ في الولايات المتحدة أنواعا وأشكالا؛ حتى غدت الحرية والعدل والمساواة والاستقلال أسماء بلا مسمياتها.(11)
فهل نستطيع أن نرتب صلتنا بالخارج على أساس تجاوز ظاهر المكان وشعارات الحياة العابرة وكمائنها المهيأة لكل عابر اجتاز حدود بلاده ؟
يكون المكان الجديد في العادة مناسبة لاستدعاء الغائب (المكان القديم المهجور) وما تحف به من رؤى وذكريات. هنا تختلف بالشعراء الطرق ؛ فيبدأ بعضهم برؤية صلادة المكان الجديد ولا إنسانيته ، إسقاطا شعوريا من وعيه هو؛ لكونا غريبا ومقلعا، ولان المكان الجديد لا يقوم بديلا من الداخل مهما ارتبط ذلك الداخل بالغيبة والانكسار وانحسار الحلم كثيمات موضوعية معادلة فنيا للمحمول الإيديولوجي كما تبينه قصيدة بلند الحيدري (غدا إذا ما انفجرت):
يقال إن بيتنا كئيب
وكل ما في  بيتنا
وكل من في بيتنا.. غريب
حتى صدى أصواتنا غريب
حتى النجوم لملمت بريقها وهاجرت
بعيدة عن أرضنا
..حتى رؤى صغارنا قد صدئت
فليس في قلوبهم قلوب(12)
ولكن قسوة ذلك البيت المهجور حيث الأحلام القتيلة والنجوم المطفأة والرؤى الصدئة ، لا تخففها جغرافية المكان الجديد حيث “الحانة مغتسل الرجال » يجرفون بمعاطفهم ضبابا»(13) وحيث الجمال الذي يجسده رمز الجوكندا ليس إلا وليد “عرق الأكتاف المتزاحمة ، من زبد القطيع المائج في الأنفاق “(14) كما يقول نوري الجراح الذي يرى في مكانه على الجزيرة (المقصود قبرص) «عصافير في ثنايا القرميد
أشبه ما تكون بالفئران »(15). وعند ذلك لابد من النكوص والعودة إلى المكان المهجور..
فكما
للنوافذ المحطمة ذكرياتها عن العاصفة:
سوف نتذكر
الخفقات التي سقطت من قلوبنا
ونحن نحلم بالأجنحة (16).
وفي الأحداث الكبرى التي تعمق بالمكان المهجور يستجيب المهاجر بهياج عاطفي شديد أحيانا، يعكس هيجانات لغوية وصورية عارمة ، كما في قصيدة فاضل العزاوي (مرثية الأحياء- العراق 17 كانون الثاني ا 199) المكتوبة في عام القصف الجوي المروع على بغداد ومدن العراق ، فيرى أن الساعة ساعة الوحوش الخارجة من مغاورها، كما هي ساعة القتلة والمقتولين.
في هذه القصيدة القائمة على بنية التكرار وضم الجزئيات المتناثرة في يوميات الحرب وشظايا المكان القديم بأساطيره وثقافته وطبيعته ، تعلو نبرة الخطاب الموجه إلى القنابل:
«أنت أيتها القنابل، يا حاملة أسماء حبيبات الجنود القادمين من قارة منتهكة ، انفجري فوق شارع الرشيد، امسحي ذكرياتنا، انشطري فوق مقهى الزهاري، فوق مقهى حسن عجمي، فوق مقهى البرازيلية ، فوق مقهى سمر، انفتحي فوق شاطئ أبي نواس ، حيث غادرت دجلة أسماكها…»(17)
وفي هذا السياق تتداعى الأمكنة المحملة بعبق التاريخ من أور وبابل ونينوي وبذكريات الصبا في مقاهي بغداد وحاناتها ونواديها.. ولكون ذلك مناسبة لإعلاء الحنين الجارف الذي لم يكن في قصائد سابقة قد وجد له مكانا، إذ اتخذت القصائد أشكالا أكثر تماسكا واستقرارا فجاءت الحرب لتفجر ذلك الحنين كله.. الحنين الذي لا يمكن ان يخفيه مهاجر مهما كان مرائيا:
“مهما تكن ثعلبا في الغربة
سوف يضبطك الوقت يوما ما
في زاوية وأنت تمارس
العادة السرية مع الحنين“(18)
كما يقول الشاعر السوري المهاجر رياض العبيد الذي رأى هو الآخر هشاشة المكان الجديد وسخافته التي «تتجول في مدن الفلاسفة وكواكب الشعراء / تمتص كل ما فيها من ضوء وعشب وماء / ثم تخرج تاركة فيها شمسا مقتولة » وحيث «يطيب للتفاهة أن تتشمس على سواحل كاليفورنيا، عارية كملكة متوجة / بينما على القصيدة / أن تقبع في كوخها / مثل أرملة وحيدة !”(19).
هكذا يجري جدل الداخل والخارج بمعادلة صعبة: فالداخل مرفوض لأنه قادم في سياق عذاب شخصي قاس: ولكنه الآن حاضر إزاء قسوة الخارج وهمجيته حتى لتغدو رموزه نفسها وأبعاد هذا المكان الجديد شتيمة لازمة:
(( أنت يا قنابل ، تشبه طيورا مقتولة ، إنني أعيدك إلى كل مدينة وشارع وبيت في أمريكا، أعيدكم إلى الأطفال في رياضهم ، إلى المشردين في الطرقات / إلى المدراء في مكاتبهم الأنيقة ، إلى العاهرات الصغيرات في الفنادق التي تؤجر غرفها بالساعات / إلى جبل الماريوانا لي سان فرانسيسكو/ إلى مبنى الأمم المتحدة لي نيويورك / إلى حكماء طريقة الحياة الأمريكية ، إلى محققي الجرائم في شيكاغو، إلى قطاع الطرق في الاريزونا إلى رعاة البقر المضحكين…»(20).
ان العيش في المكان المعادي سيعمق الاغتراب وستغدو المدن أمكنة تجهل ساكنيها كما يقول صلاح فائق في مقطع من قصيدة يجسد التعارض بين المكان والمهاجر، بين قسوة ذاك ورتابته ومظهريته القاتلة ، وبين هذا وأحلامه وذكرياته:
في مدينة لا تعرفنا بعد أعوام
المنام وحده ينقذنا من ضياع الجمال
أحيانا في العطل
نرى برجوازيين في الساحات
يرقصون على رنين نقودهم
قبل عودتهم إلى بيوتهم في الأرياف
نلحظهم في أمسيات يصلون أمام المصارف
ونحن تحت أغطية أسرتنا
نعاين لمعان الكواكب
او تحت مصابيح المناضد نلتقط عللنا من كتابات
مدينة تعض حدائقنا
نسمع صراخها في غرفنا ونحن نتهيأ للنوم لكي نحلم..(21)
وإذا كان المهجريون الأوائل قد عاينوا في مدة هجرتهم الجديدة ما تخفي وراء جمالها من ظلم وقسوة جسدها الريحاني بمقولة (العبودية الجديدة) المتركزة والمرمزة في عمال المناجم والنفط ومصانع الأنسجة وفي البورصة والأسهم والتجارة ، فان الوعي الحاد للمهاجر الجديد- الشاعر دائما في بحثنا- إنما هو محرك ومولد سلسلة من الصور والتعينات التي يصبح فيها البشر جزءا من المكان المتلون بأطياف متعددة ترتهن بجغرافيته لكنها تشتق منه شبيها لها، وترى الهامشي في غرابته وتفرده ، زوايا المكان وروائحه.. روحه الخفية التي لا ترى.. كثيرا ما نعاين نماذج هامشية أو مهمشة وأماكن منزوية وعابرة في شعر
سركون بولص الأبعد تجربة من زملائه في المهجر.. لكن قصيدته (حانة الكلب) من أكثر نصوصه تمثلا لروح المكان ورائحته.. واستيعابا لتاريخه وجغرافيته ،وحيث يبلغ الترميز أعلى درجاته فيرى الشاعر حانة تحمل اسما غريبا: (حانة الكلب) في شارع يرمز الى الطريق التي سلكها كهنة المكسيك إلى أديرتهم المقدسة ، فيشعر «انه وجد سر أمريكا أخيرا.. حانة الكلب عل طريق الملوك ! والملوك هنا يقصد بهم ملوك الروح مما يزيد طين المعنى بلة ، ذلك المعنى الجديد المتأرجح بين الكلبية والقداسة ، بين حضارتين متضاربتين ، عالمين بينهما فروقات شنيعة كلك التي بين أمريكا الشمالية والجنوبية ، أو بين الغرب والشرق..»(22)
لقد كتب سركون بولص هذه القصيدة عام 1975 أي بعد حوالي ست سنوات من إقامته في أمريكا، وبالقدر الذي كان يلتقط فيه الجزئيات اليومية للمكان الأمريكي، كان يوغل في روح المكان ليقرا تعارضاته.. بين الملوكية والكلبية أي القداسة والضعة وحيث تجد الروح مبررا لتوقها وأشواقها وحنينها.
تحفل (حانة الكلب) بالسرد وبضمير المتكلم ، لكنها ذات أصوات متعددة ، تستحضر التراث والأسطورة وتتسم بالسخرية والتداعيات وبالشخصيات الطريفة لمهاجرين يكتشفون كلبية المكان وخواء روحه حيث ((عليك أن تؤجر شجرة أو عمود تلغراف لتشنق نفسك !))
ليس في القصيدة عوائق تحد من اندفاعها، فهي مسترسلة دون تكلف لا لأنها تتنازل عن الإيقاعات المألوفة أو تزهد بالبلاغات المبتذلة ، بل لأن كل شيء ممكن في سياق شعريتها حتى نقل العبارات بالعامية ، وتقطيع الكلمة إلى حروف ، والتعليق على الجمل الشعرية والصور من داخلها..
ماذا يفعل المهاجر بذكرياته ؟
إن طفولته تنادي كضوء نجمة بعيدة لكن لمعانها لا يكف عن إرسال مكائده. هكذا يتذكر المهاجر تلك الأيدي التي لوحت له.. الأيدي التي ودعته والتي لا سبيل لملامستها.. وبهذه المفردة (اليد يؤنث خالد المعالي مكانه الجديد ويستخرج تداعياته وصورها التمثيلية من (كيس ذكرياته) الذي يحمله و(طريق التراب نحو الطفولة)(23) ثم يتساءل:
أكل يد تلوح
ستمضي آخذة بأطراف النهار.
لها صوت ينادي
ويمزج الزمان والمكان معا ليكتشف اليد التي تدله على ذكريات مضيعة:
الآن وهنا
تمد اليد
إلى كل ذاكرة تبين
شعلة السراج تهتز
وليل الحياة مستريح
منه تأتي الذكريات
التي ضيعتها.. “(24)
ويلاحظ القارئ كثرة ورود (اليد) في شعر المعالي ، ووجودها في عناوين قصائده مثل (يد مرفوعة تنادي) و(مصير اليد) و(يدي وقفت) و(وصول اليد) و(يد ممدودة) و(ألوح باليد، اليد تلوح) ولعل في هذه الظاهرة اللغوية مجال دراسة أسلوبية تتقصى قاموس المهجر الجديد وتراكيب اللغة الشعرية وأبنيتها، حيث تكثر مفردات السفر والإبحار كالسفينة والقطار وجزئيات المكان كالبيت والطريق والحانة والمقهى..
إن اللغة في شعر المهجر الجديد ذات وجود حي يعاضد الذاكرة أكثر من خدمة المخيلة لذا ترتفع سقوف النصوص لتلامس المدى التصويري الممكن دون إيغال أو تصنع في صنع فضاءات شعرية سابحة في مخيلة مهوّمة بل هناك تعمد لتخفيف حدة العبارة والصورة ، وتبسيط التراكيب ، والتبسيط مع القارئ وإشراكه في تمثل النصوص ومخاطبته كقرين وشريك في النص.. وذلك يقطب هذه النثرية المغايرة للبلاغات الفاقعة والصور الحادة..
وسنرى في مقطع من شاعرة سورية مهاجرة هي (لينا الطيبي) ما أعده تعمدا وقصدية في مجافاة المباشرة من جهة ، والزهد بميوعة العاطفة وتهويمات المخيلة ، مما يرتب من بعد، انفجار الذاكرة بتداعيات ، يحقق ترابطها الشعري، هيكل القصيدة الجديدة:
“الحنين أغنية عائد لامطر يجمع خطواته
فوق تلال يعبر رؤوسها تكسر الظلال
وهتاف الشمس في أوبة النهار
 فوق الأرض.. والسهل وفوق الكلمات الخاسرات
فوق الندرة
وفور ياسمينات تقصفت على المشهد
 نثرت غرورها في لمعة الجبل
 فوق سوريا
الحصان ينفض عرق  قوائمه
يشتت ألوان صهيله في ذهل العبور
أعبرك سوريا
الواحة تخضل في شغف العين.. “(25)
إن المكان مقدم في النصوص السابقة بشفافية وحلمية وباحتماليه تهب القارئ متعة تشكيل صورة أثيرية تساعد على تمثله.
وحين يكون المكان تاريخيا مرتبطا بسياق حضاري مستدعى من الماضي الجمعي كالأندلس ؛ فان المهاجر يراه بعين مضاعفة ، لا عين الداخل التي تراه فردوسا مضيعا وسط الجحيمات القائمة ، وإنما تكون الأندلس بعين الخارج – أي الآتي إليها من المهجر- مكانا لشجن روحي معمق. هنا تنخرط وقائع التاريخ وتفقد وثائقيتها وتسلسلها المتني- أي المروي عبر المتون قبل تشكلا الشعري- فيلتقط الشاعر من سلسلة الترابطات المنطقية للحدث ما يسمح له بملامسة الموضوع ذاتيا، أي بان يجعله موضوعه (هو) فتكون الأندلس (أندلسه) وتكون زفرات الأندلسيين الأخيرة بعد ضياعها زفراته هو أيضا.
في قصائد (مرتقى الأنفاس) كلها يؤكد امجد ناصر شعريا، ما قاله عن غرناطة نثريا، ولكن بشطحات الصورة الشعرية ايضا حين يقول:
«غرناطة العربية: خفقة الروح ، أغنية الزوال الخالدة ، رمانة الحلم والتي انخرطت حباتها المكتنزة من الحب والسماحة حبةً حبة “.(26)
والديوان مهدى «إلى أبي عبدالله في زفرته الأخيرة » وتتصدر كل نص من نصوصا الستة تنصيصات واقتباسات حول سقوط غرناطة وخروج العرب النهائي منها لكن إشارة الشاعر التي أنهى بها ديوانه تؤكد أن «أجواء الكتاب ” تدين إلى ما يسميه «ترنحي بين قصر الحمراء والبيازين عام 91» كما تدين تاريخيا ،إلى مراجع ومتون عربية وغربية متنوعة ». لقد تآزرت معايشة المكان جسديا مع نداءات المراجع التاريخية والأدبيات التي سجلت تلك اللحظة الدراماتيكية العاصفة التي تلخص أفول (أو ذبول) وجود العرب رمزا بزفرة أخيرة يطلقها الأمير الصغير، فكان الشاعر بترنحه ذلك ؛ يريد تمثيل لحظة الأسى والرحيل ذاتها:
يقول في نص (توديع غرناطة):
“.. وها نحن نعود
لنشهد مصير النجمة والغصن
ونرى الأمير
خفيفا
على..الأرض
بساقين من قصب يستنهض العاصفة “(27)
أو كأن الشاعر يعيد تمثيل لحظة الوداع الأخيرة التي وضعها أحد المراجع الغربية والتي تتصدر نص (مشيئة الأفول):
 
(و اغرورقت عيناه بالدموع للمرة الثانية بعد أن شاهد عاصمته من على قمة الجبل وهي تختفي عن ناظره إلى الأبد).(28)
وتكاد لحظة الوداع هذه كما تصفها المراجع ، أن تطابق لحظة شعرية مماثلة يصفها الشاعر:
“لا شيء يهب الآن من الروابي السبع
ولا  في مقلتي كيما أشاطر نفسي العزاء(29)
وتحيط لغة الشاعر بأجواء الروح التي امتزجت بالمكان: فتحافظ على إيقاعية مميزة قوامها لغة عشقية معذبة بالحنين والحب والبوح ؛ وصور قليلة متقشفة تريد ان تحيط بدراماتيكية المشهد الحزين ، فتتعزز بالتناصات القرآنية والشعارات الأندلسية وكسرات من شعر العشق الصوفي:
“أخف من أمل على جبل القنوط
الريشة التي تحررت من ورطة الجناح
أثقل مني في كفة الريح
فيا لنفسي
أمّارة بالألم
ويا لفمي عطشان على حافة النبع
ويا ليدي
أدعتا وصلا
وعادتا خاويتين “(30)
لقد كان (مرتقي الأنفاس) معادلا شعوريا عمقته الهجرة وأكسبته وعيا مضافا لسبر أغوار المكان الذي كان حلما وخيبة دون أن يتأثث بالناس والأشياء فكأنما زفرة الأمير الأخيرة هي مرتقى أنفاس حفيد يتأمل خطاه ونبض روحه وأنفاسه التي يقول إنها
(تشق الهواء الخالد أثلاما وتتركها لبذار الألم) (31)
وإذا كان المهاجرون الأوائل قد أسموا العالم الجديد الذي هاجروا إليه باسم (الأندلس الجديدة) فان المهاجر الجديد يعلم انه مخذول قبل أن ينادي أندلسه لأنها ضائعة في الزمن ، ماثلة في المكان ، محفورة في الوعي، لكنها عصية كأرضه المهجورة: الحاضرة في الزمن والغائبة في المكان.. فأية أندلس من بعد ينشدون وهم على أرض وهم هاربون من أرض وهم لاجئون إلى وهم يؤسسه التاريخ فيشعل مواجدهم وأشواقهم تعويضا عن مرارات وخيبات غزيرة.
وفي  قراءتنا لمختارات شعرية (32)من عشرة شعراء عراقيين توطنوا في هولندا   وللحديث عنها – لابد من استذكار انتمائها إلى سياق الشعر العراقي الذي يعدّه  مؤرخو الكتابة الشعرية ونقادها المناخَ الذي تأسست فيه الحداثة الأسلوبية وانطلقت منه إلى العالم العربي في لحظتين تاريخيتين مهمتين أولاهما قديمة تتمثل في العصر العباسي الذي غدت فيه بغداد – العاصمة العراقية الأزلية والعريقة – عاصمة للدولة العربية الإسلامية لأكثر من خمسة قرون ، وشهدت تجديد القصيدة العربية التي أرهقها التقليد والجمود وأثقلتها  صرامة موضوعات الشعر الكلاسيكي وأساليبه وإيقاعاته  ولغته العربية المورثة . وتشاء أقدار بغداد أن تكون محلاً لولادة الحداثة في العصر الحديث حيث ظهر فيها ما يعرف عربياً بالشعر الحر منتصف الأربعينيات ، ليقلب نظام القصيدة العربية ويهدم تناظرها الموسيقى والشكلي والموضوعاتي ، ولتبدأ من هناك موجة تحديث جذرية يقودها بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وزملاؤهم ، ستمتد إلى البلاد العربية وتشيع تقاليد التجديد التي ستتطور بجهود الأجيال الشعرية اللاحقة التي يزخر بها العراق ، وتمنح لوحة الشعر فيه فسيفساء فريدة تتسع وتتنوع رغم الحروب المدمرة والقمع والكوارث التي جلبتها الدكتاتورية لأكثر من ثلاثة عقود وأدت إلى هجرة ملايين العراقيين إلى المنافي وبينهم مثقفون وشعراء سيواصلون مشاريعهم هناك و يتكونون أو تنضج تجاربهم في المنافي  التي أصبحت مادة شعرية ، سنجد  تنويعاتِها في قصائد هذا الكتاب الذي يضم أسماء متباينة  العمر في التجربة الشعرية ، ومتنوعة في الرؤى والتصورات ، رغم أن ثمة قاسماً مشتركاً بينها هو قصيدة النثر بمزاياها الإيقاعية، وانفتاحها على السرد ، والتقنيات الشعرية المتنوعة والمتعددة دون قيود .
وسيجد القارئ أن الشكل الحديث للقصائد لم يسلبها كثيراً من روح الشعر العربي ونكهته وأساليبه ، وأبرز ما يمثل ذلك حضور ( الأنا) والذات الشعرية في مركز النص ، توجهه بعذوبة  صوب مناطق الحنين إلى المكان الأول ( العراق) وزمن ماض يصلح للاستذكار واستحضار صور الطفولة والشباب وجمال الأمكنة وشاعريتها  ثم مقارنتها بالمكان الجديد والغريب بشراً ولساناً   وثقافة ، مما يمنح النصوص حياة ثانية في المنفى الذي كتبت فيه ، فتتوتر لغتها وصورها وإيقاعاتها ، كما تثير أكثر من محور موضوعي كالصلة بالمكان الأول كحاضنة رافقها عذاب دفع الكثيرين من شعراء هذه النصوص إلى الهرب . فالوطن ليس جنة مثالية .. والأوطان أمكنة ليس لها وجود مستقل عما تشير إليه  من عسف ومعاناة .إننا لا نستطيع اختزال الوطن  أو استبداله بل نحمله مجبرين كوجود لازم ، ليست الذكرى إلا إحدى  طرق العودة إليه واستحضاره عبر  نشاط الذاكرة و التقاطاتها .
لكن الوجود في المنفى ليس حلاً كما تقول القصائد، فإذا علمنا أن الوطن ليس جنة يغادرها الناس آسفين – كما حصل في قصة الخطيئة الأولى وهبوط آدم إلى الأرض بحسب الرواية الدينية لقصة الخلق-، فإن المنفى كذلك ليس الجنة الموعودة أو المنتظرة .. خاصة إذا ما تأملنا ما يسقطه الشعراء المنفيون على مكانهم الجديد من خسائر ماضيهم ومراراته وآلامه .. أو إذا جعلوه ( مكاناً) اضطرارياٍٍٍٍٍٍٍٍٍ ببعدهم عن المكان الأول الذي ظل له حضوره في وعيهم وعاطفتهم .
سنجد أيضاً انعكاس ذلك في لغة النصوص التي تتكرر فيها مفردات البيت والأسرة والماضي والنسيان والذكرى ، كما نلاحظها في الصور التي يمثل بها الشعراء عواطفهم ، ويجسدون اقتطاعهم من الجذر الأول وحياتهم في المكان- المنفى.
وكثيراً ما يستخدم الشعراء والشاعرات صياغات سردية ، فقد وجدوا في القص شكلاً مناسباً لتوصيل تلك الذكريات كتعبير عن حدوثها في زمن ماض ، يصلح للسرد ، ويناسب هجران قصيدة النثر التي يكتبونها للموسيقى التقليدية كالأوزان والقوافي والتناظر البيتي ، ولوسائل التعبير المألوفة كالمباشرة والغنائية والبلاغة المبتذلة ، وهذا يساعد في دمج القارئ في أفق النص ، ويعرّفه على الأماكن والأزمنة  ، ويجعله في قلب حوارات داخلية (مونولوجات ) تمتلئ بها النصوص ، يجريها الشعراء مع أنفسهم في مراجعات وتذكارات حزينة وعندما يشتد توتر اللغة الشعرية ، يلجأ الشعراء إلى استخدام أشكال حرة في بناء نصوصهم ، كالقصيدة القصيرة المكثفة والسرد الملحمي الطويل أو القصيدة المستقلة متوسطة الطول ،أو في تقسيم النص أحياناً إلى مقاطع مرقمة ، أو منفصلة بنقاط ومساحات بيض ، تسمح بتنوع الحالات الشعريّة وتبدّل إيقاعها وزوايا النظر فيها مع كل مقطع .  إن الشاعرات والشعراء العشرة في هذا الكتاب لا يجمعهم المكان القديم والمنفى فحسب ، بل هم ورثة تقاليد شعرية وإرث من المعاناة التي جسدها شعراء كثيرون قبلهم ، وعاشوا تجارب اغتراب وإن كانت أقل قسوة وأقصر  زماناً – جعلت شاعراً كالسيّاب يكتب  في قصيدة مشهورة له ، أبياتاً مدوّنة اليوم تحت تمثاله الشهير على ضفة شط العرب في البصرة
الشمس أجمل في بلادي من سواها
                           والظلام – حتى الظلام –
                         هناك أجمل ، فهو يحتضن العراق
إن تعبير الشعراء في هذا الكتاب عن اغترابهم لا يتضمن هذا الحنين القريب من الرومانسية ، إلا أنهم يعبرون بأداء أكثر تعقيداً وغموضاً وعنفاً  عن عمق معاناتهم المماثلة.
الخسارات إذاً تجمع  هذه القصائد ، والأحزان المتجذرة   لا السطحية الغنائية هي مادتها ، التي سيتمثلها القارئ كما عانى الشعراء والشاعرات من أجل توصيلها ،بطاقةِ الشعر التي تمتد من وطن بعيد معذب وجميل إلى منفى يراجعون فيه أنفسهم وماضيهم وحاضرهم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 ملحق
البياتي و الموت في المنفى
 
أوَ هكذا تمضي السنون
ويمزق القلبَ العذاب؟
ونحن من منفىً إلى منفى ومن بابٍ لباب
نذوي كما تذوي الزنابقُ في التراب
فقراء يا قمري نموت
وقطارنا أبدا يفوت
 
تلك الأبيات لعبد الوهاب البياتي صارت من مأثورات القصيدة العربية الحديثة  ، و ملفوظات اللسان العراقي الملتهب بالهجرة وأدبياتها  وثقافتها البديلة ، و أبرز تنويعاتها الجحيمية التي تكرر مآسيَ قدريّة لا يعرفها التاريخ البشري إلا في ندرة من تقاويمه المليئة بالكوارث.
وهي أبيات من قصيدتين كتبهما البياتي  إلى ولده علي ، مستبقا ما سيعانيه من موت في المنفى ، الذي كان أول من استخدمه مصطلحا ومكانا ، بينما كان الشعراء العرب يستخدمون  (الغربة) التي تحف بها معان إنسانية أرق   وأخف وطأة  ، إضافة إلى بعدها الميتافيزيقي والأسطوري ، هكذا مثلا  كتب  الجواهري ( بريد الغربة ) وكتب السياب ( غريب على الخليج )وتحدث عن (غربة الروح في دنيا من الحجرٍ ) ،  لكن المحرّك السياسي الحاد في وعي البياتي  ومنهجه الأوربي في الكتابة الشعرية  جعل المنفى أكثر المفردات ترددا في شعره ، في وقت مبكر.
(كانت( أشعار في  المنفى ) من دواوينه الأولى ، يوم لم يكن يتصور أن منافيه ستتعدد وتتباعد مكانيا وتطول زمنيا حتى تأكل عمره كله ، وكان المنفى لا يكف عن ضخّ  واقعاته الفاجعة ودلالاتها التراجيدية ، فتموت مطلع التسعينيات ابنته  نادية في أمريكا التي كانت – بمصادفة إغريقية فذّة- تقصف في اليوم نفسه  مدن العراق  ومعالمه في حرب الخليج  ،  فتتضاعف أغلفة المنفى وتزداد أثقاله وسلاسله، ويتجسد الموت الرمزي للجسد فيه ويغدو واقعا.
كل حرية يهبها المنفى تسلبها لحظات العودة بالذاكرة إلى الوطن المشتهى ، هكذا تجاذب الحنين شعوريا وقسوة المنفى مكانيا أشعار  البياتي،  وصارا إطاراً سياقيا لا يمكن أن نقرأه بدونهما.
في مختبر القراءة نكتشف أننا كنا قادمين لقصائد البياتي من حاضنة سيابية ،  مبكرا  تسيدت جيلنا الستيني بمجمله ذائقة سيابية تذهب إلى الحداثة برنين التاريخ الفني للقصيدة العربية بتراكيبها  المتينة وصورها اللافحة وإيقاعاتها المميزة ، ولم تكن قد اكتملت بعد دورة التحديث لتصل مقترحات النثر إلى أرض القصيدة وتجتاز  حصانة حدودها ، فكان المناخ العام سيابيا  بإيقاع  القصيدة  وجملها الشعرية الطويلة وتغذيتها بالرموز و الأساطير و اندفاعتها الشعرية المتدفقة ، بينما كان البياتي يقترح مزاجا أوربيا أو غربيا بالمعنى الأدق  ، فقصائده قصيرة ، وجمله كذلك مكتفية بالكلمات القليلة وزاهدة بالصور والبلاغة المعهودة ، مستعيضة عنها بما هو أرضي يلمه البياتي ليصنع منه كيان قصائده وبنياتها التي تشبه عمل المونتاج التجميعي ، وهو ما نبّه إليه إحسان عباس في كتابه المبكر عن شعره مبينا تلك المزايا المختلفة في ما كتبه البياتي من شعر حديث لم تكن تعهده ذائقة التجديد المنضوية تحت لافتة الشعر( الحر) الذي أكمل البياتي مثلثه ،  ملتحقا بضلعيهِ الأساسيَين : نازك والسياب .
قصيدة البياتي مصنوعة من أقرب ما إليه : عناوين مشهورة لكتب أو ظواهر سياسية واجتماعية ، وأعلام ثوريين وصوفية وشهداء فكر ومتمردين ، وأسماء قتلة وطغاة يناكدهم حتى وهم في قبورهم التي عفت عليها رياح التاريخ،  ثم يجد لها أبسط المفردات وأيسر التراكيب ليسكَّها متنضدة في القصائد التي شاع  ما يتطاير في ثناياها من صور، كحذاء الجندي الذي يتداول الأيدي في السوق القديم ، والقمل والموتى الذين يخصون الأقارب بالسلام ، والمنافض المصنوعة من جماجم البورجوازيين والمنشقين ، وعرش الشاه الممنوح للشحاذ دليلا على أن الحياة عادلة ، وما تكرر فيها من رموز العشق لنساء مثل لارا وعائشة وخزامى وفاطمة و أميمة وياسمين  ، وشهداء الفكر ونساكه: الحلاج والخيام والسهروردي وابن عربي والمتنبي والمعري وغاليلو وسقراط ، وكذلك ماحفلت به سيرته من مدن الشرق والغرب ومدن الأساطير الغارقة البعيدة : بخارى وسمرقند وبغداد ودمشق وعمان وصنعاء والقاهرة  وروما وبرلين وأثينا   ومدريد..ووسط هذا كله ينسج عالم الموت في الحياة والحياة في الموت، مسندا ذلك إلى ذاكرة تاريخية مستمدة من الأسطورة ، ومن ملاحظاته الدقيقة قارئا للتراث الأسطوري أن العراقيين القدامى يؤاخون الموت والحياة ، ويتخيلون  الموت لحظة عابرة سرعان ما يعود منها الإنسان حيا  ، لذا يرونه بينهم  حتى في غيابه المؤقت أو الموسمي،  فتقترن الحياة بالموت عبر رمزية فريدة.ويقدمون له النذور من الأطعمة التي يحب ويناجونه بالأناشيد والأدعية ، وأذكر حتى الآن أن فقراء العراق وفلاحيه لا يأكلون الفاكهة الجديدة في بدء موسمها إلا بعد أن يطعموا منها الموتى من ذويهم  في غداء نذري جماعي مُهدى إلى أرواحهم .
في ( كتاب المراثي) يكتب البياتي لابنته نادية:
قبركِ في المنفى
وفي الوطن
قبركِ: في كل مكان
شعّ  فيه الضوء والكفن
وربما كانت تلك إحدى نبوءات الشاعر ، فقد غدا قبره في منفاه -احتكاما إلى ذاكرة الشعر- خارج المكان والزمان كمصائر الشخوص في قصائده ، رغم شكواه من المنافي التي:
دفنت أشباح موتانا
وضعنا في الأضابير
وفي رسائل البريد
..وفي منافي مدن الجليد
وإذ سكن الموت والمنفى شعور البياتي وقصائده  ووعيه ، فآخى بينهما ، فإنه شكّل منهما  صورته التي تركها  محفورة في ألبوم الحياة  وحفرها في ذاكرة الشعر.
الهوامش
1) يكاد مصطلحا (المهجر) و(المهاجر) يستقران في خطابنا النقدي المعاصر، استبعادا لمصطلحي (المنفى) و(المنفي) اللذين لايعبّران عن الحالة المدروسه هنا، بدقة وإحاطة، إضافة إلى ما يحف بالمنفى من مدلول سياسي عصري لا يمكن تعميمه على شعراء المهجر الجديد وكتابه يناقش كاظم جهاد ذلك في  مقالته (مهجر جديد أم مقر جديد) ،مجلة نزوى، العدد الثاني أكتوبر 1996،ص23. بينما يتحدث حليم بركات عن (منفى)وهو يقدم بحثا حول رواية المنفى إلى المؤتمر العربي الأول للروائيين بالقاهرة ، ويقرن النفي بالغربة مساويا بين ما يكتب بالعربية مثل رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) للطيب صالح ، وما يكتبه كتاب عرب بالغات الأجنبية مثل محمد ديب والطاهر بن جلون وكاتب ياسين. ونحن فستخدم سطح (المهجر) أبعادا لأي التباس على مستوى التنظير أو القراءة ، قد يتحمل بسبب كون المنفي إجباريا، والهجرة اختيارا.. ولاشك أن لكل من الحالتين اشتراطات فنية خاصة.
2) ميخائيل نعيمة في كتابه (جبران خليل جبران)، ضمن المجموعة الكاملة لنعيمة ، المجلد الثالث ، دار العلم للملايين ، بيروت 1979، ص 123، وينتبه إلى أثر ويتمان في الهجريين الكاتب العراقي رفائيل بطي في مقالة له عام 1926 فيسمي أمين الريحاني (والت ويتمان العرب). ينظر: حاتم الصكر، رفائيل بطي وريادة النقد الشعري في العراق ، منشورات الجمل ، كولونيا 5 199، ص 63. ويشير إلى اثر نيتشة في بني جبران ، أكثر من كاتب ، منهم ميخائيل نعيمة. تنظر المجموعة الكاملة لنعيمة ، المجلد الثالث ص152.
3) حاتم الصكر: رفائيل بطي…، ص 39- 40.
4) أمين الريحاني: الريحانيات ، جـ 1، دار الكاتب اللبناني- دار الكاتب المصري، بيروت ، ط8 ، 1978، ص 124.
5) نفسه: من 289.
6) يؤكد ذلك كثير من دارسي شعر المهجر الأول. ينظر مثلا: عيسى الناعوري، مهجريات ، الدار العربية للكتاب ، ليبيا – تونس 1976ص11.
7) كتب عباس محمود العقاد مقدمة (الغربال) لنعيمة ، عام 1923 منوها بمآثر الحرية التي تمتع بها شعراء المهجر على مستوى الأسلوب وقال إن لذة الحرية مآثرها وبلغت به الحماسة لآراء نعيمة إلى حد القول:” لو لم يكب قلم النعيمي هذه الآراء لوجب أن أكتبها أنا..». ينظر: الغربال ، ضمن المجموعة الكاملة لنعيمة ، ص 143، والصفحات 345-346.
8) يشير إلى ذلك الشاعر أمجد ناصر في (سؤال المهجر)، جريدة القدس العربي، لندن 10/7/1998.
9) نفسه ، ويضيف إلى وصف روح المكان بالخفية ، الإشارة   إلى «روائحه وأضوائه وظلاله ورطا نته ، ولسعة الغرب والمفارق فيه ».
10) الوصف للمستشرق كراتشكوفسكي عام 1910 وهو يقدم للريحانيات ، ج 1 ، ص 10.
11) الريحانيات ص ا 14.
12) مجلة (الاغتراب الاد بي) ، العدد 18، لندن 1991 ، ص 30.
13) نوري الجراح: مجاراة الصوت ، ورجل تذكاري، المؤسسة العربية للدراسات ، بيروت ، ط 2،1995، ص 28.
14) نفسه، ص 58، ويمكن مقارنة هذه الملاحظة حول الزحام في الأنفاق والسير كالقطيع لدى عدد من شعراء المهجر الأول وكتابه: أمين الريحاني في مقاله (من على جسر بروكلين) 5 190. ينظر: الريحانيات ، جـ1، ص 118.
15) مجاراة الصوت ، ص 113. ويمكن مقارنة ذلك بوصف الريحاني لأشجار كاليفورنيا بأنها «جماد هائل لا سر فيه ولا معنى. هي عظيمة قديمة ولكنها مساء بكماء عقيمة لا قصة لها ولا تاريخ. لم يعثر في ظلها نبي ولا تغزل بها شاعر.. أما شجر الأرز.. ففيه غير الظاهر من الضخامة والعظمة ، فيه غير المادة…»- الريحانيات ، ج 1، ص 89.
16) مجاراة الصوت ، ص 113.
17) فاضل العزاوي: في نهاية كل الرحلات ، منشورات الجمل ، كولونيا 1994» ص 124.
18) رياض العبيد: حديقة الرغبة ، دار المهتدي، كولونيا 1996، ص 70.
19) نفسه ، ص 53-54، ويتناول الريحاني هذا التعارض بين القصيدة ، والمكان الجديد في كثير من كتاباته ، تنظر: الريحانيات جـ1، ص 118مثلا.
20) فاضل العزاوي: في نهاية كل الرحلات ، ص5 12-126.
21) صلاح فائق: أعوام ، منشورات الجمل 1992، ص 65.
22) سركون بولص: اذا كنت نائما في مركب نوح ، منشورات الجمل ، 1998، ص152.
23) خالد المعالي: الهبوط إلى اليابسة ، منشورات الجمل ، 1997، من 99.
24 ) نفسه ، ص 97.
25) لينا الطيبي: هنا تعيش، المؤسسة العربية للدراسات ، بيروت 1996 ، ص 163.
26) امجد ناصر: القدس العربي- لندن – الجمعة 22/5 /98( جرح الأندلس).
27) امجد ناصر: مرتقى الأنفاس ،دارا لنهار للنشر، بيروت 1997 ، ص 100.
28) نفسه ، ص 16. 29
29 ) نفسه، ص ا 6. 30
30) نفسه ، ص65.
31) نفسه ، ص 97.
32)   جزء من المقدمة التي كتبتها  لكتاب  صدر في أمستردام  عن دارالنشر passage  ويضم  مختارات شعرية مترجمة  إلى اللغة الهولندية لعشرة شعراء عراقيين  مقيمين في هولندا هم : صلاح حسن وشعلان شريف وموفق السواد وفينوس فايق وناجي رحيم وكريم ناصر ومحمد الأمين وبلقيس حميد  وعلي شايع وحميد حداد بتحرير هيئة من الشاعرين شعلان شريف وموفق السواد والهولندية دينيك هيزينجا وبرسوم للفنان  كفاح الريفي

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
                                 القصيدة السياسية والقصيدة الوطنية
                                    -جدل الشعري والسياسي-
 
 
 
 
1-
يبدو وصف القصيدة بالسياسية مثيرا للسؤال الأزلي حول علاقة  الفن بالهدف أو الغرض ،  ويعيد من جديد جدل المنفعة والمتعة ، أو الجمالي والمضموني في النصوص.
والسياسة ذات صلة تاريخية بالشعر ، بل كانت السياسة مهمة شعرية في المقام الأول في عصور كثيرة من عمر الأدب وتاريخه.
يؤكد استذكار موقع الشعر السياسي العربي في التراث تلك الصلة ، فقد كانت سياسة القبيلة ثم الدولة الإسلامية في شتى مراحلها تسم الشعر وتصنفه على أساس قربه أو ابتعاده عن تلك الوظيفة.
ووصل تسييس الشعر ذروته في العصر الأموي حيث احتدم الخلاف حول الخلافة وأحقيتها وتفرق المسلمون أحزابا لكل منها شعراؤه البارزون يردّون على خصومهم ويروّجون لأفكار حزبهم أو جماعتهم.
ولكن الشعر السياسي تكتَّل وتحجّم وصار خطابه مكررا فاقدا لفنيته لاقتصاره على المناقضات والحجاج الإيديولوجي وتسفيه (هجاء) الخصوم  مقترضا من الفخر عناصر التباهي بالقوة والعدل والحق.
ولكن السياسة تظل تلاحق النصوص و تضع لها ذاكرة أخرى بسبب انتزاعها من سياقها والاستشهاد بها في مناسبات محددة صارت بسببها ذات حمولة سياسية.
وفي  العصر الحديث تعالت المهمة الفنية للقصيدة  ، ولم يعد الغرض أو الهدف وحده شفيعا للنص مهما كانت رسالته سامية ، فوجدنا أنماطا من الشعر السياسي تستجيب للحدث بآنية ومباشرة فيزول بزوال الظرف ، كملاحقة خلافات السياسيين دولا أو أحزابا ،  والحماسة لنزاعاتهم وجدلهم ثم زوال تلك النصوص بانتهاء الظرف أو زوال أسباب الخلاف.
برزت  من ناحية أخرى القصيدة التي تشتغل بعيدا عن مرمى السياسة كترجمة يومية للفكر والإيديولوجيا، واتخذت القيم الوطنية شعارا واسعا في مراحل التحرر متخلصة من  ظرفية السياسي منبهة لقدرتها على التأثير فنياً بأكثر مما يستطيع السياسي. وربما كانت قصائد محمود درويش مثالا  طيبا على ذلك.
 
 
2-                                                                                      
قد تنجح القصيدة السياسية مؤقتا في كسب الجماهيرية التي تتلخص في إثارة المشاعر والعواطف لكنها ذات مفعول سريع الزوال بسبب اعتمادها جماليا على ركائز غير فنية غالبا ولا تهتم بالبناء العضوي للنصوص قدر اهتمامها بالمضامين والإيقاعات المثيرة للتوترات والمشاعر فحسب.
والحكم على الجماهيرية ومداها لا يتحصل بمفهوم الجمهور المستهلك للنصوص، فقد حظي شعر نزار قباني السياسي (هوامش على دفتر النكسة مثلا) بانتشار كبير كونه ينتقد مسببات النكبات والهزائم ويفضح البنى الهزيلة والمتناقضة للأنظمة الحاكمة  المسببة لها.
وقد اكتسب شعره تلك الجماهيرية بكونه فضّاحا يتحدث في المسكوت عنه والمغيّب في الشعر العربي السائد والحياة الثقافية عموما.
ولكن تلك الجماهيرية ليست قياسا فاصلا ، فشعر نزار الغزلي لكونه ضمن البنية الجريئة نفسها نال الشهرة والجماهيرية ذاتها،  وتداوله القراء في مختلف مراحلهم العمرية وجنسهم وبلدانهم ، كما استمر أثره حتى اليوم وساهمت الأغنية في تكريس ذلك الانتشار أيضا.
فهل ينافس شعر نزار السياسي شعره الغزلي ؟ وهل يعني ذلك أرجحية أحدهما على الآخر؟
تؤكد مراجعة مستوى القراءة تراجع الاهتمام بالملفوظ السياسي لقصائد نزار بسبب ارتهانها بظرفية محددة زالت أسبابها أو اختلفت، لكن مدرسة نزار في الشعر السياسي ستتطور عبر أشعار مظفر النواب الشعبية والفصحى ، وأحمد مطر في صعوده المفاجئ في ( لافتات) وهي قصائد قصيرة تعتمد الضربة أو بيت القصيد المتولد من مفارقة حادة  وتكتمل المفاجأة المطرية بأنه  كشاعر لا إرث في غير السياسة وشؤونها التي أكسبها بسبب طابعها الشعبوي المغازِل للذاكرة والحس الشعبي ومستواه  و من خلال مزاياها الشفاهية انتشارا بين شرائح من المتلقين يحسده عليها الحداثيون والتقليديون معا.
في حالة مظفر النواب تكون القصيدة السياسية  ذات أفق ثقافي يتجلى في تراكيبه وأخيلته  وصوره ، ما أنقذها من المباشرة وإن اعتمدت في بعض نصوصها على الإثارة بالمفردات والصور( قصيدته عن القدس عروس عروبتكم…) وشعبياته المغناة ( للريل وحمد والبنفسج  كأمثلة ) ونجح النواب حتى في اجتياز الجدار اللغوي، فكانت عاميته العراقية  مقبولة ومفهومة في الجزيرة والمغرب وبلاد الشام على حد سواء.وذلك عائد إلى تحديثه للخطاب الشعري السياسي والشعبي ليكسب جمهورا متنوع الحاضنة الثقافية والمستوى التعليمي.
وكان للشعر السياسي الذي يكتبه بمصر عبدالرحمن الخميسي  وصلاح جاهين وأحمد فؤاد نجم والأبنودي وغيرهم دور جماهيري تعدى القطرية أيضا، ولكن كهبّة مؤقتة ذات مدى زمني واضح المحدودية وتؤطره الظرفية .دون أن ننكر أثره الجماهيري وكسبه لقطاعات شعبية كبيرة لم يكن يربطها بالشعر رابط ثقافي أو معرفي.
إن الجماهيرية ذات استحقاقات فنية ، فالقصيدة السياسية تسبب تلك الهيجانانت وردود الأفعال والتلقي الشفهي المباشر ولكن على حساب تعميق الفجوة بين الفني والمضموني ، واتكائها على فهم مباشر وسريع، وتناولها محذورات أو محظورات يجد فيها الجمهور متنفسا وسط الغليان الذي تشهده الأوطان والتردي الشامل في الحاضر وانغلاق أفق المستقبل.
3-
ليست القصيدة السياسية هي القصيدة الوطنية والعكس ليس صحيحا كذلك أي أن القصيدة السياسية ذات كيان نصي مختلف عن القصيدة الوطنية وإن تقاربت المضامين أحيانا بين النوعين.
تهتم القصيدة الوطنية  بسبب منطلقاتها العامة وغير المنتمية انتماء ضيقا إلى فلسفة أو إيديولوجيا محددة  ، بِقيم عامة تهم الوطن الذي تنشغل بهمومه وأحداثه ، وتستثير بسبب ذلك ركائزه الحضارية والمدنية وتحث على استدعائها لإنجاز المهمات الوطنية ،مخاطِبةً الفرد عموما كمواطن وليس المنتمي للفصيل السياسي وشعاراته ، ولا المنتمي للاصطفاف الحزبي وحده.
تثبت الوقائع خروج الشعراء غالبا على السياسي كممارسة يومية تسيّرها التكتيكات والتحالفات والتبدلات البراغماتية المرافقة للعمل السياسي ، هكذا هجر بدر شاكر  السياب – مثلا  – حزبه وسياساته وحلّق منفردا في فضاء وطني لا تحده العصبية، ومثله سيفعل لاحقا محمود درويش الذي ارتبط اسمه بأكثر قضايا العصر الحديث إشكالية وظلما تجسد بالاحتلال الصهيوني لبلده  ونزوح أهله عن ديارهم وعيشهم الطويل في الشتات ، لكنه إذ رافق السياسة والساسة وعمل في الحزبية مطلع شبابه ثم في الحركة الوطنية الفلسطينية بعد اختياره العيش في المنفى تأكد له أن القصيدة يمكن أن تنجز مهمتها الوطنية دون أن ترتهن بالسياسي  ، فكان أفق قصيدته يلامس فضاء مرتفعا عن وهاد التكتلات السياسية وبرامج السياسيين قصيرة الأجل والنظر.
وعلى مدى تاريخها سجلت القصيدة الوطنية مواقف ألهبت الكفاح ضد المستعمر والظلم ، وتوسعت مهمتها لترى العدل الغائب والفقر والمكانة المتردية للمرأة والتعليم وغير ذلك مما لا تعيره القصيدة السياسية اهتماما كافيا لانشغالها بالبرامج الظرفية والآنية .
لم يكن شعراء القصيدة الوطنية سياسيين بالمعنى المتداول، فكان همهم الأول ما تقتضيه مصلحة الأوطان ، وقد قدمت تجربة الجزائر ومكافحة الجزائريين للاستعمار الفرنسي مثالا على ذلك ، إذ كتب أدباؤها وشعراؤها بالعربية والفرنسية نصوصا تلامس دائرة الوطن ولا تغرق في حسابات حزبية محددة ، وكان لها أثر في إلهاب مشاعر المتلقين وبث روح المواطنة فيهم، ورفض الاحتلال ومقاومته.
وكذلك أدت القصيدة الوطنية دورها في بلدان مختلفة مثَّلها الزبيري في اليمن والكاظمي في العراق والشابي في تونس وشوقي في مصر وغيرهم ممن صارت لقصائدهم مكانة في الضمير الوطني لشعوبهم ، ولم تكن السياسة برنامجا محددا في أشعارهم بالمعنى الحرفي .
وربما كان لنظرية الأدب دور في خلط المفاهيم والأسس حول النوعين ، إذ برزت نظرية الأدب للمجتمع والحياة ردا على نظرية الأدب للأدب والفن للفن لتقوّي الخطاب السياسي  وتقيم للسياسة مشروعية ممكنة  ، كما فعلت الأحزاب القومية واليسارية في البلدان العربية التي كان لها شعراؤها الذين بلغ بهم التعصب أحيانا حد التذكير بشعراء القبيلة الذين ينصرونها ظالمة أو مظلومة ، وسنكتشف أن تلك الأحزاب لعبت بأوراق شعرية لتروج لسياستها كترجيح البياتي بعد انفصال السياب عن الحزب الشيوعي والإيهام بانتماء الجواهري السياسي وهو كما اتضح ينطلق من أفق وطني لا حزبي ..
 
4-   ولكن هل يمكن وصف ا القصيدة السياسية بأنها قصيدة تغييرية؟
يتحاشى تساؤلنا باستخدام صفة التغييرية وصفا شائعا آخر هو الثورية.
لطالما ارتبطت القصيدة السياسية بهذا الوصف ونسبَ إليها دعاتها وقراؤها تلك الميزة التي تلائم المنبت السياسي والخطاب الإيديولوجي المولّد لها.
إن التغيير مهمة غير شعرية ، وقد تجنب النقاد والباحثون نسبة تلك المهمة للشعر الذي لا يملك مفعولا أو أثرا سوى اللغة  والنظام الشعري نفسه والذي يؤطر الشعر كفن قولي ، وإن بدا في بعض اللحظات قادرا على التحميس والإثارة، فلا تزال قصيدة (سجّل أنا عربي) لدرويش تستثير الوطنية العربية عامة والإنسانية حيث يملي السجين أو المضطهد على سجّانه ومضطهِده تثبيت هويته( عنوان النص الأصلي يتضمن ذلك : بطاقة هوية، لكن العنوان سيُنسى لصالح المطلع المتسم بالتحدي: سجّل أنا عربي) ولكن ليس بالمعنى التغييري فلا الخصم المحتل للوطن تأثر بملفوظها ولا الثوار انتظروها كي ينخرطوا في المهمة النضالية المباشرة التي وهبوها حياتهم .
الشعر يشتغل إذن في منطقة العواطف والمشاعر، وما وصفُ القرآن للشعراء بأنهم يقولون مالا يفعلون إلا  إنصاف مبكر للمهمة الشعرية للشعر. فإذا كان المؤمنون بالإسلام قد دافعوا عنه ونشروه وخدموا مبادئه بالقتال والدعوة  أي بالفعل ، فإن الشعراء لديهم القول الذي لا ننكر قوته  بوجود ما يُعرف  بنفوذ الكلام وأثر الكلمة والقصيدة والفن عامة، ولكن ليس لدرجة إسناد التغيير إليه .
يأتي الشعر في المجال الاجتماعي كما في المجال السياسي لتأكيد ما كان قد طُرح قبله، كقضية تحرير المرأة التي كان  للشعراء فيها جهدهم  وذبّهم عن حق المرأة في الحياة والتعليم والعمل والسفور إلى آخر ما عنيت به الحركة النسوية ومَن ناصرها من الأحرار والمثقفين والفنانين والشعراء، لكن ما كتبوه لم يكن السبب المباشر في التغيير ولا سابقا عليه،  بل هو أحد مظاهر الإحساس بالحاجة الاجتماعية للتغيير والتقدم ، فلقد ظهرت  بالمقابل نصوص كثيرة تناوئ المهمة التغييرية ، تلك التي أوردناها مثالا –أعني حرية المرأة – وتهجو دعاتها وتطالب بالحجْر على المرأة وتحديد دورها بالمنزل بحجة العفاف والتقوى والأسرة وغيرها من الذرائع البليدة..
والأمر لا يختلف كثيرا في الجانب السياسي حيث لم نشهد المتغيرات التي تحققت لعامل -أو بسبب – شعري  ، فكانت معركة السويس مثلا والعدوان الثلاثي على مصر مناسبة لرؤية ما يمكن أن تفعله القصيدة السياسية من اثر لكن دور النشيد والأغنية  والتعبئة الإعلامية أشد وأوضح.
يطور الشعر الراقي والبالغ الرهافة نظما ومعاني وصورا إحساسنا بالحياة ويجعلنا أكثر محبة لها وإيجابية في ممارساتنا لها ، ولكن الوصف بالتغيير المنسوب للقصيدة السياسية أمر مبالغ فيه، مع الاغتراف بما قدمته نصوص لشعراء  إيديولوجيين كالسياب أيام حزبيته  والبياتي وناظم حكمت ونيرودا وأراغون من إعلاء للقيم الإنسانية والإحساس بضرورة الحرية والتقدم والمساواة بين الطبقات واحترام الهوامش المقصاة في الحياة اليومية .
 
5-
وهل هي مؤشر للحرية؟
لا يمكن أن  يُعَد  انتشار القصيدة السياسية الجماهيرية ذات القبول  الشعبي والمقروئية مؤشرا على وجود الحرية في الفضاء المنتجة فيه، إنها كما نعلم تتسلل بسريّة إلى القراء وتنتشر عبر الأشرطة المهرّبة في كثير من البلدان التي تعد وجودها لدى الأفراد دليلا جرمياً في الغالب، ولكنها تؤشر – وهذه ميزة إيجابية- إلى أن الشاعر نفسه امتلك حريته في أن يقول مالا ينسجم والخطاب السياسي السائد ، وعلى العكس ففي كثير من الأنظمة الشمولية يشكو المتلقون من تكرار القصائد السياسية للخطاب الرسمي وتبريره وامتداح رؤوسه ونسبة العظمة والعبقرية لهم. وراجت أشعار لا تختلف في مضمونها عن مبالغات  الشاعر القديم  القائل  لممدوحه (  ما شئتَ لا ما شاءت الأقدارُ/ فاحكم فأنت الواحد القهّارُ) و لكن بألفاظ وصور عصرية هذه المرة تشير في محصولها الدلالي إلى الاستخذاء والنفاق الذي ينتقل كالعدوى من الخطاب السياسي  إلى النصوص الشعرية . فتكون القصيدة السياسية مناسبَة  معاكسة لتكريس الظلم والعنف ومعاداة الحرية وتمجيد المحتل أحيانا والتواطؤ معه على الاستقلال والسيادة.
الحرية في تداول القصائد ذات المحمول السياسي المناوئ والمحرض لا تتم في فضاء متواطئ عليه أو مسموح به  بل هي تنتزع انتزاعا وتسهم الجهات السياسية ذاتها من مواقع مضادة  في نشرها وانتشارها ، هكذا كانت تتم قراءة قصائد مثل المومس العمياء وحفار القبور التي كان البريد الحزبي يوزعها سرا على أعضائه وأصدقائهم ، كما أن قصائد نزار يتم تداولها نَسْخا أو في عواصم متباعدة كان بعضها يناوئ أشعاره ويمنعها  ،ويحرّض الأُُسر على تحاشي قراءة أولادها لها،   لا سيما الغزلية منها أو ذات الحس التحريضي . بل حصلت مفارقة شهيرة حين  تحوّل عنوان  مراجعة أحد دواوين في مجلة مصرية من (طفولة نهد) إلى  (طفولة نهر)!! وكانت هجائياته للرجل الشرقي التقليدي وأثرياء العرب الطارئين من نتاج الطفرات الاقتصادية  محط مناوأة رقابية  ومنْع في بلدان شتى.
لا يؤشر اتساع مدى  القصيدة السياسية وانتشارها إلى وجود الحرية في الفضاء العربي المنتجة فيه بل على فقدانه تماما لأنها كالمحرمات والممنوعات على مستوى التداول، فضلا عن الرمزية التي تتقنع بها فنيا في كثير من الحالات وتصبح ذات دلالات عمومية  ، يرى فيها كل نظام هجاء لسواه! وكل مجتمع تحريضا على غيره! ولكن تداول القصائد السياسية ذات الأفق الشعبي كقصائد النواب وأحمد مطر لها دلالات على التعطش للحرية والعدل والديمقراطية ، ولا شك أنها تستثمر ما ينتاب القصيدة الجمالية –كقسيم لها – من غموض واختلاف يبلبل مناظير القراءة وأفق التلقي المتكون في حاضنات شفاهية وخطابية تقليدية.
ربما كان للقصيدة السياسية برنامجها الوطني والجمالي. واقتراحها الصلة بالمتلقي – أو الجمهور بحسب خطابها – دليل بحثها عن مزايا إنسانية يجدر توفرها في الشعر كنتاج روحي،  ولكن بطريقة يومية ومباشرة كثيرا ما تتجاوزها الوقائع الشعرية وجماليات التلقي.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
                                        قصيدة النثر وحجاب التلقي
 
 
 
 
 
 
الحجاب والجدار
لعل أبرز إشكالات قصيدة النثر وسوء قراءتها يأتي من دورها في تلخيص سؤال الحداثة ومصيرها وبلورة فعل التحديث بعد سلسلة رضات ومحاولات تجديد  لامست شكل القصيدة غالبا  ،أو تطوير  أغراضها ومعانيها ، لكن مقترح قصيدة النثر تجاوز تلك المهمة التطويرية (= تحريك الأغراض والمعاني) ،والتجديدية( =الشكل الخارجي للقصيدة )، إلى جوهر الكتابة الشعرية من حيث هي معرفة وصلة بالعالم عبر وعي خاص ومختلف،وبرؤية تحديثية تنسف تماما  كل ما استقر في ذخيرة القراءة ذاتها من تصورات عن مفاهيم الشعر وتشكلاته البنائية وعلاقته بالأجناس الأخرى، وفي المقدمة منها قسيمه ( نقيضه ؟)الأزلي : النثر.
من هنا سينشأ ذلك الحجاب الذي تنبه إليه شاعر غير مؤثر على صعيد النسل الشعري في جماعة (شعر) هو جبرا إبراهيم جبرا الذي رأى متوافقا مع عبارات هيوم وجود  حجاب بيننا وبين وعينا ، فكان على قصيدة النثر لا التنبيه على الوعي الجديد بالشعر فحسب بل على  ضرورة وجود وعي شامل داخل ذات المتلقي وجهازه القرائي.
إن  الحجاب المفترَض يوصَف  بالجدار أحيانا ، لأن الحجاب يشف والجدار يعزل  ، والحجاب يقترح صلة بصرية بينما الجدار يحجز ويمنع أي شكل للصلة ،  فالحجاب يغري بمغامرة التعرف والتواصل  ، فيما  يلغي الجدار وجود الشيء ولا يمنحه حيزا في التصور..
ومما يزيد هذا الجدار الحاجب كثافة ًمقدرة قصيدة النثر على أن  تتمدد وتتسع خارج الشعر ،والجدل حول ماهيته ، وصولا إلى وجوده ذاته وكيفياته الممكنة وضمنا حول الحرية والموت والعدل والإنسانية عامةً ،  فكان سؤال الوجود واحدا من أبرز الأسئلة التي تقدمت بها لتجاوز ذلك الحجاب الجداري المفترض ، فهي إذن لا تتحدد بالمهمة الشعرية للشعر ، بل تُعنى باكتشاف العالم ومواجهته ورفضه ، وعلى أساس هذه المناكفة والمناوأة سيتحدد موقع شاعر قصيدة النثر نفسه فتكون قصيدة النثر  بتعبير واحد من كتابها الأوائل ومشاغبيها المبكرين (أنسي الحاج): عمل شاعر ملعون ونتاج ملاعين وبنت عائلة من المرضى .( 1)
اللعنة والمرض هما تسميتان مشاكستان وصادمتان لمظهر من مظاهر الوعي الوجودي الممكن بالقصيدة  النثرية ، وتجسيد لكونها تجربة داخلية ولانهائية تكمل القانون الحر لقصيدة النثر الذي يستلزم وجود الشاعر الحر أيضا.
وهكذا تتسلسل دورة وجود متلازمة قوامها التغير:
عالم متغير..
 شاعر متغير..
شعر متغير..
قصيدة نثر(2)
 
إن وجود الشاعر في العالم  ، والقصيدة في الشعر ، والنثر في القصيدة، ليس تراتبا رأسيا يتم بعفوية في التسلسل الآنف  ، بل هو تلازم وجودي يشترط كل عنصر منه وجود الآخر كضرورة لوجوده ، فالعالم المتغير باتجاه الحرية يستلزم وجود شاعر مماثل في رغبة التغير ، وكذا وجود الشعر خارج قوانين الثبات والتحجر، ثم  ولادة قصيدة النثر شكلا ذروياً ونتيجة حتمية أو متوقعة لذلك الوجود في سلسلة المتغيرات .
 
المهمات الجمالية
ولكن تلك المهمة المعرفية المتسعة عن المهمة التقليدية للشعر، والمتباعدة عنها في الهدف والتكوين اللغوي والإيقاعي والدلالي ،ليست فنية فحسب يتعهد الشاعر بإنجازها ، بل هي مهمة جمالية أيضا تبرز بحدة على مستوى التلقي ، لأنها تثير أسئلة القراءة الحديثة أيضا وتلتفت إلى جملة من الثنائيات بصدد الشعر ، كاللغة إزاء لغته، والمعنى إزاء دلالته  ، والواقع إزاء سياقه والموسيقى إزاء إيقاعه  ، والجمهور إزاء متلقيه ، لتنبني عليها ثنائيات أخرى ذات موقع مهم في النظرية الشعرية ،  كالنوع المعزول والأنواع المتآزرة، والشعر والقصيدة ، والقصيدة والسرد ، والتفاعل والانفعال ، والقراءة المحدودة والتلقي الحر .. وأنا الشاعر وأنا القارئ  ، وسواها مما لم يكن على لائحة النقد النظري العربي المنشغل تاريخيا بثنائيات تقليدية ،  كاللفظ والمعنى ، والنثر والشعر ، والالتزام والحرية، والفرد والمجتمع، والموسيقى الخارجية والداخلية ..وغيرها من المحددات والمظاهر المشيرة إلى البقاء ضمن الدائرة المتصورة مفاهيميا عن الشعر كتعبير وانعكاس لغوي وصوري عن الجماعة  ، وما كوّنته عن طبيعة الشعر أو وظيفته وأشكاله.
ولكن الاهتمام المتأخر بالذات القارئة وماهيتها يجيب على أسئلة وجود الحجاب على مستوى التلقين ، فالفرد يصبح  مخزنا أو مستودعا للتجارب التي بتكرارها ضمن النوع نفسه تصنع ما يعرف بأفق الانتظار أو التوقعات الذي يشير إلى نظام ذاتي مشترك أو بنية من التوقعات ونظام من العلاقات وجهاز عقلي يستطيع قارئ افتراضي أن يواجه به أي نص(3 ) وهو ما يحدده آيزر حين يتحدث عن توجهات ذات القارئ  الذي يحاول من خلالها توفيق تجربة  النص الحالي غير المعروفة حتى الآن  مع مخزونه الخاص من تجارب الماضي (4) .
بهذا المقياس تصبح القراءة حجاباً لأنها تحتكم إلى ما استقر بالتكرار النوعي والنصي  ، فالنصوص تنزع في العادة غريزيا إلى تأكيد انتمائها النوعي إلى الشعر بإعادة اشتراطاته ومزاياه ، بينما يقيم المتلقي حجاب وعيه مستنفرا ذخيرته ومعرفته بالشكل كما وقر في نفسه وشكّل تصوره عنه بتجربته القرائية المتصفة بالتماثل  ،لأنها  جزئية  ، و جمعية ،  وذات جذر شفاهي ، تقايس على موجود ، وليس على المنخلق حديثا من معدوم غير متعين في الذاكرة ،  وذلك سيجعل الحجاب جدارا يعترف بالعجز عن مواجهته دعاة قصيدة النثر الأوائل(5).
وسنرى بصدد قصيدة النثر وشرعيتها خاصة  أن الاحتكام قد  تم إلى  التلقي العام لها،(6) لا الخاص المرتبط بتغير الأفق وتعديل موضع القراءة ، وهو ما يمكن أن يوجد في التلقي النقدي حين تكون قراءة الناقد الخاصة هي المعوّل عليها.
ولكن التعارضات بين التلقي والقصيدة النثرية  ستنشأ كذلك من مقومات ذاتية خاصة بالقصيدة،  وأخرى موضوعية تتصل بسياقات التلقي وموضع أو موقع المتلقي أو القارئ التقليدي الذي نحاول استعارة وصف محمد العباس للذائقة وصفا تقريبيا لذائقته – أي ذائقة  القارئ –  فهي تنمو في ظل وعي مسيّج  بالروادع  والزواجر والخوف والتوتر و بؤس الحساسية (7) ،
فمن التعارضات الذاتية يرد اسم قصيدة النثر ومصطلحها المستفز والقائم على جمع متنافرَين في ذاكرة القارئ : الشعر والنثر، حتى لتصبح مقولة : الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا  ، بلسان شاعر من جيل تال هو عباس بيضون ذات صيغة تساؤلية: هل الشعر شعر والنثر نثر ولن يلتقيا؟(8).
 
 
البلبلة الاصطلاحية وفوضى التسميات:
 
لاحظ الغربيون أنفسهم كما لوحظ في النقد العربي   أن مصطلح القصيدة النثرية المترجم عربيا (قصيدة النثر) قد اشتمل على خطأ جسيم لكنه  شاع واستقر، رغم أنه مقلق وغير دقيق وتراجع عنه مجترحوه  أنفسهم (  9  )لأنه قائم على اتحاد المتناقضات كما يتصورها المتلقي  ،وذلك لا يعكس حقيقة الكتابة الشعرية الحديثة التي انضوت تحت هذا التصنيف ، لأنها لا تؤاخي أو تجمع الشعر والنثر  ، بل تستثمر ما في النثر من استرسال وطلاقة وسعة لتجد فيه ما هو شعري ،  فيكون المجيء إلى النثر من منطقة الشعر والجذب إليها لا خارجها.
وعلى هذا الخلط الاصطلاحي نشأ الخلط الأخطر في المفهوم فاكتسب الجدار التقبلي  صلابةً  و ازداد كثافةً وسُمكاً ، وصار السؤال عن حقيقة شعرية قصيدة النثر  لا عن شرعيتها فحسب ، وتكرس ذلك المأزق التقبلي بسؤال الشكل الذي يصفه ميشيل ساندرا في كتاب حديث عن قراءة قصيدة النثر بأنه شكل متناقض يدعو إلى السؤال عن كنهه المتمثل في اتحاد المتناقضات (10) وهو اتحاد لا يتقبله المتلقي بيسر ، كما ستزعجه مؤاخاتها السرد والشعر واقتراض القصيدة آليات القص كالتسميات والشخصيات والأمكنة والأزمنة ووصف العاديات والحوار وغيرها.. مما أربك المنظور القرائي لمتلقٍ لم يتكيف مع الاسترسال المتاح شكليا فيها ، وكذلك لم تتشكل مخيلته على أساس هذه التعيّنات والتجسّدات السردية رغم أنها مجتلبة لا بطابعها القصصي بل بتوظيفها لتعزيز الشعر في القصيدة ومجافاة الغنائية والتهويم الصوري والشعوري المجرد ، وتعتمد الاتكاء على المحكي لإبراز نبرتها الشعرية دون الالتزام بالانضباط السردي على مستوى ضمائر السرد ومواقع الرواة ووجهات النظر وسواها من مستلزمات السرد التقليدية.
وتأتي الخلخلة في التلقي من جهة أخرى في تقنيتها ،  فقصيدة النثر تتقدم بمزاج جديد يوصف بأنه قائم على السخرية (   المتخذة شكل المحاكاة الساخرة ..) (11) وذلك ينعكس على هيأتها الخطية وتشكلها الجسدي على الورق فهي تقترح السطر بدل البيت وتشيع ما يسميه كمال خير بك (النمط الفوضوي في التنقيط والتوزيع وتمزيق وحدة الجملة )( 12)  ونضيف إليها توزيع النص نفسه بطريقة عبثية كأن تتوازى الفقرات بجانب بعضها أو تبدأ من يسار الصفحة نزولا إلى أسفلها أو تنقطع بالصور والتخطيطات والإشارات ، مما يوقع المتلقي النسقي في حيرة وارتباك لأنه لا يجد الوضعية الممكنة للاتصال بالنص ومتابعة نموه وتصاعد بنيته .
و لكن ذلك صار جزءا من تكوين القصيدة ذاتها ،وهو ما سيدعو المتلقي النقدي المتخصص بقراءة الشعر للانتباه للعتبات والموجهات المتحكمة في قراءة القصيدة كالعناوين وطاقاتها الدلالية و تناصاتها والفواصل والفراغات والبياض وسواها.
وتنضاف لتلك الحجب الجدارية لغة قصيدة النثر القائمة على مغايرة للأنساق المعروفة في التراكيب والأساليب، فالاستفهام مثلا يأتي معكوسا كما في بيت أنسي الحاج:
تجيئين كيف لا أبالي بك(13)
فقد أصبحت الجملة ثلاثية التركيب أسلوبيا :
خبرية: تجيئين
استفهامية مبتورة بسبب تأخير الأداة: كيف
منفية : لا أبالي بك
فيما يريد الشاعر الاستفهام والنفي اللاحق فقط.
ويمكن التمثيل لهذه الاختراقات اللغوية في مواضع كثيرة من قصائد النثر لدى أنسي الحاج كما رأينا  ،و لدى آخرين من شعراء قصيدة النثر(14).
وعلى مستوى الإيقاع تنشأ مشكلة تلق كبرى لعلها من أكثر المشكلات الاتصالية حدةً ، فالمتلقي يقوم بفعل القراءة بحثا عما يؤكد مفهومه للشعر وموسيقاه المتحصلة تحديدا من الوزن وموسيقاه التي تعززها أنظمة التقفية في نهايات الأبيات الشعرية للقصائد حرةً أو عمودية ، وهذا المقترح الإيقاعي غير المتعين بحدود ذات ملموسية كالجهاز العروضي الجبار والمكتمل والمنضبط لا يدخل في الثقافة الموسيقية للمتلقي، فيقوم الجدار ثانية على أساس هذه المخالفة التي تعترض  حتى  ذائقة قارئة خاصة وشاعرة كنازك الملائكة  التي تصف ذلك بطريقة مفصلة وبسيطة)بعض المطابع تصدر كتبا تضم بين دفّاتها نثرا طبيعيا مثل أي نثر آخر، غير أنها تكتب على أغلفتها كلمة (شعر ) ويفتح القارئ تلك الكتب متوهماً أنه سيجد فيها قصائد مثل القصائد ، فيها الوزن والإيقاع والقافية، غير أنه لا يجد من ذلك شيئا وإنما يطالعه في الكتاب نثر اعتيادي …وسرعان ما يلاحظ أن الكتاب خلو من أي أثر للشعر ، فليس فيه بيت ولا شطر، وإذن لماذا كتبوا على الغلاف إنه شعر)(15).
تلك الخلخلة العميقة لمنظور المتلقي وأفق انتظاره المخيب بما تهبه نصوص قصيدة النثر من صدم لتوقعاته التي لخصتها نازك في الاستشهاد السابق ستكون من المعيقات الأساسية في عملية تلقي قصيدة النثر ، فالفجوة بين المتوقع من توجيه مصطلح ( شعر) و( قصيدة) وما تقدمه النصوص الحديثة ستتعمق بالمغايرة والتجاوز والتخطي التي صارت لافتات وشعارات اكتسبت في الخطاب الجديد –وهو خطاب يسهم في صياغته الشعراء أنفسهم لاسيما أدونيس وأنسي والخال – قدسية تماثل شعارات السياسي ، بل سيكون لهذا الخطاب كما للقصائد ذاتها محمول سياسي خاص يركز على الحرية ويربطها بالتدمير، فيتحدث يوسف الخال في مقالات مبكرة عن (الطغيان السياسي في مجتمعاتنا العربية)(16) ويرى أنسي أن التدمير أو التخريب من أول واجبات الشعر(17)ويصفه بأنه حيوي ومقدس لمواجهة الشاعر الرجعي والقارئ الرجعي ، ولا يمكن للتلقي العام أن يفك ارتباط كلام كهذا عن خطاب ليبرالي سائد في زمن صعود المد اليساري والقومي  ،والنظر إلى مثل هذه الدعوات بريبة وشك يصلان مستوى التخوين أحيانا ، فأصاب المتلقين الخوف من هدف المشروع كله ، ومن ستراتيجيات النصوص المنتمية لقصيدة النثر ما تشيع من أجواء الحرية المفتقدة على مستوى المخيلة واللغة والدلالة أيضا.
وسوف يقترن الكفاح السياسي ضد قصيدة النثر من القوميين و ليساريين   بالشعارات السائدة لاسيما صلة الشعر بالجمهور الذي يسخر منه الخال حين يمثل  للشاعر الذي يصبح بسهولة ( محبوب الجماهير) بمن فيهم المراهقون وينسب للشعر الموزون المقفى التلاعب بعواطف الناس (18) ولكن الحلقة الأهم في هذا التباعد عن مفهوم الجماهير والحاجة لشعر ودوره ووظيفته ذلك الجدل حول الغموض والعسر والانغلاق الملتصقة في عملية التلقي بالنماذج المتاحة من قصيدة النثر ، و يرى الخال متابعا إليوت  أن ذلك اعتقاد مسبق يضع القارئ في جو معيق(19)  أي أن الغموض ومرادفاته ليست من جماليات النص الحديث بل من أوهام المتلقي قبل التماس المباشر مع النصوص ، وهنا تبرز أزمة التناقض في الخطاب النقدي لجماعة شعر خاصة حيث يكون الغموض في أدبياتهم أحيانا ميزة للنصوص الحديثة ويعزون القصور للمتلقين في عدم فهمها بينما يذهب الخال إلى نفي الغموض ذاته ناسبا توهم وجوده إلى فكرة مسبقة لدى المتلقين عن تلك النصوص.
 
تناقضات ذاتية :
 
وليست هذه التناقضات وحدها تتحكم في الخطاب النظري لدعاة قصيدة النثر من روادها الأوائل، فالصلة بالجمهور ذاتها تتسم بذلك التناقض ، فكيف نفسر محاولة تقريبهم اللغة الشعرية  من لغة الشعب –يتساءل كمال خير بك- وهم يزيدونها غموضا في النصوص (20)،  و سيتضح  ذلك التناقض بحدة حين تشيع الدعوة للكتابة بالعامية  المحكية وإدخالها قبل ذلك في قصائد النثر.
ومن التناقضات نذكر الموقف من التراث قبولا ورفضا ،  ومن الغرب الذي سيصبح من ينابيع التجربة الحديثة ، وربما مثّل بيان الحداثة لأدونيس  -1979ذروة ذلك التناقض في المسألتين، من حيث فك ارتباط الحداثة بالزمن ليندرج فيها شعراء وقصائد من عصور ماضية ، ومؤاخاة الغرب دون الموافقة على التعارض بين الشرق والغرب ، ولكن البيان نفسه  ينعى على الشعر العربي المعاصر ظاهرة  التأسلف -أي انشد اده  للماضي والقوالب المنمطة والمستقرة  ، و كذلك لما يسميه التمغرب – أي الانطلاق من الإحساس بتفوق الغرب  والاستلاب إزاء منجزه(21)،ولكن البيان نفسه يمثل متباهيا ومحرضاً باختراق الشعراء الغربيين لتراثهم وارتكازهم على ثقافات أخرى  (22) ، وهذا يوضح الارتباك وعدم تبلور نظرة أو رؤية كافية لهذه المسألة المعرفية خارج إطارها الشعري أعني صلة النص فحسب بالتراث والغرب
ولقد امتلك كتاب قصائد النثر الشجاعة الكافية لنقد ذواتهم في مراحل مختلفة(23) كنقد أدونيس لكيفية فهم الشعراء لحداثة الغرب واقتصارها في الوعي العربي على ما تضمنته من أبنية وتشكيلات لغوية دون رؤية الأسس النظرية والعقلية الكامنة وراءها ، أو بارتباطها العضوي بالحضارة الغربية .
ولكن ذلك لم يخفف من ثقل  جدار التلقي وإزالة  سوء الفهم والقراءة ، ويمنح الطمأنينة للمتلقي بصدد قصيدة النثر التي – إلى جانب عدم تغيير أفق تلقيها بما يلائم فرضياتها النظرية وأسسها الإيقاعية وطبيعتها النصية -عانت من عيوب داخلية يمكن أن نسمي منها :تضخيم الذات وتكبير الأنا وتجسيمها ، وتعالي خطابها على المتلقي وافتراض جهله غالبا ،وتداخل المهمات والمطامح الفنية –الشعرية- بالواجبات الاجتماعية فمن حيث أراد كتابها رفض المهمة الاجتماعية وإصلاح الواقع بالشعر قاموا بنقد مجتمعاتهم وأسندوا للقصيدة مهمة التغيير والبناء، ومن حيث رفضوا مفهوم الجماعة وانضواء الشاعر كفرد تحت مسمياتها ، راحوا يعبرن عن كونهم ممثلي الضمير المعاصر والحياة الجديدة .
إن خطاب قصيدة النثر سيظل مصطدما بجدار التلقي ،  وكذلك نصوصها ما لم يلتفت المتلقي إلى خصائصها النصية،  ويعدل أفق تلقيه وتحليله وفحصه لها وفق كليتها أولا ، وتلازمها العضوي الكامن وراء ما يبدو أنه فوضى بنائية ،  و ملاحقة ما تولّد من  إيحاءات ودلالات لا المعاني المباشرة ، وكونها قصيدة قراءة تخاطب عبر جسدها الورقي عين المتلقي لا حواسه الأخرى،وبذا تتشكل عيانيا لا سمعيا أو موسيقيا، وأن لها مفاتيح قراءة وجماليات لغوية وتصويرية وإيقاعية جديدة مستفيدة من السرد والفنون المجاورة للشعر.
لكن عوامل كثيرة تتداخل في إعاقة التواصل التقليدي مع قصيدة النثر والتقبل الكامل لنماذجها كما يعكسه التكتل الذوقي الذي يعبر عنه الجمهور، ولكن الرهان الآن على القارئ  الفرد لكون قصيدة النثر تجربة فردية  ،وعلى القصيدة ذاتها وما تنجزه الأجيال الجديدة في تعديل قوانين الشعر وأنساقه ولغته وإيقاعاته حتى ليعزوا النقاد اغترابها إلى شبابها (24) قياسا إلى ضخامة الجسم الشعري العربي ومتانته المتكونة عبر القرون التي كتبت بها القصيدة بالنمط التقليدي الذي صار جزءا من هوية وشخصية وميراث ، يغدو الخروج عليها مروقا،  كما أن التمسك بها أصالة و وطنية، وكذلك الموقف  من اللغة الشعرية المجسد في  اعتراض شعراء الجيل الثاني في الحداثة على ما أسماه عباس بيضون  في تقديمه لأعمال أمجد ناصر الشعرية (السيولة اللغوية.. التي  تستحضر اللغة كلها والقاموس كله) بمقابل اللغة المحدودة والجزئية التي لا تنتشر سديميا بل تتكون بؤريا وحواريا متمثلة في  ما يقدمه من يسميهم بيضون شعراء الطور الثاني في القصيدة الحديثة (25).وهو ما وصفه سركون بولص في ملاحظات ختامية على أحد دواوينه ب(الوثبة الشعرية التي تريد أن تعبر بالقول إلى الجهة الثانية من الكلام ) (26).بينما يظل موقف المتلقي عند الجهة الأولى التي تنتج فيها اللغة صورا ومجازات تصطف تجاوريا لتؤدي المعنى ، ولا تخدم الدلالات التي وصفناها بالاتساع والتمدد في القصيدة النثرية ،وإذا كان سركون يصف في ملاحظاته تلك يوسف الخال بالأب وأدونيس بسيد الهجرة في أقاليم الليل والنهار فإنه يؤكد استمداد الأجيال التالية من تجربة الرواد الأمر الذي يعقّد موقف التلقي حيث يكون على المتلقين التواصل أيضا مع تجربة الجيل الأول وصولا إلى تطويرها وبث الحيوية فيها لدى الجيل الثاني ،وإغنائها موضوعيا في شعر الأجيال التالية المتكونة في مناخ لا جدلي وغير صراعي  ،  إذ بدؤوا كتابة قصيدة النثر بعد أن استقر موقعها  في الشعرية العربية المعاصرة ،  رغم عدم حسم كثير من إشكالاتها الفنية وإيقاعاتها بوجه خاص، وتباين الموقف النقدي منها بشكل حاد رفضا وقبولا(27).
الموقف النقدي:
وربما زاد الموقف النقدي من تعقيد عملية التلقي حيث يقترح ناقد مثلا قراءة قصيدة النثر بكونها جنسا ثالثا عابرا للأنواع إلى جانب الشعر والنثر(28).وذلك يؤجل  تحقق التلقي المنشود ، ويرهنه ببلورة هذا الجنس الإبداعي المقترح الذي عانى الضبابية والغموض كمصطلح ومفهوم وهو نوع ضمن جنس الشعر بأعرافه الراسخة في التلقي، فكيف ستتم الصلة به بناء على هويته السرابية المقترحة؟
إن السعي لخرق جدار التلقي لا يؤتي نتائجه سحريا ، بل باكتمال التفتح الثقافي والمعرفي للقراء، والارتقاء بفعل القراءة بعيداً عن الاجترار والتقليد، والاعتقاد بخصوصية القصيدة وسط الكيان الشعري الكبير الذي يلتهم وجودها لصالح وجوده ويلقي بها إلى حكمة جمهوره الذي يصد كل تغيير ينال البنى والهيئات التي استقرت في ذاكرته.
و إذا ما تحققت ظروف التلقي المناسبة والإعداد والتأهيل المطلوب للقارئ فستجد قصيدة النثر مناخاً مناسبا للتواصل والتفاعل مع نصوصها وخطابها ، ولكنها لن تجد القبول المطلوب في سياق القراءة التماثلية التي تحتكم إلى الثوابت التي قامت قصيدة النثر أصلا  -وبجهود نصية متلاحقة من أجيال  شعرائها الجدد – على هدمها والخروج عليها.(29)
تجربة مجلة شعر ومأزق التلقي
 
لم نعد نعرف تحديدا  مَن الذي أطلق على مجموعة الشعراء الذين التمّوا حول مجلة (شعر ) منذ انطلاق عددها الأول ببيروت  شتاء عام 1957 وصف ( جماعة شعر) مرسّخاً بذلك مغالطة فكرية كبيرة ، كون مصدريها وأصدقائهم (نخبة) لا ترضى بنعتها بالجماعة ،  ولا أن توصف بالإجماع ، بل كان التفرد والتجاوز والرفض هي أكثر شعارات المجموعة استفزازا و أشهر راياتها إعلاناً ، ولربما كان الخروج على الجماعة والعرف الشعري المستقر هو أفضل ما حلم هؤلاء بأن يوصفوا به.
ولكن ما فعلته تلك النخبة الصغيرة وبأعداد محدودة وسنوات قليلة ترك –في مسار الشعرية العربية- بَصمةً واضحةً وشديدة الأثر لم تتهيأ لمجلات أطول عمرا ،  وتصدرها مجموعات أكثر تأثيرا ونفوذاً ، و رغم أنها جاءت في سياق ثقافي غير مناسب لقبولها ، إذ لم  تكن قد استقرت بعد الحركة الأخف منها ثورية وتغييراً – أعني حركة الشعر الحر بالمقترح العراقي الذي قاده الشعراء الرواد نازك والسياب ومن تلاهما من المجددين: البياتي وعبدالصبور وحجازي  ونزار وخليل حاوي وسواهم… والتي لم تكن بمطالبها الفنية والجمالية وبرنامجها الكتابي تغفل اشتراطات الشعرية العربية الموروثة بصدد الوزن والقافية و وجودهما ولكن بكيفيات مختلفة وهيئات متنوعة في القصيدة الجديدة .
أمّا أن تظهر بعد ذلك بحوالي ثماني سنوات دعوة  لهجر القافية والوزن تماما ومؤاخاة النثر والشعر معا في (قصيدة نثر) تعتمد إيقاعات لا مرئية أو محددة  ، فهو ما لم تكن الأذهان والأفهام مهيأة له ، فضلا عن نداءات المجلة وشعرائها بشأن  التمحور حول اللغة ، وهجر الموضوع والمعنى ونبذ الالتزام بالقضايا العامة ،  و عدم مراعاة فهم الجمهور ،ولقد كان ذلك مبعث هجوم على المجلة والمجموعة ومشروعها (قصيدة النثر) من أطراف متباينة المناشيء والاتجاهات والحاضنات الفكرية ، من الماركسيين والقوميين وحتى المجددين من رواد حركة الشعر وأتباعها ، ولم تخرج حجج الرافضين عن الدعوى باستحالة جمع الشعر والنثر في قصيدة، وبأن هذا الذي تنشره المجلة نثرا غامضا ، وتقليدا للشعر الغربي ، ومظهر عجز (الشعراء )عن الكتابة بالوزن أو جهلهم بها..
كان أبرز  شعراء المجوعة وكتابها  في المجلة يوسف الخال وأدونيس وتوفيق صايغ وأنسي الحاج وشوقي أبو شقرا وعصام محفوظ وجبرا ابراهيم جبرا ومحمد الماغوط وخالدة سعيد وفؤاد رفقة ورياض الريس ثم ليكون قريباً منهم رغم المحافظة على الكتابة بالشعر الحر شعراء مثل السياب الذي كان يراسلهم وسواه من ضيوف المجلة والمنتدى أو الخميس الشعري الذي تعقده المجلة.
لم يكن الخصوم وحدهم سبب توقف المجلة الأول خريف عام 1964 ، بل كانت المجموعة ذاتها تعاني مشكلات داخلية ، اعترف ببعضها يوسف الخال –رئيس التحرير في بيان التوقف الأول ، ومنها حاجز اللغة بين المجلة وقرائها وبين قصيدة النثر والمتلقي، ولكن التوليف الفكري للمجموعة وتباين منطلقاتها رغم التمامها الظاهري حول المشروع  كان سببا أكثر أثرا في التوقف وتعثر المشروع التحديثي، الأمر الذي تغفله كثير من الدراسات التي تناولت تجربة المجلة ومشروعها ،رغم اعتراف أفراد المجموعة نفسها بذلك ، فجبرا إبراهيم جبرا لا يصنف كتابته الشعرية ضمن ( قصيدة النثر ) بل يسميها ( الشعر الحر ) بالمصطلح الغربي السليم الذي ينطبق على شعر والت ويتمان، ويدرج شعر توفيق صايغ والماغوط ضمنه ،  وهو ما نبّه إليه الدكتور عبدالواحد لؤلؤة في دراساته المبكرة حول قصيدة النثر ، بينما ينتمي عدد من شعراء المجموعة لميراث قصيدة النثر الفرنسية ذات التمركز اللغوي وإغفال المعنى ، مقابل إنتاج علاقات لغوية غريبة وبنى صورية صادمة –كما في شعر أنسي الحاج وأبي شقرا، ومن الجماعة من لم يهمل الوزنية تماما مثل فؤاد رفقة. أما في المنظور الرؤيوي فثمة متدينون ودنيويون، إليوتيون وبودليريون، وفي الموقف من التراث هناك من يصرخ ويصرح بأنه لا تراث له وأنه خارج الموروث كله، بينما تفرد المجلة وبتأثير مباشر من أدونيس صفحات من كل عدد لمختارات من الشعر العربي القديم ،  كانت نواة قراءته المعمقة للموروث الشعري التي نتج عنها كتابه المهم ديوان الشعر العربي.
ولعل أكثر الجنايات التحديثية فداحة هو ما بشّرت به المجلة بحماسة غريبة لأفكار سوزان برنار في أطروحتها عن قصيدة النثر من بودلير حتى أيامنا، وليس الخطأ في تبني أفكار برنار والقوانين التي استقرأتها من متابعة التحدبث في أدب لغتها الفرنسية ، بل في التلخيص المخل والابتسار الذي صنعه كتاب المجلة لتلك الأفكار والصنمية التي منحوها لها.
لم تغب عن عقل محرري المجلة وأصدقائهم تلك التباينات فراحوا يمهدون لأرض مشتركة لتقبل تجاربهم المتنوعة ، فاهتموا –كل عدد- بتقديم ترجمات مطولة لشاعر غربي حداثوي ، ولم يمنع تباين الحاضنات الفكرية لهم من الالتقاء حول سلالة متمردة، ترضي القادمين من الثقافة الإنكلو-سكسونية كجبرا وصايغ والخال، والفرانكفونيين كأدونيس وأنسي الحاج وأبي شقرا ،كما حرصوا على تقديم الثقافة المتنوعة لا الشعرية فحسب ، فظهرت الاهتمامات بالتشكيل والدراما في إشارة لحاجة  قارئهم الجديد لتلك الفنون المتواشجة في كتابتهم الشعرية.
لكن ذلك لم يخفف الهجوم على المجلة التي اتهمتها نازك الملائكة مثلا مجلة تصدر ببيروت ( بلغةٍ عربية وروحٍ غربية) وبأن تجارب شعرائها ونصوصهم( بدعة غريبة) حتى استحال معنى كلمة شعر عندهم  كما تعتقد( إلى التعبير عن النثر) واستفزها بخاصة وضع المجلة كلمة ( شعر ) على كتب ترى نازك أنها تحوي نثرا لا شعرا كديوان الماغوط (حزن في ضوء القمر).
ولعل إصدارات المجلة وجوائزها التي فاز ديوان السياب( أنشودة المطر) بإحداها  عام  1960دليل طموح المجموعة والمجلة ،  إذ لم تكتف بالإصدار الفصلي لها أو بالندوات وتعدت ذلك إلى المنشورات التي تحمل اسم( دار شعر)  الحاضنة للمجلة.
ولأن (شعر) ليست مجلة بالمعنى المهني والحِرَفي ، فقد ظل- حتى بعد توقفها –  مناخها الذي أشاعته في الشعرية العربية،  وتواصلت تجارب كتّابها وشعرائها وتوسع أفق قراءة قصيدة النثر وكتابتها ، ولعل تعثر المجلة كإصدار ونجاح قصيدة النثر كمشروع يثير مشكلة تلقٍ وتداول غريبتين، إذ لم يحصل أن تتوقف المجلة بقرار من محرريها ثم تعود ثانية للصدور لتتوقف نهائيا ، بينما يتسع مشروعها ويكتسب شرعية واعترافاً من المؤسسات الاجتماعية والأدبية وحتى الأكاديمية.
أمثولة مجلة (شعر) في الشعرية العربية كتابةً ونقدا وقراءةً تستحق التوقف والدراسة بعد مضي خمسين عاما على الشرارة الأولى التي أشعلتها التوجهات النظرية والنصوص والرؤى التي زخرت بها المجلة ،  رغم سنوات حياتها القصيرة التي استمرت بعد توقفها ،  وظلت مجال خصام ونقاش دليلاً على أهمية ما جاءت  به وخطورته وحيويته.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
الهوامش والإحالات
 

  • أنسي الحاج : لن ،ط2، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت 1982، ص21.
  • نفسه، المقدمة ، ص.19
  • روبرت هوليب: نظرية التلقي-مقدمة نقدية ، ترجمة الدكتور عز الدين إسماعيل ، النادي الأدبي الثقافي بجدة ، 1994،ص156.
  • فولفجانج إيسّر:فعل القراءة –نظرية في الاستجابة الجمالية ، ترجمة د. عبدالوهاب علوب،ا لمجلس الأعلى للثقافة، القاهرة .، 2000،ص162.
  • ( أمام جدار اللغة تقف حركة الشعر الحديث) يوسف الخال ،الحداثة في الشعر ، دار الطليعة ، بيروت 1978، ص82. ،
  • رشيد يحياوي:الشعري والنثري-مدخل لأنواعية الشعر ،اتحاد كتاب المغرب ،2001، ص52.
  • محمد العباس:ضد الذاكرة-شعرية قصيدة النثر، المركز الثقافي العربي،، بيروت-الدار البيضاء،2002،ص29.
  • عباس بيضون : نقلا عن محمد العباس ، ضد الذاكرة،ص55.
  • فصلت ذلك في كتابي ( ما لا تؤديه الصفة) ، دار كتابات ، بيروت 1993، ص33 وما بعدها ، وثمة إشارات إلى نقد أدونيس لمصطلح ( قصيدة النثر) الذي يقول إنه هو نفسه من اقترحه ، ويستبدل به في التقديم  الموجز لأعماله الشعرية مصطلح (كتابة الشعر نثرا)، ولا يستقر عليه ، ينظر: أعمال الشعرية الكاملة ، ط4، بيروت 1985،ص5 وما يليها.
  • يشيل ساندرا، قراءة في قصيدة النثر،ترجمة د. زهير مجيد مغامس، وزارة الثقافة ، صنعاء2004،

ص118.

  • نفسه،165.
  • كمال خير بك:: حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر، ترجمة لجنة من أصدقاء الكاتب،دار الشرق،بيروت 1982، ص150-151.
  • أنسي الحاج : لن، وفيه نماذج كثيرة لهذه الكتابة القائمة على تقطيع متعمد للجملة .
  • يدرس الظاهرة بتفصيل وتمثيل كمال خير بك ، ويعدها من الملامح الجديدة في كتابة القصيدة ، حركة الحداثة ، سابق ، ص 150 وما بعدها.
  • نازك الملائكة : قضايا الشعر المعاصر، ضمن الأعمال النثرية الكاملة ، الجزء الأول، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة2002، ص189.
  • يوسف الخال : الحداثة.. ، سابق ، ص11.
  • انسي الحاج : لن ، سابق، ص14.
  • الخال،97
  • نفسه82
  • كمال خير بك : حركة الحداثة ..، سابق،ص115.
  • أدونيس : بيان الحداثة ، ضمن كتاب( البيانات) ، تقديم محمد لطفي اليوسفي،سراس للنشر، تونس1995،ص24.
  • نفسه،27
  • نفسه، ص58 .في الملحق المكتوب للبيان الأول بعد ثلاث عشرة سنة.
  • محمد العباس ، ضد الذاكرة ، سابق، ص 84.
  • عباس بيضون : سندباد بري،مقدمة للأعمال الشعرية ، أمجد ناصر،المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت –عمان2002،ص13-14.
  • سركون بولص: إذا كنت نائما في مركب نوح، دار الجمل ، كولونيا1998، ص153.
  • مازال هناك من يصف قصيدة النثر بأنها جلطة أصابت قلب القصيدة وأنها نوع مخاتل ، ومجرد كلام ، ومطية لمستسهلي الشعر، ومحض بلبلة وفوضى..تراجع مادة قصيدة النثر في موقع google))على الانترنيت مثلا ، بينما يرى آخرون أنها قصيدة المستقبل وأن ارتباط الحداثة وقصيدة النثر من البديهيات النقدية.دراسة مالك المطلبي:باتجاه الشعر الحداثي، مقدمة لديوان إشارات مقترحة لنصير فليح ،الاتحاد العام للأدباء  والكتاّب في العراق، بغداد 2007،ص3.
  • د.عزالدين المناصرة:إشكاليات قصيدة النثر، نص مفتوح عابر للأنواع، المؤسسة العربية للدراسات ، بيروت –عمان2002.
  • في كتابي ( حلم الفراشة –الإيقاع الداخلي والخصائص النصية قي قصيدة النثر)، وزارة الثقافة، ط1 ، صنعاء2004، نماذج وتحليل واستنتاجات بصدد نصوص الأجيال اللاحقة في الكتابة الجديدة بقصيدة النثر ومنها نصوص لأمجد ناصر وعباس بيضون وجان دمو وسركون بولص وزكريا محمد وصلاح فائق ومحمد حسين هيثم وعلي المقري ولينا الطيبي وباسم المرعبي وسواهم، لكنني هنا أعاين الإشكالات الجمالية الناجمة خاصة عن التلقي خاصة ..

.ورقة مقدمة إلى ندوة قصيدة النثر وحجاب التلقي- المجمع الثقافي-أبو ظبي-   2008              
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
                                           قصيدة القراءة وشعر الجمهور
-أعراف تلقٍ وشعريات متغيرة –
 
 
 
 
 
 
 
– 1-
يمكن القول بصدد علاقة الشعر بالجمهور بأنها كانت موضع استيلاد شعريات مختلفة على الدوام…
ذلك أن الجمهور بكونه كتلةً متنضدةً بشكل فئوي، له أعراف خاصة وجماليات يحاول أن يقيس من خلالها شعرية الشعر ويحكم على انتماء النصوص إلى ما استقر في وعيه وذخيرته من أشكال وأساليب يحاول ترسيخها، لأنها تغدو جزءاً من هويته وإحدى مكونات تلك الهوية، لما ارتبط بالشعر من مهمات اجتماعية كاعتبار الشاعر لسان قبيلته مثلاً والمعبّر عن شخصيتها والمدافع عنها..
وكذلك تُسند إلى الشعر مهمات أكثر تحديداً ذات طابع أخلاقي أو عقائدي حين تكون الدعوات إلى الدين والإيمان به قد برزت وظيفة الشعر الدعوية وترسخت مهمته الأخلاقية حتى وهو يقف في الضد من تلك الدعوات، كما سيكون للشعر دور في الانقسامات السياسية والصراع الحزبي حول السلطة عبر التاريخ، وهو دور يزيد من صلة الشعر بالجمهور كجماعة ذات فكر محدد..
وقد ظل الجمهور زمناً ليس بالقصير قياساً لجوهر وحقيقة الشعر كفن مرتبط بقضايا كبرى تهم الجماعة التي اتخذت اسم (الجمهور) وذلك بمقابل (الشعر) كجنس مقابل للنثر، له أعراف مستقرة وشروط فنية ثابتة، استقرت وثبتت عبر اتخاذها كيفيات فنية في الشعر الموروث، كما غدت جزءاً من تميز شعر أمة عن أخرى وتراث شعب عن آخر.
هنا يصبح التجديد مطلباً مشبوهاً لأنه يُفسَّر ابتداءً بأنه (تنكر) لتلك الهوية وذلك التراث، وتترتب على الشاعر وشعره مهمتان في هذه الحالة: تكريس القواعد الموروثة في الفن الشعري من جهة، وخدمة (ذوق الجمهور) والتحسب لفهمه وتأويله حتى عند كتابة الشعر من جهة أخرى.
وإذا كانت القبائل والجماعات والدعوات الأخلاقية والأحزاب قد صممت شكلاً جمالياً ثابتاً لصلة الشعر بالجمهور، فإن (السياسة) في تاريخ العرب المعاصر، وكثير من شعوب العالم، خلقت نوعاً من الصلة لا تقل اتباعية وانقياداً من تلك، فصار (الشعر) متصاغراً باعتباره نتاج (ذات) فردية إزاء قوة الجماعة أو الجمهور والضمير الجمعي فتم الربط مثلاً بشكل آلي( عبر نظرية الانعكاس) بين الشعر وقرائه؛ وكان الافتراض السائد هو أن الشاعر يستلهم ويستمد موضوعاته من حاجة الناس أو المجتمع أو (الجمهور)، هذا على مستوى المضمون، أما شكلياً أو بنائياً فعلى الشاعر أن يصوغ قصائده بشكل مبسط ومفهوم لا تعقيد فيه كي يفهمه الجمهور المكتوب الشعر أصلاً من أجله؛ لذا كانت مطالب بعض النقاد تصل إلى حد استعادة القانون التقدي القديم القائل بأن أفضل الشعر ما كانت معانيه تسبق ألفاظه إلى الأفهام والآذان.
وهذا لا يتحصل إلا إذا كان (الشعر) نفسه يلبي ما في توقع الجمهور وهو (يستمع) إلى (منشد) يلقي شعره (إلقاءً).
هنا تصبح عملية قراءة الشعر جمعية لا فردية، لذا أضع شخصياً الشعر بمقابل الجمهور، بينما تسعى النظريات النقدية الحديثة المنطلقة من حاضنات فلسفية جمالية تُعلل اللذة المصاحبة لقراءة الشعر إلى أن تصنع (الذات) القارئة بمقابل (القصيدة) التي هي وحدة نصية تنتمي إلى النوع الشعري وجنس الشعر عامة لكنها ذات خصوصية صياغة وجمالية ولإيقاعية ودلالية تتطلب قراءة خاصة بما تضيف أو تعدل من ثوابت الشعر في نفس المتلقي.
 
 
– 2-
تعالج نازك الملائكة في كتابها (قضايا الشعر المعاصر) وهو من الكتب الأولى في نقد (الشعر الحر) والتقعيد له، قضية الشعر والجمهور في باب خاص بعنوان(الشعر الحر باعتبار أثره) تتوقف في فصله الأول عند مسألة (الشعر الحر والجمهور) معترفة بمقاومة (الجمهور العربي المستمرة والصريحة) لحركة الشعر الحر رغم قيامها (على أساس راسخ من العروض العربي) كما رصدت رد فعل الشعراء على هذا الموقف الرافض للشعر الحر داعية إلى عدم التهجم على الجمهور وإهانته ومهاجمة مقدساته، مُتَعلّلة بأن هذا الجمهور
(( لا يعدو أن يكون أحد اثنين: إما أنه متأخر في ثقافته ووعيه الشعري والأدبي وذوقه.. بحيث لا يستطيع أن يصل إلى فهم حركة جديدة مازالت تبدو له غامضة، وإما أنه محق في رفضه لهذا الشعر لسبب وجيه ما)).
والملاحظ هنا أن نازك لا تريد أن تفرط بالجمهور أو تجعل عداءه للتجديد سبباً في مجافاته، وتلتمس له الأعذار في موقفه من التحديث، لكنها في إشارة لاحقة تلقي اللوم على الشعراء أنفسهم( وما يقعون فيه من أغلاط) وتنتبه إلى أن موقف الجمهور له عوامل عديدة منها ما يتصل (بكل حركة مجددة تقابل جمهوراً ذا تراث قديم وأصيل).
ولعلها عند هذه النقطة تضع يدها على عامل مهم في موقف (الجمهور) وفي تكون أو تشكل وعيه إزاء الظواهر الجديدة في الشعر. فهذا (الجمهور) يستمد موقفه من ذلك (التراث القديم الأصيل) وهو ما نفضل تسميته بالجسم الشعري المتين المتحصل من الكمّ الهائل من الموروث الشعري عبر تاريخ الشعرية العربية، وذلك يعطي مناعة ذاتية ودفاعات قوية ضد أي (جديد) أو (غريب) يقترب من هذا الجسم فيرفضه..
وهذا ما تنبه إليه علماء القراءة ومنظّرو التلقي حين عدّوا القارئ مستودعاً للأعراف الشعرية والقواعد التي تتكون منها (ذخيرته) بسبب (خبرته) بالنوع الشعري وما ترسخ في وعيه من أعراف يقوم على أساسها باختيار انتماء أفراد النصوص المقروءة لذلك النوع الذي يتكون بواسطة قراءة نماذجه المتراكمة ما يسمى بأفق انتظار القارئ الذي كثيراً ما يبحث عما يوافقه و يطابقه، بينما تقوم الشعرية في النظريات الحديثة على مدى ما يقدم النص من خذلان لأفق انتظار القارئ وانزياح عن مألوفه اعتقاداً بوجود أفق آخر يصنعه النص نفسه ويتسبب في هذا الرفض أو الإهمال للنصوص المخترقة لمألوف القارئ الذي هو خلية أو وحدة مصغرة لوعي الجمهور نفسه، غذ ليس لهذا القارئ (ذات) خاصة به بمقابل ما يقرأ من (نص) أو(قصيدة) بل هو يجتر أعرافاً مشتركة، وينتج معرفة وذوقاً هما انعكاس للجماعة أو الجمهور..
ستعيد نازك بعد هذه المقدمة القصيرة أسباب مقاومة (الجمهور العربي) للشعر الحر إلى( ثلاثة أصناف  من العوامل) منها ما يتصل بطبيعة الشعر الحر نفسه واختلافها عن الأسلوب الشائع في شعر الشطرين، ومنها ما ينشأ عن ( إهمال الشعراء الذين ينظمون الشعر الحر..). ونلاحظ أن الصنف الأول من العوامل هو الذي يمكن أن نشتق منه أسباباً معرفية وفنية وجمالية يتكون على أساسها (موقف) الجمهور من الشعر الحر؛ فالطبيعة الخاصة التي يؤكد عليها مقترح (الشعر الحر) لا توافق الأفق السائد للقارئ المتكون بوعي الجماعة و (تراثها القديم الأصيل) الذي يرتفع ليغدو جزءاً من (هوية) يتمسك بها الفرد والجماعة معاً كما أشرنا في المقدمة.
لكن نازك تسهم في (تكريس) فكرة (الجمهور) وتبعية الشاعر لأفق تلقيه حين تطالب مثلاً بالمحافظة على (شكل) الشعر عند كتابته حتى لو كان مترجماً إلى العربية عن لغة أخرى، كي لا يختلط بالشعر الشطري أي الحر الموزع على أسطر في كل منها بيت مستقل، بينما تريد نازك أن يكتب المترجم القصيدة المنقولة إلى العربية بشكل متصل دون تقطيع سطري أي كما تكتب القصة أو المقالة.. وهذا يفسر من بعد مطالبتها بإخراج (قصيدة النثر) من جنس الشعر واقتراح كتابتها نثراً متصلاً …
وأرى في مناقشة نازك لعلاقة الشعر بالجمهور مطلباً تراجعياً ومحاولة لتطمين أفق انتظاره وإرضائه دون صدم أو بلبلة لمنظور هذا الجمهور، وكأن نازك نقضت في شرح الأسباب ما كانت شخصته في إجمال تلك الأسباب والعوامل؛ إذ رأت أن (موقف الرفض) يعبر عن نمط من التفكير العام الذي يقابل به الجمهور- أي جمهور- كل حركة مجددة، ومنها حركة الشعر الحر، وهو ما يمكن أن نسحبه نحن إلى موقف الجمهور من (قصيدة النثر) أيضاً، لكن نازك بدلاً عن الدعوة لتغيير أفق الجمهور وتعديله بما تقترح النصوص الجديدة تذهب إلى تخطئة تلك المحاولات المعدّلة والمحورة والمجددة في شكل النص وتوزيع كتلته على الورق؛ فضلاً عن دعوتها من بعد إلى عدم تجاوز الإيقاع المعهود لدى القارئ (أو الجمهور) والمتكون عبر خبرته وتراثه والمتحدد بالتفعيلات والقوافي.. بل نراها تناقش بدر شاكر السياب بصدد توزيع جمله الشعرية في أبيات وأشطار ترى نازك أن حقها الكتابة كجمل متصلة، مدافعة بذلك عن (وحدة البيت) واستقلاله وتقديمه لمعنى واحد موحد، فترى مثلاً أن توزيع الأبيات الخمسة الآتية يحدث (التباساً) لدى القارئ لأنها مكتوبة بهذا الشكل:
أود لو أطل من أسرّة التلال
                                             لألمح القمر
                                     يخوض بين ضفتيك يزرع الظلال
                                              ويملأ السلال
                                       بالماء والأسماك والزهر
وهذا الاعتراض سوف يكون أشد قوة عند مناقشة نازك للتدوير في الشعر الحر ورفضها للقصيدة المدوّرة.. فهي تعيد حجتها حول لإيقاع القصيدة المستمد من وحدة معناها واستقلال البيت الشعري وعدم خلق (الالتباس) لدى القارئ، فهذا القارئ يصعب عليه أن يقرأ (شعراً مدوراً) وتبرر نازك ما تسميه (شكوى الجمهور العربي) من أن الشعر الحر يلوح له نثراً
لا وزن له، وبلاً عن تربية ذوق هذا (الجمهور) وتعديل منظوره وأفقه، ترى نازك أن التدوير واستمرار معنى البيت وبنية الجملة الشعرية إلى أشطر تالية يسهم في (إرباك) القارئ؛ أي أن نازك تقر بوحدة البيت واستقلاله بمبناه ومعناه كما كان النقاد العرب القدامى يقترحون ويقررون ذلك الاستقلال؛ كما تستجيب في جانب من رفضها للتدوير إلى دوافع شفاهية وعوامل تتصل بإلقاء الشعر لا قراءته، فترى مثلاً أن التدوير (غير سائغ ولا مقبول لأن الغنائية في تفعيلات الشعر تفقد حدتها وتأثيرها) والتدوير( يتعارض مع التنفس عند الإلقاء) وهذا يعيدنا إلى فترة ارتباط الشعر بالإنشاد فالمُنشد بحاجة إلى إعادة التنفس بعد فترة محددة قد تتعارض مع الطول والاستمرار والامتداد التي يفرضها التدوير المقترح أصلاً لشعر مكتوب (يُقرأ) ولا (يُلقي) أو (يُنشد) بالضرورة، إلا إذا كان تدويراً عروضياً بسيطاً كما في القصيدة التقليدية؛ وليس بناءً أو هيكلاً كلياً لما يعرف بالقصيدة المدورة.
ذلك مثال لما يمكن أن تتسبب صلة (الشعر والجمهور) بالتضحية بعوامل فنية وجمالية مهمة، ولما يمكن أن تسببه من تعطيل طاقة التجديد ووتائره .
 
 
– 3-
     لكنني عند هذه النقطة من بحثي أصل إلى أن (الجمهور) ليس هو الرأي الشعبي العام  المتلقي جمعياً للشعر؛ والرافض له بسبب كثافة أو متانة الجسم الشعري المتكون عبر تاريخ الشعرية العربية، بل قد يكون (الجمهور) هو الرأي (النقدي) أو (الأدبي) المتسيّد لا على فكر الجماعة التي انتحلت لها نازك الأعذار بتأخرها المفترض عن وعي الشعراء أنفسهم؛ بل على فكر (الخاصة) من المهتمين بالشعر ودارسيه ومؤرخيه ومدرسيه ونقاده..
هذا (الجمهور) الخاص أكثر خطراً في ظني على الشعر من (الجمهور) بمعناه العام والمشترك والجمعي.. ذلك أن لدى (الجمهور الخاص) ذرائع وأسباب وحججاً أكثر قوة وذات جانب معرفي وإيديولوجي أشد وعياً من الجماعة المتخفية والمتضمنة في اسم (الجمهور)..
إن (الجمهور) الخاص يستند إلى معرفة وإيديولوجيا وذلك يجعل اصطفافه متيناً يصعب اختراقه، لذا يكون رفضه للتجديد حاسماً ومبرراً؛ يعطل اتساع مساحة التجديد ويحد من أثره.
يغدو مصطلح (الجمهور) هنا ذا إيحاءات وظلال ودلالات اعتقادية ويقينية، تصبح مخالفتها خرقاً وخروجاً وباطلاً؛ لأن المصطلح يعيد إلى الذاكرة سلطة (الجمهور) ورأيهم في مسائل الفقه خاصة والخلافات حول النصوص والأحكام وكذلك يمس اجتهادات المفسرين ورواة الحديث، فإذا كان (الجمهور) على رأي ما أو قراءة أو تأويل، فإن ذلك يلغي أية قراءة أو رأي أو تأويل لا يتفق وما ذهب إليه الجمهور.
وتتضاءل هنا التوصلات الفردية والقراءات الشخصية والاجتهادات فضلاً عن غلق فضاء التأويل عبر فهم خاص للمتن المؤوَّل، وذلك يقفل- بالضرورة- باب القبول بها لدى (العامة) أو المتلقين والمقلدين مادام (الجمهور) أو النخبة الخاصة في هذا العلم قد اتفق أفرادها على (رأي) أو (أجمعوا) عليه، فصارت له بذلك سلطة أو سطوة يصعب- ويستحيل أحياناً- تجاوزها.
أن انتقال فكرة (الجمهور) وترحيلها إلى صلة الشعر بالجمهور المتلقي ستعمل على تمجيد دم الجسم الشعري فنياً؛ وخمول-أو كسل- فاعلية وطاقة التلقي جمالياً؛ كما تراكم- على مستوى- تبدلات أعراف الأجناس والأنواع الأدبية واستحداث شعريات جديدة- مزايا وخصائص تتحصن خلفها قناعات وثوابت تصبح شيئاً فشيئاً مصدّات ومحددات لأي تجديد أو تحديث…
بالمقابل تَستَثمر هذا التجمد والثبات خطابات تنتمي إلى ماضي الفن الشعري وتفرض تصورها لصلته بالجمهور كمقدم خدمات أو ملبّي طلبات لا تعدو مهمته تقديم أفراد من النصوص- القصائد- تندرج في وعي (الجمهور) وما استقر في تصوره النظري البسيط لآليات فن (الشعر) كمهمة جمعية يحرس ثوابتها ويقننها أفراد نخبة الجمهور…. هنا سيتكرس (الشعر) ركاماً من النصوص التي لا تميز بينها؛ لأنها تلبي قياساً واحداً مسبقاً ثابتاً؛ فيما تختبئ وتختفي (النصوص)- القصائد- لأنها تندرج في وعي (الذات) الغائبة والملغاة من عملية التلقي الجماهيري.
 
– 4-
     لقد كان إبعاد نظرية (الأثر) أي قيام الشعرية على الأثر الذي يتركه النص في متلقيه؛ مناسبة لشيوع نظرية (القصد) أي الاحتكام إلى (المقصدية) التي تسبق الكتابة والقصد من النظم، كالدعوة إلى أن يكون الشعر حصراً هو الكلام الذي (يُقصد به الوزن والتقفية) أما إذا اتفق ذلك على غير قصد فلا يُعد شعراً.. وقد خدم ذلك المفهوم للشعر ما كان دائراً من جدل حول وزينة بعض الآيات القرآنية أو عدّه شعراً؛ فالقصد يبعد تلك الشبهة عن الملفوظ القرآني حتى إن جاء- مصادفةً- على وزن من أوزان الشعر؛ كما تبعد تلك النظرية أية نصوص قائمة على الإشراف والتجليات الذاتية المجردة والمناجيات الروحية كما في النثر الصوفي خاصة..
ويلاحظ أدونيس (أن هناك توافقاً بين القصد الذي يدفع الشاعر الجاهلي لتأليف قصيدته، والقصد الذي يدفع الجماعة أو القبيلة لسماعها).
وهو يوسع مفهوم (القصد) ليكون تداولياً أو على مستوى تلقي الجمهور المتمثل في الجاهلية بالجماعة أو القبيلة؛ فالجمهور له أعراف  تلقي خاصة تنطلق هي أيضاً من (القصد)، كما أن الشاعر يحركه هذا المحّرك عند النظم، فيتهيأ الجمهور(قصدياً) وبالجماليات المستقرة في وعيه لاستقبال (شعرٍ) ذي إيقاع خاص وبُنى وتراكيب وقوالب صياغة تتكرر حتى تغدو من أساسيات الاستماع للشعر وتمييزه عن سواه.
وفي ظل الدين الجديد تفترق طرق الشعر لكنه يحتوي عند كل طريق فريقاً من المؤمنين المنافخين عن الدين، وآخرين وقفوا ضد الدعوة ومبادئها فكان لهم جمهورهم الذي يعبرون عنه..
وإذ تشتد الخلافات السياسية بين المسلمين ينقسم الشعراء إلى ممثلين لأحزاب هي في حقيقتها ذات جمهور لا يمثل الشاعر لهم (ذاتاً) خاصة أو (أنا) فردية؛ بل هو كذلك لسان لهم أو معبر عن ضميرهم الجمعي، ويكون شاعر كل حزب معبراً بشعره عن ذلك الجمهور ومجتهداً في مطابقة ذاته أو أناه الجمعية التي لا ذات له أو أنا خارجها.
وتستمر نشأة الشعريات المختلفة في بداياتها والمتفقة في تفريعاتها لتصل إلى الانقسام القومي والمذهبي أحياناً؛ فيظل الشعر ملتصقاً بجمهور منقسم أيضاً يرى في الشعر معتقده ومبادئه التي ستتكرس فيما بعد في الشعر الوطني مثلاً في حالات الاحتلال الأجنبي للبلاد العربية أو في ثورات الشعوب من أجل حريتها واستقلالها ضمن مناخ التحرر والاستقلال والبحث عن الهوية والذي ساد العالم في عصر النهضة الحديثة المؤرخة بنهايات قرن وبدايات آخر سيشهد حربين طاحنتين عالمياً في نصفه الأول، فتشهد صلة الشعر بجمهور يريد ما يوحده إزاء الموت والخراب ولتنشأ بعد ذلك دول ومحاور وتحالفات ولتنتشر الأفكار الجديدة التي تختلف في مناهجها وعقائدها لكنها تتفق في توظيف الشعر تحت مسميات (الالتزام) و (الفن للحياة) و(الأدب للمجتمع) وسواها مما جاء محايثاً- أو منعكساً عن- الفلسفات الكبرى في السياسة كالماركسية والقومية والدينية والليبرالية وسواها.
الجمهور دوماً هو (الوسط) الذي يتجه إليه الشعر محمّساً أو مبشرّاً أو مشجعاً؛ ولكسب هذا الجمهور أو تكريس معتقده يخدم الشعر أغراضاً كبرى وموضوعات أثيرة تتكرر فيها التراكيب والبنى والإيقاعات  والدلالات والصور غالباً.
إن ذلك يتم غالباً على حساب المبنى والفن الشعري نفسه؛ فيضيف بسبب الانكشاف والتوجه إلى هدف أو غرض واضح؛ وتغيب خصوصية النصوص أو القصائد لأن الذات المنتجة لها هي ذرة في كيان كبير هو المجتمع الذي يأخذ مظهر الجمهور ويطالب بأن يفهم ما يقال شرط أن يكون المقول في أساسه مفهوماً ومنكشفاً.
 
-5- 
     كثير من سيرورة أو تاريخ الشعرية العربية قديماً وحديثاً يشي بالتهام (الشعر) للقصيدة وتضاؤل جُرمها إزاء مجرته وهمومها إزاء انشغالاته الكلية وغياب خصوصيتها إزاء كليته وأعرافه..
ولقد مرّ بالنقد الأدبي العربي زمنٌ اقترح فيه النقاد حتى البحور والأوزان الملائمة للأغراض الشعرية؛ واقترحوا مداخل وخواتم للأشعار؛ وكرَّسوا صوراً بلاغية لا يجوز تجاوزها- في البيان والمعاني خاصة لدى البلاغيين التقليديينواستقر ذلك كذخيرة وخبرة ونموذج لدى (الجمهور) المتقبل يقيس به وعليه ما يطرأ من أشعار فيرفض ويقبل بناءً عليه..
وهذا يفسر ما عاناه الشعراء المحدثون في عصور العرب الغابرة وفي تاريخهم الحديث والمعاصر أيضاً..
ولعل أبرز تلك المعارك والمنازلات باسم الجمهور وفَهمه وحاجته وخدمته هو ما دار حول مهمة الفن والأدب وصلتهما بالحياة والمجتمع والإنسان؛ فاتجه (الجمهور) في نخبة النقاد الإجتراريين إلى حصر مهمة الفن والأدب بملامسة ما يرون أنه واقع أو حياة الناس، واقترحوا كيفيات فنية مناسبة لذلك؛ حتى صار للشكل كما للموضوعات قدسية لا تخترق.. وهكذا تعثر مشروع حركة الشعر الحر مثلاً ثم قصيدة النثر وتباطأ انتشار أثرهما.. والحجة دوماً هي أن(الجمهور) لا يفهم الملفوظ الشعري الجديد أو أنه مصدوم بالمقترحات الجديدة التي جعلت الشعر عسيراً صعباً.. متناسين أن ذلك هو قدر الشعر: أن يكون نخبوياً لا بمعنى الترفع والتعالي على الأَفهام العامة؛ بل لأن نظامه الخاص وبناءه وشعريته تقوم على خصوصية فنية تتطلب قارئاً خاصاً؛ ليس متعلماً فحسب؛ بل متسلحاً بشيء مما تتسلح به النصوص الجديدة ذاتها.. فهي تربكه- أي القارئ- لأنها لا تندرج في كرسي أو تتكرس في نضدٍ متشابه يسهل عليه حلّ شفراتها بناء على خبرته السابقة، بل هو يفاجأ بكل نص ويتوقف عند كل قصيدة ليدمج أفق قراءته بأفقها المقترح؛ فتحضر ثقافة الفرد أو الذات بمقابل ثقافة الجماعة أو الجمهور التي يسهل عليها فهم الشعر المنتج من أجلها وبناء على ما استقر في وعيها من قواعد وأعراف ومضامين وأشكال تتصل به.
إنّ نخبوية الشعر فنية جمالية على مستويي كتابته وقراءته.. وذلك لا يلغي إنسانيته أو اجتماعيته أو وطنيته؛ بل هو ينمي بخصوصيته وتبدلاته الأسلوبية الحسّ الإنساني لدى الفرد ومن بعد لدى الجماعة ذاتها كما يسمح منظور التحديث في القصيدة باستيعاب اللغة اليومية والشخصيات والمواقف دون سلطة مسبقة لنموذج محدد.. وأثبت شعراء الحداثة مواقفهم تلك في مواجهات كثيرة: اجتماعية وسياسية ووطنية دون أن تفقد قصائدهم اشتراطات الفن ومتطلباته..
 
-6-                                   
     ستكون لمقولة تلقي الشعر عبر تقبل نص أو قصيدة بديلاً جمالياً جاءت به نظريات النقد الحديثة كمقترح يخفف الحمولة الإيديولوجية والاجتماعية لمقولة الصلة بالجمهور، فصار القارئ هو المتلقي الذي انتقل بالفن الشعري والكتابة الجديدة من بقايا مرحلة الشفاهية التي يحكم فيها على النصوص بقدر انتسابها للنوع الشعري نفسه، إلى مرحلة استثمار سطح للنص وموقع القارئ كمتلقٍ له بسبب تغير قناة التوصيل ذاتها، فصار التلقي بصرياً لا سمعياً، ذاتياً لا جمعياً، كتابياً لا شفاهياً، وأعني هنا ابتعاد المهمة الخطابية وغياب المباشرة عن نصوص الحداثة لا سيما في حلقاتها المتتابعة ما بعد الريادة الشعرية الأولى..
سيكون (المتلقي) أو القارئ تعبيراً عن المشاركة في ملء فراغات النص واستكمال وجوده الفعلي بالحفر في طيات معانيه المختفية وراء أبنيته المتغيرة والمتجددة..
ولقد قرر علماء الكتابة ودارسو المرحلة الشفاهية وكما يلخصّ ذلك أبرزهم وهو والتر اونج أن (القراء الذين تتحكم عقلية ذات بقايا شفاهية في معاييرهم وتوقعاتهم، يرتبطون بالنص على نحو مختلف تماماً عن القراء الذين يكون حسّهم بالأسلوب حسّاً نصّياً خالصاً).
والنصّية المقصودة هنا هي تعديل أفق التلقي ليستلم القارئ ملفوظاً نصّياً ضمن عمل منفرد هو القصيدة ليشتق أعرافها وشعريتها، وبذا يكون المتلقي أيضاً قد ترك أو هجر بقايا الشفاهية التي تدخل في كثير من أحكامه القيمية والجمالية السريعة على القصائد احتكاماً إلى جرسها ومناها الواضح وكليتها وفهمها دون عناء.و هكذا يتضح تلازم إشكالية الجمهور والشفاهية وتمدد ضررها لتعطل وتأثر التحديث وتفقدها وسطها المتلقي أو تشوش عملية التلقي التي يمكن لها وحدها أن تكون بديلاً لسلطة الجمهور التي ظلت تتحكم في تاريخ الشعرية العربية زمناً طويلاً.  
.الورقة المقدمة إلى ندوة الإبداع الشعري –القاهرة-المجلس الأعلى للثقافة-فبراير 2007.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
                                    مداخل مقترحة لقراءة شعر محمود درويش
 
 
 
 
 
1– تعاقب الوقائع وتداخلها
 
ليس الموت هو المدخل الوحيد لقراءة شعر محمود درويش ، رغم كونه واقعة مكتنزة بالدراماتيكية كلحظة مصيرية أو قدرية ، وجدناها تحف بدراسة شعره كما أطّرت الخطاب الجنائزي المتصل برثائه لحظة غيابه القاسية والموجعة. ورغم الإشارات الهائلة التي كانت قصائده ترسلها بمضمون الموت وتنويعاته كموضوع أزلي و  كتوجيه قوي من موجهات القراءة لا سيما في العقدين الأخيرين ومنذ إصابة الشاعر بمرض القلب وإجراء عمليتين خطيرتين رصدهما وأطل من خلالهما على موته  كلحظة ميتافيزيقية يقود إليها حدث مادي  ، و المغزى العبثي للحياة والموت وتعاقبهما  الحتمي الذي صار في حالته تداخلا  يمسح احدهما الآخر ويتيح حضوره متزامنا مع نقيضه، أي كانت ثمة إفاقة من الموت المؤقت أو الطبي بفعل الغيبوبة وإمكان الابتعاد في المجهول الذي تسميه الأساطير وتصفه بالعالم الذي لا يعود منه الأحياء تحرسهم الظلمة والوحشة وتطرد عنهم ما يزعج سكونهم ، بمقابل استذكار أو إعادة تمثيل تلك اللحظة كحضور بعد انقضاء كابوسها،  وهو ما حاول محمود درويش بلغته الفريدة وصوره التي تنتجها مخيلة في أقصى درجات التوليد ، وذاكرة تعمل بطاقة لا تبارى أن ينوع مفرداتها ليعطيها خصوصية وتفردا.
 
2– ميتات  هوميرية
كثير من الشعراء رثوا أنفسهم لكن محمود درويش يوسع الجانب التراجيدي في حادثة الموت ويجردها من تكرارها وحتميتها وقانونها الصعب ليجعلها واقعة شخصية ، موته محمول معه في الحقيبة ذاتها التي يتأبطها في المنافي التي لازمته كفكرة لم يعد له وجود بدونها .
الموت الاستباقي شعريا – تنبؤات درويش المحيرة حتى بيوم موته –سأموت يوم السبت – ورصده للحظات الاحتضار وزيارة الموت المنتظرة ، يؤازرهما ما حصل من تجربة الموت الجسدي المؤقت أو المتوقع خلال المرتين الماضيتين وتعبير الشاعر عنهما في نصوص الموت الاستعادية في قصائد مثل في غرفة الإنعاش و جدارية  ..
ولذلك كانت المراثي تنصب على حادثة الموت ذاتها وتبتعد قليلا عن تمثيلاتها الشعرية التي يهبها درويش – أو وهبها في الأصح إذا أقصيناه عن نصوصه هذه اللحظة – بعدا أسطوريا ورمزيا تتداخل فيه المراجع  ،ولكن تتقدمها النصوص التوراتية التي لم تدرس كمؤثر مباشر في تجربة محمود درويش وهذا أول ما تحيل  إليه مقترحاتنا لقراءة قصيدة درويش بمقتربات أخرى غير ما تكرر في الخطابات النقدية والأدبية السابقة التي وقعت تحت ثقل فاجعة فقدان درويش وخسارتنا بغيابه ..
كثير من الإشارات تمتزج أيضا بالتصورات التوراتية عن الموت أو استعارة أساطيرها وترميزاتها ، كما في ( مأساة النرجس وملهاة الفضة ) حيث تشير الفضة إلى عالم العدو المتربص بالنرجس ومأساته ، وهي تحيل إلى ما يحكيه الكتاب المقدس عن حقل الدم الذي اشتراه  رؤساء الكهنة بثلاثين من فضة  هي ثمن تسليم المسيح. وبعد أن ندم يهوذا ولم يتسلمها تبرع بها فرفض الكهنة ذلك واشتروا بها حقلا وجعلوه مقبرة للغرباء وسمي بحقل الدم .
–    ومنها ما هو أسطوري يستمد من الملاحم القديمة لاسيما ملحمة جلجامش وأبطال ملاحم الإغريق واليونان  -حروب طروادة كما رواها هوميروس ، لذا يستعير درويش صورة الخلود بالعمل كما  عاد جلجامش بذلك  بعد أن يئس من العثور على عشبة الخلود  :
الخلود هو التناسل في الوجود
وكل شيء زائل أو باطل ..أو باطل أو زائل
– ومنها ما هو ديني يعيد تركيب المقولات المكرسة عن الموت والبعث، فنراه يضع أشخاصه في حنين لاهب للموت لا كرها الحياة على طريقة الظلاميين بل وعدا بحياة أخرى مادامت الحياة رحلة مؤقتة نقضيها (كضيوف على حنطة الله) كما يقول ،  ثم نراه كفرد هابطا إلى عالم الأحياء مستريحا من عناء طويل بدأه منذ صباه في جب الاحتلال ،   ثم غربته الطويلة ككابوس ثقيل..إنما لا يكف عن الغناء والعشق والألم.
هكذا أتخيل ميتة محمود درويش أو حياته الأخرى أو الفصل الآتي من حياته،  فهو عاشق للحياة ، مهما تردد الموت مفردة ودلالة في أشعاره، ومهما تكوّن وعيه في التدرجات  المتصاعدة  للموت والتنويعات المختلفة لظهوره وتوزعه في صور عنيفة، لعل أشدها أثرا تجربته الذاتية في قصيدته الطويلة  ( جدارية ) التي صبغها بالبياض الرامز للعدم و الذي رآه يحيط بكل شيء حوله وهو يعيش عملية القلب المفتوح.
بل هكذا كانت ميتات أبطاله أيضا في فلسطين ولبنان وأصدقائه الذين رثاهم كثيرا، إنهم جميعا مثله يموتون من الحياة نفسها أي ينسلّون منها إلى الغياب لا من صفرة الموت والرعب الذي يلقيه ظله القاسي على الأجساد والعقول والأفئدة.
ووجوده حيا في ملحمة موته هي انعكاسات للميثولوجيا التي تتحدث عن قيامة الشهداء وللأبطال في الملاحم القديمة والأناشيد التي تتحدث عن بطولاتهم في الحياة وشجاعتهم عند ملاقاة الموت،ولا عجب أن نجد عند  قراءة درويش بمقترح التناص أن نراه يغرف من المتنبي خاصة ، ويتقنع بوجهه وصوته في أكثر من نص لعل أشهرها تلك اليوميات المتخيلة أو المذكرات المسندة إليه في المرحلة المصرية من حياته وصلته بكافور، فتعامل المتنبي مع الموت هو الذي سيقود خطى درويش ليرسم انفعالاته  أيضا في مواجهة عالم قاس وغير عادل ،
ومن القصيدة ذهبت القراءة إلى الحياة لترى أن واقعة الموت مكرت بدرويش يوم السبت فعلا ، غريبا بعيدا عن وطنه وأصدقائه..والتدقيق في تداعيات المقتبس التالي ترينا معابثة درويش للموت فهو يوسع مدى المخيلة ليلتفت حوله فلا يرى ما رآه مالك بن الريب مثلا (السيف والرمح والحصان السائر للريّ بلا ساقٍ ) والسياب ( ساعات احتضاره وحيدا إلا من بياض الأسرّة ووجوه زملاء المشفى المغادرين إلى الموت ) لكن درويش يسهر ويلهو ويشكو الوحدة والخذلان وهي القصيدة التي برز فيها صوت الرائي قويا حد توقع يوم موته في بدايتها:
صدّقتُ أني متُّ يوم السبت
قلت عليّ أن أوصي
فلم أعثر على شيء..
وقلت عليَّ أن أدعو صديقا  ما
لأخبره بأني متُّ
لكن لم أجد أحدا
3- السخريات الدامعة
ولكننا هنا نقترح مدخلا آخر أشار إليه درويش نفسه في لقاء صحفي فتمنى لو تتم قراءة شعره بمقترب السخرية ، فهو لا يكف عن السخرية الدامعة أو السوداء، وهو حزين وساخر في الآن نفسه-ولقد تمنى في إحدى مقابلاته أن تتم قراءة شعره بمفتاح السخرية التي طبعت شعره – ووجدنا لها تلاوين وأبعادا وكيفيات متعددة :
– منها ما هو لفظي قائم على الانزياح:
مضرجا بثيابهم
عادوا ليحتفلوا بماء وجودهم
عادوا على أطراف هاجسهم
وما هو منزاح عن مجانسات لفظية:
ما سوف يحدث للصقور إذا استقرت في القصور
ومنها ما هو صوري:
مطار أثينا يوزعنا للمطارات:قال المقاتل أين أقاتل؟ ، صاحت به حامل: أين أهديك طفلك ،..قالوا إلى أين تمضون ؟ قلنا إلى البحر.قالوا : وأين عناوينكم؟قالت امرأة من جماعتنا : بقجتي قريتي..
وأعمقها ما هو دلالي يختم به قصائده أو يخبئ حكمتها فيه كنهاية قصيدته ( إجازة قصيرة ) التي يقول في ختامها:
وربما أنا ميت متقاعد
يقضي إجازته القصيرة في الحياة
وتبلغ الملهاة السوداء عنفها حين يريد درويش تمثيل الحالة الفلسطينية الداخلية التي انتهت إلى اقتتال الفصائل وتناحرها دمويا فيقول:
ولنا هدف واحدُ واحدٌ واحد : أن نكون
ومن بعده نحن مختلفون على كل شيء
على صورة العلم الوطني(ستحسن صنعا لو اخترت يا شعبي الحي رمز الحمار البسيط)
ومختلفون على كلمات النشيد الجديد
(ستحسن صنعا لو اخترت أغنية عن زواج الحمام)
ومختلفون على واجبات النساء
(ستحسن صنعا لو اخترت سيدة لرئاسة أجهزة الأمن).
4- التناص : آباء النص الدرويشي
لا يخفي درويش مراجعه ولا يخفي تناصاته بعائدية زائفة بل يسمي تلك المراجع ويدل على منابعها ومنابتها ويتحرر في تطويرها أو تحويرها كما  يبني قصيدة كاملة على مقطع من أمنية الشاعر الجاهلي (ليت الفتى حجر) ويوسع دائرة اعتراف المتنبي ( وأنا الذي جلب المنية طرفه..) ويحاكي بنية المعلقات والنشيد.
والتناص لديه  ا يتحدد تقليديا باستلاق مشغّل او مولّد من نص سابق ليعيش في نصه ، بل يصل بالتناص  إلى الأجناس والأنواع كبنية النشيد، والفنون المجاورة كمحاكاة الأنغام التي يقترحها اللحن الأندلسي مرة والمشرقي أخرى ، ويحاكي نظام السونيتات وبناءها السطري والمقطعي.
وهي كلها مداخل ممكنة ومتاحة لقراءة شعر درويش قراءات متنوعة ومتعددة توازي غناه وامتلاءه اللغوي والصوري والدلالي . .
لقد كانت بدايات درويش سيّابية متأثرة بتدفق لغته ومعماره الباذخ وتحرره المقيد ،ولكنه سيلتقط بدوافع إيديولوجية وفنية كِسرات من شعر سعدي يوسف ليركن إلى الأليف واليومي زمنا ويغادره صوب قصيدة خاصة تنصهر في معمارها شتى المؤثرات حتى التراثبة منها رغم أن درويش يقرأ التراث ثقافيا ورمزيا فلا  أحسبه يرى في المعلقات النموذج الأعلى الذي لا يتجاوز ولكنه يرى فيها نظاما بنائيا غريبا يجمع ويولف بين المتنافرات ويعلي الأغراض بأبنية راقية ظلت تحمل سمة النموذج الأعلى  بما فيه من بذخ وتنوع وفخامة. تماما كما استهوته بنية النشيد الملحمي والقصيدة الطويلة .
 
5- السرد والدراما
يشخص الباحثون في قصيدة درويش دراميتها التي تتجاذب والغنائية  اتجاه خطابه الشعري ، ولكن تلك إحدى الثنائيات المتحكمة في شعره تظل مولدة للأسئلة حول التوازن الممكن بين عنصرين يبدوان متنافرين في ستراتيجيتهما الفنية : لغة النص الغنائي وموسيقاه العالية ودلالاته المباشرة والحضور القوي لأنا الشاعر،والدرامية المتطورة عن الفترة الملحمية في شعره والمستندة إلى  التعيين والتثبيت واعتماد الشخصيات والمحاورات والاهتمام بالنهايات والمصائر، وهذا العناق بين الملحمي والدرامي دعا بعض نقاده لوصف غنائيته بالغنائية الدرامية-صبحي حديدي-ولكن السرد يتطور في قصيدة درويش حتى يؤسس للسيرة الشعرية في ديوانه(لماذا تركت الحصان وحيدا) كما أغنى الجانب الدرامي في أشعاره المستفيد من العناصر الدرامية كالحوار بأنواعه والاهتمام بالمكان والزمن و الشخصية بل التسميات التي كثرت في شعره، ولعل المقطع السردي الخاص بموت المغني في( قصيدة الأرض) عن الانتفاضة الأولى للفلسطينيين ضد الاحتلال ، والمستل من حادثة حقيقية شهدها الشاعر صغيرا تبين تلك الروح الدرامية والسردية في شعره بتوفر عناصر كثيرة في مقدمتها  ضمير اسرد ووجهة النظر التي يمثلها الراوي ،  وكذلك الاستهلال الرماني والمكاني المتمثل بالوقت وأرض الحدث :
مساء صغير على قرية مهملة
ثم الشخصية والحدث والدلالة والخاتمة السردية  إلى جانب الوصف والحوار الذي يمثل بتكراره مركز توليد الدلالة وطباق أو تضاد الغناء والقتل:
يغني المغني
عن النار والغرباء
وكان المساء مساء
وكان المغني يغني
ويستجوبونه: لماذا تغني؟
يرد عليهم: لأني أغني
وقد فتشوا صدره
فلم يجدوا غير قلبه
وقد فتشوا قلبه
فلم يجدوا غير شعبه
وقد فتشوا صوته
فلم يجدوا غير حزنه
وقد فتشوا حزنه
فلم يجدوا غير سجنه
وقد فتشوا سجنه
فلم يجدوا غيرهم في القيود
لقد انتهت حركة المقطع بتبادل المواقع بحسب الوظائف الفكرية ومعتقد الشاعر بحرية السجين وصيرورة السجان سجينا .
أما نهاية المقطع فتعود بالمغني القتيل إلى الحياة ، تزامنا مع عودة الحياة للطبيعة في شهر آذار الذي يشهد القيامة الجديدة للنبات بعد قسوة الشتاء:
وراء التلال
ينام المغني وحيدا
وفي شهر آذار
تصعد منه الظلال
فالمغني لم يمت وعودته التموزية للحياة تواكب التفتح الحياتي للطبيعة ،فكان آذار رمزا من جهة وواقعا لأن  الانتفاضة  حدثت فيه يوم الأرض.كرمز إلى جانب غناه الفني.
ويمكن أيضا قراءة السيرة الشعرية لدرويش ( لماذا تركت الحصان وحيدا) لتلمس قدرته السردية وتطبيق مقترح الدخول إلى شعره عبر السرد.
كان درويش يعد نفسه راويا أو حاكيا أسطوريا يقص تراجيديا شعبه و بلده وذاته معا . لذا فالسرد عنده ذو دلالة تاريخية وفنية ، ولا عجب أن يتوفر ناثر ممتاز مثله على الحكي ليقوي دم قصيدته ويرسخ صورها ودلالاتها.
كان درويش شاعرا متعدد الرؤى والأساليب ،وليس من السهل –حتى ونحن تحت ثقل حزننا بفقده وفجيعتنا بغيابه- أن نحصره بين قوسي الولادة والموت ، فشاعر مثله تتم قراءته بين الولادة والولادة ، لأنه ذاهب إلى الحياة منها وعائد إليها بهذا الخلود الذي منحه إياه شعره، وقاد إلى قضيته ، فكانت قضية وطنه قضية شاعر لم يرض أن يكون مميزا بفضيلة اندراجه شاعر قضية فحسب…
 
 
6-استنتاجات أسلوبية من  ديوان (كزهر اللوز أو أبعد)
 
صدر ديوان محمود درويش( كزهر اللوز أو أبعد) عام 2005، كان ديوانه الأسبق ( لا تعتذر عما فعلت ) قد أدخله مرحلة أكثر هدوءا واسترسالا ، ولعله قد س شجع دارسيه على عدّه بداية دخوله مصالحة غير معلنة مع قصيدة النثر ستؤكده قصائد ( أثر الفراشة ) أيضا، لكن الرهان على نثرية الخطاب الشعري لدرويش لا ترينا حقيقة جهده في الاشتغال الدؤوب على تكريس شعرية خاصة به، هي في حقيقتها الجوهرية مزيج من معرفة شديدة الخصوصية بالشعر الذي تفيء إليه قصائده ، ووعي بمجافاة ما يدبّره الاندراج القطيعي وراء السياسي من فهرسة غير عادلة ، ربما كان الخوف منها وراء صرخته المبكرة : أنقذونا من هذا الحب القاسي ،وكان دافعا لبحثه عن صوت خاص وسط جوقة شعرية تصطف خلف شعارات ونيّات ومشاعر تبرر بها ضعفها واجترارها لما ليس شعريا ممالأة لجمهور متخيل ككتلة تستقبل ما تتركه  هيجانات الشعر من أثر، ولا تميز ما تفرزه قراءة القصيدة من دلالات.
كان درويش قد اجتاز بقدرة مميزة ذلك  الخانق الخطر بين السياسي والشعري ،  وأصبح منذ عقود ذا رؤية ذاتية تتكيف فنيا داخل قصائده لتترك ملمحا فارقا كالسّمة الشخصية أو اللمسة شديدة الأثر ، فكانت قضية وطنه قضية شاعر لم يرضَ أن يكون مميزا بفضيلة اندراجه شاعر قضية فحسب ، فكبرت به قضية وطنه المحتل والمُصادَر أرضا وهوية ، ولم يتكئ عليها ليكبر، تلك أمثولة درويشية لم يتفحصها  شعراء الإيديولوجيات المنبثقين بقوتها والموجودين بوجودها والذاهبين في عصفها وتقلباتها .
كان بمقدور قضية كبرى وعادلة كفلسطين وتداعياتها أن تلتهم شعرية درويش لو انه رضي بالسائد فكريا وشعريا ، لكنه ظل حتى آخر قصائده يبحث عما يعطي الخصوصية المؤثرة ويهب التميز، معمّقا ما كان بدأه من  صورية خيالية وسرد وسخرية وغنائية درامية وجرأة  ، ومن انقلاب حقيقي على مفاهيم القصيدة السياسية ، وهذا يفسر شكواه الأخيرة من طلبات المتلقين السياسيين نقادا وقراء: واختياره أن يصوغ المعادلة كما توفر له رؤياه من أفق ، وكثيرا ما شكا بسبب ذلك من سوء الفهم والظن ، و من القراءة ( الوطنية ) السطحية لقصائده ، تلك القراءة التي تريد ردود أفعال سريعة وتسميات واضحة وتعليقات مباشرة لا مكان لها كلها في تجربة درويش ومنظوره للشعر:
فإذا مشيت على طريق جانبي شاردا
قالوا : لقد خان الطريق
وإن عثرت على بلاغةِ عشبةٍ
قالوا :تخلى عن عناد السنديان
..وإن رأيت الورد أصفر في الربيع
تساءلوا: أين الدم الوطني في أوراقه؟
ولكن رد  درويش دوما هو التمسك برؤياه حتى النهاية : تلك التي أدركها مبكرا ، وعمّقها بما هو خاص : رؤيةً وبناء.
ثمة إشارات كثيرة في الديوان إلى تلك الخصوصية في أبنية القصائد وأسلوبية كتابتها بدءا من العنوان الذي يقوم على التشبيه ثم العطف بما هو غير نسقي،  فالكاف التي تفتتح العنوان تسحب القراءة إلى المشبه المحذوف: الشيء الذي هو مثل زهر اللوز، وتدع التأويل منفتحا على احتمالات عدة، ثم يأتي العطف ليضيف انزياحا دلاليا مهما،  فالأبعد غير منسوب هنا لمسافة بل لشيء غامض مشبه بزهر اللوز فيكون البعد مرادفا للعمق في الوصف أو التشبيه.
أما المفتتح المقتبس من التوحيدي في (الإمتاع والمؤانسة)  فيهيئ القارئ لما قلنا إنه تشجيع لقراءة نثرية لشعر درويش وإنْ لم يكتب قصيدة النثر مباشرة أو باسمها ووصفها المتواطأ عليه .
إن تصدير درويش لقصائد  الديوان بقول التوحيدي(أحسنُ الكلام ما..قامت صورته بين نظم كأنه نثر، ونثرٍ كأنه نظم) يجب ألا يأخذ القراءة بعيدا لاستجلاء مظاهر  النثري كوجود منفصل – يمكن عدّ قصيدة النثر إحدى تشكلاته -. ولكن التصدير يشجع القراءة  على متابعة النثري في ظواهر أسلوبية شدّد عليها درويش في قصائده وبلورها هنا بكيفيات نحاول التنبيه على أبرزها وأكثرها ترددا.فأدوات النظم  – إذا تبعنا تقسيم التوحيدي المؤمّن عليه بمقتبس درويش – حاضرة بقوة ، ومن أبرزها التقفية  والوزنية الواضحة.
 
وفي عودة إلى هيكلية الديوان وتنضيد مفرداته –القصائد- سنرى ان عناوين القصائد تأخذ تسمياتها من المطالع أو الكلمات التي تستهل بها ، باستثناءات قليلة( طباق المهداة إلى إدوارد سعيد ) ومنفى3..وهذا التكنيك في العنونة يرتاح إليه درويش ويضع القصيدة ومدخلها والعنوان في نسيج بنائي واحد ، وهو ما اعتاد عليه الشاعر في دواوين سابقة ، وقد أشرنا في حينها إلى المرجع الملحمي لهذه التقنية العنوانية ، فالملاحم لم تكن تعرف بعنوان مستقل بل يطلق عليها الاسم من بعد ، فكانت تعرف بمطلعها الاستهلالي ، مثل : هو الذي رأى ، وعندما في العلا ،، فالعنونة الغائبة ذات دلالة أبلغ من التعيين بالعنوان وتوجيه المعاينة البصرية لاتجاه تفسير واحد لا يهب فرصة التأويل ومتعة التخيل ، العناوين الغفل إلا من مفتتح النص نفسه  تقود إلى استكناه كلّية الخطاب المولّد لها  ، وشمولية الحالة المعبَّر عنها ، فتغدو العناوين المغيَّبة كما قال الفنان شاكر حسن آل سعيد في مناسبة مشابهة لا تمثل في عملية التفسير سوى  الأسلوب الفني نفسه.
 
العناوين الثانوية تمثل هيكلا  لأقسام الديوان أو أجزاءه التي تحتوي القصائد ، وهي في الأغلب ضمائر العائدية نحويا ( أنا ، أنت ، هو ، هي) وفي تناوبها أو تتابعها دلالة إذا عمدنا إلى الإحصاء ، فتح مجموعة (أنت) التي يبدأ بها الديوان ( 5 قصائد) وهو(5) وأنا(9) وهي(11)ولكن تفوق ضمير الغائب المؤنثة عدديا لا يعني حضورها الأشد قياسا للضمائر الأخرى ، بل هي جزء من توزيع صوت السارد على الآخرين ، لأن (هي) لا تعني صوت المرأة بل صورتها وحضورها عبر السارد نفسه الذي ينوب عنها:
لا أنام لأحلم – قالت له
بل أنام لأنساكَ
………………….
هي لا تحبك أنت
يعجبها مجازك
أنت شاعرها
وهذا كل ما في الأمر
هذا الموقع السردي للشاعر إذن هو جزء من النثرية التي يدعونا إليها في الشعر ليكون من أحسن الكلام يحسب مقترح التوحيدي المقتبس قي الديوان.
ولكن الحوار هو التقنية السردية الأكثر حضورا في القصائد، دوما يستبطن درويش الآخر ويحاوره غائبا أو حاضرا ، فضلا على الحوار الداخلي حين يتجه الحديث إلى الداخل لا بشكلٍ  تقريري بل بحوار يطرح الاحتمالات ويتبسط مع النفس أيضا ، وتصل النزعة الحوارية التي هي من معالم ديمقراطية القصيدة الحديثة وأفقها الحر الذي يرى الآخر ويستقدمه إلى النص ،إلى حد بناء نص كامل ( هو /هي) على الحوار بالطريقة المسرحية التي تنبه إلى المتحدث:
هي: هل عرفت الحب يوما؟
هو:عندما يأتي الشتاء يمسني
شغف بشيء غائب، أضفي عليه
الاسم ، أيّ اسم ، وأنسى..
وتستمر الحوارية بالطريقة ذاتها، فيما تعتمد قصائد أخرى على أسلوب الراوي، قالت / قال…
قال لها : ليتني كنت أصغر..
قالت له:سوف اكبر ليلا  كرائحة
الياسمينة في الصيفِ
ثم أضافت :وأنت ستصغر حين
تنام، فكل النيام صغار..
و يمكن مراجعة قصيدة ( ضباب كثيف على الجسر) كمثال آخر على قيام النص كله على الحوار( قال لي صاحبي..) وقصيدة ( هو لا غيره)..
…………………………………………
أو الحوار الاستطرادي الذي يأتي في ثنايا التداعيات :
 
سأوقظ موتاي : نحن سواسية أيها
النائمون، أما زلتمُ مثلنا تحلمون
بيوم القيامة..
والحوار الداخلي الذي يستبطن الأحاسيس والانفعالات ويرصدها عبر الكتابة أو تقاطعا معها في ما يشبه الحضور الميتانصي أي الظهور اللغوي لما لا يقال في النص كمتن من تعليقات أو احتمالات يعمد الشاعر أحيانا لتقويسها  أو يضعها كجمل اعتراضية بخطي الاعتراض، لكي يحس القارئ بتعارضها النصي مع المتن:
– تلك آثارنا- قال من كنته..
هاهنا يلتقي زمنان، ويفترقان، فمن
أنت في حضرة ((الآن))؟
…………………….
قلت لنفسي الغريبة في الظل:
هل هذه بابل أم سدوم؟
 
لقد اتخذنا من بنية الحوار مثالا مطولا  لاحتمال النثرية الملمح إليها في الاقتباس التصديري لكون الحوارية تقصي الغنائية التي شخصت في شعر درويش رغم وصفها بالدرامية التي طورت لتكون بنية بديلة أو مستقلة عنها.
هذا بجانب الحوار الذاتي المقوس أو المندرج في البنية النصية:
(لا أنا أو هو
ولكنه قارئ يتساءل عما
يقول لنا الشعر في زمن الكارثة).
ولا نزال نتفحص احتمالات النثرية التي تسهم في صياغة الألم في قصائد الديوان ، فنذهب إلى التفاصيل التي عني بها الشاعر بشدة وتشديد واضحين ، لقد قامت كثير من النصوص على جمع التفاصيل ولمّها في نسيج نصي واحد وربطها بذكاء وشاعرية لينفذ أثرها في المتلقي، وكثيرا ما كانت البدايات الاستهلالية للقصائد تقوم على مراكمة التفاصيل التي يهبها الانتظام النصي ووجودها الجديد في القصيدة دلالات شعرية لا تعود معها ذات معان عادية كما كانت قبل اقتراضها في النص:
مقهى ، وأنت مع الجريدة جالس
لا ، لست وحدك، نصفُ كأس فارغٌ
والشمس تملأ نصفها الثاني
ومن خلف الزجاج ترى المشاة المسرعين
ولا تُرى………
وربما انبنى جزء أكبر من النص على التداعيات الجزئية المجموعة من التفاصيل العادية كقصيدة (فراغ فسيح):
فراغ فسيح .نحاس.عصافير حنطية
اللون.صفصافة.كسل.أفق مهمل.
كالحكايا الكبيرة.أرض مجعدة الوجه.
صيف كثير التثاؤب كالكلب في ظل
زيتونة يابس.عرق في الحجارة.
شمس عمودية.
وهكذا تستمر القصيدة حتى نهايتها استثناء ثلاثة أبيات تمثل الخاتمة أو النتيجة . ويجدر بنا التنبيه هنا إلى تعمد درويش الفصل بين الكسر أو الجزئيات بنقطة ، تدل ترقيما كما نعلم على انتهاء الجملة نحويا ودلالي، لكنها مرتبطة عضويا بما يليها ، فكأنه بهذا الإيحاء بالانتهاء يؤكد ملمح التجميع لهذه التفاصيل.
ولكن التكرار يمثل بنية نصية دالة في الديوان ويتشكل بهيئات عدة مما يستوجب دراسة منفصلة ، لكنني سأكتفي بالإشارة إلى كيفيات من التكرار وأشكال تكررت لتعني التوكيد دلاليا ، ولتضفي هيئة جمالية خاصة فنيا، وهي تقرب النصوص من النثرية المقترحة لتهدئة هيجانات اللغة والصور وغنائية الخطاب الشعري عامة.
من ذلك قيام هيكل النص على تناظر يقسم القصيدة إلى نصفين بتكرار صيغة واحدة خبرية على اليمين تتابع عموديا لتقابلها صيغة التعليق على اليسار وتتابع كذلك، ( قصيدة: فكر بغيرك) بأكملها:
                                              وأنت تعد فطورك، فكر بغيرك
              ( لا تنس قوت الحمام)
                                              وأنت تخوض حروبك ، فكر بغيرك
              ( لا تنس من يطلبون السلام)
ومثلها قصيدة ( الجميلات هن الجميلات ) التي تقوم كلها على تقنية مشابهة:
                                             الجميلات هن الجميلات
              (نقش الكمنجات في الخاصرة)
                                             الجميلات هن الضعيفات
             (عرش طفيف بلا ذاكرة)…
وثمة تكرار تركيبي أي أنه يستمد وجوده البلاغي من تكرار عبارات وصيغ بهيئات مختلفة لتخلق عنصر التكرار الأكبر،ولهذا النوع تصلح قصيدة (حين تطيل التأمل ) نموذجا:
فهي مكونة من أربعة مقاطع مفصولة ببياض، يبدأ كل منها بكلمة ( حين) وتأتي بعدها أفعال ، تطيل/ ترافق/ تعد/تسير) وتنتهي مختومة  بسطرها الرابع نهاية لونية تتكرر مع كلمة قلبك( يخضر/يحمر/يبيض/يصفر) فيخلق الشاعر الدلالة بالبنية الرباعية وتكرار الزمن ( حين ) والهيئة الفعلية التالية له ثم بالنهاية اللونية ..
ويقوم التكرار على تردد مفردة يبدأ بها الشاعر جملة شعرية ليعيدها في ثنايا النص مستأنفا صورة أخرى حتى النهاية( قصيدة : يد تنشر الصحو):
يد تنشر الصحو أبيض ، تسهر
تنهى وتأمر…يد تكسر اللازورد..
.يد تتعالى..يد تسكب
البرق في قدح الشاي…يد تتذكر..
فيما تقوم قصائد أخرى على ختام المقطع بكلمة واحدة تتكرر في النهاية ( قصيدة إن مشيت على شارع):
إن مشيتَ على شارع لا يؤدي إلى هاوية
فقل لمن يجمعون القمامة : شكرا!
إن رجعت إلى البيت حيا، كما ترجع القافية
بل خلل ، قل لنفسك : شكرا!
فتقوم الكلمة بدور اللازمة مؤدية وظيفة إيقاعية ودلالية في الوقت نفسه ، مع ملاحظة التلازم الشرطي في بنية الجملة الشعرية ، أعني قيام النص على جملة شرطية قي البدء( إن..) والختام بجواب شرط واحد(فقل..شكرا)، وهو أسلوب بنائي اعتمده درويش لا بالشرط وجوابه فحسب ، بل بالجمل الخبرية في نص( الجميلات..) أو الاستئناف بجمل طلبيه (قصيدة : فكر بغيرك).
لقد توقفت دراستنا هذه عند وصف الظواهر الأسلوبية لا لتنحاز إلى المقترح أو المدخل الأسلوبي في قراءة الشعر ، بل لتتواءم مع الملفوظ النصي لدرويش في ديوان ( كزهر اللوز أو أبعد) لتأكيد المنحى النثري في خطابه الشعري ولكن بكيفيات خاصة أولا ، ولترسيخ ملامح وسمات لها تمركز شديد في أسلوبه ورؤياه وهو يسهم في صياغة الألم وتوصيله  ، لعل أبرزها السرد  بتنوعاته الحوارية والتسميات والشخصيات والعناية بالزمن والمكان ،والسخرية التي اقترح درويش مرارا أن يقرأه الدارسون بهديها والعناية بالتفاصيل حيث نجد لها كيفيات نصية ووظائف تستحق دراسة مستقلة مطولة، والاهتمام بالتفاصيل المقصودة لبناء هرم النص من تجاورها أو تعارضاتها الدلالية.
 
 
 
 
 
 
 
7- ملحق جدلي: هل كان درويش ناثرا أم شاعرا؟
 
الشعر في القصيدة.. والشعر في النثر
هذا ما كان يمكن أن يصبح عنواناً مناسباُ لهذه المقاربة التي تتوخى فحص الفواصل والعلاقات بين (الكتابة) الشعرية و(الكتابة النثرية) وهي تقوم على بضعة دوافع وحقائق سأبينها هنا:

  • في مقدمة الدوافع لهذه المقاربة مقالة الدكتور عبدالله الغذامي الموجزة: محمود درويش ناثر وليس شاعراً(1) والتي يدل عنوانها على محتواها, وهو عنوان لا يتوخى تقرير القناعة المتضمنة في مقترح المقالة, بل يمثل- أي العنوان- إحدى البنى الثقافية الصادمة التي يوجهها الغذامي في مناسبات متلاحقة إلى القناعات النقدية والنظرية السائدة, ضمن ما يسميه بالصدمة الثقافية التي دأب على خلقها محتكاً برموز ثقافية وشعرية وهدم ما شاع حولها بحجة انتمائها إلى(نسق ذكوري مرفوض) كما يصرح في أكثر من مناسبة..
  • ومن الدوافع أيضاً اللغط المثار والمتكرر حول شعرية قصيدة النثر وإمكان وجودها بهذا المزج ( (العسير) بين الشعر والنثر وهما جنسان متباعدان في شروطهما ومزاياهما.. وحتى في المقترحات التوفيقية والمعدلة يظل السؤال قائماً, وأعني هنا المقترح الذي تقدم به أدونيس إبدالاً لمصطلح ( قصيدة النثر) وهو: كتابة الشعر بالنثر أو نثراً…
  • ومن دوافع المقاربة كذلك التأكيد الشخصي على التفريق بين ( الشعر) كخطاب له عناصره ورؤاه و (القصيدة) كمظهر نصّي يتجلى عن ذلك الخطاب.. وهذا يسمح بفحص (كمية) الشعر و(كيفية) وجوده في نصّ ما كشفاً للرؤية والموقف والفن معاً.. فنحن نزعم مثلاً أن قصيدة السياب كوجود نصّي يتراكم الشعر فيها بسبب التداعيات والتفاصيل والاندفاع الفني بأكثر مما يتطلبه وجود القصيدة كمظهر شعري أو تجلّ للشعر ضمن نص محدد.

 
النظرية النقدية العربية في تاريخها ومنجزها التراثي فرَقت بين الشعر والنظم, وبين النثر العادي(النفعي) وبين الكتابة, ولم يمنع ذلك جِنْسَيْ الشعر والنثر من وجود أي منهما في متن الآخر… ويؤكد ذلك ما نصّ عليه أبرز الناثرين العرب أعني التوحيدي حين أورد في (الإمتاع والمؤانسة) رأياً منسوباً إلى أبي سليمان جاء فيه:
” والعبارة حينئذٍ تتركب بين وزن هو النظم للشعر, وبين وزن هو سياقة للحديث, وكل هذا راجع إلى نسبة صحيحة أو فاسدة, وصورة حسناء أو قبيحة, وتأليف مقبول أو ممجوج…”(2)   
فضلاً عن إشارته الصريحة بأفضلية النظم المتشكل على هيئة النثر, والنثر المتشكل في هيئة الشعر..
ومن الحقائق أيضاً: الغبن الذي وقع على النثر العربي بسبب هيمنة الشعر على المنجز التراثي وعلى القوانين المستخلصة في النظرية النقدية العربية.. وذلك ساهم في تأخير النظر والتأمل والدرس لجوانب إشراقية في النثر, وإهمال شبه تام زمناً طويلاً لفنون السرد العربي الموروث رغم تنوعها وتفوق مستوياتها وتوفر عناصر السرد فيها بكيفيات لافتة..
لكن ذلك لا يسحب نقاشنا لأفضلية النثر أو الشعر فنحن نرى أنه أحد الأبواب (المفتعلة) في النقد العربي بدليل اهتمام المتأخرين به غالباً (3) وتكرارهم للحجج ذاتها في محاولتهم إعلاء شأن النثر لأسباب دينية غالباً(نزول القرآن نثراً) وأخلاقية (خلوه من مبالغات الشعر وكذبه واستحالاته) واجتماعية ( استخدام النثر في الشؤون الرسمية ومكاتبات الدول وبيعات الخلفاء وعهودهم وتولياتهم..) وتلك أسباب أمكن الرد عليها حتى من داخل النسق الثقافي والسياق الذي جاءت فيه..
لكن تلك الدفوع والتبريرات كرّست فراق النثر عن الشعر ولم تقدمه إلى مقدمة المشهد الثقافي أو القراءة..
…………………………………………………..
 
أحاول هنا أن أقرر حقيقةً لافتة في الكتابة النثرية العربية ساهمت في تكريس تبعيته للشعر ويبرز ذلك فنياً في مظهرين:

  1. السجع في المتون السردية المبكرة (المقامة كمثال) وكونه جزءاً من بنية النوع السردي وجمالياته الموسيقية وهو في حقيقة الأمر تقليد أو نسخ لوجود القافية في الشعر.. وقد يكون السجع كما يذهب علماء الشفاهية مستخدم في النثر كعنصر تثبيتي على مستوى التأليف والتلقي معاً.. لكن اطّراد السجع بهذا الشكل يزكّي الرأي القائل بأن في كيفية وجوده في ختام الفقرات والعبارات نزوعاً إلى استعارة أو إقتراض ميزة فنية هي القافية التي توهم الناثرون أنها سبب انجذاب الناس إليه أو امتيازه وسيادته على الفنون القولية الأخرى دون أن يتنبهوا إلى أن عنصر القافية في الشعر كعامل إيقاعي قد جاء تبعاً لانتظام تفعيلات البحر الشعري المتكررة بثبات والتي تخلق الجو النغمي الخاص في القصيدة.. وأن وجود السجع في النثر يحيل إلى الملفوظ الشعري أو إلى الشعر كخطاب تحديداً وكتعبير عن رؤية للعالم والحياة والآخر والأشياء..
  2. توازن العبارات إيقاعياً وتوازيها في التركيب النثري يحيل إلى تقسيم البيت الشعري إلى صدر وعجز.. وهذا مثال من مقامات بديع الزمان الهمداني يوضح ذلك..

جاء في المقامة الأذربيجانية:
 
” فبينما أنا يوماً في بعض أسواقها, إذ طلع رجل بركوةٍ قد اعتضدها, ودنيّةٍ قد تقلَسَها, وفوطة قد تَطلَسها, فرفع عقيرته وقال: يامبدئ الأشياء ومعيدها, ومُحيي العظام ومبيدها, وخالق المصباح ومديره, وفالق الإصباح ومنيره, وموصل الآلاء سابغةً إلينا, وممسك السماء أن تقع علينا, وبارىُ النَسَم أزواجاً, وجاعلاً الشمس سراجا……..” (4)
 
إن التناظر في صوغ العبارات وتقابل مفرداتها عددياً في الفقرات يؤكد حنين المؤلف إلى محاكاة هيئة الشعر وكيفيته.. وذلك واضح في قوله:
يا                                             و
مبدئ                                         محيي
الأشياء              بمقابل                   العظام
و                                             و
معيدها                                        مبيدها
 
فالنداء(المعوض بالعطف) والمنادى المضاف, والمضاف إليه ثم المعطوف بالواو ويتناظر بل يتطابق تماماً وكأن العبارة الأولى صدر بيت شعري والثانية عجزه.. ولنلاحظ أن (ها) تمثل القافية أو تحيل إليها.. ومثل ذلك ينطبق على العبارات الأخرى في المجتزأ مثل:
(وخالق المصباح ومنيره, وفالق الإصباح ومديره…….)
ولكن ذلك الهفو إلى تقليد إيقاعية الشعر سوف يهجر بظهور التأليف النثري الإشراقي الذي ينادي مناطق روحية غائرة ولا يستعين بموسيقى الشعر الخارجية بل يذهب إلى مؤاخاة التصوير والتعبير الشعريين باستطرادات النثر وتمدداته..
……………………………………………………..
 
ولكن ما حصل في شعر الحداثة قد تجاوز تلك المقترحات المتباينة بين تقليد النثر للشعر, أو وجود الشعر في النثر عبر الصورة والعبارة, ليخلق نوعاً جديداً متحصلاً من هدم الحواجز بين الفنون كلها (لا القولية فحسب), وهذا ما عبّر عنه الغذامي وهو يبرر دعوته لقراءة درويش ناثراً وليس شاعراً حين قال:
( وكنت فعلاً بحاجةٍ لكسر الحد الفاصل بين الشعر والنثر وكسر حدود التلقي والتأويل بين جنسين ظلاّ متوازيين على مدى ذاكرة النظرية النقدية والقرائية في تاريخها كله) (5)
ولا حاجة بنا للتذكير بأن هذا القول فيه تعميم كبير وتأكيد شامل لا يدع مجالاً للاستثناء (على مدى.. تاريخها كله) وهو زعم تدحضه القراءة المتأنية للنثر العربي ولقواعده التي رصدها النقاد بل أشار الغذامي نفسه إلى بعضها وهو يحلل متونا سردية عربية قديمة في مناسبات سابقة على مرحلة (الصدمات) التي يعيشها خطابه النقدي حالياً.. كما أن حصر كسر الحد الفاصل بين الشعر والنثر به شخصياً وبحاجته المعرفية يصادر مقولات سواه من النقاد وحاجتهم المعلنة مراراً لمثل ذلك الكسر والهدم وإلغاء الفواصل الفنية والجمالية ضمن مقولة اقتراض المزايا والخصائص بين الفنون المختلفة وزوال الحدود بينها..
…………………………………………………
ولتهوين مسألة عدّ درويش ناثراً يعلي الغذامي من شأن النثر و(خطورته) و( أهميته) التي أسقطها على وعي درويش أيضاً مقتطعاً بعض أقواله أو قراءاته كتصديره ديوانه (كزهر اللوز أو أبعد) بعبارة التوحيدي (أحلى الكلام ما قامت صورته بين نظم كأنه النثر, ونثر كأنه النظم) مشتقاً- أي الغذامي- من ذلك ميل درويش ليعد ناثراً بحجة إمكان مجيء النثر بهيئة النظم ليغدو (أحلى الكلام)..
ومن حجج الغذامي أن النثر ليس خطيراً فحسب بل هو (أقوى مفعولية) والمقصود بالتفضيل هنا المقارنة بالشعر.. وهذه مسألة جمالية لا يمكن التسليم بها بسهولة, بل يمكن القول بالعكس تماماً أي إدعاء المفعولية الأقوى في نفس المتلقي للشعر.. وهذا الزعم يؤكده درويش نفسه و حالته الشعرية عند التوصيل وصلته بجمهوره, وفِعل قصائده في مناسبات كثيرة ليس أبرزها احتجاج الكنيست على قصيدته (عابرون في كلام)
ويؤكد  درويش  نفسه مفعولية شعره في مقابلة مع المجلة الثقافية- وفي  العدد ذاته الذي نشر فيه الغذامي مقالته-.
يقول درويش (6) (إنني أحاول أن أقرأ لنفسي وأقرأ ما يريد القارئ أن يسمع.. وعندما نقول أمسية شعرية فهي عبارة عن حفلة, وفي الحفلة يجب أن تطرب الذاكرة الشعرية القديمة بإسماعهم نغماً قديماً..)
أحسب أن الغذامي المهتم بالنسق والهيمنة الشفاهية على القصيدة العربية ستفوته إشارات درويش إلى جمهوره ومستمعيه فضلاً عن مزايا قصائده (الإنشادية) الحافلة بغنائية واضحة لا مجال لتذكر وجود النثر فيها..
وخلت مقالة الغذامي القصيرة من ذكر أي مبرر يسوّغ عدّ درويش ناثراً وليس شاعراً بل كان المقال دفاعاً عن نوع من النثر (نوع من الخطاب المعرفي الذي تستطيع معه الذات أن تكون إنسانية عالمية وتكون ذاتاً مفكّرة وتكون صاحبة رؤية مستقبلية عميقة وواثقة) وأظن أن كلاماً من هذا النوع لا يمنح مقولة نثرية درويش أية مصداقية, بل يمكن ببساطة أن نحيل مزايا هذا الخطاب (المعرفي) الموعود إلى الشعر نفسه, وهو ما يفعله درويش بنجاح- كشاعر ذي خطاب خاص يتجلى في قصائده كمظاهر نصية لخطابه- ومن عناصر خطابه الشعري المنبثق من صلب المعرفة وتجلياتها وتنويعاتها:

  • قضية وطنه المحتل وما تثير في موضوع الحرية.
  • مكانة الذات في شعره.
  • وجود الآخر ومقولاته.
  • الأنثى ومكانتها والحب وتنويعاته.
  • العلم كحقائق كونية.
  • الموت وحتميته ومواجهته.
  • المكان كذاكرة وحيّز وفضاء.
  • الماضي كزمن ووجود ووقائع.

وأظن أن هذه المحاور- وكثيراً مما لست بصدد حصرها- في شعر درويش لا تبتعد كثيراً عن (الخطاب المعرفي) الذي يرى الغذامي أن النثر مكانه الصحيح..
ألسنا بذلك نعود إلى مقولة (دينية) و (أخلاقية) و(اجتماعية) النثر ضداً للشعر, مضافاً إليها من طرف الغذامي: الناحية المعرفية؟
………………………………………………….
وفي التفاتة قصيرة يعود الغذامي ليتحدث عن (نثر) درويش المقترح ومن هنا يعود الغذامي إلى شعر درويش كمرجع لتقييمه والحكم على هويته الخطابية.. فينفي أن يكون نثراً خالصاً كما أنه ليس شعراً خالصاً.. فهل يريد به ما أراد الباقلاني في (إعجاز القرآن) حين قال (نظم القرآن جنس متميز وأسلوب متخصص,.. ليس من باب السجع ولا من قبيل النثر أو الشعر بل نظام خاص بنفسه) (7)  وهنا يمكن أن نستعير مصطلح (النص) لنلغي التجنيس المعلن لشعر درويش.. وفي هذا نظر أيضاً..
…………………………………………………..
إن أية دراسة لشعر درويش سترينا ما سبق أن شخصناه في شعر السياب من وجود الشعر كخطاب بكمية أكبر مما تتطلبه القصيدة كوجود نصي.. هذا واضح في اتجاهه إلى الخارج والمناجاة وطابع الغنائية التي لازمت شعريته  رغم مقترحات النقاد لقراءتها على أنها (غنائية درامية) أو (رؤية متقدمة للموضوع الغنائي) وما يلبيه من شجن الروح ويوفّر الشفافية التي قال الشاعر إنه يحتاجها للتعبير عن المناخ الإنساني الحزين) (8)
فضلاً عن الغنائية كموضوع وأداء يبرز حرص درويش على كتابة قصيدة التفعيلة بمقترحها العراقي- السياب والرواد- وموقفه المعلن من قصيدة النثر, وتأكيده على الموسيقى في شعره.. ولعل في قوله بأن (السياب من أهم الشعراء الرواد الذين ما زال الكثير من شعره قابلاً للقراءة والحياة ولاختراق الأزمنة ) ما يؤكد إعجابه بالسياب واعتباره نموذجه أو مثاله, وذلك يشجعنا على ربط خطاب الشاعرين وكمية الشعر الوافرة  في قصائدهما.
أخيراً:
كان بإمكان الغذامي أن يعكس المقولة فيرى في نثر درويش شعر شاعر.. ويراه شاعراً في نثره  وبذا يؤاخي النثر بالشعر..
أو أن يبحث عن حنينه لكسر حدود النثر والشعر لدى شاعر آخر لا يحتل الموضوع الغنائي ومستلزماته الإيقاعية ما يظهر ببراعة في شعر درويش….
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
هوامش الملحق :

  • المجلة الثقافية, السعودية, الاثنين 6/3/2006م, ص5.

(2) أبو حيان التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة, تحقيق أحمد أمين وأحمد الزين, مكتبة الحياة, بيروت د.ت, ص120.
(3) يراجع (صبح الأعشى في صناعة الإنشا) للقلقشندي مثلاً والباب الذي عقده( في ترجيح النثر على الشعر), ج1, ص58- 60..
(4) بديع الزمان الهمداني: المقامات, المقامة الأذربيجانية…
(5) الغذامي: المجلة الثقافية (الهامش رقم (1 )نفسه).
(6) محمود درويش للثقافية: حللت المعادلة الصعبة: جمعت النخبة والجمهور في منظومة واحدة. حاوره في عمان: عبد الكريم العفنان, المجلة الثقافية, العدد المشار إليه في الهامش (1), ص 15.      (7) الباقلاني: إعجاز القرآن, تحقيق السيد أحمد صقر, القاهرة 1971, ص159.     (8) صبحي حديدي: محمود درويش وشكل الصوت الغنائي, ضمن كتاب (زيتونة المنفى) دراسات في شعر درويش, تحرير: جريس سَماوي, المؤسسة العربية للدراسات,بيروت ,1998, ص 21. يشير الحديدي هنا إلى (غنائية ملحمية) تجسدها قصيدة (فانتازيا الناي) ويشير الحديدي لاحقاً إلى (غنائية درامية) في  شعر درويش إلى جانب الغنائية الملحمية…..
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
                                     أجراس السياب  وأمطار قصيدته
قصائد السياب التموزية
 
 
 
 
بينما تدق الأجراس  مؤذنة َ بميلاد المسيح وقيامته يكون المطر قد انهمر كأنما ليشارك البشر احتفالهم بقرب عامهم الجديد ، فتؤاخي قطراته وقع الأجراس ، وفي جو كهذا  مساء يوم الرابع والعشرين من كانون الأول من عام 1964 كانت جنازة السياب تتجه صوب البصرة مؤاخياً ميتته بميلاد المسيح الذي كثيراً ما اتخذه رمزا للانبعاث والأمل والمعاناة أيضاً:
وأنا المسيح يجر في المنفى صليبه
بين القرى المتهيبات خطاي
والمدن الغريبة
يتراءى لي السياب دوماًً في ذكرى رحيله عن عالمنا وكأنه يسمع المطر تلك الأمسية ، وينصت للأجراس معلنة دورة أخرى في حياة أحبها وصارع جاهدا ً ليكون في القلب منها لا على هامشها أو في حواشيها ، وحين يعجزه المرض أو البعد عن الوطن يرهف السمع متخيلاً تلك الأجراس التي حلم بها كثيراً وتحدث عنها في شعره:
بويب أجراس برج ضاع في قرارة الشجر
 
…أحس بالدماء والدموع
أجراس موتى في عروقي ترعش الرنين
فيدلهم في دمي حنين
…أكاد أسمع السحاب يشرب المطر
..أكاد أسمع الحصى يصل منك في القرار
صليل آلاف العصافير على الشجر
مطر
مطر
مطر
يصنع السياب مؤاخاةً متناغمةً بين الصوت الذي يوغل في صمت الأشياء ويحرك سواكن أرواحها النائمة ، وبين المطر المسافر في سحابة تنثره على الأرض الظامئة الحزينة في طقس أسطوري، يعيد ترانيم عشتار وهي تقود النسوة كل عام عبر شارع الموكب في بابل المسوَّرة، من أجل قيامة تموز من رقدته في العالم السفلي..ميتتان رمزيتان: المسيح الذي رأى أن (موته انتصار) وتموز الذي يقوم كل عام فتزهر الأرض بعد موات، وانبعاثهما مقترن بالنشيد والأجراس وبعودتهما إلى الحياة خلوداً في الضمير رغم فناء الجسد، والسياب إذ قال:
لا تحزني إن متُّ
أي باس
أن يحطم الناي ويبقى لحنه حتى غد؟
فكأنما أراد بأمثولة الناي أن يمجد الخلود بالصوت ..وبالحضور عبر النغم الذي شاركت الأجراس وقطرات المطر في عزفه ليلة رحيله.
حين أنجز الفنان نداء كاظم تمثال السياب الواقف عند ضفة شط العرب انتقد بعض الكتاب والفنانين مبالغته في حجم أذني السياب الكبيرتين ، لكنني كلما عاينت التمثال وصفحة الماء في شط العرب تلثم الساحل أحس أن الفنان كان موفقاً ، لأن السياب اتصل بالعالم عبر إرهاف السمع مجسدا تلك الحكمة الفرعونية عن الأذن التي ترى والعين التي تسمع ، وبسمعه هذا اكتشف تلك الإيقاعات التي قادته إلى حداثة قصيدته، فاختط للشعر العربي فضاء من التجديد يختلف عن المحاولات السابقة عليه بكونه يستند إلى مبررات إيقاعية ولغوية لم يلتفت إليها سابقوه ، وتوسل بوسائل لم بباله أو ترد في برامجهم كالاستعانة بالأساطير والرموز لتقوية دم القصيدة الذي شحب وسقم وتراخى في الفترة الرومانسية ، و حصرت القصيدة في لغة  وأخيلة وصور وموضوعات وإيقاعات  لا تكاد تخرج عن مألوف الشعر العربي منذ قرون، فيما ذهب السياب إلى الأعماق ليقترح السطر الشعري بدل البيت  ذي الشطرين ، والقافية الحرة التي تأتي حيث تكون الحاجة التعبيرية إليها قائمة ، وليقوي القصيدة بالإحالات الثقافية التي تبدو فيها عصريتها وحداثتها.
لم ينجُ شعر السياب من علل البدايات الأولى ، فبرز تكدس الأساطير والرموز في قصائده وتراكمها بالأسماء أحياناً وبالعبور منها إلى سواها،  كما كان (الشعر) بالمعنى المحيل إلى الاستطراد والتداعي والاسترسال يثقل قصائده ، حتى بدا لنا أنه – في لحظة من لحظات إعادة قراءته –يعاني من فائض شعري لا يتوقف ، وتتحمل القصيدة ذلك الفائض ، فالسياب مندفع في استقدام الشعر من تلك المناطق القصيّة في النفس والتاريخ والمكان ،  بفضل حسيّته ورغبته في مجاسدة الأشياء واستحضارها بكياناتها لا بما تدل عليه  . لقد كان السياب .يرى (بأذنيه)  كثيراً من تلاوين الأشياء وتنويعاتها ، فبويب مثلا ً- وهو نُهير صغير في قرية جَيكور يتشتت بين النخيل ولا تكاد تتبينه العين إلا عن قرب- صار كياناً رمزياً وباعثاً لأخيلة أسطورية وأسئلة ميتافيزقية مثل: أنحن ماشون في الزمن ، أم هو الماشي ونحن وقوف، وصارت جيكور القرية يوتوبيا يبحث عنها في غربته ومرضه ، حيث تفترسه المدن وتلتف حوله دروبها( حبالاً من الطين يمضغن قلبي ، ويزرعن فيه الضغينة ) أما جيكور فهي مثل بابل  قام (من دونها سور وبوابة ، واحتوتها السكينة) .
في ذاكرة السياب لا حدود للتاريخ ، هو عنده حكايات متصلة: المنشد الأعمى في طرقات جيكور القابعة في زاوية من جنوب البصرة  يغدو هومير عصره ، والخونة هم نسخ مكررة من يهوذا ، أما حين أقعده المرض فلم يجد لنفسه إلا صورة الصابر الأيوبي الذي يعد (الرزايا عطاء والمصيبات بعض الكرم).. القصيدة وحدها تسكنه فيظل يتمتم بها للأشجار والنهر ويقول عن ولادتها كالعنقاء :
 
فليهدم الماضي، فالأشياء ليس تنهض
إلا على رمادها المحترقِ
منتثرا في الأفق
وتولد القصيدة
وبهذا الإحساس كتب أهم قصائد الحداثة في موجتها الأولى ، بل استطاع ومن بحر ( الرجز) الذي لم يكن العرب  يعدون ما يكتب فيه شعرا أن يخلق إيقاعات مطرية كتب من وحيها أعظم قصيدة في شعرنا الحديث: أنشودة المطر التي تأخذنا أجواؤها الأسطورية إلى حزن شفيف  يؤطّرها ويمهد للدخول في عوالمها التي برغم موضوعها السياسي المعارض  للملكية في العراق والمصور لمعاناة الناس ، ظلت تتسم بأسلوب السياب الرمزي وتركيزه على الحواس المتبادلة أو المتراسلة:
عيناك حين تبسمان تورق الكروم
وترقص الأضواء كالأقمار في نهر
يرجّه المجذاف وهناً ساعة السحر
أغريب إذن وهو يرى العينين تبتسمان ، أن يسمع أجراس جنازته ووقع المطر في تلك الساعة التي عاد فيها جسده إلى بصرته بعد أن  طوّف -كالسندباد- في البلدان التي لم  يجد فيها ما تريد روحه التي ترى الشمس في بلاده أجمل ،( والظلام –حتى الظلام –هناك أجمل ، فهو يحتضن العراق..).
تلك كانت إحدى استباقات السياب وتوقعاته اتي تشكلها مخيلته  لصورة حياته وموته : مؤاخاة بينه وبين مثاله ونموذجه ورمزه عبر مناخ المطر الشعري الذي تفيض بقطراته قصائد كثيرة وعداً وأملاً وكأن السياب يستثير ذاكرة رعوية أو صحراوية ترى المطر كما كانت تراه أعين شعراء العرب القدامى  غيثا وحياة .
وعلى عكس ذلك كان العقم والخيبة والإحباط  كثبمات  تجد لها في قصائده رمزا أسطوريا هو المطر المحتجب رغم ظهور بوادره وإشاراته كالغيم والبرق والرعد .
هذا ما سترينا إياه مقاربة قصيدته التي لا تقل شهرة وفنية عن أنشودة المطر هي ( مدينة بلا مطر) ذات البناء الأسطوري أي استمداد شكلها ولغتها من الأسطورة التي يعتقد دارسو شعر السياب أن وعيه باستخدامها وتوظيفها نصياً شهد مرحلتين:

  • نظمها حرفياً دون إسقاطها على موضوع ما أو توسطها لتوصيل فكرة أو تعميق صورة
  • ثم إدخالها كوسيط رمزي يقوي ما تتضمنه القصيدة ذاتها.

وذلك مرتبط بوعيه بالأسطورة كمرجع دلالي خارج النص من جهة المعنى، ودورها البنائي داخل النص من جهة الفن.
ولكن قصيدته (مدينة بلا مطر) تمثل دمجاً للمرحلتين في إطار نشيد أسطوري واحد، يحكمه  نسق مغلق  يتعلق بنمو القصيدة العضوي وتصاعد جزئياتها الملتمة كنسيج ذي سطح منبسط يسمح بتعقب الظهور الرمزي لجزئيات الأسطورة ذاتها، وهي في القصيدة مولّفة من كِسَر وأجزاء يوحدها النشيد الجماعي الذي أسنده السياب لسارد مفرد يظل خارج النص وكأنه راو ملحمي نصغي من خلاله لصوت الجماعة المعبر عنه بالضمير(نا)- مدينتنا- في الاستهلال المطول الذي يتمدد استطراداً كصور السياب التموزية على عدة أبيات أو أسطر شعرية .
وسنرى أن الأسطورة تتناوب الظهور والاختفاء، كما أن الوصف الصوري والسرد يتناوبان كذلك،  كما توحي القصيدة بهدفها السياسي إيحاءً، لأن المدينة( بابل) تكون معادلا رمزيا لا مكانا مقصودا مباشرة.
ولا تكاد القصيدة تخرج عن المدى الدلالي للعنوان الكاشف عن مضمون القصيدة وهدفها الاستراتيجي : مدينة بلا مطر، بما تعنيه دلالة المطر في الحاضنة الزراعية في الريف الذي عاش السياب ثقافته  ، واستمد من الموروث الشعري والمعجم القديم ما يرادفها  ، فكانت تلهمه بهذا الرمز المساوي للخصب والحياة  بالنسبة للبشر أيضا ، حيث لا حياة للناس خارج حياة أرضهم  وزرعهم.. ولا غرابة أن يسند ذلك العقم النظير للجدب إلى المدينة التي تتوسع عن الريف ولا يفقد الرمز طاقته فيها.
سوف يتسع المجاز هنا لتغدو المدينة التي بلا مطر : عقيماً، ثم يصبح العقم ثيمة أساسية تتوزع عليها مفردات الصور والدلالات في القصيدة.
سيضيف الاستهلال تثبيتاً مكانياً للمدينة، ويضع لها موقعاً بالعائدية:مدينتنا لكي تسهل المهمة الإيديولوجية التي أرادها السياب كإسقاط نموذجي لحالة عقم متخيلة تعيشها الأرض بالإيحاء بما حلّ فيها في أيامها الراهنة زمن كتابة النص، وهي  إذ تعيش حالة العقم فإنما تمثل البؤرة المولّدة للنص ، حتى ليمكن تفسير باقي الصور والتراكيب على أنها تنويعات لهذه البؤرة ، تتعاقب متسلسلة كالآتي:
مدينة
بلا مطر                    =العنوان
نار بلا لهب             =الاستهلال
تحمّ دروبها
ثم تزول حماها
صفير الريح
وأنين مرضاها
مجامر الفخار خاوية بلا نار
لاهثة من التعب
فارغتان كفاها
قاسيتان عيناها وباردتان
سحائب مرعدات مبرقات دون إمطارِ
والملاحظ تكرار البنية بتجليات ومظاهر متنوعة تختلف درجة احتوائها على العقم أولاً وإن كانت لا تخرج عن المطر والنار في المقام الأول، كما أنها تنفرد بميزة انطوائها على مقومات الحمل والعطاء فثمة نار دون لهب ومجامر دون نار، و سحب بلا مطر رغم أنها تمتلك مقدمات الإمطار ولوازمه: الرعد والبرق، فكأن السياب يؤكد بذلك وجود ما ينفي العقم والجدب كامناً ممتنعاً لأسباب تخفيها رمزية النص وتوحي به إيحاءً.
في النصف الثاني من النص ، وهو انتصاف افتراضي تقدمه القراءة لأن النص قسم واحد لا انتقال فيه بترقيم أو عناوين فرعية، يتطور التعبير عن العقم من الصورة إلى السرد، بعد أن تراكمت صور النار والمطر انتقل السياب ليسرد الأسطورة التي تحكي عن مسير عشتار تتقدم النساء وهن يندبن تموز الغائب في العالم السفلي ، لكنها هي الأخرى تلونت بالعقم فعادت :
لاهثة من التعب
فارغتان كفاها
وقاسيتان عيناها
وباردتان
وما أوشك أن يحصل بقيامة تموز في المقطع الأول وتدق له بابل الطبول فرحا ،يبدده صفير الريح وأنين المرضى . فتعود القصيدة لتصور من جديد الانتظار والخيبة، ويرتفع الدعاء لآلهة تتحجر عيونها بلا رحمة ،استكمالاً لطقس القسوة والخيبة التي تصورها القصيدة، وتمر الأعوام دون زهر ولا مطر ولا ثمر..
في القسم الرابع المفترض  أيضاً يعود السرد ليهيمن على خطاب النص منفصلاً هذه المرة ببياض فاصل مكانياً بين ما مر وما سيأتي،وهو ذو دلالة زمنية تستمر في مدة معاناة البشر الذين ينشدون متوسلين سيدهم الذي يغيب ولا أحد يفتديهم سواه ، فتستعد السماء للمطر وتتوحد النار والماء ثانية  – كما وحدهما العقم – في قوله :
كأن زنبقة من النار
تفتح فوق بابل نفسها .وأضاء وادينا
وغلغل في قرارة أرضنا وهج فعراها
بكل بذورها و جذورها وبكل موتاها.
ولكن ذلك الميلاد مؤجل أيضا وممتنع لأن الاسوار حول بابل تمنع الارتواء، ووسط هذا المخاض يسمع الجمع قيامة أخرى لصغار يقبضون على القمر و على رعشات ماء فكأنها بشارة بأن( بابل سوف تُغسل من خطاياها) .
وكما انتهت قصيدة السياب الكبرى (أنشودة المطر) بفعل يصور هطول المطر ويمنح النص نهاية سردية متفائلة بعد معاناة الجوع والجدب، نجد(مدينة بلا مطر ) تنتهي بوعد أو حلم يوازن  المهمة الفنية والنزوع المعنوي ، وبين الوصفي والسردي، والإيديولوجي والشعري ، في إطار أسطوري أو طقس جماعي يناسب خطط النص وهويته الأسطورية التي أنقذته من المباشرة والوقوع في خطاب سياسي عابر يرتبط بالحدث أو الظرف ، وهو ما يتكفل السياق الأسطوري بإبعاده لصالح بناء فني يتجدد مع كل قراءة…هي في معنى المناسبة تتجدد بتجدد ذكرى غياب السياب الذي يؤاخي أيضا بين الحياة والشعر في عناق رمزي فذ تجد الأسطورة فيه مسرحا لاستعادة عناصرها وحيوية مفرداتها ،
كما تغتني لغة الشعر بهذا الاندفاع الذي يشبه النزف  أو الهيجان اللغوي المتدفق بحماسة تعادل شغف السياب  نفسه بالحياة وأسطورة خلود قصائده وتجدد حضوره في مسار الشعر العربي وحداثته.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
                                      قال قلب الشابي للإله
 
                             (في مئوية الشابي مغنّي الحياة ..ومدوّن أوجاعها )
 
 
 
 
 
 
 
أولاً:    مدخل
 
1- 1
تلتمّ حول الشابي في مئويته أقلام شتى  قادمة من جغرافيات متباعدة ، ومشارب نقدية وأدبية وشعرية متباينة، وثقافات متفاوتة . لكن الشابي من  أكثر الشعراء استحقاقاً  لتلك القراءات القادمة  من شتات ،  لأنه لمَّ بوجوده الشعري  وفي وقت مبكر شتاتا ثقافيا  كان يسم الحياة العربية ، فصار رمزا للصلة بين  المشرق والمغرب  ، والتجديد والتطور ، والتراث والمعاصرة ، والكفاح ضد الإستعمار وتمجيد الحياة وجمالها ، وكذا المواءمة بين الرومانسية بتجلياتها الإنسانية والفنية والدعوة إلى القوة والعزم والعيش في قلب الحياة لا على هامشها أو في زواياها وحواشيها.
1-2
هكذا كان الشابي جسرا ثقافيا بين المغرب والمشرق يمتلك امتدادا متعدد الجوانب: في الزمان لأنه جاء في مطالع نهضة أدبية وشعرية حاسمة ومرحلة من البحث عن طرق جديدة في الفن والحياة  ، وفي المكان لأنه ألغى تلك المسافات التي باعدت بين المشرق والمغرب ثقافيا واجتماعيا ، وفي الفن حيث كانت أشعاره لوحات تجسد المنحى الرومانسي الذي انتشرت ظلاله في أدب العالم وفنونه المختلفة بعد صدمة الحرب الكونية الأولى وبشاعة آثارها المدمرة على البشر والطبيعة والحضارة الإنسانية.
وقد توفرت له أدوات أسلوبية تترجم إحساسه وانتصاره للحياة التي غنى بها  ومجّدها ، ومن أبرز تلك الأدوات : سهولة المفردات والتراكيب وقصر الجمل الشعرية وتوخي الموسيقى الهادئة والإيقاعات الأليفة وتنويع القوافي والأشطر الشعرية تحديثا وملاءمة لإيقاع عصر النهضة الأدبية الشاملة التي عاصرها وأسهم فيها بجهده الشعري والفكري.
1-3
وقد كان الشابي واضحا وواعيا لمهمة الشاعر المجدد . فإذ أعلن ثورته في ( الخيال الشعري عند العرب ) على تقديس الماضي والعيش فيه أسرى تكراره نموذجا ، فإنه أوضح ما يمكن أن يساء فيه فهم مقصده ، فقال في مناسبة لاحقة:
( إذا كنت أدعو إلى التجديد وأعمل له فإن ذلك لا يدفعني إلى الهزء والسخرية من آداب الأجداد، بل إنني لأؤمن  كل الإيمان بما فيها من جمال  فني وسحر قوي ، وأعتقد أنها قد آتت في عصورها الحية لأجدادنا كل ما طمحت  إليه أشواقهم من غذاء  معنوي دسم.ولكني أومن إلى جانب ذلك أن في الحياة آفاقا مجهولة ساحرة غير ما في الأدب العربي من آفاق،
 وأن هذا الأدب إذا كان قد سدَّ خلة آبائنا الروحية فإنه لعاجز كل العجز عن أن يشبع ما في أرواحنا من جوع وعطش وطموح…).
ولم يكن الشابي في هذا المقتبس إلا متوازن النظر ممنهج الفكر فهو يقر بمنجز العرب الأدبي وتلبيته لحاجتهم الروحية والجمالية  في ظرف إنتاجه وسياقه ، لكنه لا يجد الارتهان به واحتذاءه نافعا  لنا وملبيا لحاجاتنا الروحية ، ولعل ذلك كان دافعه لتبني أفكاره حول الخيال والدعوة إليها في محاضر ته – ثم كتابه- حول الخيال الشعري عند العرب.
لقد عرض  الشابي ما يتصل بالخيال الشعري في دراسته تلك بمنهج رصين متسلسل الخطوات واضح الترابط ، يدهشنا انه صادر عن فتى في حوالي العشرين من عمره ، فيتحدث عن الخيال وضرورته لدى الإنسان وأنواعه ثم يعرض للخيال الشعري الذي يفرقه عن (الخيال الصناعي) أو المجازي المصنوع بالبلاغة والتزويق بل ما يصفه في رده على أحد منتقدي محاضرته بأنه  ( خيال الإحساس والشعور والاندماج في الأشياء اندماجا فنيا ..تلتقي فيه الروح الفنية والفلسفية.ونفهم منه نفسية الأمة ..ويتفهم الإنسان من ورائه أسرار وخفايا الوجود) ليصل من بعد إلى لبّ أطروحته الملخَّصة بأن الخيال الشعري العربي ليس له حظ ولا نصيب في ما أنتجه الذهن العربي في مختلف عصوره ، لأنه خيال مادي لا يتجاوز الظواهر الملازمة لحياة العربي في الصحراء. وأراد  الشابي إثبات ذلك عن طريق فحص موقف العربي من الأساطير والطبيعة والمرأة والقصة .
1-4
وهو لا يجد تعارضا بين التجديد والإعجاب بالأدب القديم فيقول(إذا كان لزاما علينا أن نعجب بهذا الأدب ونفخر به ….فإن ذلك الإعجاب لا ينبغي أن ينقلب في نفوسنا إلى تقديس فعبادة فجمود فإطباق لأبصارنا عن كل ما في السماء من أشعة ونجوم..).
ذلك التوازن المفقود بحث عنه الشابي في الحياة أيضا ،فوجد بَوناً بين ما يضمر من أحلام وما يأمل من آمال، وبين ما هو عليه في الواقع وما يواجه اندفاعه ذاك من صعوبات وعوائق.
وقد وجدتُ شواهد نصية كثيرة تمنحها قراءة الشابي نقديا ،ولكنني توقفت عند نص قصير يقع في آخر ديوانه اليتيم ( أغاني الحياة ) وهي قصيدة ( قال قلبي للإله)  التي سأورد نصها ثم أقف عندها محللا .
 
 
ثانياً-النص
في جبال الهموم أنبتَّ أغصاني          فَرقَّّتْ بين الصخور بجَهدِ
                 وتغشّانيَ الضبابُ..فأورقتُ             وأزهرتُ للعواصفِ، وحدي
                وتمايلتُ في الظلام ، وعطّرتُ             فضاءَ الأسى بأنفاسِ وردي
               وبمجدِ الحياةِ ، والشوقِ غنيتُ             فلم تفهم الأعاصيرُ قصدي
               ورمت للوهاد أفناني الخضرَ                 وظلت في الثلج تحفر لحدي
ومضت بالشذى فقلتُ: ((ستبني                        في مروج السماء بالعطر مجدي   
  وتغزلتُ بالربيع ـ وبالفجرِ                                  فماذا ستفعل الريح ُ بعدي؟))
 
 
 
 
 
 
 
ثالثا–  التحليل
 
3-0العنوان
3- 1
يقع النص بأبياته السبعة موقعا مجهولا في سياق نصوص الشابي ، لأنه بلا تاريخ على غير عادة الشاعر ، مما يتيح للقراءة أن تضعه في سياق حر بين قصائده التي كتبها على مدى ما أتيح له من حياة شحيحة السنوات ، ويمنح القراءة فرصة التجول الحر في ثنايا أسلوب القصيدة ومراميها دون ربطها بسياق من أي نوع : صغيرا كان يتعلق بما حولها،  أو كبير يتصل بموقعها بين مراحل تطور وعي الشابي  الشعري.
3-1-1
سنتلقف الإشارات التي تبعثها المفردات  والصور والتراكيب  والإيقاعات والدلالات دون تحجيم ، ولا نخضعها لفترة  أو مرحلة وسمت شعر الشاعر بميزة ما ، أو نفهرسها ضمن ملمح فني ما  كما فعل محمد لطفي اليوسفي في مقدمة مختاراته للشابي ،  فبوّب القصائد في ثلاثة أقسام :  الأول لقصائد عدَّها اليوسفي نصوصاً- بيانات تعلن مفهوم الشابي للكتابة الشعرية ، وقسم ثان لقصائد  منشقة ومختلفة مع القديم مشارفة لمغامرة التجديد ،  وقسم ثالث لقصائد وجد  فيها تسللاُ لرؤى القديم وحضورا انتقاميا للتراث- في تجربة انشقاقية عليه- ،هذا التسييق –اختراع سياقات للنصوص-أو تتريخها –وضعها في سياق تتابعي احتكاما لزمن كتابتها-،  أو تغريضها –فهرستها بحسب أغراضها – لن ينال تحليلنا بحكم دوران النص موقعيا بحرية ترتبت على إفلاته من ذكر تاريخ كتابته.
3-1-2
يحتل العنوان مكانا مركزيا في قصائد الشابي يجعله بالمقارنة مع مجايليه متفوقا في تصميم عناوين نصوصه بتنوع لافت وتخطٍ للتقليدية التي بنى بموجبها شعراء النهضة عناوين نصوصهم ولم يبالوا بدورها كعتبات نصية وموجهات قراءة وجزءا من جماليات النص نفسه .
كان الشابي مجددا في اختراع مسميات لقصائده ، منساقا في الآن نفسه لأغراض شعره يعلن عنها ويكشفها بالعنوان، كقصائده المنبني عنوانها على نسق النداء( يا ابن  أمي ،يا رفيقي ، يا حماة الدين، أيها الليل ،أيها الحب،…) وبعضها بنسق الإضافة(نشيد الأسى، أغاني التائه ،رثاء فجر،متاعب العظمة..) وبعضها بالوصف 🙁 الرواية الغريبة،النبي المجهول ،الصباح الجديد،الأشواق التائهة،…)  فيما يجترح بعضها مسميات جديدة  بالجار والمجرور(إلى عازف أعمى،إلى الشعب،إلى طغاة العالم ، إلى قلبي التائه..من أغاني الرعاة، من حديث الشيوخ ،.. في الظلام ، في سكون الليل،) وسواها مما يدعو لدراسة منفصلة تستقرئ العنوان  وتشكلاته ومدلولاته في شعر الشابي  ، لكننا نشير إلى حصة الطبيعة والعاطفة في تلك العناوين وتراكمها بشكل لافت كمؤشر على تأثره بالرومانسية كحاضنة شعرية وفكرية .
 3-2
ومن هذا ننطلق لمعاينة عنوان النص الذي عكفنا على تحليله: (قال قلبي للإله) فهو يقدم القول عبر الفعل الماضي (قال) مؤكدا الطابع الحواري كمظهر سردي في القصيدة العربية الحديثة،  ويتلوه بالفاعل( قلب) الذي يضيفه لضمير المتكلم لقربه منه وتعبيره عنه، والحكي بلسانه، فلئن اختار الشاعر قلبه راويا ينوب عنه، ويجري وجهة نظره من خلال رؤيته، وبعودة الكلام إليه فإنه يتخفى وراء موطن عاطفته –قلبه- موسعا مهمته كما في المجازات الشعرية والاستخدام العامي، حين يسند للقلب العلم بالشيء ومعرفته والإحاطة به.
هي إذن أقوال قلب الشاعر مبثوثة كشكوى للإله الذي جاء في ختام جملة العنوان ،  ليكون مستقبِلا للشكوى ومرسَلا إليه ينتظر المرسِل رد فعله واستجابته ،. لكن العنوان يدعونا –منحن القراء –كمروي لهم لنشاركه الإنصات لأقوال قلبه .
يخفي العنوان أيضا بجانب السرد وتقديم القول بالماضي والفاعل ثم الجار والمجرور ما يمكن أن نعده ثنائية بين قلب الشاعر الضعيف والشاكي ، والإله بقدرته وخلقه الكون وتعاليه .
 
 
4-0الاستهلال
4- 1
لا يكرر الشاعر فعل القول (قال) في أي من ابيات القصيدة ، بل يبدأ نصه مباشرة بمقول قول القلب،  مكتفيا بالعنوان –النص الصغير، ومدمجا جملته بالنص، فتكون القراءة تتابعية كالتالي:
قال قلبي للإله:  في جبال الهموم أنبتَّ أغصاني ……………
والشاعر بصنيعه المقتصد والمجافي للتكرار – عدم إعادة فعل القول الماضي-  يحقق بالعنوان وظيفة جمالية وتعبيرية في الآن نفسه.
4-2
سينبني الاستهلال إذن ( في جبال الهموم ) على أساس اندماجه تركيبيا ودلاليا بجملة العنوان ،  فيكون تفصيلا لما قال قلب الشاعر للإله ..مبتدئا بالجار والمجرور ( في جبال الهموم..) متقدمة لأهميتها بدل القول : أنبتّ أغصاني في جبال الهموم ، فتكون بداية تقليدية تتابعية في التراتب الفعلي ومتعلقه المترتب عن الخلق،  والمعبَّر عنه تعبيرا زراعيا
( أنبتَّ )وهو يتواشج والطبيعة التي فتن بها الشابي، فالولادة كفعل استنبات في أرضٍ ما تمتْ بالنسبة للشاعر ( في جبال الهموم ) محققا بإسناد الهموم للجبال وإضافتها إليها  استعارة عميقة الدلالة،  فالهموم متكاثرة وثقيلة وصعبة كالجبال .والإنبات فيها ليس يسيرا كما يعرف الشابي وقراؤه.
واستبق الشابي الإنبات فجعله للأغصان لا للبذرة التي انشق وتفتق عنها ،فاختصر البذار والنمو والنضج ،وانتقل إلى الأغصان  ليتبعها فعل آخر هو التعايش بين الأغصان وما حولها ، رغم أن ذلك قد  تمَّ  بجهد وعناء ، فصنع مفارقة بين رقة الأغصان وصلابة الصخور ، وبين الولادة في جبال من الهموم ثم الإيراق برقّة رغم الصخور.
وهو جانب دلالي يسبق الشابي  أجزاء نصه التالية ليعلنه كوجه من وجوه فكره الذي انشغل به،  موائما بين قسوة الحياة والعيش فيها بإرادة وحب وأمل رغم ذلك. والملاحظ أن الفعل الوحيد المسند لتاء المخاطب هو فعل الاستهلال ( أنبتّ) اعترافا بالخالق وانبثاقا عن خلقه له ، بينما ستعود الأفعال الباقية كلها لضمير السارد المتكلم ( تاء المتكلم) = قلب الشاعر.فقد صار عليه بعد استنباته أن ينهض بحياته ويواجه مصاعبها وحيدا( البيت الثاني) .
 
 
 
5-. أنساق التركيب
5-1
تتحكم بنية الجملة الفعلية وبركنها الأساس =الفعل الماضي الفعل الماضي بسياق النص وتنعكس نسقيا في أبياته كلها كما تهيمن جملة الفعل الماضي على التركيب  العام للنص ايضاً مُلاءمَةً للسرد المتمحور حول الولادة في جبال من الهموم ومتابعةً للنشأة المعذّبة من بعد.
هناك عدة أفعال ماضية تتصدر الجمل لتنقل الحدث – حدث الولادة – إلى مراحل نامية  وتتعلق بزمن الحدث= االماضي أيضا أفعال ماضية أخرى تترتب عليها كنتائج:
– أنبتَّ أغصاني                               فرقَّت…
– تغشاني الضباب                              فأورقتُ..وأزهرتُ..
– تمايلتُ
وعطّرتُ      >>>>                              فلم تفهم
غنّيتُ

  • رمت

و ظلت         >>>                                فقلتُ
ومضت
-تغزلتُ
فماذا ستفعل..؟
 
 
5-2
سيلاحظ القارئ تبدلا طفيفاً في نسق  بعض الأفعال أي خروجها على نسق صيغة الماضي ، ولكننا نقدم هنا  تفسيرا يحافظ على زمنها ودلالاتها على الماضي ، فالفعل المضارع ( يفهم ) انقلب ماضيا بدخول لم عليه ( لم يفهم ) فضلا عن عطفه بالواو،  مما أشركه دلاليا بحيز الفعل الماضي المعطوف عليه ( وعطرتُ) ،  والفعل المضارع ( تحفر) متحول دلاليا إلى الماضي في حيز الدلالة التي يولدها الفعل ظلت – تحفر، والفعل المضارع الدال على الاستقبال  (ستبني) مرتبط كذلك بالحدث الماضي الذي يحدده الفعل السابق عليه  (فقلت: سنبني) .أما اختراق نسق الأفعال المسندة إلى ضمير المتكلم  فإن تفسيرنا لوجودها   نفصله هنا،  فالأفعال المسندة للأعاصير وإن تكن مسندة إليها بتاء التأنيث فهي عائدة إلى الراوية= القلب، لأنها أوقعت الفعل عليه بثقله وبنيته معا . فالأعاصير الجاهلة بمرماه ومقصده رمت أغصانه تلك( أفنانه ) إلى هاويات الوهاد وحفرت لحده في الثلج.فكان ما فعلته الأعاصير  تابع لفعل القلب نفسه ومتصل به
الفعل الوحيد الواقع دلاليا وصرفيا في حيز المضارع حاضرا والممتد كسؤال مصيري إلى المستقبل هو ( ستفعل) (في البيت السابع )المتجه إلى الريح التي ستهب بعد ذبول أغصان القلب ولا تعود الريح تدري أين تتجه،  وتلقي القلب والشاعر بالضرورة في عماء المجهول،  كما جاءت بذرة وغصنا  نابتا في صخور جبال الهموم يتغشّاها الضباب كناية عن جهل لغز الوجود أيضا.
 
6- قاموس الطبيعة
 6-1
تدعو قراءتي لمعاينة المفردات المنتزعة من قاموس الشابي الأثير إلى نفسه: الطبيعة التي مجّدها شعرا ودعا إلى التنبه  لجمالها وعبقريتها نثرا وهو يتحدث في الخيال الشعري عند العرب ،  وكذا في مذكراته عن مظاهرها وإهمال الناس لها، بل يخصص في مذكرات السبت 4 جانفي-يناير1930 صفحات للحديث عن عشقه للطبيعة وتردده في قطف وردة  ويرى أن ذلك جرم لن يقترفه.
      6-2
سنجد أولا مماهاة نفسه بقلبه ثم الوصول إلى الطبيعة عبر ذلك بتسلسل لافت نجرد له هذه الصورة:
الشاعر> قلبه القائل> الإنبات والإزهار والإيراق> رمي الأعاصير لأغصان القلب……
هكذا تسلسلت صلة الشاعر بالطبيعة وغدت غلافا لنشأة قلبه التي هي نشأته ايضا،  وهكذا تتبع نشأة فلبه عبر مراحل إنباتٍ ونموٍ تمناها لنفسه فأسقطها على قلبه.
 
 6-3
ثم بعد تلك المماهاة استعار الشاعر مفردات الطبيعة وراكَمها في نصه ، نجد منها: الأغصان والصخور والفضاء والعواصف والضباب  والفضاء والورد والأعاصير والظلام  والوهاد  والأفنان والثلج والشذى والمروج والسماء والربيع والفجر والريح .
إن احتشاد تلك المفردات في سبعة أبيات لدليل على فتنة الشاعر بالطبيعة ودخولها كمشغّل أساس في رؤيته الشعرية وترميزه للخلق والتكوين والموت أيضا.
ولنلاحظ أن الطبيعة ليست خيرا وجمالا كلها في رمزية الشابي ، بل هو يجعل منها رمزا للشر والموت  والخذلان ( يُنظر ما أسند للأعاصير والثلج  من أفعال كالدفن والجهل والقسوة ).
 
7- الإيقاع
     7-1
تتميز إيقاعات قصائد الشابي في مختلف مراحلها بما عرف عنه من منهج شعري يقوم على بساطة المفردة وقربها من الفهم ، واختيار البحور القصيرة أو مجزوءاتها ، مع اختيار القوافي المقبولة وقعا والخفيفة في صداها على القارئ ، كما يغير غالبا قوافيه في شعره المقطعي ، ولا يطيل قصائده ، فيصنع بذلك كله إيقاعاً خاصا به يعضده التكرار المتنوع عنده ( في بداية الأشطر الأولى أو الثانية أو في ثنايا الأبيات )
 
7-2
يختار الشابي البحر الخفيف لقصيدته هذه ، مستثمرا طول التفعيلات ( فاعلاتن –مستفعلن –فاعلاتن) وكثرة الحركات والسكنات ، والطابع النثري للبحر وتواتر كتابة المراثي الشهيرة والشعر الفلسفي والتأملي به.
و يكثر في القصيدة  التدوير الذي لم نظهره في الكتابة الخطية هنا وهو موجود في البيت الأول إذ تجدر كتابته العروضية كالتالي:
في جبال الهموم أنبتُّ أغصا                  ني فرقت …
وكذلك يجب أن تدوّر الأبيات التالية:
وتغشاني الضباب..فأورق                      تُ وأزهرتُ.            
وتمايلت في الظلام وعطر                      تُ فضاء الأسى
وبمجد الحياة والشوق غني                     تُ فلم تفهم ..
ورمت للوهاد أفناني الخض                      ر وظلت..    
 وتغزلت بالربيع وبالفج                           ر فماذا
لا يستثنى من التدوير إذن إلا البيت قبل الأخير( السادس) مما يسبغ على النص سمة الاسترسال لعدم توفر الوقفة المتجانسة إيقاعيا ( انتهاء الشطر وتمدد الكلمة للشطر الثاني) ، و يؤجل موسيقاها ويفتت وقعها النغمي و النبرة العالية  التي يسببها التصادي والتموسق المطلوب في نظام الشطرين.فيناسب الاسترسال والتمدد ما في القصيدة من سرد تتابعي وتوالٍ للأفعال،  وكذلك لاحتواء الفكرة المعبرة عن الحزن والحيرة مما لا يناسبه التقسيم المموسق والصاخب والضاج.
 
8– الدلالة
8-1
يعيش نص الشابي ( قال قلبي للإله)  على تطابق نظرة الشاعر المشوبة هنا بالخذلان والهوة المصنوعة بفعل التفاوت بين ما كان يرجوه وليدا وما قابله في الحياة ،  عبر ما يقصه قلبه من شكوى للإله ، وما يستمده من حياة الشجرة من أمثولة مطابقة لحياته.
8-2
لكن المدى الدلالي للقصيدة كوني لا شخصي ، وشكوى قلب الشاعر تعبر عن معاناة البشر كلهم في نموهم وحلمهم ، ثم في تحدي الصعاب لهم وخذلانهم.
وتستفيد الدلالة لتتوضح وتَبين للقراءة من طول الجملة الشعرية –لا الجملة النحوية- فهي عبارة عن ركنين : خبري واستفهامي:
0 أنبتّ أغصاني في جبال الهموم فرقت…فلم تفهم الأعاصير. ورمت ..فماذا ستفعل الريح بعدي؟
ونلاحظ أن جملة الاستفهام هي الوحيدة النافرة عن طبيعة الجمل الأخرى وهي خبرية فعلية كلها .
لقد أراد الشاعر أن يكون التساؤل نهاية مفتوحة للنص ، كما هو نهاية للحياة ذاتها ..الحياة التي نغادرها دون أن نفقه مغزاها ونهايتها وجدواها.
لقد اختزل الشاعر الموت بمفردة واحدة هو الظرف ( بعدي) راميا  مصير الكون على البعدية التي تظل مفتوحة عقب الموت.
تلك الثنائية الطويلة : الولادة بين الصخور والهموم ثم السؤال عن المستقبل المجهول هي أبرز ثيمات شعر الشابي التي تأكدت هنا.
8-3
لا يخفى طابع الشكوى إلى الله في النص وما يحمل من ضعف ورقّة . وهو من أبرز خطط البرنامج الشعري للشابي الموائم بين الرومانسية  المهومة والحالمة والمفارقة للواقع ، والقوة بحب الحياة والنفور من وضعها اللا إنساني في الوقت نفسه ، فهي مشتهاة ومنتبذة ، ومطلوبة ومكروهة ، وضرورية وعابرة.
9-موجهات قراءة أخرى
9-1
خطياً تحيلنا النقاط بين الكلمات إلى مواصلة القراءة ورصد التتابع الحدثي في النص.وكذلك القِطع المنتزعة –الحروف- من الكلمات لتعترض التنغيم والاحتفاء الزائد بالموسيقى، وهو ما هجره الشابي لصالح الفكرة والإيقاع العام للنص.
9-2
الخاتمة تقع في قلب الموجّهات المتأخرة أو المؤجلة،  فهي تطابق نهاية الحياة ذاتها، فتلك الشجرة التي يشبه القلب نفسه بها ولادةً ونموا وذبولا ربما كانت شجرة ورد بشذاها وعطرها( البيت السادس) فهي تفنى وتنتهي لكن يظل عطرها كما يظل من الشابي الفاني مثلا شعره .
9-3
السرد مفتاح مهم لهذا النص-كما في أغلب قصائد الشابي ، لكنه سرد يقوم على التتابع والتجريد أحيانا لا على ملموسية حدثية أو تعيين . والسرد يسهم في  ترتيب أفعال النص نشأة ونموا ومصيرا ..فلا بد من مراعاة وجوده في النص عند إنجاز القراءة.
     9-4
قِصَر القصيدة يناسب اختزال الحياة وقِصَرها – هنا يتنبأ الشابي بنهاية مبكرة لحياته القصيرة  .واختياره  سيرورة الشجرة –شجرة الورد- يعطي أمثولة على الخلود أيضا ،  إذ يظل عطر الوردة-شذاها-  بعد غيابها بالقطف والموت أو بالإخفاء والنسيان.
خطّيا تناظر الأبيات السبعة لخلق الشجرة-القلب –الشاعر  الأيام السبعة التي خلق الله فيها الكون كما تنص الكتب السماوية ن لكن الاستراحة هنا كانت بالموت انتظارا لما تفعله الريح = الذكرى الباقية.
9-5
الوحدة مختارة كموقف رومانسي يكمل الافتتان بالطبيعة ،والشاعر يذكر الوحدة في البيت الثاني وكأنها ملازمة للوجود فيفخر بأنه –قلبه – الوردة أزهرت ووحدها في لجة العواصف .
9-6
الأسئلة التي تستدعيها القصيدة كونية في جوهرها ومرجعها ،  تختار المصير مركزا للسؤال ، والمعاناة سببا للتساؤل، وما دامت قد بدأت بالخلق والتكون الصخري الشاق فكان لا بد أن تلتفت إلى النهاية والمصير، وهما لا يقلان قسوة عن البداية.. متوجهة وجهها  للخالق بحثا عن جواب.
 
 
 
رابعاً :خاتمة
تلك مرامٍ أخذتنا إليها قصيدة الشابي القصيرة بأبياتها السبعة دلاليا وإيقاعيا وبنائيا،  وتأويلا منا ، وهذا شأن النصوص المتميزة اللافتة فهي تسحبنا بأتجاه أبنيتها نحن  وعدتنا القرائية وذخيرتنا وخبرتنا بالنوع اشعري وما ورثناه أو اكتسبتاه من عادات قراءة وطقوس تقبّل  ، فحدث أن عاينّاها أسلوبيا وتأويليا  ، وحدث أن عاينّاها بسياقها النصي كإعلان عن ستراتيجيات الشاعر ومقاصده  الفكرية ورؤيته الشعرية.
وليس ذاك بكثير على نص الشابي ، نص-  كصاحبه- ذو حضور في قلب الحداثة ومن خلالها ، وفي تداعياتها وعنف أسئلتها المعلنة أو المسكوت عنها في أغلب الأحيان…
 
 
          
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

 

 

   
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
                                         محمود البريكان : في غيبوبة ذكراه
 
 
 
 
 
-1-
 
 نستذكر محمود البريكان  في العادة بكونه الصامت الأكبر في جيله، فهو لم يصدر ديواناً رغم بصماته الواضحة في الشعرية العراقية، وقصائده المتوفرة على حداثة أسلوبية تزهد بالإيقاعات التقليدية والموسيقى الخارجية، وتبني عالمها بتقنيات متفردة.
أذكر أن قراءتنا للبريكان توقفت عند مرحلة أسماها النقاد (مرحلة حارس الفنار) في إشارة إلى قصيدته الشهيرة بالعنوان نفسه ، وما تسرب إلى النشر بعدها من قصائده الشحيحة التي تغطي فترة الخمسينيات والستينيات، وما صاحبها في فترة (سيادة الفراغ) كما يلخص الشاعر عبدالرحمن طهمازي الذي استنبط عنوان مقدمته لمختارات البريكان الشعرية من قول الشاعر:
 
الرياح
هي بعد سيدة الفراغ ’وكل متجه رياح
 
وسوف يركن الشاعر من بعد إلى صمت طويل، قريب من (موت شعري) مؤقت، لكن أصدقاءه المقربين يعلمون أن البريكان (يعيش) شعرياً ويكتب، لكنه يزهد بالنشر لأسباب ظلت مجهولة، لعل أكثرها ترديداً هو خوفه المبالغ فيه، أو (رهابه) في الأصح، من الأخطاء الطباعية التي تظهر في القصائد عند النشر.
وكان لي خلال رئاسي لتحرير مجلة (الأقلام) توق شديد لاقتحام عزلته، حتى أقنعته خلال إحدى زياراتي للبصرة وبمساعدة الصديق الراحل الشاعر رياض عبدالكريم ، أن يخرج من صمته، ما دام لديه شعر لم ينشر، وهو فيما قرأنا مواكب للحظة الحداثة التي وصلت إليها القصيدة العربية الحديثة، فضلاً عن مراقبة البريكان المدهشة، والمفاجئة بالنسبة لي ، للمشهد الشعري المعاصر بتفاصيله الدقيقة’أي ان عزلته فعلا ذات طابع فناري ’فهو يراقب من معتزله القصي نبض الحياة الحقيقية وتجلياتها المجازية في الشعر.
وهكذا أفلحنا بعد جهد وبشروط عسيرة منه تتصل بالمراجعة المتأنية والدقيقة للتجارب الطباعية أن نقنعه بنشر (18قصيدة) كتبها بين عامي 1970 و 1992 ، وأعطاها عنوان (عوالم متداخلة) ونشرناها في (الأقلام) العدد 3-4/1993 بمقدمة مني بعنوان (الذكرى تلاعب النسيان) ولا أستطيع حتى اللحظة نسيان لقائي الأخير به حيث أعد مائدة صغيرة يتوسطها إبريق شاي وكؤوس بعدد الضيوف (صحبني في لقائي ذاك الشاعر الراحل رياض إبراهيم والشاعر حسين عبداللطيف) وكان البيت الذي يسكنه وحيداً غارقاً في الظلمة، عدا الغرفة التي جلسنا فيها، بينما كانت تنبعث أصوات الموسيقى من جهاز ضخم يضعه في غرفة نومه..وتكر في اللقاء خوفه على القصائد وتأكدت لي إنسانيته وتواضعه ورهافة إحساسه,رغم ما لاحظته من تلميحاته إلى انه سبق الرواد في تجربة الشعر الحر, وان السياب نفسه يعلم بذلك.
وبعد قراءة تحليلية للقصائد التي هيأها بنفسه ورتبها بالكيفية التي ظهرت عليها عند النشر ووضع عنوانها أيضا فكانت أشعاره تولد أول مرة برعايته دون قابلة أو وسيط
سنجد أن مرحلة (عوالم متداخلة) كانت شيئاً جديداً في شعر البريكان، حيث دخل السرد كعمود فقري لقصائده، وخفّ احتفاؤه بالوزنية ولوازم الموسيقى الخارجية والتقفية لصالح الأفكار التي تزدحم بها قصيدته، متنازلاً عن الغنائية والمباشرة والفهم العادي للنثرية واستضافة الحس النثري في القصيدة، مندفعاً إلى تأثيث قصائده بالأفكار التي لم تسمح بالاستطالات أو الترهلات فكتب مجموعة قصائد قصيرة بسطرين شعريين أسماها (بلورات) وراح يكثف من خلالها رؤاه ومخاوفه التي كان أشدها وضوحاً وأكثرها ظهوراً : خوفه من الموت، فالإنسان بين المخلوقات الحية هو الوحيد الذي (يموت في داخله .. يموت في غيبوبة الذكرى).
هذه الفكرة التي تشع في شعره، سيجعل لها تجلياً آخر حيث تتبادل الأحلام واليقظة أدوارهما وتفسيراتهما:
 
تصادف الأحلام
تفسيرها في لحظة اليقظة
………….
تصادف اليقظة تفسيرها
في حلمٍ تدفنه الذاكرة
 
لا شك انه يطارح هنا فكرة ميتافيزيقية عن الموت والحياة فكأن الحياة حلم أو ذكرى
تتبادل الأدوار مع الغياب في اليقظة أو مع اليقظة في الغياب.ويركز فكرة أننا نعيش ظل حياتنا أو ذكراها لا الحياة نفسها.
كما يترك بتبادل الألفاظ: (يقظة-أحلام-غياب –ذكرى)إمكان أو احتمال أن تكون الحياة ذاتها تصورا لا حقيقة.
ويؤازر هذا التصور الميتافيزيقي تصميم قصدي لتوزيع الكلمات والأبيات على السطح الكتابي مما يهب المفردات والتراكيب وجودا خاصا يفرض أعرافه عند التلقي كما هو عند الكتابة’متجاوزا متطلبات خطية البيت الشعري أو إيقاع الوزن .
لم يكن يشدني في عودته الثانية والأخيرة للنشر شيء مثل حرصه على توزيع كلماته في الأسطر الشعرية ووضع النقاط في أماكنها، وحرصه على مساحات البياض. وحين جاء نعيه تذكرت على الفور إحدى قصائد (عوالم متداخلة) وهي قصيدة (الطارق) التي تحكي عن زائر متخف أو رسولٍ من الغيب ينتظره الشاعر ويتوقع دقاته على الباب، في يقين غريب هو جزء من نبوءة عجيبة بالقدر المحتوم الذي سيلاقيه من بعد.
ولعل هذا الطارق الليلي المفاجئ هو ذاته (الزائر المجهول) الذي كان ينتظره حارس الفنار في إحدى قصائد البريكان الذي يسأل : (متى يجئ الزائر المجهول؟).
في عام (98) نشرت(الأقلام) العراقية ملفاً آخر يضم عدداً من قصائد البريكان، متفاوتة في زمن كتابتها. لكن الملفت فيها هو هاجس الموت نفسه.. والشعور بأن هذا الموت هو من (لوازم) الحياة ذاتها:
للتاريخ دوي
لا تسمعه ملايين الجماجم
التي طواها النسيان
… أيها الإنسان تنفّس بعمق فإنك محاط بالعدم
وتتعزز هذه الرؤية في قصيدة بعنوان ( حضور الأموات ) تعتمد في بنائها على الأسئلة فقط على شاكلة :
من يتسلل خلف خطانا
في الطرقات المهجورة؟
من ينقر عند هبوط الليل نوافذنا ؟
ويحرّك أطراف ستائرنا
حين تهب الريح ؟
 
وبعد عدة أسئلة من هذا النوع تأتي الإجابة بعد فاصل بياض يدل على الصمت، بكلمة واحدة منفردة في سطر شعري ’ وهي: الأموات.
إن هذه الهندسة المنطقية والتوزيع المدروس لبناء القصيدة الذروي المتصاعد، والترقيم الغريب المتمثل في توزيع الجمل داخل البيت الشعري (كما يتبين عند دراسة قصيدة أخرى هي: غياب الشاشة)، تدعونا للقول بأن البريكان ذو وعي حاد بما يمكن أن نسميه الحياة الداخلية للنصوص أو الجمل الشعرية فيه، وهي لا تتطابق بالضرورة مع الجمل كما يتطلبها الإيقاع الوزني الذي التزم  به  البريكان حتى أواخر قصائده رغم تنازله كثيراً عن القافية وتجاربه القليلة في قصيدة النثر.
وسيلفت نظرنا نص مدهش يعبر عن إحساسه بجسد القصيدة وما يكونها أو يحدد حياتها داخل النص، وأعني قصيدته المعنونة (قصيدتان متوازيتان) والملحقة في هذه الدراسة .إنه يقترح في هذا النص التجريبي الرائد (لم أقرأ شخصياً تجربه مشابهة قبل نصّه) أن تكون للقصيدة حياتان أو وجودان أو نصان متحققان: فالبداية واحدة تتسلسل سطرياً:
 
في البدء
كانت البذرة
لكن النص ينشطر بعد ذلك إلى اتجاهين: على اليمين سبعة عشر سطراً شعرياً، ومثلها على اليسار، يفصل بينهما خط طباعي مقصود. هنا سيكون للقارئ خيار قراءة التكملة بعد بيتي البداية , إما بالاتجاه يميناً، ليرى مصيراً محدداً للبذرة :
(ترقد في التراب الندي)
إلى قوله في آخر سطر (وتذوي) أي أن النهاية اليمنى هي الانتهاء بالذبول، أو أن يختار القارئ الاتجاه يساراً بعد البداية لنجد البذرة التي قال إنها ترقد ثم تذوي، قد ظهرت كالآتي:
 
 
 
(تقاوم ثقل الأرض
تنشق عن جذع أغبر
يكافح كتل التراب)
لكن النهاية هي :
(وضربة الحطاب القاطعة)
أما في نهاية النص وبعد انقسام المتن إلى جهتين فهي واحدة تلخصها عبارة (في النهاية) وهي تتحدد مع البداية أو المفتتح في أنها مشتركة بين المقترحين .
 
إن سيرورة البذرة في القصيدتين المتجاورتين (أو المتوازيتين) كما يقول البريكان تشير إلى مصيرين مقترحين من الشاعر، لكن البدء والنهاية الموحدتين تريد أن توصل فكرة العبث والمصير المحتوم أيا كانت البداية فالصيرورة أخيرا واحدة..
فأياً كان اتجاه البذرة (ترقد أو تتفتق عن ساق أو تصعد بنعومة إلى الشمس الخ…) فهي تذوي في النهاية .. كما لو أننا اخترنا القصيدة المتوازية اليسرى حيث البذرة (تقاوم وتنشق عن جذع وتتضخم أطرافها وتتهدل الخ….) لتلاقي المصير نفسه تحت وطأة ضربة الفأس القاطعة في النهاية.
ولابد أن نشير هنا إلى التناص الذي صنعه الشاعر في مفتتح قصيدته:
في البدء
كانت البذرة
حيث يجلب إلى الذاكرة مفتتح قصة الخليقة برواية الكتاب المقدس:
في البدء كانت الكلمة
وهذا التناص يقوي الاستنتاج بان الشاعر مسكون بهم ميتافيزيقي حول الخلق والعدم أو البدء والمنتهى.
 
إن فكرة خلق سيرورتين لنص واحد ومن رحم بدء واحدة ….وخلق مصير واحد في النهاية، تعكس ذعر البريكان من لعبة الحياة وإمكان إفسادها وعطبها’ وامتداد ظل ذلك الزائر الليلي أو الطارق الذي سيجيء في النهاية أياً ما كانت حياة الإنسان بدءاً ونشأة وهرماً.
 
لقد أثبت البريكان أنه شاعر تجريبي من طراز فذ. فهو يهمل الإيقاع  الوزني تماماً في هذا النص لصالح إيقاع السرد النثري’ ونمو النص بنمو البذرة ذاتها وتوالي الأفعال والأحداث والأزمنة وصولاً إلى النهاية.
إن هذا النص ذا الحياتين أو الوجودين مرشح بدوره ليغيب أو يغوص في ما يسميه البريكان (غيبوبة الذكرى) ولكنه سيظل مثيراً ومقلقاً للقارئ من عدة جهات:
– عضوياً : حيث النمو الموازي المنشطر على جهتين.
– وبصرياً : حيث تتنضد خطيا أمام عيني القارئ صورتان للنص.
– وشعورياً: حيث تختلف سيرورة النص على اليمين وعنها في اليسار.
-وسردياً : حيث يشهد أحداثاً مختلفة يشوش بعضها الآخر.
وإزاء ذلك كله سيكفي خلق الشعور ب (القلق) عند القراءة والارتباك لدى القارئ في افتراض قراءة متفاعلة مع النص، لعلها هي القراء ، التي يسعى نقاد الشعر اليوم لإنجازه ليعيدوا للنص وجوده الافتراضي وهيأته الممكنة التي لا تتحقق إلا بتسليط قوة التأويل على المقروء والغوص في طياته أو طبقاته الكامنة وراء سطحه.
 
 
-2-
من بين منجزات الحداثة غير المنظورة، أو المحتسبة إيجابا لها، إعادتها هيبة علامات الترقيم داخل الملفوظ الشعري، واستثمارها لوصل الملفوظ ببعضه من جهة، وبالمغيّب أو المسكوت عنه خارج النص، من جهة أخرى.
إذ لم يكن لهذه العلامات قبل التحديث الشعري الذي بدأ بشعر الرواد – النصف الثاني من أربعينيات قرننا تحديدا – أي وجود. فقد اختصت بالنثر، وهُمشت شعريا لصالح سياق القصيدة البيتي. أي المنبني على أساس وحدة البيت واستقلاله. فليس من مكان لوقف أو استفهام أو تفصيل أو فاصل صمت أو تعجب، إلا ضمن وقفة البيت العروضية والتقفوية التي جلبت معها – لتقوية كيانها البيتي المستقل – وقفة معنوية بمعنى أن جرس القافية إيذان بانتهاء وحدة شعرية مستقلة وزنا وإيقاعا ومعنى. وما يظل من تدوير أو ترابط هو في بعض التصنيفات الموسيقية التقليدية ليس إلا خطأ فادحا يدل على عجز الشاعر أو غفلته أو خروجه على المألوف، لما يمثله اعتداؤه على استقلالية بنية البيت الشعري من تجاوز للذائقة. وهي ذائقة تكونت في ظل حاضنة شفافية، كان مبررا تماما على وفق نظامها السمعي على مستوى التلقي والإلقائي على مستوى الإرسال والبث، أن تحتاج لما يسور وحدة البيت ويصونها كي يصبح استيعاب المعنى والألفاظ ممكنا، ومتفقا مع الوظيفة العضوية لعاملي الإرسال والاستقبال (اللسان – الأذن).
وبهبوب رياح التحديث، تغير موقع المتلفظ والمتلقي معا. وصار للعين مسرح ضاج حافل بالموجودات المكتوبة على سطح الورق. وكان الامتداد المعنوي، بسبب سعة الدلالة ولا نسقيتها ومفاجآت القصيدة النامية بلا نظام صارم، يفيض عن وحدة البيت، ليقترح بناء سطريا جديدا، يتطور لاحقا إلى الجملة الشعرية بنوعيها: الكبرى ذات الهيمنة على البناء والدلالة والإيقاع والتركيب، والصفري ذات الوجود الفرعي الخادم لوجود الجملة الكبرى، والمتنوع على وحدتها، والمتعدد على مركزيتها أو بؤرتها المولدة. بهذا التراتب التاريخي الذي هو حصيلة تطور نوعي لا زمني وناتج وعي لا تقليد أو وراثة، صار للشكل الشعري ثلاثة تشكلات رئيسية تتدرج كالأتي:
وصار لزاما على القارئ المتعين كتابة لا مشافهة، أن يجدد لا ذائقته فحسب، بل ذخيرته النصية. فيهجم على النصوص لاحتوائها واستيعابها بما يجهز به نفسه من عدة كتابية تناسب السطح الذي تطالعه عليه القصيدة. صار على هذا القارئ البصري أن يتأمل دلالات علامات الترقيم وأن يجدد نظرته إلى التقفية والتكرار، والمطالع والخواتم وما بينها، ليتسع أفقا كي يلتهم أبعاد النص ويتمثلها قراءة وفحصا وإدراكا.
وإذا كانت هذه المقدمة ضرورية لتحديد نقطة النظر إلى شعر البريكان ضمن سياق الحداثة التي ينتمي إليها في ذاكرة الشعر العراقي وخارطته، فإن شعر محمود البر يكان – وهذه مناسبة ثانية – هو شعر قراءة بصرية لا مشافهة وسماع. وعلى هذا الأساس سوف نتفحص عنايته بتوزيع الأسطر الشعرية لصالح الجملة الكبرى وتفريقاتها الصغرى، ولكي لا نفترض التقاويل والتلفظات سنعمد إلى مسودة إحدى قصائده – (غياب الشاشة) 1990 – ونتأملها بخطه لنرى وعيه بالمكتوب ومادية الورقة وصلتها بالعبارة الشعرية.
ما يتيحه (غياب الشاشة) إذن هو اتصال بصري بنص حديث لنرى قصائده وحبائله وملاطفاته ونكته وحكمته ونزقه.. لنرى وجوده طه مختبئا وراء الصوغ الشعري المتقدم في جمل حية ذات فواصل ونهايات ومتن وبدايات واعتراضات واستطالات وقطع بالغ الحدة واستئناف غريب المبتدأ.. غريب المنتهى غريب المسار.
في قصيدة (غياب الشاشة) لمحمود البريكان، يطالعنا الوجه السطحي المقروء للنص، أو هيئته الخطية بثلاثة مقاطع تفصل بينها نقطتان سوداوان أرادهما الشاعر علامتين على الانتقال من المقطع الأول إلى الثاني ومن الثاني إلى الثالث. وهذا البناء المقطعي بعض أقاويل التحديث وفذلكاته سواء أجاء كما في هذه القصيدة من دون ترقيم، أم جاء مرقما بأرقام أو مسلسلا بأحرف وما شابه. وليس البناء المقطعي هنا عبثيا. إن النقطة السوداء تعلن نهاية حركة وموقف يشملها المقطع، وتمهد لحركة وموقف يليانه، ولابد أنهما متغايران على مستوى التركيب والدلالة، وهذا ما حققته قصيدة البريكان. فقد كان مقطعها الثاني تثبيتا يقدم مشهدا حاضرا. بينما كان الأول ينقض كذلة تصوير على كِسرة مشهدية ليرينا المكان أو مسرح الأحداث بجملة صغري تمتد على خمسة أسطر، ثم يذهب إلى الماضي مسترجعا ماضي القاعة كلها من خلال الشاشة (التي كانت.. وسط هذا الدار). أما المقطع الثالث فهو استعادة لفراغ الشاشة من المعروضات والخروج إلى الدلالة الصريحة (انطوى مهرجان الحياة).
على هذا الأساس تنقسم القصيدة إلى ثلاثة مقاطع ظاهريا. لكن تقنية جملها الشعرية التي لا تلتزم بحدود السطر الشعري ترينا وجود أربعة انتظامات مقطعية واضحة التباين هي:
1- مقطع المكان – مسرح الأحداث والاستلهامات الشعورية وتجليات البؤرة الأولية. ويبدأ من :
(مخزن الأمتعة)   إلى   (كغبار).
2 – مقطع الحضور الغيابي أي استحضار الشاشة الغائبة الآن، لتحول القاعة السينمائية إلى مخزن عاديات قديمة. (هاهنا كانت الشاشة الساطعة) إلى (والدموع).
3 – مقطع تثبيتي يهدف إلى تكريس مقطع المكان، لكنه يتنوع على فراغ فلسفي أو وجودي (للمكان روحه الصامتة) إلى (متعلقة بالدار).
4 – مقطع السؤال المصيري الذي يبدأ دلالة في السطر الخامس (من يرى يتذكر؟) إلى (حين تضاء المصابيح ثانية). فالشاعر قدم اللحظة على السؤال بنائيا.
إن المقاطع الأربعة المستنبطة بالقراءة الثانية المدققة بالعلاقات والارتباطات وكذلك بالانقطاعات والفصل البنائي والدلالي تجسد كلها ثنائية (الماضي / الحاضر) التي هيمنت على النص كله. وسنرى أن الجملة الشعرية الكبرى وتفريعاتها موظفة هي الأخرى لتجسيد دلالات هذه الثنائية التي بهظت روح الشاعر ووجوده حتى جعلته يتخلى عن حيادية التصوير التي عرف بها وخروجه من المشهد الشعري وتغييب الأنا – أنا الشاعر – لصالح أنا النص ووجوده ، وهي أسلوبية خاصة بالبريكان لازمت تعبيراته الشعرية منذ البدء. فدوما هناك راو أو سارد أو مصور مختف وراء الروي والسرد والتصوير. إنه يعرض علينا ما يرده سينمائيا دون تعليق. وهذه الميزة جعلت البريكان متناسق الأداة والهدف في هذا النص، مجافيا – كعادته – أية غنائية من لوازمها هيمنة الذات وعائدية الضمائر والأفعال لها. لكنه في هذه القصيدة بالذات يتخلى عن حياد يته في الأسطر الشعرية الثلاثة الأخيرة حين تساءل خارج سياق الشاشة ووجوهها المضيئة ومشاهديها عن الناس هل غادروا (أحلامهم) لا مكان العرض وحده.. وفسر ذلك بالسؤال أيضا عن تلاشي مهرجان الحياة كتلاشي الظلال على شاشة خالية. وكأنه جاء بالمعادل الرمزي المساوي لخلو الشاشة وفراغ القاعة فصار:
تلاشي ظلال الشاشة الخالية
انطواء مهرجان الحياة ومغادرة الناس
إن هذا البوح الدلالي ربما أضر بإيقاع النص المعتمد على حيادية إيهامية. فالشاعر لا يقف محايدا إزاء الحياة والموت، امتلاء الشاشة وفر اغ القاعة. لكنه اكتفى بالتستر وراء المويتفات الحزينة والجارحة، الحادة بفعل التذكر ويقظة الذاكرة. أما النهاية فقد جاءت اقتحامية إقحامية. هجم الشاعر على المشهد وسأل سؤاله الحاد فأقحم وعيه في صمت الأشياء وغبارها ورمادها.
تعرفنا حتى الآن على ثنائية وثلاثة مقاطع ظاهرية وأربعة مقاطع دلالية. ونصل عند هذه النقطة إلى التعرف على الجمل الشعرية. لنجد أن العنوان (غياب الشاشة) هو من النوع المباشر المعبر عن المحتوى. إنه عنوان استباقي أي انه يحكي ما سيجري ويرشدنا إلى بؤرة الحدث فكل ما سنقرأ هو عن (غياب الشاشة). وجمل النص الأخرى هي تفريعات تنويعية لهذا الغياب. إن الشاشة ذات وجود محير. فظلامها انتهاء وضوؤها إعلان عن بدئها وحياتها.لكنها لا تضيء إلا وسط ظلام القاعة. إن الظلام المطبق إشارة إلى بدء توهج الشاشة. فهل أراد البريكان باستحضار هذه الثنائية أن يذكرنا بخروج الحياة من العدم أو لزوم العدم لوجود الحياة وانبثاقها؟
لقد تسبب هذا الازدواج بازدواج دلالي محير. فالشاعر يعد الفراغ التالي لانتهاء العرض مساويا للإضاءة التي تعني النهاية. فخروج المشاهد مقترن بالضوء الذي ينتزعه من تماهيه بالمرئيات على الشاشة. فتحقق على مستوى الترميز شيء مزدوج هو:
■ إضاءة القاعة = فراغ الشاشة + غيابها
بمقابل: · عتمة القاعة = امتلاء الشاشة + حضورها
يترتب على ذلك سؤال يتصل بالتلقي: أيكون غياب الشاشة وفراغها بالضوء مساويا لغبار القاعة وتحولها إلى رماد من الذكريات والأشياء العادية ؟
إن الجمل الشعرية التالية للعنوان كلها تجيب على هذا السؤال وتكرس الثنائية الكبرى أعني ثنائية الماضي /الحاضر أو الحياة / الموت أو الحضور /الغياب.
تعرفنا هنا على ثنائية كبرى إذن وتنويعاتها الداخلية الثانوية. كما تعرفنا على جملة كبرى يلخصها العنوان وتشتغل القصيدة كلها من أجل تكريسها منذ السطر الأول حتى علامة الاستفهام التي ختمت السطر الأخير من القصيدة وصار المخطط التجريدي للنص واضحا بتعيين الجمل الصغرى وهي بالتتابع:
– جملة (مخزن الأمتعة..)
– جملة (للمكان روحه الصامتة..)
– جملة (هاهنا كانت الشاشة الساطعة)
– جملة (من ترى يتذكر؟ لحظة تتصاعد..)
– جملة الختام – السؤال الذاتي الإقحامي: وهل غادر الناس.. وانتهوا وانطوى مهرجان الحياة ؟ تتخللها كلها وتخترقها وتطوها جملة النص الكبرى (-جملة العنوان): غياب الشاشة. إن البناء الجملي الحقيقي (- النحوي/ مؤسس على الاسمية. فالجمل لدى البريكان إسمية أي أنه يتخذ هيئة المخبر عن الأشياء لا الفاعل وهذا يناسب مقام الدلالة، فالتلفظ بالإخبار يوافق تماما موضع الشاعر كسارد للنهاية: نهاية الشاشة والقاعة والحياة والماضي. هنا لن تقوم الأفعال إلا بدور ثانوي لذا نجدها مكملات لا أساسيات. أي أنها تستخدم لصوغ الخبر أو الحال أو الصفة لا لتترأس الصياغة وتتقدمها لبناء الحدث.
حتى البناء الجملي الفعلي يأتي ناقصا أي بالفعل (كان). أما البناء الفعلي التام فهو تابع للاسم مثل:
1- الشعاع الذي يتراقص…
يموج… [صلة الموصول + خبر] 2- السكون
وحده يتنفس [خبر] 3- الكائنات الخفية تكمن [خبر] 4- المهود التي صدئت [صلة الموصول ] 5- لحظة تتصاعد…
حين تشع…
حين تضاء [إضافة للزمن – تكملة للحظة والحين ] 6- من ترى يتذكر [خبر] 7- التي ائتلقت – التي شاهدت [ صلة الموصول ] 8- هل غادر… [ تابع السؤال ] وانطوى …      ،، ،،
كما تتلاشى.. ،، ،، تكملة بالوصف – التشبيه] إضافة إلى المطلع (الأثاث القديم يتنفس فيه السكون) (يتساقط) [خبر] إننا لن نجد بناء فعليا عدا هذه المواضع العشرة التي يمكن اختزالها إلى وظائف محددة هي:
1- الإخبار 2- صلة الموصول 3- تعلق بالزمن 4 – بناء الاستفهام 5- التشبيه.
إن الشاعر ليس معنيا بالحدث وكيفية ما حدث بل الإخبار عما حدث، والتفلسف حول مغزى هذا الحادث، لذا جاءت الجمل الاسمية ذات أهمية مطلقة على الجمل الشعرية كبراها وصغراها. وكان تصوير المكان والماضي والحاضر بالمفردات التي تبدو متناثرة منفصلة لا يجمعها إلا مونتاج شعري ذكي، يسهم بربط مفرداته قارئ ذو خبرة سينمائية. لعله أحد الخارجين إلى النور من عتمة القاعة نفسها، والحاشدين إليها للسؤال عن مصير البشر.
إذا شئنا تسمية الجمل المغرى فسنجدها في:
1- مخزن الأمتعة… كغبار
2- ها هنا كانت الشاشة… والدموع.
3- للمكان روحه… متعلقة بالجدار.
4- من ترى يتذكر ؟ لحظة تتصاعد وشوشة الناس.
5- وهل غادر الناس… على شاشة خالية.
إننا لا نحفل بطول الجمل لتعيين موقعها في النص. فجملة (غياب الشاشة) ليست جملة نحوية فهي مصدر ومضاف إليه. لكن تقدير الحذف: هذا غياب الشاشة. أو المروي هنا غياب الشاشة. أو لماذا غياب الشاشة: يجعلنا نعطيها صفة جملة. بل نجعلها جملة النص الكبرى. ولهذا لم يكن الشاعر محتفيا بالبناء الجملي الداخلي. بل يتجاوز وقفات العروض والقوافي والدلالة والتركيب ليصنع جمله من عبارة واحدة أو كلمة واحدة أحيانا:
كغبار
والدموع
السكون
بينما يحشد أكثر من جملة نحوية في سطر شعري واحد يفصلها عامدا بنقطة (= علامة الانتهاء).
المهود التي صدئت. الأسرّة ذات النقوش
ولتعمد الفصل في غير مكانه النحوي يلجأ الشاعر إلى وسيلتين 1- العطف الجملي بلا عاطف نحوي، 2_ الانتهاء بالنقطة ثم ترك بياض أو فراغ قبل استئناف جملة جديدة .
وإذا ما تأملنا مفردات السطر أعطينا الشاعر الحق في هذا الفصل. فالكلمة الأولى في السطر (المهود) ستؤول دلاليا بعد الكبر والزواج إلى لمّ الأسرة). وذلك يلزم صمتا مكانيا يهيئ للانتقالة الدلالية. فما بين صدأ المهود ونقش الأسرة عمر، نكبر به ونجتاز المسافة من المهد إلى السرير بمتعة، سنرى أنها كاذبة حين يتساوى المهد والسرير في أرضية قاعة باهتة الروائح، مظلمة فارغة.
إن الاختزال الرائع للعمر بـ (المهود التي..) و (الأسرة ذات) إنما يعتمد على مشاركة القارئ وسياق الدلالة المشترك. فالسرير مكان جنسي ورمز المضاجعة والنوم المشترك مع الزوجة أو المرأة عامة. أما المهود فهي حاضنة البراءة والنوم المحايد غير الموظف لمتعة. ولنتأمل سطرا آخر يراكم مفردات المخزن المهجور الذي كان قاعة عرض صاخبة تضج بالوجوه والسفن والنساء والكنوز والبيوت والفرسان..
الأواني. المعاطف. الأغطية
إن هذه الموتيفات الثلاث غير متشابهة رغم أن الشاعر وضع نقطة بينها ليباعدها. فالأواني غريزية – طعامية. والمعاطف تدثرية طقسية. والأغطية: تدثرية سريرية. لكنها تشترك في إنسانيتها أولا كونها جموعا تدل على ممارسة الحياة من خلالها.
النقطة إذن فاصل داخل السطر كما هي خاتمة في نهايته.
أما النقاط الثلاث التي تلي إضاءة لمصابيح فلها دور امتدادي. إنها تقول للقارئ أن ثمة حدثا سيجري: يخرج من الأحلام والمتعة. من العدم المريح والتذكر لينغمسوا في التعب اليومي، لذا صاغها الشاعر خطيا هكذا:
حين تضاء المصابيح ثانية…
أما الأقواس التي تؤطر كلمة (النهاية) فهي استخدام حدا ثوي أيضا. تلاعب الشاعر بكلمة النهاية فقوسها ليصور ظهورها المكاني على الشاشة إيذانا بانتهاء الفيلم المعروض ثم ليمزج ذلك بنهايتين: 1- نهاية النص نفسه 2- نهاية الحياة. وهما متولدتان من نهاية الفيلم التي تحملها حروف كلمة (النهاية). وعلى المستوى الإيقاعي دور الشاعر الأسطر الثلاثة ليصل إلى النهاية. لأن قراءة كلمة (حروف) دون إضافة إلى النهاية يوقع في كسر إيقاعي سببه الخطأ العروضي. أما القراءة المتصلة فتظل فيها التفعيلة ضمن جو المتدارك (=الخبب) وتفعيلته (فاعلن /فعلن) والخارجة إلى (فاعلان) أحيانا.
حين تشع حروف
(النهاية)
إن الشاعر يرسمها (النهاية) بقوسين، مستقلة على سطر لما لها من دور بنائي ودلالي، جعله يغفل عن صلتها العروضية أو الإيقاعية بما حولها، ويتجاوز إضافتها إلى كلمة (حروف).
أما الأسئلة المتلاحقة في الخاتمة فقد جعلها الشاعر مختومة بعلامة الاستفهام التي لا نجدها في الاستفهام العمودي (أي الشعر المنظوم تقليديا).
إن هذه العلامة (؟) ذات وجود بصري يضاعف بنية السؤال ومعناه إذا ما غفل القارئ أو طال السؤال أو تجزأ أحيانا:
من ترى يتذكر؟ أين الوجوه التي ائتلقت ؟
وللشاعر في التقنية الداخلية عدة أساليب منها: الاستطراد بالوصف وهو أكثر الأساليب تردادا (20 صفة صريحة + 5 صفات بالاسم الموصول). وهذا يناسب مقام الإخبار عن (غياب) الشاشة أما مجيء الحال بالصيغ التي أكثر منها شعراء الحداثة لتقوية بناء الجملة مثل (البيوت رافلة) أو (السعادة خالصة) فهناك (أربعة أحوال):
البيوت رافلة /السعادة خالصة /المناضد مكسورة / الخزانات مغلقة)ويكون التتابع التركيبي حسب درجة ترداده أسلوبيا كالآتي:
1- الجمل الاسمية (أخبارها جمل فعلية).
2- الموتيف المتراكم بالمفردة.
3 – بالوصف.
4- بالحال.
5- بالتشبيه (3 مواضع فقط: كرماد/كغبار/كما تتلاشى..).
ويلزمنا أخيرا تأمل موقع الإيقاع في البناء الجملي الجديد. فإذا كانت الدلالة [= التحسر على ما آلت إليه الحياة والأحلام ] هي المهيمنة انبثاقا من جملة النص (= جملة العنوان: غياب الشاشة) فإن الإيقاع بمستوييه العروضي والتقفوي يؤازر توزيع الجمل الشعرية. فكما أن الشاعر لم يراعِ النظام البيتي أو السطري لصالح البناء أو الانتظام الجملي الأعم، فإنه لم يراع التوزيع العروضي رغم أن تفعيلة المتدارك تسمح بصلة أكثر حميمية لتقارب سكناتها وقصرها (فاعلن – فعلن) لكن الشاعر جعل منها امتدادا للدلالة والصوغ. فلم يلتزم بوقفاتها. هكذا نقرأ (والأثاث القديم): فاعلن/فاعلان. ونقرأ كلمة الختام في المقطع الخطي الأول: (والدموع): فاعلان. وكذلك (للمكان): فاعلان… أما التقفية فهي مهملة في شعر البريكان دائما. وفي هذا النص جاءت القافية في المقطع الأول:
.. الشاشة الساطعة
………………
القاعة الواسعة…/ والمغامرة الرائعة
ثم تظهر غير مكتملة في كلمة (والدعة) تفصل بينها أسطر كثيرة بحيث لا يظل جرس القافية من أثر في نفس المتلقي الذي يتسلم معاني لا أصواتا في هذا النص الكتابي الحديث. وفي المقطع الثاني سطران مقفيان تتابعيا:
روحه الصامتة
.. روائحه الباهتة
سرعان ما تنسى إذ نفرق في أسطر مرسلة دون تقفية. لكن مهيمنة صوتية أخرى تفاجئنا هي حروف المد الكثيرة في النص التي تتواتر لتصل إلى حد تصويت القافية أو الإيقاع مثل الناحلة /الشاحبة / الفارعة / خالية /
وقبلها/ الرائعة وقوافيها والباهتة وقوافيها..
إن غياب الشاشة أو خلوها بالضياء والضجيج ثم بالفراغ والغبار لهي كناية بجملة واحدة طويلة عن النهاية. ذلك السؤال اللغز الذي حير جلجامش وظل على صدور البشر الشعراء حتى يومنا هذا فلقد غاب بغياب الشاشة المشهد والمشاهد ومكان المشاهدة معا.
 
 
 
 
 
 
 
 
ملاحظات ما بعد القراءة:
1- يمكننا فحص العنوان (غياب الشاشة) بكونه نواة أو جملة كبرى أو بؤرة مولدة لخلايا النص البنائية والدلالية.
2- القصيدة منقولة نصا عن نسخة بخط الشاعر نشرت  في مجلة الأقلام  خلال عملي رئيسا لتحريرها ضمن مجموعة قصائد بعنوان ( عوالم متداخلة) . وهذا يبرر فحص (مقصدية) الشاعر في تعيين حدود الأسطر والجمل الشعرية ودلالات علامات الترقيم التي  يحرص عليها البريكان ويقلق وستأخذ في القراءة موضعا خاصا.
3- يحرص الشاعر على توزيع الفراغ داخل الأسطر لاشتقاق الدلالات وتحولاتها، ولتحقيق تحولات في البنية التركيبية أو الإيقاعية.
4- يمكن أن نلخص هنا تجريدا خطيا للنص عبر هذا الجدول:
1- جملة كبرى          غياب الشاشة
2- جملة صغري    خمس جمل (مشار إليها في التحليل)
3- مقاطع خطية ثلاثة مقاطع:
1- مخزن الأمتعة..
2- للمكان
3- لحظة تتصاعد..
4- مقاطع داخلية أربعة (مشار إليها)
5- تراكيب أسماء / صفات /مفردات
أحوال / تشبيهات
فصل /وصل
6- ثنائيات كبرى: الموت / الحياة
صغري: الحاضر/الماضي
عتمــة /إضاءة
غيــاب / حضور
مخزن قديم / قاعة -شاشة
7- تقنيات كتابية
نقطة النهاية
نقطة الفصل
العطف بلا عاطف
الأقواس
علامة الاستفهام
نقاط الامتداد…
8- التقفية:  خمس قواف (مشار إليها)
9- الإيقاع الوزني
فاعلن / فعلن
فاعلان + أحرف المد
5 – يمكن الاهتمام بدلالة التاريخ 1990 الموضوع بين قوسين آخر القصيدة. بينما كانت البصرة – مكان الكتابة – حرة دون تقويس. ففي ذلك انعكاس لانشغال الشاعر بالزمن وأهمية التاريخ لديه.
 
 
 
 
غياب الشاشة
شعر: محمود البريكان
مخزن الأمتعة
والأثاث القديم
يتنفس فيه السكون
يتساقط فيه الزمن
كغبار
هاهنا كانت الشاشة الساطعة
وسط هذا الجدار
هناك كانت القاعة الواسعة
قاعة العرض مكتظة في الظلام
والشعاع الذي يتراقص بين الظلال
يموج عوالم للحب والسحر والخوف والانتصار
والمغامرة الرائعة
ورجال الفروسية الأولين
والنساء الجميلات، والسفن الخالدة
وبلاد الكنوز الخفية
والمدن الهائلة
والبيوت البسيطة رافلة في الدعة
والسعادة خالصة
والدموع
·
للمكان
روحه الصامتة
للهواء روائحه الباهتة
كرماد حريق قديم
السكون
وحده يتنفس.
الكائنات الخفية تكمن داخل أشيائها
المهود التي صدئت.                    الأسرَّة ذات النقوش
الكراسي بأذرعها الناحلة.
المناضد مكسورة بعض أطرافها.
الخزانات مغلقة.
الزهور الصناعية الشاحبة
الأواني. المعاطف. الأغطية
أُطر الصور الفارغة
متعلقة بالجدار
·
لحظة تتصاعد وشوشة الناس في قاعة العرض
حين تشع حروف
(النهاية)
حين تضاء المصابيح ثانية…
من ترى يتذكر؟ أين الوجوه التي ائتلقت ؟
والعيون التي شاهدت كل شيء ؟
وهل غادر الناس أحلامهم وانتهوا؟
وانطوى مهرجان الحياة، كما تتلاشى الظلال
على شاشة خالية ؟
البصرة (1990)

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
                        
 
 
 
 
 
 
 
 
 
           
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
                                       الجواهري: قصيدة الأنا المنفعلة
 
 
 
 
 
 
 
تقودنا قراءة الشاعر محمد مهدي الجواهري إلى اكتشاف حقيقة يصل إليها نقاده و قراؤه من أي المقتربات وصلوا إليه و بأي المناهج و الرؤى راجعوا تراثه، تلك هي قيام قصيدته في بنائها و موضوعاتها على جدل حي و فعال و خلاق بين الموروث بجانبه الشعري كمنجز ماثل للقراءة و قابل للتأثير، و بين المستقبل الذي يهفو إليه الشاعر و يعتقد بإمكان حصوله في الفن كما في الحياة و يسعى غالبا و يعمل كي يراه  متحققاً.
هذا الجدل ينعكس متجسدا في قصيدة الجواهري بشكل حاد منذ بواكيره الأولى التي كان يتمثل فيها شعر القدامى بكثافة، سوف تخف شيئا فشيئا حتى تكون للجواهري بصمته التي لا تخطئها العين ولا الذاكرة، وهي التي تسم أسلوبه الشعري كما تطبع حياته في الشعر و خارجه.
كان الجواهري مقيما في قلب عصره و حياة وطنه . و يمكن لمؤرخي الأدب أن يتابعوا من خلال شعره أبرز منعطفات العراق و العالم العربي و أهم أحداثه و وقائعه، و كأنه بهذا يعيد سيرة مواطن مدينته (ابن كوفته الحمراء) أبي الطيب المتنبي ، فهو يسمح للقراءة السيرية و الشعرية معاً أن ترصد ذرىً و تعرجات و نجاحات و إخفاقات ، قربا من الممدوحين وابتعاداً عنهم، سجناً و سفرا، سلطة و صعلكة و كأنما هو –  و المتنبي مثاله –  يحيا عدة حيوات في حياة واحدة ، فيكون من الطبيعي حين ذاك  أن تتلون مثل فسيفساء بما هو متناقض من الألوان أو منسجم.
ربما سيكون هذا دفاعا  عن نقاط  مختلف عليها في خط حياة الجواهري تعدت إلى شعريته أحيانا كبعض مدائحه التي تحيل إلى نقاط أو محطات خلافية  في حياة المتنبي أيضا، و لكن دافع هذه القراءة يستند إلى تغليب الكيفية( التي نظم بها وألّف) ، و ذلك هو لبّ الدفاع عن كافوريات المتنبي مثلا في تطرفها هجاء و مدحا   وصلت به حد اعتبار  كافور (إنسان عين زمانه) في فصل المديح، ليصف كافور نفسه بأنه (قردٌ يقهقه أو عجوزٌ تلطمُ) في فصل الهجاء . و لكنّ القراءة المعاصرة المستنيرة بالمنهجيات الحديثة و كشوفات نظرية الأدب لا تتوقف عند (الفكرة ) المنتجة في سياق خاص و مختلف ولا بالحكم عليها خطأً أو صواباً بل في كيفية التعبير عنها و التفنن في توصيل المعاني المتفرعة عنها بأفضل الأساليب الأدبية المؤثرة .
وأحسب كلما عدت إلى قراءة الجواهري أنه كان يدرك مهمته في تنشيط و إنعاش الجسم الشعري و ترويض خلاياه و مفاصله لكي تستوعب مستجدات العصر و لغته و إيقاعاته و موضوعاته و تراكيبه المتغيرة  قياسا إلى سياقات الشكل الشعري الموروث و المتمترس خلف إيقاعات تخلقها بنية البيت الشعري بشطريه و تفاعيله المتساوية عدديأ و المتكررة نغميا و التي يؤازرها تكرار القافية الموحدة، بل كان يدرك أيضا حين تفتحت شعريته في مطلع العشرينيات و تزامن تطوره مع نهضة الشعر العربي و يقظته أنه ربما سيكون آخر الذرى المبدعة و الخلاقة في هذا الشكل  و المضيفة على تراثه ما يستحق البقاء في زمن  انحسار الذرى واستنفاد إمكانات القديم الشعري بحسب التغيرات الشكلية والإيقاعية، فتظهر في قصائده عبقرية اللغة و جمالية الأسلوب و حيوية الشكل الشعري  القديم و مزاياه الملخّصة بالجزالة اللفظية و دقة التعبير و البراعة في الوصف و التشكيل المضموني و البلاغي مما تظهر معه قوة التقليد الشعري. و لا أعني هنا بالتقليد الاحتذاء و الامتثال لنماذج محددة ينسخ الشاعر على منوالها أو ينسج بما يتراءى له  من نسيجها بل أعني إعادة إنتاج ( التقاليد الشعرية ) ذات الأسس والقناعات الواضحة والسائدة  و ما يندرج ضمنها من قيم معنوية و فنية تعطي للشكل و للعصر الذي ازدهرت فيه تلك التقاليد وجهه و هويته الخاصة، كما تتيح للشاعر المبدع إظهار مزاياه التعبيرية.
و هكذا نجد خصوصية الجواهري في جلاء تلك التقاليد من جهة و إنعاشها  بمستجدات الموضوعات و الأساليب ، لكننا لا نستطيع قراءة الجواهري دون مرجعية تراثية تعيد إلى الذاكرة مثلث الإيداع الشعري العباسي البارز أعني البحتري و أبا تمام و المتنبي  حيث يتمثل الجواهري أفضل ما أضاف هؤلاء إلى الشعرية العربية ، كالوصفية اللونية و البهرجة اللغوية و الصورية لدى البحتري الذي يخاطبه الجواهري متخيلا ساعة معه في سامراء بالقول:
             أجللت منظرك البديع ، و منظر                     أجللته  لم لا يكون بديعا
و كتقوية الفكرة بالحكمة المعضدة لها المتفرعة عنها لدى أبي تمام الذي يؤازر صوره و معانيه بالمحاكمة العقلية و الفكر، فيقول مخاطبا الزهاوي بالقول:
             و كنتَ على خِصب العراقي شاهداً         إذا أعوزتنا في التباهي الشواهدُ
معيداً أجواء تحية أبي تمام لصديقه الشاعر ابن الجهم عند وداعه، و كذلك في الانتقال من المعنى الخاص إلى تعميمه كقوله :
              وعندك قوة التعبير عما                        تحس، و ميزةُ الشعراءِ نطقُ
أما المتنبي فإضافة إلى الجزالة اللفظية و براعة العبارات و التراكيب فهو يحضر من خلال وجود ( أنا الشاعر ) بقوة و تمركز لافت لعل تأكيده بيّنٌ في  قول الجواهري في تحدي الطغاة:  أنا حتفهم  ألج البيوت عليهم……كما يجسّم مهمته   الشخصية راعيا للشعر أو رباً للقوافي كما ادعّى سلفه المتنبي فيقول:
             و أنا الذي أعطى القوافي  حقها
وتتأكد في  قوله:
            و أنا الذي صان القريض ………..
إن موضوعات الجواهري و القضايا التي شغلته تؤكد عيشه الحياة طولا و عرضاً لا هامشاً أو حاشيةً، فهو يكتب عن المدن التي ينزل بها، و تلك التي ارتبطت بتاريخ نضالي أو تحرري، أو شهدت أحداثا و تقلبات أو كوارث أو أزمات ، كما يكتب في المناسبات الخاصة و العامة و في أحداث عصره ووطنه ، و ذكرى شعرائه و كتاّبه و أصدقائه الشخصيين و الشخصيات التي يرى فيها أهمية أو استثناءً.
و لعل الغريب أن يتفق قراء الجواهري على اختلاف أذواقهم و رؤاهم و مستوياتهم نقاداً و قراءً عاديين و باحثين و دارسين ، فيجمعون على تقديم قصائد بعينها على سواها من ميراث الجواهري الغزير والمتنوع، فيرددون (دجلة الخير)، و( قف بالمعرّة)، و(أخي جعفر) ،و(خلّفتُ غاشية الخنوع ورائي)، و سلام على هضبات العراق، و تكريم هاشم الوتري، والثورة العراقية ،والفرات الطاغي، والمحرقة، وأي طرطرا ، وأزح عن صدرك الزبدا ، و رثاء المالكي، و بريد الغربة ، و أم عوف، و تنويمة الجياع ،و المقصورة ، وأرح ركابك..و مثيلاتها مما صار مكتبة قراءة و نخبة اختيارات ترد في الذاكرة كلما ذُكر الجواهري بجرأته و صلابته و بلاغته و رقة صوره التي لم يقلل من شأنها الهدف الثوري المباشر أحيانا و الفخامة الكلاسيكية أحيانا أخرى بل ظل شعره قابلاً للقراءة  بأكثر من مقترب أرى أن بعضها لم يؤكدها الباحثون كالسخرية السوداء التي تنبث في كثير من قصائده الشهيرة و إن كانت موشاة بمرارة و ألم و غضب عاصف أحيانا مما يحيل ثانية إلى المتنبي،
و هي تعكس مزاجه الحاد و تقلباته النفسية مما ستؤكده سيرته التي كتبها على شكل مذكرات.
لقد كان الجواهري يرى أن الشعر و الأدب لصيقان بالآلام الثقال و قرينان بها لذا لم يمنع ترف القصيدة من رؤية معاناة  الجواهري و عنائه في موازنة الجدل الحي في شعرِه بين الفن و التعبير، و الإبداع و التقليد ،والإقامة في قلب العصر و تمثل أصوات الماضي ، و بين علوّ الكلاسيكية عبارةً ومعنىً ، و الاقتراب من الشعبي و اليومي هدفا و وسيلة. وفي حساب ذاكرة الشعر العراقي والعربي سيكون للجواهري مكانا بارزا احتله بجدارة وجسارة وكفاح ضد كل ما هو معادٍ للحياة والحرية والجمال،وتلك من عناصر تفرّده وتميّزه وقدرته على الوليد والخلق الذي عجز عنه النظّامون والمقلّدون والمجترّون.فأضاف بذلك لرصيد لكلاسيكية العربية وخدم التحديث بطيّه متحدياً صفحة النسخ والاحتذاء مكرّسا منهج الشعر الذي لا تشفع له إلا سماته الشعرية وقوانينه دون سلالات مراتب ولم يعرف عنه معاداته للتحديث لذا اتفقت الأجيال الشعرية المختلفة على شاعريته :
   إني لأصبو للقريض تهذبت         منه الحواشي صبوة المشتاق
  وأريد شعرا  ليس في أبياته          غير القلوب تبين للأحداق
 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
                                    قصيدة الجسد: أدونيس
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
                        
 
   يمكن أن يكون ما قدّمه  أدونيس  في ديوانه : تاريخ يتمزق في جسد امرأة  ( دار الساقي2007)، تكراراً لقراءته  للتاريخ شعرياً ، والتاريخ العربي خاصة، بعد أن توالت قراءات أدونيس له نثراً في (الثابت والمتحول)  ، وشعرياً في أجزاء عمله الضخم : (الكتاب) عن حياة المتنبي وشعره.وهي قراءة تدين مجريات الماضي المتخذ هيئة التاريخ  ، و القائمة سياسياً على سنن العسف والقمع والتغييب ، رغم أن أدونيس نفسه أسهم في كشف الإضاءات المتقدمة لاسيما في الشعر الموروث  ( مختاراته من ديوان الشعر العربي) والنثر الإشراقي  (دراساته عن المتون الصوفية في الصوفية والسوريالية  وتنبيهاته على المواقف والمخاطبات وسواها ) وهي إشارات تند خارج الموجة الإجترارية والمحكومة بنسق سلطوي في هذا التاريخ الدموي كما يلخصه في( الكتاب)  ، أو كما يصفه في إحدى قصائده بأنه تاريخ معمّى وحطام ، في زمن أعمى .
الاحتكاك بالتاريخ وبناه المعرفية ومعتقداته تتم عبر محور الحرية التي ينذر أدونيس نفسه وشعره  لها مبكراً  ، ليس في اختياره قصيدة النثر والتبشير بها فحسب  ، بل باصطدامه بالبنى المهيمنة على العقلية العربية ، والشعر والفكر في مقدمتها ، وفي اختيار الرموز والأقنعة والمرايا  الثورية والمهمّشة والمنبوذة في التاريخ الرسمي أيضاً، و في الأسئلة التي يثيرها قارئاً وكاتباً حول القناعات واليقين المستقر والمُصادِر للآخر.
والمرأة إحدى أبرز نقاط اصطدام أدونيس ومشروعه التحديثي    بالجماعة ومألوفها الاجتراري ، سواء في الملفوظ الشعري له وحضور المرأة فاعلا في الحب والحياة والرفض ، أو في أطروحاته النظرية حول المجتمع والفن والحياة والثورة والتقليد والإبداع.
هنا يتمحور عمل أدونيس حول المرأة من زاوية الجسد الذي تصوره الثقافة الموروثة والمحكومة بالممنوعات والتابوات ، بما يمكن أن يكون  احتكاما للوظائف المسندة إليها والمحددات المحيطة بها ،  تحديداً دونياً لدورها كنوع إنساني لا مجرد جنس قسيم للذكر(=أنثى) .
والعنوان  في العمل كعتبة مهمة وموجّه قراءة قوي ودالّ يوحي بذلك ،  فالتاريخ يتمزق في جسد امرأة، يتلاشى مِزقاً بعد أن قرأناه أمجاداً ومفاخر و عنتريات فارغة، وخذلانه وبيان زيفه يتضح عبر جسد امرأة ، نبذه الضمير الجمعي وحوّله إلى مسكوت عنه ضمن منظومة المغيبات التي تتعلق بالمرأة التي يراد لها أن تؤدي دوراً محدوداً بالإنجاب وتلبية الغرائز من طرف واحد.
امرأة أدونيس التي يحاكم التاريخ من خلال جسدها لا تريد هذا الدور، وترفض الزعم أو التصور السائد حولها :
زعموا أنني خلقت لكي لا أكون سوى ذلك الإناء
لاحتضان المنيّ كأني مجرد حقلٍ وحرثً:
جسدي من غثاءٍ وحيض
وحياتي تجري
مرةً صرخةً ، مرةً مُومأة
ولماذا إذاً يكتب الكونُ أسرارَهُ
بيدي عاشقٍ؟
ولماذا إذاً يولدُ الأنبياء
في فراش امرأة؟
وهذا السؤال الملخّص للفكرة عن إرادة حصرها في خدمة الغريزة والحفاظ الطبيعي على النسل،  يناقض كونها حاضنة للأنبياء والعشاق من رسل المحبة.
في عتبة ( الاستهلال ) كما سمّاها أدونيس – المدرك لتقنيات النص المعروض للقراءة وعَتباته وموجّهاته – يعرفنا عبر (صوت) بما سيقص علينا في عمله تاريخا لامرأة هي أم سلالة من ابشر:
                  هذهِ سيرةُ امرأةٍ عبدةٍ وابنها
                نُفيت ، لا لشيءٍ سوى أنها
                كسرت قيدها، ويُحكى
                 أنها زُوجت لنبي
                   وأن ابنها
                صار من بعدها نبياً
               لم يجيء في تعاليمه
                أنها حُرّرت
إن الإعلان عن ستراتيجية العمل بأنه سيرة لِعَبدةٍ وابنها ، ومجيء المرأة بصيغة التنكير ليؤكد أن أدونيس في موقف تاريخي عام  لا ظرفي خاص  ،   فهو لا يعرض حالة المرأة المشخّصة أو المتعيّنة في شعره ، بل يتصدى لحالة ( امرأة ) بالتنكير ، هي المرمّزة لجنسها والنائبة عنه عبر التاريخ كله، كما أن ابنها هو البشري الذي يحكي عنه جبران كثيرا كابن للحرية والذي مسخته العبوديات التي وجدها بعد ولادته الأرضية ..لذا لم أعبأ بمطابقتها بشخصية تاريخية كي لا تتحدد وتصغر دلالتها.
لكن امرأة أدونيس تمارس أيضا بعض دورها الأمومي كما أراد لها خطاب الرجل ،  فتحضر لا بجسدها الذي تمتلكه كرغبة ، بل كأم يرافقها ولد لن يذكر في تعاليمه حين يكبر ويشرّع الدساتير والقوانين والأعراف أنها  أصبحت حرة ، فظل وجودها الحياتي مرهونا بالعبودية ،  كما كان وجودها النصي داخل العمل كذلك في بداية الاستهلال وختامه ، عبدةً  للرجل ولصورتها التي رسمها لها  هو وللدور الذي أسنده لها.
السيرة النسوية إذاً ستمر عبر الجسد وقبل استفاقتها الواعية وإحساسها به سيقرر الراوية في الصفحة التالية للاستهلال إلى ما يقيّد المرأة من جهتي زوجِها وابنها:
                إنها امرأةً : مرة ً قيدُها طفلُها. مراراً 
                         قيدُها زوجُها
ولكنها مع ذلك تكون ضحيتهما ،ن في النهاية ، فلا تستطيع العيش بأنوثتها –جسدها ، لأنها تعاقَب بالختان( كلّ مختونةٍ جثةُ) وبقمع رغبتها(إنني كفراشةِ ليل خطايَ شمعة)، وغربتها عن زوجها ( وأهفو إلى عاشق يكون صديقا)   ، بينما في نهاية القصيدة تهجم الجماهير على  المرأة  لتقتلها رجماً بالحجارة ، كما حصل لسواها من نساء التاريخ اللواتي قلن : لا، فتموت  ومعها طفلها الذي لاقى مصيرها نفسه في النهاية..
تختم الجوقة القصيدة بالتعليق على ما جرى للمرأة في القصيدة- التاريخ:
 
                                 إنها وابنها
                         أسيران في ظلمات ، بدايتها لفظة
                            ونهاياتها لفظة
ورغم أن أدونيس يصرح على لسان الراوية في القصيدة بأن( ليس ما
سيقال بيانا ولا مسرحا / إنه امرأة حيّة-ميّتة ) نجده يتجه بالقصيدة فنيا وجهة توثيقية هي جزء من سيرة المرأة في هذا الوطن المثقل.
فنياً تلفت نظر القارئ ملحمية العمل ، فهو قصيدة كما يقول العنوان الجانبي المثبت داخل الكتاب، أي هي عمل موحد تجمع صفحاته الثمان والعشرون والمائة رؤية واحدة وليس وجهات نظر مبثوثة في قصائد  متفرقة كما في الدواوين المعتادة .ويكمل العنوان الجانبي وصف العمل بأنه ( قصيدة بأصوات متعددة) وهي إشارة إلى الطابع الدرامي للقصيدة المتوزّعة على عناوين يمثّل كل منها صوتا يتكرر للمرأة والجوقة والراوية والرجل والطفل الذي لا ينفك عن أمه في الدور المسند إليه في العمل.
وإذا كان التجريد اللغوي والصوري قد تحكم في القصيدة رغم تعدد أصواتها فإن مردّ ذلك لهيمنة الرؤية الأدونيسية للموضوع النسوي ومكانة المرأة كنوع ، مما جعل النص منكشفاً من البداية ومعروف النهاية أيضاً، وذلك أضعف الحس الدرامي الذي أراده أدونيس للعمل ، وهو يذكّرنا بأعمال سابقة لأدونيس في الاتجاه الدرامي متعدد الأصوات الذي وعدنا به وصفا لهذه القصيدة ، ولكن دون تحقيق الصراع المناسب للتعددية الصوتية  ، لاسيما وأن السارد الخارجي ينتج أفكار أدونيس ذاتها رغم استبطانه أحيانا للأصوات الضدية له وللمرأة بالضرورة ولكن من جانبه هو دائما. كما ينبهنا المستوى الإيقاعي  مجددا إلى استثماره تفعيلات بحور متعددة هي المتدارك والخبب والمتقارب ( فاعلن-فعلن-فعولن) وقام بمزجها في سطر شعري واحد أحياناً. وهو ما أعطى للحوار خاصة سمة نثرية تناسب الذهنية المتحكمة فيه لا الحركية الدرامية المطلوبة في أعمال كهذه .
والقصيدة  تعيد كذلك موضوعة  احتكاك أدونيس بالثوابت التي تنبه لخطورتها وانصرف يقاومها في شتى أشكال كتابته شعرا ونثرا ونقدا .
 
 
 
 
 
 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
                                          قصيدة المدن: المقالح
 
 
 
 
 
لماذا الكتاب؟
 
سلسة من الإصدارات الشعرية الأخيرة للشاعر  عبدا لعزيز المقالح حملت عنوان : كتاب ، مثل: كتاب الأصدقاء وكتاب القرية وكتاب صنعاء وكتاب الأم ، وكتاب المدن الذي نقرؤه هنا ( دار الساقي –لندن-2007).
والمغزى وراء التسمية المشيرة إلى الشمول والإحاطة تستلهم القديم حين كان العرب يحوون علما تاما بين دفتي كتاب، كما أنها تمثل في تفسيري الخاص تجسيدا لحنين شعراء الحداثة للاقتراب من النثر الذي يحمله مدلول (الكتاب) في الذاكرة بمقابل (الديوان) الدال على مجموع القصائد والأشعار،فالتسمية إذن تعكس الاعتقاد بزوال  الحدود بين الشعر بالمفهوم التقليدي القائم على النظم ، والنثر بالمفهوم المتداول الذي يضعه قسيما مضادا ومعاكسا للشعر.
ويؤكد ذلك الاستنتاج لجوء المقالح نفسه في الكتب الشعرية  التي ذكرناها إلى الاستعانة بالنثر، ففي كتاب صنعاء مثلا يتبع كلَّ مقطع شعري موزون مقطعٌ نثري يستكمل المشهد ، كما يحصل ذلك التناوب الشعري النثري في كتاب القرية ، وهما حاضران في هذا الكتاب أيضاً. فكأن الذاكرة تريد استكمال تصوير ما تستعيده عن تلك الأمكنة شعرا ونثرا مستفيدة من جمالياتهما معا.
وبناء على هذا  الافتراض بقرابة النثر والشعر في الكتابة الجديدة يبرز  النزوع الواضح نحو السرد وتعيّناته  بكيفيات خاصة في شعر الحداثة العربية المعاصرة ، فالمكان عنصر بنائي بارز ومكون هام من مكونات المتون والنصوص السردية كونه مسرحا للحدث ، ونشوء الأفعال وتتابعها  ،وهو ملمح جديد ومبتكر جاءت به الدعوات لتحديث القصيدة، وانتشالها من غنائيتها الصارخة وهيمنة الموسيقى التقليدية.
وإذا كان العرب قديما  يرون أن المكان بالمكين،  والرومان يرون أن الأمكنة إنما تكون بالناس ، فإن الفلسفة الظاهراتية تربط رؤية المكان بالإنسان للحدّ الذي لا يرى فيه فلاسفتهم وجودا مستقلا ونهائيا واحدا للمكان
بل هو مرتبط بما يشكله الإنسان عنه من هيئة تبعا لإدراكه وشعوره وإحساسه المسقَط عليه في لحظة إدراكه ، فلا غرابة أن تتباين النظرة جماليا للمكان نفسه من شخص لآخر ، وربما تباينت نظرتنا له من حين لآخر تبعا لظرف رؤيته وإدراكه.
 
 السرد في القصيدة
 
إن ذلك الوعي  بالاستفادة من عناصر السرد مهدت له القصيدة الحرة ثم كرسته قصيدة النثر بانفتاح سطحها وتمددات إيقاعها وتنوعه  ليشمل تمثيل الوقائع والشخصيات والأمكنة بوجه خاص.
لكن الإضافة الفنية الأهم هي امتزاج المكان بالذات الشاعرة ، فتغدو للشاعر مدينته أو مكانه المصنوع من تآزر المخيلة والذاكرة معا لاستحضار مفردات المكان وأشيائه المميزة.
بذا تجاوز الشعراء المواقف الرومانسية من المدن والتي صوّرتها لهم كأمكنة عدوة تدعو للخوف.
لكن المدن التي يقدمها المقالح مرسومة شعريا بما تمثلته الذاكرة من جمالياتها الموضوعية ، مضافا إليها انعكاسات وعي الشاعر وإدراكه لها في تلك اللحظة الظاهراتية الفريدة التي تترجم فيها المخيلة ما تمده بها حيوية الذاكرة وما تختزنه من مرئيات صورية .
ولكن ما يميز تلك المدن في الكتاب  شيئان:
– الرؤية الذاتية لها أي خصوصية النظر إليها بتجربة الشاعر أساساً
-العمق التاريخي والحضاري لها بحيث لا تبدو منظورا إليها سياحيا
وبتوفر هاتين الميزتين تبدو لنا مدن المقالح ماثلة  في كتابه الشعري الذي جعل له عنوانا فرعيا هو(جداريات من زمن العشق والسفر) فأضاف للعنصر المكاني بُعده الزمني ليكتمل البناء السردي، فتوجهت قراءة القارئ صوب الزمن الذي تمت فيه ملامسة الشاعر ومعايشته لتلك الأمكنة ، وهو زمن يبدو عليه المضي والانقضاء بحكم الوصف بالإضافة( العشق والسفر)،  وأما وصفها بالجداريات فهو تعضيد لعمل الذاكرة التي تقيم صورا وسيراً لهذه المدن التي مر بها الشاعر أو أقام فتركت في نفسه ما يسوغ اليوم أن  يتذكرها ويصنع لها هذه الجداريات  الرمزية أو المجازية ..
 
 
مدن كالنساء
من الموجّهات القوية والعتبات النصية التي تتقدم صور المدن في الكتاب ولا بد لنا من التوقف عندها : الفاتحة التي وضعها المقالح قبل البدء بعرض مدنه ، فأخبرنا بإيجاز وبلاغة بما تمثله المدن كأمكنة ومرئيات:
مدن الأرض مثل النساء
ومثل البحيرات
غاضبةً
صلفاتْ
وأخرى كما الضوء في همسهِ
         ناعماتْ
فهي مطلوبة ومشتهاة رغم طباعها تلك ، وذلك يقتضي بالضرورة أن تكون ثمة مدن على العكس لا تهب زائرها شيئا يظل في الذاكرة، ولا تصلح أن تكون (إذا جئتها وردة أو قصيدة) بعبارة الشاعر.
مُوجّه آخر سيستقبل القارئ على عتبات القصائد بعنوان ( إلى القارئ) يتساءل فيه الشاعر أسئلة كان حريّا ًبالقارئ أن يسألها : وكان المقالح أحس بذلك فناب عن قارئه وباح بها. وهي تتلخص في قوله:
كيف لي..
كيف للعين أن  تتذكرَ
ما  أبصرتْ منذ عشرٍ، وخمسٍ
و عشرينَ عاماً؟
ومما يزيد مهمة التذكر صعوبةً هذا التقهقر في الروح المعنوية لساكن المكان وفقدان بلدانه حريتها وكرامتها:
بعد موت العراق
وذبح الشآم
وصمت الكنانة
 
وعلى المستوى الشخصي هناك أسئلة تحفّ بالعمل:
 
كيف للروح أن تتذكر
….بعد أن ضجرت
واستكانت
وأدركها من دخانِ الطريق
ورائحةِ الوقت
 وهي  تسافر في المدن الميتات
حريقٌ بلون الغراب
وصمتٌ بلونِ الممات؟!
 
المدن الأولى
إحدى وعشرون مدينة زارها  الشاعر أو عاش فيها و استعصت على المحذورين اللذين ساقهما في الفاتحة: خيبة العصر والناس، وذبول الروح التي كانت خضراء أيام السفر والعشق، فظلت لها ملامح وسمات ومعالم ، نقلها الشاعر وكأنه يراها ويرينا إياها بعدسة البصر الماثل الآن،  لا المستعاد بقوة الذاكرة و تلا وين المخيلة.
وأولى تلك المدن: مكة التي كانت القوس الذي ينفتح لتأتي داخله   المدن الأخرى، مكة هي عنوان أولى المدن التي تأخذ القصائد في الكتاب أسماءها عناوين لها،  والملاحظ أن المقالح قد وضع لنصوصه مخططا هندسيا موحدا :
يبدأ بعنوان النص= اسم المدينة
ثم يليه بمقتبس من مأثور شعري أو نثري قيل فيها
ويتبعه بنصه الشعري حولها
ويختم بفاصل من نقاط
يمهد للنص النثري الذي يكتبه حول المدينة ويضعه بين قوسين يسرد فيه قصة رؤيته المدينة أول مرة.
في قصيدته عن مكة يمهد بآية كريمة ثم يسرد سيرة تاريخية للمدينة:
من هنا خرج النور
وامتد بين السموات والأرض
بدّد عتمة بادية الله..
لكنه يعود ليمزج رؤيته للمدينة بمفرداتها المتكونة من تاريخها وجغرافيتها وقبل ذلك مكانتها الروحية:
كأنك نهر من الودَ
يجري إلى أبدٍ
لا تحدده الأرض
وإذا كانت مكة مرسومة شعريا بهذا الصفاء فغن المقطع النثري يتسامى ليقدمها بالقول (ليست مدينة بل تميمة معلقة على صدر الأرض إلى حين يتشقق الزمان…) و ملاحظ أن النثر هنا يقوم بمهمة شعرية أيضا، فتشرق فيه العبارة وتتسامى لتخلق أثر الشعر في متلقي النص.
أما في الجزء الأخير من النص النثري فإن العبارة تتسع للذكريات المباشرة كزيارته للمدينة وجوها واختلاط الأجناس في الموسم ووعيه بالمكان لأول وهلة، وأعد ذلك ضربا جديدا من سيرة المدن والأمكنة والوعي بها وإعادة تشكيلها من الذاكرة، فلقد عرف العرب الكتابة شعريا عن المدن ووصفوها بل رثوها بعد سقوطها أو خروجهم منها، أما الشاعر الحديث فيشهد على جماليات المدن وما علق منها رسوما وأمكنة في ذاكرته.
وهذا ما يحصل في استذكار مدن عربية كالقاهرة وبغداد ودمشق وبيروت ومراكش والقدس والقيروان ووهران وواد مدني، ومدن غربية مثل باريس وروما برلين وأثينا وفينا و لا تفوته مدن اليمن الكبرى: صنعاء وتعز وعدن فيرسم لها صورا مقربة تستبطن ما تخفي هذه المدن فضلا عن صلة الشاعر بها.
القاهرة –باريس نموذجا
 
قضى الشاعر شطرا ليس بالقليل من غربته وتعليمه في القاهرة لذا يشعر أنه( يحتاج حبرا ، بمقدار ماء المحيط ، ليكتب  أفراحها ومواريث أحزانها) وفي المقطع النثري يروي قصة تعارفه بها بدءا من كتاب القراءة زمن الطفولة وما ضمه عن أهراماتها وأساطير سيف بن ذي يزن ثم صوت عبدا لناصر وكتاب الأيام لطه حسين وصولا إلى جسد المدينة التي تعني عنده ما هو أبعد من حدائقها و حاراتها، إنها المعرفة والفكر والنيل والأزهر.
ومدينة عالمية كباريس تبدو عصية على الوصف:
سدى
عبثا يمسك القلب بالكلمات
بماء اندهاشي
يفاجئني في فضاء مجراتها
لقد فتنه فيها الضوء الذي يلتصق بها مجازا كمدينة للنور لكنه يراها حقا كذلك إذ يجول بها ليلا ويتملى متاحفها ومعالمها والناس في شوارعها وساحاتها وحدائقها.
بهذه الطريقة تحضر المدن الأخرى بعذاباتها وأفراحها: بغداد وقد اصطبغت بالدم بين أيدي مغول قدامى وجدد ، والقدس (سيدة المدن العربية) التي يحج إليها في المنام ،  وبيروت بوابة الشمس ،  وبرلين التي كادت بسبب الحرب والدم أن تغدو (  يوتوبيا  ضائعة)…
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
                                           قصائد الغياب
 
 
 
 
 
 
1-  سركون بولص :نازلا من مركب نوح
 
 
بمقبرةٍ خلف برلين يرقد طفلً من النخل.قيلَ استراح                                                                            حسب الشيخ جعفر-الإقامة على الأرض
 
رحيلٌ آخر إذن….سركون بولص هذه المرة.لاحظوا أننا -العراقيين- مدمنو موتٍ منذ جلجامش  وصراخه عن مصير خِلّه وأخيه وسؤاله عن مصيره هو نفسه،.. نلاطف الموت ونسمّيه بأرقّ أسمائه وبألطفها وقعاً: فيغدو رحيلا والموتى راحلين ، كأنهم مبحرون أو ركابٌ ينزلون حيث تشاء المشيئة أو يشاءون..أو يجعلهم الآخرون ينزلون(أكتب هذه الكلمات بينما بدخل غياب ابني أو تغييبه هذا اليوم عامه الثاني بالضبط ، وحيث بدأ ابنه الذي ولد بعد – رحيله الغامض- يشكّل حروف الأبوة السلسة ويرددها بلا معنى..إلا ليزيد وجع القلوب.. ويعمّق الجراح والأسئلة).
تتعدد أسباب موتهم لكنهم يرحلون: بطلقة محتل ..أو خنجر أخ عاق ، قريبا من الموت اليومي أو حتى بعيدا عنه، تصل أحدهم الأسباب ليغمض عينيه في أية أرض ..لا فرق..ببرلين هذه المرة ..تتذكر قبر  ابن جودة الذي رثاه حسب الشيخ.. مفارقاً نخيله ينتظر وبلا جدوى السيدة السومرية التي لم يعد يغريها التحول أو العودة بمسمّى آخر حيث لا مكان للحلم..
أتذكر أيضا آخر اللقاءات مع سركون بعمّان –في مهرجان جرش- وبصنعاء في لقاء شعري عربي-ألماني. وهو نفسه يكابر مرضه ويتحامل على رغبته في العزلة، والفرار من حصار الأصدقاء والأهل.. يهمس إنهم يريدون تزويجي وأنا لا أطيق نفسي لا سواي ، يقرأ شعره بنبرة هادئة ويشكو من  موقف الإلقاء، ويناقش حول الشعر وكينونته الجديدة وصلته بالنثر والسرد تحديداً..يجالس الجميع ولا يرفض لقاء أو مقابلة، ويسهر بلا شكوى..ويسأل عن الناس الذين بَعُد به عنهم الزمن منذ إقامته النهائية في أمريكا وأوربا..ودعاباته التلقائية بلا لؤم لا تفارق أي حديث..
كان لسركون بولص حضور خاص في الشعرية الجديدة لا يتمتع به أي من أبناء جيله الستيني منذ نزوله إلى بغداد..أفاد بحريّة من حريته ولم يجعلها لافتة للتعارض فحسب: تعارض مع الزمن والمكان والأشياء حوله ، بل أعطى حريته بعداً معرفيا ..لا يقلد ولا يتابع إلا نداء ذاته وهي تعاني وسط لجة بحر سيصعد لعبوره في مركب نوح الذي ظلت مخلوقاته نائمة-كما يقول-إلى أجل آخر غير مسمى!
بهذه الروح تنقل بين الشعر والقصة القصيرة التي سألتْه في لقاء بعمّان  لماذا لا ينشر بعض ما كتب منها ببغداد قبل هجرته، فأجابني بإشارة تشي بعدم قناعته بجدوى ذلك، رغم أنها كانت مميزة ومعبرة عن مزاج الستينيات وأسلوبيتها  ، وتمثل خلاصة تجربة ورؤى الستينيات القلقة وأبطالها المأزومين..
وتذهب به حريته إلى الترجمة وبعربية تنقص الكثيرين، فهو كجان دمو لا يعرف الآخرون حرصهما على المفردة والتركيب وبراعتهما في العربية بين  المترجمين.
منذ كتابه الشعري الأول( الوصول إلى مدينة أين) يؤسس سركون لمناخ خاص في قصيدة النثر العربية لا تتمثل مراجعها ببلاهة وانسحاق تحت إغراءات الشكل وشطحات المعنى  وإغراءات الاسترسال النثري ، بل تحاول أن تتعين وتتجذر بجسدية واضحة حتى وهي تتناص  مع جبران خليل جبران (قصيدة :هذه ليست أورفليس )-ديوان حامل الفانوس في ليل الذئاب –
إذا بنا هنا نعيش
لكننا نحيا هناك
أعطني الناي
أو لا، لا تعطني الناي
..هنا تشتري المغني
بدولار
وهذه ليست أورفليس
كما يستحضر المراجع الصوفية ، البعيدة معرفيا عن الانشغالات  والهموم المعاصرة ، لذا فإن سركون في ملاحظاته الهامة في خاتمة ديوانه(إذا كنتَ نائماً في مركب نوح) يعلن أن يوسف الخال سخر من صوفياته الأولى ببيروت ونصحه بأن يترك ذلك لأصحابه! لكن سركون يواصل قراءاته  ويلتقي بأشعار جلال الدين رومي مترجمة إلى الإنجليزية ويهدي له ديوانه أيضا الذي عنونه من وحي شطحة لرومي ،هو يواصل إذن تجربته دون وصاية رغم أنه متأثر بيوسف الخال ويعدّه مع أدونيس شعريا وإنسانيا (قدوة نادرة وضوءا كنت وما أزال أقتدي به).
المكان الأمريكي  الذي تنقل فيه لم يبهره ، بل صرّح أنه حين كتب قصيدته الشهيرة (حانة الكلب) الموجودة على طريق بين مدينتين  أمريكيتين- كان يقطعها بسيارته – مثلت له التسمية (اكتشاف سر أمريكا أخيرا) فهي حانة مضافة للكلب تقع على طريق الملوك التي سلكها الكهنة المكسيكيون إلى أديرتهم المقدسة  في كاليفورنيا ، فهم ملوك الروح..(ذلك المعنى المتأرجح بين الكلبية والقداسة ،بين حضارتين متضاربتين، عالمين بينهما فروقات شنيعة كتلك التي بين أمريكا الشمالية والجنوبية ، أو بين الغرب والشرق.)
هذه الملاحظة ستهز سركون وتعيده للكتابة بعد سنوات صمت طويلة ، ولعلها هي التي جعلته يتوقف عند شطحة جلال الدين حول النائم في مركب نوح فما يهمه وهو سكران – بالمصطلح الصوفي – لو أتى الطوفان؟ ويعيد إلى ذاكرتنا المركب السكران في الشعر الغربي:
وجدت نفسي نائما في الجانب المظلم من العالم
أنقّب كل صباح في مكتبة الآلام العامة عن جذرٍ
يربطني بك، أنت، دائما وحتى
أنني أتردد في أن أسميك ، لأنك لست امرأة
أو الأرض أو الثورة، شجراً،أو فقيرا حذّاءً في الطوفان
لا أسمي أحدا بالضبط …
وقد لاحظت ذلك حين درست  ديوانه (الحياة قرب الأكروبول) نهاية الثمانينيات ، فالمكان عنده مناسبة لرؤية ذاته بتشكلاتها ومعارفها لا بمجرد قشرتها الجسدية التي يؤطرها المكان .
هذا الحنين للمجهول سنراه في ديوانه الأول حيث المدينة المتوهمة ، مدينة (أين )التي ليست يوتوبيا ضائعة أو جغرافيا حقيقية، بل هفو لخلق بقعة آمنة من الذئاب الذين سيحمل الشاعر الفانوس –كمصباح ديوجين –ليبدد الظلام الذي يبثه ليلهم ، ويجعل ذلك محور تجربته في ديوانه (حامل الفانوس في ليل الذئاب) -1996حيث ثمة صحو أيضا  ولكن من نوم آخر تجسده قصيدة (الملاك):
)يظهر ملاك إذا تبعته خسرت كل شيء، إلا إذا تبعته حتى النهاية..حتى تلاقيه في كل طريق متلفعا بأسماله المنسوجة من الأخطاء ..في جبل نهاك عن صعوده كل من لاقاك… لكنك صحوت من نومك العميق في سفح من سفوحه، وكم أدهشك أنك ثانية عدت إلى وليمة الدنيا بمزيد من الشهية: الألم أعمق، لكن التحليق أعلى) .
ليس من قصيدة لسواه تؤاخي بين الأسمال البالية برتابة التركيب وبساطة العبارة ، وبين الحكمة التي ختم بها نصه القصير عن التحليق والألم.
عن أي ملاك يتحدث سركون بولص؟وأي جبل ؟ وأي نوم؟ وما تلك الوليمة الدنيوية التي يعود إليها من نومه؟
أسئلة تحتشد بها قصائد سركون بنثرها المشع واشتباك مراجعها ، وتسري عدواها إلى قراءتنا حتى وهو ينزل من مركب نوح ليواصل إغفاءة الأبد ..:
       (يستيقظ المخلوق النائم على وجهه ومن ظهره تنمو أشجار باسقة
              ولكنني الآن خفيف كأنني تخلصت من عظامي
             وفي داخلي فضاء يلمع ويستدير على نفسه كسكين)
 
 
 
 
2– على بُعد ذئب: محمد  حسين هيثم

 
 
الكتاب الذي يصدر بعد موت مؤلّفه يحمل –في ظني-أكثر موجّهات القراءة أثراً في القارئ وتعاطفا ودراماتيكية.إنه يلخص  معنى الوجود الرمزي للكلمات ،  بعد انطواء حصة صاحبها من الحياة المادية المتعيّنة في شخصه الحاضر بيننا.
لكن صورة المؤلف الراحل عنا – وعن مؤلَّفه بالضرورة- ستظل تحفُّ بوجوده الورقي ولسانه الذي ينوب عنه حتى في حياته ، ليصير له ثقل الذكرى المتدفقة من صورة معلّقة على جدار،  والمتمددة إلى جدران الذاكرة أيضاً.
هكذا قُدِّر لديوان الشاعر اليمني الراحل محمد حسين هيثم أن يصدر بعد موته مباشرةً ، ليحمل مع أبنيته ورؤاه ودلالاته، حفيف أصابعه ووجيب قلبه وضوء عينيه ، وهو يرتّب الديوان ، منتظراً ولادته التي لم يرها، لأنها ستتم عبر قابلةٍ تشهد طلوع جنينه الشعري بين يديها.
استطرادات…تؤكد ما ذهبنا إليه من هيمنة واقعة موت الشاعر وتوجيهها لقراءتنا، رغم أنني – و بعد متابعة تجربة هيثم والكتابة عن دواوينه في مناسبات سابقة – أزعم أن الموت من أكثر مفردات هيثم الشعرية  تردداً وحضوراً ، لا على المستوى المعجمي أو الصوري فحسب ، بل في هذه العناية بموضوع الموت نفسه ، سواء كواقعة حقيقية تحدث لأصدقاء وبشر يعرفهم، أو كواقعة رمزية تتولّد من تأمّل –وأحياناً توقّع- حدوثه للشاعر نفسه.
هنا تحضر البدائل الرمزية التي نعدُّّها من محصولات الحداثة الشعرية الأولى و ميلها لتسمية الأشياء ببدائل تنوب عن وجودها الحقيقي ، فالموت في ديوان هيثم الأخير( على بُعد ذئب) مرمَّز بهيئةِ حيوان مقترن بالموت كثيراً هو  الذئب  وذلك ما أشار إليه الدكتور عبدالعزيز المقالح مفصلاً في مقدمته للديوان.
والذئب هنا متمدد من الذاكرة التي تحفظ له  دلالات الغدر والقسوة ، وربما انتعشت ذاكرتنا  الشعرية بوصف الجواهري للموت ب: ذئب يترصد الشاعر وبين أنيابه دم أخوته وأصدقائه, بينما تمضي الذاكرة الريفية بالسيّاب ليشبّه الموت بثعلب القرى الذي يفتك بالدجاج محتالاً غيرمرئي ، وهي ثقافياً ذات دلالات تصلح لدراسة الصورة بمنظور ثقافي ووعي مكتسب متوارث تصنعه البيئة والتربية والمعتقد والطبقة… فتنتج صوراً متباينة في ضوء ذلك التمثل الثقافي.
لذئب هيثم أربع قصائد في آخر الديوان ، يمكننا إذا أضفنا لها قصيدة ( الضبع ) أن تكون  (ذئبيّات  ) تدعو للتأمل والفحص القرائي الباحث عن الدلالة وتجلياتها في بنية النص ، ويستوقفنا كذلك تسلل ( الذئبية )  صفةًً وطبيعةًً للإنسان الذي سمّاه هيثم –بسخريةٍ ومفارقة- بالصاحب ، بينما هو:  ضبع ، أكلب ، أسخريوطيّ ،و ذو مخلب ، كما يقول الشاعر في آخر كلمات الديوان ، وبذا يتطابق الرمزي المستعار من الحيوان بالإنسان المتصف بصفاته .
ولكن تلك الشكوى من ذئاب متنوعة تتربص بالإنسان ، لم  تقمع شهية التندر والمساخرة  لدى الشاعر ،لتذكّرنا بمنحاه الفني في مراحل تجربته الأخيرة، وينعكس ذلك خاصةً على المستوى اللغوي –في اختيار المفردات، وفي الأبنية نفسها والصور ،  فحضرت في الديوان روح الملاطفة والدعابة التي توصف مسرحياً بالسوداء، كنايةً عن إضمارها وراء التهكم مرارةً قصوى تنكشف دون عناء عند القراءة:
كلنا عابر في القصيدة
                 لكننا لا نقيم بها،
                  ونقيم القيامات فيها
               نشاور أحجارها أو نساير أشجارها
                أو نحاورها
               أو نسير حفاة على الجمر بين الكنايات
                    نهمس
               أن كمائن أعشابها قطرة من مجاز
               وأن السياسةَ بيتُ القصيد
ربما تعد هذه القصيدة-وهي التي حمل الديوان عنوانها-نوعاً من تأمل عمل الشاعر ، ومراقبته لاشتغاله في القصيدة ذاتها ، واستحضار أجوائها وأسرارها، لكنها تعطينا نموذجاً لمنظور الشاعر للغة القصيدة ، فهي تتداعى بشيء من السخرية المبطنة: نقيم القيامات –ولكن في القصيدة فحسب ، فالدوران حول ما بتأثث فيها من شجر وحجر وكنايات هو قطرة لا أكثر ، بينما تكون السياسة وهي من تجليات الذئبية في البشر،  بيت القصيد الذي تتلخص وتتركز فيه .
يتلبس الذئب هيئات كثيرة ربما تستدعي صورته في الحكايات القديمة –كليلة ودمنة مثلاً-أو الموروث المتداول من الحكي كقصة ليلى والذئب ، لكن المؤكد أن صورته سكنت مخيلة الشاعر ، فأنتجت : نار الذئب ومراياه وظهيرته وساعته في قصيدة واحدة ، استحالت فيها الظهيرة ذئباً فهي تعوي ( قصيدة : نار الذئب) وللذئب وصاياه في قصيدة أخرى ، تعوي فيها الثعالب  ، ونستمع إلى صوت الذئب =عوائه يأتي من التلة حيث الذئب  في قصيدة  بعنوان ( الذئب على التلة) يتردد فيها العواء المجسد حروفاً(عووووووو) مثل لازمة دلالية تنتهي بها المقاطع وتختم بها القصيدة كلها بصراخ تتزايد فيه حروف العواء .
هذه الميزة الصوتية التي يلح عليها هيثم تعكس دلالتين:
الأولى  : الحس الشفاهي لدى الشاعر في قصائده الموزونة ، وهي التي تمثلها أشهر قصائده : غبار السباع ، التي يجسد فيها صوت الريح وهي تكنس العنتريات الجوفاء لأبناء العم المتكاثرين على رجل قليل ، والمتبخرين  تنازلياً في أول مواجهة. فيقوم الصوت بتجسيد الفراغ والهزيمة  ، ويركز ميزة إلقائية يتحسب لها هيثم عند الكتابة.
– والدلالة الثانية هي: ميل الشاعر للتجسيد الذي يمثله الصوت ، لاسيما وقد نقل في القصيدة ذاتها صوت الريح والجدجد والصمت (هس). ولا تخلو الدلالة هنا من مسايرة مناخ الدعابة التي شاعت في دواوين  هيثم الأخيرة .
وللذئب الشعري تجسّدات أخرى يمثلها البشر كما سلفت الإشارة للصاحب، وكما في قصيدة هولاكو ، وهي إحدى متواليات شعرية لشخصيات كالبردوني والحلاج والمتنبي الذين يتمثل تجاربهم ويشير إلى مأثورهم كوجه آخر معاكس للذئب المتنكر والمتخفي  يرسم لهم فيها ما يشبه البورتريهات الشعرية المقرَّبة والمنحازة لهم كأصوات للحرية والعدل.
ولكن في قصيدة هولاكو تبدو النزعة الذئبية مجسمة في شهوة الموت التي تجعله يدمر كل شيء:
                  مرَّ على دجلةَ هولاكو
                   ورمى في النهر
                     رؤوساً لاعدّ َلها
                      كتباً لا تحصى
                       وتواريخ بلاد
                         فلماذا بعد قرون
                        عاد إلى دجلةَ ثانيةً هولاكو
                               هل ضيّع خاتمَه
                      فأتى ليبعثر أشلاء أبي نوّاس
                       ويمزق أحشاء النهرين..
                       أو يلغي البصرة
                     أو ينسف كل هواء في بغداد
لم يحضر الذئب هنا باسمه بل بصفات علقت في الذاكرة ، وجسدتها أفعال يكررها الهولاكيون الجدد : غزاةً وطغاةً وقتلةً ومحتلين .
وللوزنية التي عاد إليها هيثم في أعمال أخيرة لها دلالتها على المستوى الإيقاعي الذي يتوافق مع المستوى الدلالي واللغوي والتركيبي أيضاً . فالوزنية تعطي النصوص مظهراً موسيقياً بارزاً ، يغدو كخلفيةٍ ضرورية لهذا الصراخ في لجة المعركة الذئبية التي تضج بها القصائد ، لاسيما وأن هيثم اعتمد في الغالب البنية المقطعية التي تنقسم القصيدة على أساسها إلى مقاطع تفصل بينها قافية يختم بها كل مقطع ، فتأخذ صفة النشيد الذي تتكرر لوازمه ، ويسبغ على القصائد صفة نغمية تتوافق والحدة التي تميزت بها وإن بدت في هيئة ساخرة أحياناً كثيرة.وهذا البناء المقطعي الذي ورثته القصيدة الحديثة عن المهجريين والشعر المترجم  يتيح للشاعر تغيير صوته في القصيدة والانتقال إلى أجواء أخرى جديدة لا تتيحها القصيدة  ذات البنية الموحدة- ،وفي بعض القصائد تتعزز المقطعية لا بالقافية الموحدة للمقاطع فحسب ، بل بالترقيم وإعطاء المقاطع تسلسلاً مقصوداً من الشاعر (قصيدة:رجل وامرأة) فهو يختم كل مقطع فيها بقافية الفاء الممهدة للدخول في مقطع جديد ، لكنه يقسمها إلى ثلاثة أقسام مرقمة ، وهو ما يربك إيقاعها في تصوري لوظيفة المقطع ، إذ تتقاطع هنا النغمية المنبثقة من المقطع المقفى ، والإيقاعية التي يريد الشاعر للترقيم أن يخلقها ، حيث احتوى كل مقطع من المقاطع الثلاثة –بحسب الترقيم –على مقطعين مقفيين .
في الديوان سرد ينعشه تصوير الوجوه والأمكنة (قصيدة مقهى مثلاً) ولكن النغمية والهيجانات الصورية واللغوية والإيقاع الوزني تقمعها دوماً لصالح صورة أو انزياح أو ملاطفة ما ، أو لإيفاء المناخ العام للنص حقه كما في  ( طللية ) و(الجن) حيث احتشد النصان بمفردات قديمة تنقل القارئ لتلك الأجواء المراد تصويرها:
وكأنّه العرشُ
                       وكأن من حولي هنا
                         جنّ الفجاجِ
                    وكأنها بلقيس تصعد من في كناياتي على
                                 بحرٍ
                  إلى يومِ سليمان َالممرّد بالأجاجِ
ولمّا كانت بنية الديوان المقطعية المقفاة والموزونة قد هيمنت على القراءة ، فقد أصبح للأخطاء والتجاوزات الوزنيّة وجود ، لا يعود للصياغة غالباً بل هو من مصاحبات الجانبية لمثل هذه الولادة التي شهدها الديوان بعيداً عن عيني الشاعر الذي يغفو الآن بسلام تتنفسه روحه المضمّخة بالشعر والمحبة وعلى بعد ذئب من كمائن القصيدة التي صارت وجوده الرمزي بيننا:
                 امسح من جدران هوائك عطر الموسيقى
                واكنس كلَّ هديلٍ لامرأةٍ في الريح
                 ونم في جفن الشمس
                 ولا تغمض عينيك هنالك
            …. واكمن في البرق ولا تغفل
                 ثَمَّ ثعالب تعوي
                  وتقود ضباعا
 
 
 

 
 
3-طائر آخر يتوارى: عقيل علي
 
يحتل الشعر السبعيني العراقي مكاناً خاصاً في الشعرية العراقية ذات الأهمية المميزة بدورها في الشعرية العربية تاريخياً وفنياً.نقول ذلك لا لنضفي امتيازا ً ما لهما، بل لتقرير حقيقة لها حسابها في أية مراجعة نقدية ممكنة الآن ولاحقاً ، ذلك أن ما تركته التجربة السبعينية -رغم ما لنا عليها مجملةً ومتكتلةً من ملاحظات فنية وجمالية- تثير المساءلة والتنبه كونها سلالة ميراث شعري قريب تتمحور حوله مصائر المقترحات التجديدية  ومقولات الحداثة ومشروعها المتلخص أسلوبياً في ( قصيدة النثر) ومعرفياً بتبدل المرجعيات والمؤثرات الضاغطة على المكوّن المعرفي والجمالي للشعراء والقراء معاً.
وإذا كان السبعينيون هم أحد الموجات المتعاقبة والمتزامنة في مسار الشعرية العراقية ، فإنهم قد دخلوا الكتابة الشعرية مستريحين من مشكلات جمالية وفنية كثيرة تكفل بحلها أسلافهم من الأجيال لاسيما الستينيون الذين عبروا بالقصيدة برزخها الخانق وأرسوا حداثتها بكفاحية ومغامرة تحسب لهم في لحديد الانتقالات المهمة والمنعطفات المصيرية في كتابة القصيدة.
لقد وصل السبعينيون من مدنهم البعيدة عن  العاصمة ومن مناخاتهم المتباينة في القراءة والمؤثرات لكنهم وجدوا الخلاف حول شرعية قصيدة النثر قد حسم وتبدلت مراجع القراءة عما كان سائدا لدى الأجيال السابقة ومنها دخول أدونيس وشعراء ( مجلة شعر) بديلاً لجيل السيّاب وأصواتهم المؤثرة ضمن ما عرف بشعراء القصيدة الحرة.
انعزال عقيل علي عن الحركة الشعرية السبعينية  بالمعنى الإجتماعي وعزلته في مدينة  الناصرية و شحة حضوره في منابر النشر  داخل العراق،  جعلت لاسمه رنيناً خاصاً ولقصائده مذاقاً مختلفاً ، أحسسنا –نحن متابعي تطور الأسلوبية الشعرية- أنه ذو حضور خاص لا يستوعبه المناخ السبعيني ذو التكتل الفئوي، فلقد كان الانقسام واضحا في الكتابة الشعرية السبعينية بدءاً من التكتل الحزبي المتصارع ، وشعراء المركز والأطراف، وشعراء الداخل والخارج،   والتكتل الفئوي بين الأقران الذين لم يفلحوا في تكوين (جماعة ) بالمعنى الفني المعروف ، ولا في تحرير كتابتهم من السائد والمألوف في الكتابة السبعينية ، حتى البيانات الشعرية ( كمقترح القصيدة اليومية) التي ضاع اتجاهها بين شعرنة اليومي – لأغراض إيديولوجية غير معلنة صراحةً- وبين الإعلاء الفني للملفوظ الشعري الذي تلخصه عبارة البيان بالقول ((القصيدة اليومية ليست رومانتيكية تحاول الهروب من هذا الواقع…إنها تركيز في الواقع )) ولكن البيان الذي أراد له كتابه أن يكون مانفستاً يسجل لحظة احتكاكهم بالقضية الشعرية من جوانبها كلها، لم يوضح أبعاد هذا الواقع ولا طرق التركيز فيه، فضلا عن السقوط في معضلة جمالية لم يدركها كتاب البيان تتلخص في التعارض بين الواقعي والشعري وضرورة فرز طرق تمثل مفرجات الواقع وإعادة تمثيلها فنياً .
لقد لخّص الشاعر خزعل الماجدي بعض الحنين لمفارقة هذا الواقع حين شبّه مهمة الشاعر على الأرض بأنها (( بعث الروح في النفوس الميتة وجعلها نفوساً حية فالشاعر هو إسرافيل الأرض)) مؤاخياً الحس الديني الذي يرى في إسرافيل ملَكاً توكل إليه مهمة إحياء الأرواح التي يختطفها عزرائيل.
ولكن تجارب شعراء آخرين ستعود بالنص الشعري إلى بدايات التأثر بمشروع التجديد دون التنبه للصياغات الممكنة واللغة الشعرية على وجه الخصوص وهو ما دعا إ لى أن يطلق زاهر الجيزاني –أحد أعلام جيل السبعينيات – على ديوانه عنواناً دالاً هو(من أجل توضيح التباس القصد)
هذه الارتباكات النظرية والهيجانات الحلمية تكبر لاحقاً لتغدو لدى الماجدي بشارة بما سماه ( العقل الشعري)المنفصل والمستقل عن الأنماط المعروفة في تصنيف  العقل ( الديني ) و(الفلسفي) و( العلمي) الخ…. وتطويرا للمهمة السحرية التي تولاها الشعر في طفولته وسبقه لمرحلة التدين ومعرفة الإنسان للعقائد.فكان السحر والرقى والغنوصية المتركبة من ذلك كله شعارات تخفق في خضم مواصلة الماجدي وأقرانه للكتابة الشعرية في كون متغير فنياً ومتلاحق التبدلات على المستوى الجمالي.
ولعل الاحتفاء بتجربة مبرّأة كتجربة عقيل علي بسبب العزلة والانعزال سترينا ملامح مما لم يفلح الشعر السبعيني الرسمي –أعني المكرس جيلياً والمعترف به شرعياً – أن ينجزه أو يتركه أثراً ضمن الموجة التي تعاقبت بعدها موجات كثيرة في أزلية البحث والجريان والتجدد في كتابة القصيدة.
إن دعوة الاحتفاء هذه ليست مقدَّمة ً منّا نحن الملتمّينَ حول  أشعار عقيل علي لمناسبة غيابه الدراماتيكي مثلا أو لتشييد عمارة شعرية احتكاما لنتاجه تنافس عمارات مجايليه
بل  هي   دعوة ونداء من المُحتفى به نفسه الذي وضع  لإحدى قصائده المبكرة  غير المؤرخة ولكن المنشورة عام 1992 في ديوان، عنوانا ً لافتاً هو:  ( مرحباً… تعالَ نحتَفِ بطائرٍ آخرَ يتوارى) .
ولعل هاجس التواري كان ضاغطاً على عقيل باستباقٍ مصيريٍّ غريب ، لأنه وضعَ جزءاً من عنوان تلك  القصيدة عنواناً للديوان نفسه ،  مع تحوير صغير فأصبح : (طائر آخر يتوارى) .
عنوان القصيدة والديوان كانا مفتاح تقبّلي لواقعة موت عقيل علي ، فأمدَّتني الذاكرة بصورته طائرا ً آخر يتوارى في الغياب القَدَري المُمِض .ولماّ كان اسم عقيل يعلو ذلك الديوان فقد صار صدى غيابه جملةً يمدّّني بها غلاف الديوان المصطَف كالأتي:
عقيل علي
                         طائر آخر يتوارى
وقد عثر عقيل علي في هذه الثيمة على نفسه وسط أصوات مجايليه الذين نهبت جهودهم المؤثرات والتجارب وعلى رأسها تجلربة سليم بركات وشعراء القصيدة اللغوية المركزة والشعر المترجم لميشو وبودلير وبوسكيه وبونفوا وغيرهم من شعراء القصيدة النثرية الفرنسية.
واكتمالاً لثيمة التواري بعد الطيران فقد عادت بي الذاكرة إلى واحد من أيام صيف 1993حيث لتقيت عقيل علي بموعد مسبق بيننا في اتحاد الأدباء ببغداد لأسلّمه نسخاً من الديوان ذاته كان قد بعثها الشاعر خالد المعالي على بريدي لأسلمها لعقيل.
كانت فرحته كبيرة بالنسخ ولكنه بعد قليل غاب  ا منصرفاً وتوارى في شارع شجري يؤدي إلى مركز العاصمة التي نزلها غريباً مسبوقاً بشعور عدائي ،  لم يخفِه زملاء له و مجايلون –  من الشعراء خاصة- كانت الشائعة هي عماد الموقف من عقيل القادم من عمق الجنوب –مدينة الناصرية حيث يعيش من العمل اليدوي الشاق في المخابز والأفران.ذلك الأمر حَرَمهُ طبعا فرصَ التعلّم الكافي ، لذا كانت قراءته لأشعاره أحياناً  بأخطائها وتلعثمها توقِعُه في فخ الشائعات حوله والكمائن التي يدبّرها الأصدقاء المفتَرَضون.
لم أكن أشارك الكثيرين قناعاتهم حول شعره ، لأنني أرى في ضعفه الثقافي قوة ً لنصوصه المبرَّأة من الحذلقة والبلاغات المستهلكة والهيجانات اللغوية والصوَرِية.
وتأسست له بتلك المزايا نكهة خاصة في المحيط الشعري العراقي نهاية الثمانينيات، كما خَدَمتهُ تلك الأجواء الرافضة له داخلياً، فعاد إلى المشهد الشعري من الخارج  ، فنشر ديوانه الأول (جنائن آدم) في المغرب  بمساعدة صديقه وابن مَدينته الشاعر كاظم جهاد  الذي كان قد هاجر إلى فرنسا منذ سنين. .
وكذلك فإن الديوان الثاني الذي بدأنا به الحديث عن موت عقيل نُشر في كولن بألمانيا.
كان ذلك نوعاً من عودةٍ عَكسيّةٍ للحضور في قلب الشعرية العراقية التي قاومت وجوده أولاً.
لقد صار حضور عقيل علي ونشره في الخارج وما أحاط خطابه الشعري من هواجس وشائعات ، جزءاً من شخصه الشعري الذي زاده غموضا غيابُه عن العاصمة وضجيجها  ،وامتلائها بالمتنفجين والأدعياء والأوصياء –بلا تفويض- على سيرورة الشعر الجديد الشاب في العراق.
لكن الحضور الظلّي الحييّ  لعقيل واستقراره في الجنوب أهَّلَهُ ليكون موضع انتباهٍ نقدي وقراءة خاصة تمتع بها كثير من أبناء جيله المقصيّين  و في مدينته بالذات.
ستستمر تداعياتي الشخصية عن عقيل ومكانه الشعري تؤجِّل أيَّ احتكاك نقدي بشعره رغم اهتمامي بتجربته ودعوته للنشر في (الأقلام ) أيام عملي في تحريرها.
ولكن ديوانه (طائر آخر يتواري )سيحتل المساحة الأكبر في تداعيات الاحتفاء به.فهو الديوان الوحيد الذي تضمه مكتبتي المؤقتة في مغتربي بصنعاء حيث أعمل منذ أكثر من عشر سنين.
أهي مصادفة قدرية أخرى تؤكد تواريه الممكن ؟
ها أنا إذ أكتب عنه أعود إلى هذا الديوان الوحيد المتوفر لديّ، كما عدتُ إليه وأنا أقرأ خبر موته الذي لم يفاجئني كثيراً ، فقد رأيت عقيل وهو يتوكأ على عصا وقد هزل جسده وفقدت عيناه بريقهما وبات مذهولاً وغائباً عن المكان تماما وهو يستقبلني في مدخل مقهى البرلمان شتاء عام 2004 ، ولأن زيارتي قصيرة  ، لم تسمح  برؤيته ثانيةً لكن حديثه عن غرفته المؤجرة التي لم يدفع إيجارها وشكواه من اعتلال صحته جعلتني أفضي بمخاوفي للأصدقاء.
لم يعد عقيل  ذلك الطائر الذي أمسك نسخ ديوانه وودعني مختفيا قبل أعوام.إنه يتوارى جزئيا بضباب ذاكرة متعبة وجسد منهك.
لكن عنوان قصيدته وديوانه تشير أيضا إلى بهجة غامضة بهذا الاختفاء ،احتفاء له ما يبرره ،لأن الآخرين سبقوه إلى التواري وهو يلتحق بهم غير آبهٍ بما سيحل به.
يؤيد ما ذهبنا إليه تأكيده في القصيدة ذاتها، حيث يؤاخي غائباً مفترضاً يعطف عليه وجوده:
إنه لا ينسى أثره المقتفى،ولا أنا
إنه يعكس أحراشَ صباه على قروحِ الموتى ،وأنا
إنه يقود قطيعاً مندثراً إلى الحواف ،وأنا
إنه فزِعٌ ، وأنا
 
قد يكون الغائب هو القرين ( =الشاعر نفسه)  بعد أن ينجز تواريه.وهذا يخفف من صدمة الغياب وانتظاره المخيف.
لذا يترقق صوت الشاعر وهو يضع كلمة الترحيب (مرحبا…) في مطلع جملة العنوان. ولكن هذا التبسط واصطناع الألفة لا تحجب عن القارئ الخوف الذي يستشعره خطاب القصيدة كله.
فالأمر الذي يلي الترحيب (تعالَ) يعلن عن جسامة المهمة أي التواري مع المحتفى به.وهذا حاله كما تصوره الأبيات الأولى في القصيدة:
إنه فَزِع ٌ
وحافظة الأفكار قد آغبَرَّت من وعثاء السفر
قديما …ذات يوم…وعلى نحوٍ ما تمنى طقساً جليلاً وقلباً يناجي الفيض.
 
هذا المرشح للتواري هو إنسان غير موصوف ، لعله أيّ إنسان تناله قوانين الموت والعدم.ربما هو الإنسان الأول لأنه تمنى تلك الأمنية قديماً.
لكنه في النهاية ينصاع  لتَواريهِ الممكن والأكيد.
بعد مقطع التماهي بالمتواري وعطف ضمير المتكلم عليه، ينهي عقيل نصه ببيتين يتصدرهما الزمن الحاضر:
 
                   الآن ، ذات يوم ، وعلى نحوٍ ما
                  طائرٌ آخر يتوارى في السُّهاد .
 
لقد كان بعض الفلاسفة القدامى يرون الحياة حلماً طويلاً تحمله البشرية مجتمعةً، وكان بعضهم يرى النوم موتاً مؤقتاً  ،لذا كان اختبار أوتونبشتم لحفيده كلكامش من أجل منحه سر الخلود هو أن يقاوم النوم، لكن الأرغفة الباردة التي كانت موضوعةً كل صباح  قرب رأسه أنبأته عن فشله في مقاومة الموت المؤقت _أي النوم  ، مما حرمَهُ النجاةَ من الموت الكبير .
الآن ، تقول قصيدة عقيل ، توارى طائرٌ آخر في السّهاد- الذي  هو حضور غيابي للنوم بالتضاد-   وتهيأ للاختفاء الذي جعلنا نحتفي به.
النهايات تفزع الشاعر وهي تبدو في قصائد عقيل حلاًّ كتابا أي تفرضه لحظة الكتابة لا الخطط المسبقة للنص ، وهي تذكّرنا إلى حدّ كبير بنهايات قصائد جان دمو التي درستها في كتابي (كتابة الذات) ، فهي تشي بمزاج ملول وضيّق الصدر ، لا يحتمل الترهل والاستفاضة. ولنلاحظ أن كثيرا ً من قصائد عقيل علي قصيرة.لذا فهو ينهيها من خارجها.. من زمن كتابتها لا زمن التجربة وإلحاح الهاجس الشعري والولادة القبل- ورقية.
وهذا ينعكس في جمل شعرية من بيت أو اثنين تمثل الخروج والإعلان  عن التوقف ،هكذا ككل شيء في الحياة .وهي نهايات تؤكد الإحساس بالتواري نفسه. وسأورد بعض تلك النهايات من قصائد الديوان لتأكيد فرضيتي:
– تجلسينَ قبالتي ، وغارُك قد صُنِع من أظلاف الموت
أحدّق بك ولا أنطق…
( أعشاب آسيا)
– البراءة الناجعة أدبرت
وأسدل الغناء الندي
(مطارق السبات)
– لقد انطفأ البرق
وماتت رغبتي
(النوم في الصمت)
-فأسمع حشرَجاتٍ ، وأرى أنقاضاً
وحجراً ينوح
(ذاكرة للحجر)
مترنحاً يأتي على أكتاف ذكراه
محشواً بالسنين التي ذبلت
(أيام)
 
أعراس السنة أمام طائر أصفر
حتى يحين
الوقت الذي اختفى
(مدن)
بسبب هذا اليمّ الذي يبتلع كل شيء
ولستُ بناج ٍ منه أنا.
( جسد ينطق بأطرافه)
 
 
 
    لا أدري إذا كانت لعقيل تجارب وزنية قبل نشر دواوينه المكرسة لقصيدة النثر كما هو شأن  زاهر الجيزاني مثلا – وغير قليل من شعراء جيله- لكن حذفها  افتراضاً أو الإعراض عن نشرها قصدياً في  الدواوين يؤكد انصرافه لقصيدة النثر التي يتوافق إيقاعها المشاكس وشكلها المتمرد مع موقف عقيل ورؤيته للحياة.
فهو فضلا عن هيمنة فكرة التواري عليه ،  وشقائه الواضح في حياته اليومية و انعاسكها كشكوى مُرّةٍ في شعره ، يحس بأنه مخذول في صميم أحلامه.
يشكو في قصيدة عنوانها (مؤكداً)  من أشياء كثيرة:
               مؤكداً .. مؤكداً أنني مسحوق بفراغ الطموح لأنني لم أنتهِ بعدُ
               أهرع إلى أعدائي الأكيدين…ألوذ بهم…أستنجدهم، ومع ذلك
                     فإنني أحلم وأحلم لذا أتعذب ،
 
هذا الإحساس بالفراغ والألم مع ضرورة الحلم جعلت عقيل وقصيدته بالضرورة ملتقى لأضدادٍ يتصارعون في العمق ولا تخفي حروبَهم تلك اللغة ُالمخاتلةُ بهدوئها الظاهري وتعقلها البادي على السطح.
يحس عقيل أيضاً بوحدته   وبأنه عاجز عن التميز بين فوضى الأصوات ورفضها له، لذا يختم قصيدته كما بدأها:
 
               مؤكداً أن صوتي غير مميز وسط هذه الضوضاء
              وأنني مصاب بسيلان الألم المزمن.
 
هذا الألم لازم َ عقيل حتى تَواريهِ عن عالمنا القاسي ، وظلت أشعاره علامة ًعلى عزلته وبؤسه وصدقه معاً.لقد اجتمعت فيه النقائض، وكان أشدها مجاهرةً مؤاخاته بين الشعر والفطرة .هذا ما لم ينتبه إليه الأصدقاء الذين أعدموا تجربته بدعاوى مريضة خارج –نصّية .وقد اشتكى منهم مرمّزا ً وجودهم شعرياً ،فهم ظلال كثيفة تدعوه للعيش في الوحدة دائما دون التفريط بموقعه مراقباً العالم . فهو كما يصف في إحدى قصائده:
قريبٌ من الكارثة إلى حدِّ السموّ… لصيقٌ بها إلى حدَّّ التلاشي.
هذا الشعور كان يكفي عقيل بعمرٍ قصيرٍ وإقصاء و وحدة ،ليكتب قصيدته المتخلصة من الادعاء أو الحلم بتغيير العالم وقلبه، فهو يخوض معارك خاسرة مسبقاً منتظراً دوره في التواري ، متعللاً خلال ذلك بكتابة قصيدة تستجيب لهاجسها وحده دون آباء أو معلمين ، لذا لا تستطيع القراءة النقدية أن تجد لشعر عقيل مرجعياتٍ محددة كمؤثرات تدعو للتقليد، سوى ما تقترحه الحداثة من تجنّبِ المباشرة والغنائية الفجَّة.
( في حناياي أغنيةٌ لم تكتمل) يقول عقيل في إحدى قصائد ( طائر آخر يتوارى)
ومن العجيب أنني أقرأ أشعاره دوماً بهذا النقصان الذي كأنّ التواري بالموت هو اكتماله الممكن الوحيد.
                                                                                                                           
 
 
 

 
 

 
 
 
 
 
السيرة ألعلمية ألذاتية
 
الدكتور حاتم الصكر

  • حاتم محمد الصكر
  • مواليد بغداد –العراق
  • دكتوراه آداب بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف الأولى في الأدب العربي الحديث والنقد –1998 عن دراسة السرد في القصيدة العربية الحديثة1998.

. أستاذ  في جامعة صنعاء التي يعمل فيها ا مند عام 1995/1996م في كليات الآداب واللغات والإعلام ومحاضر في مادة (المرأة والأدب )في مركز ألبحوث والدراسات النسوية بالجامعة.
. مستشار تحرير موقع نثر الإلكتروني الخاص بقصيدة النثرالعربيةwww.al-nather.net الذي أطلقه الشاعر العراقي يحيى البطاط.

  • عضو مجلس أمناء مؤسسة جائزة البابطين للإبداع الشعري –دورة 2008-2010
  • عضو اتحاد الكتاب العرب واتحاد الأدباء العراقيين ورابطة نقاد الأدب0
  • عضو مؤسس في ألهيئة الأستشارية لمشروع( كتاب في جريدة ) بإشراف اليونسكو أبو ظبي 19960
  • عضو الهيئة الإستشارية لمجلة( أوراق )ألتي تصدرها رابطة الكتاب الأردنيين منذ عام 2005

3- عضو هيئة تحرير مجلة غيمان الفصلية التي تعنى بالكتابة الجديدة -صنعاء 2007م

  • ساهم في تحرير عدة مواد في موسوعة ألأعلام العرب ألتي تصدرها ألمنظمة ألعربية للتربية والثقافة والعلوم في تونس 2005م0
  • ساهم باحثا في تحرير موسوعة الكاتبة ألعربية التي أصدرها ألمجلس ألأعلى للثقافة بمصر و مؤسسة نور 2005م
  • عضو لجنة تحكيم جائزة العويس الثقافية 2004 وجائزة السعيد بتعز 2004,2005ومهرجان الفن العربي بمسقط 2002.

ساهم باحثا في العديد من الندوات والمؤتمرات وألمهرجانات ألخاصة بألنقد منذ الثمانينات في مدن وعواصم عربية منها:  بغداد ، القاهرة ,ألشارقة ,أبو ظبي ,عمّان,اربد,تونس,الرباط ، وصنعاء0 والدوحة. – عمل مدير تحرير لمجلة الأقلام منذ منتصف الثمانينيات ورئيس تحريرها  من عام 1990 الى 1993 0
-عمل رئيسا لتحرير مجلة الطليعة الأدبية الشهرية الخاصة بأدب الشباب أعوام 93-95 0
-عضو  هيئة تحرير مجلة ألأديب المعاصر الصادرة عن اتحاد الأدباء العراقيين أعوام 1986-1993.

  • من كتاّب مجلة دبي الثقافية الشهرية الدائمين ، وملحق الإتحاد الثقافي الأسبوعي وصفحة ألف ياء بجريدة الزمان اليومية.
  • له مؤلفات في النقد منها:
  • المرئي والمكتوب:دراسات في التشكيل العربي المعاصر-الشارقة-2007

* حلم ألفراشة :الإيقاع والخصائص النصية في قصيدة ألنثر ,صنعاء 2004م ، وط2عمان 2009
* انفجار ألصمت : الكتابة النسوية في اليمن –دراسة ومختارات ,صنعاء 2003م
* مرايا نرسيس :  قصيدة السرد الحديثة في الشعر المعاصر : بيروت 1999
* ترويض النص : تحليل النص ألشعري في النقد العربي المعاصر :ألقاهرة 1998
* البئر والعسل : قراءات معاصرة في نصوص تراثية ط-1 بغداد 1992 – ط2 ألقاهرة 1997
* رفائيل بطي وريادة ألنقد الشعري : دراسة ومختارات- كولونيا ألمانيا 1995م0
* كتابة الذات : د راسات في وقائعية الشعر- عمان 1994
*  مالاتؤديه ألصفة : المقتربات أللسانية وألشعرية – بيروت-1993
* الشعر والتوصيل- بغداد 1988
 * مواجهات ألصوت القادم دراسات في شعر السبعينيات -بغداد 1987
* الأصابع في موقد الشعر : مقدمات مقترحة لقراءة القصيدة -بغداد 1986 .
 
الموقع الشخصي على الإنترنيت :
www.hatemalsagr.net
0عناوين المراسلة والاتصال:
العنوان البريدي : اليمن-صنعاء, بريد معين , ص 0ب 13243
00967 733887474 :الهاتف النقال
المنزل:     00967 1 464557
الفاكس:     00967 1 442492
البريد الإلكتروني: halsager@yahoo.com halsager1@hotmail.com
 
 
 
 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*