توازنات الخطاب ومظاهره الثنائية  في تجربة بنعيسى بوحمالة

مساهمتي في الكتاب التكريمي للناقد والاكاديمي المغربي بنعيسى بو حمالة المعنون( بنعيسى بو حمالة -تأويل العين والروح–دراسات-شهادات- حوارات) بإشرافد.عبدالرزاق هيضراني الرباط-2017-دار الأمان-بدعم من وزارة الثقافة المغربية
ثمرة الأكاسيا النقدية
توازنات الخطاب ومظاهره الثنائية  في تجربة بنعيسى بوحمالة
تعد تجربة الكاتب والناقد والأكاديمي بنعيسى بوحمالة  نموذجا لما يمكن وصفه بالتوازن في الخطاب النقدي كما تبرزه النصوص المنشورة لبوحمالة  كتباً وأبحاثا ومحاضرات. وتمثل جهوده  الدراسية ذلك التوازن الذي يأخذ شكل ثنائيات معرفية جعلته ذا صوت متفرد بين نقاد جيله ؛لأسباب ستبينها قراءتنا التالية ، رغم أنها تركز على واحد من أهم كتبه هو(شجرة الأكاسيا – مؤانسات شعرية في الشعر العربي المعاصر) (1)ومراجعة معضدة عبر كتابه (مضايق شعرية – ترجمات- مقتربات -بورتريهات).
تلك التوازنات نعدها اجتيازا وتجاوزا لكثير من الإشكالات المعرفية والنقدية التي وسمت  جهودعدد من نقاد المشرق والمغرب ،ما تمثل في تجاهل الأقاصي البعيدة عنهم وتركيزهم على محيطهم الجغرافي، أو الإغراق في التحديث بشكل يلغي مسافة النظر للإنتاج الأدبي المحلي أو الموروث، وكذلك التعصب المنهجي الذي يغلق دائرة الاجتهاد والتنوع الإجرائي بما تقتضيه طبيعة النصوص. وهو جمود منهجي تسبب في هدر طاقات وجهود كثيرة..وقد لخصت ُ تلك التوازنات التي بنيت عليها تجربة بنعيسى بوحمالة النقدية ومشروعه المنهجي وأدرجتها كالآتي:
– توازن الإفادة من الغرب والشرق
–  توازن النظر لنتاج المغرب والمشرق
–  مقاربة نصوص من أجناس وأنواع مختلفة
–  توازن النظر للأنواع الشعرية القديمة والمجددة والحديثة
– التراث والمعاصرة
–  التزامات المنهج والمرونة الإجرائية
– التنظير الفني والتطبيق الجمالي
– أدبية الخطاب وعلميته
تلك التوازنات تجد أدلتها وأمثلتها في كتابات بوحمالة على مدى تجربته ، ما يؤكد إيمانه بها وتبنّيه لهذا النمط المعرفي الذي سنجدة جدواه في نصوصه النقدية التي ستكون موضوع قراءتنا في هذا المقام.
ويطيب لي أن أبدا من لغة الخطاب لدى بنعيسى بو حمالة، فهو لا يقارب موضوعاته أو نصوصها بجفاف ومدرسية تتوهم الانضباط المنهجي بفرض علمية متيبسة على لغة الخطاب النقدي.لقد ظل النقد لديه فاعلية أدبية في المقام الأول .وانعكس ذلك في لغته المتميزة بشاعريتها واستعاراتها وانتقاء الألفاظ والتراكيب كما العناوين والمداخل ، بعذوبة ورهافة تماهي بين الخطابين النقدي والشعري ، كون الأول كلاما على الثاني واقترابا منه.
في توطئة كتابه(شجرة الأكاسيا) المعنون( أما قبل) (2) – وهو انزياح عن عبارة( أما بعد) التقليدية – ينبه لطبيعة الملفوظ وكونه كلاما قبْليا سابقا للمتن وعتبة نصية. ويعترف بوحمالة أن (نبرته الشخصية ) ( تتداخل مع نبرة النصوص)، فالكتابة عنده(سياحة روحية ونجوى) وذلك يقصي صرامة أو تجهم الخطاب المنغلق والمتوفر على مبهمات وتوهمات علمية أو إحصائية جامدة.والقراءة كفعل  هي عنده نتيجة (تزاوج بين التجرد والحميمية)، كما أنها (تنتج فائضا انفعاليا ) كما يسميه في تقديم كتابه (مضايق شعرية) وأفضل ما يؤكد ذلك كلامه عن المتنبي في مستهل كتابه(شجرة الأكاسيا) ؛فالتدرج الزمني-المكاني -في رحلة حياة أبي الطيب وشعره من الكوفة حتى موته عائدا من بلاد فارس مقدم بلغة لافتة ذات محمول شعري، وهي مراثٍ ومواجد يصاحبها عصف لغوي من الاستعارات والصور والمجازات التي تجعل الدراسة نصا ادبيا مستقلا ينتمي إلى الذات وصلتها بالشاعر وشعره:لنقرأ مثلا هذه الفقرات من ( مرقى الكوفة) وهي أولى حركات النص بعد عنوان ( عم سباتاً طفل الكوفة) :
((من تراه يرشدني إلى مقبرة بعرض الكون ،وياخذ بيدي إلى جَدث قتيل رُوي أنه يرقد منذ أن افترقنا ذات بارحة تحفظها الأعاريض والقوافي عن ظهر قلب،في هباء تند عنه وعني -وإلى الآن – ملامحه)). وفي استهلال نصه المتوهج بالعاطفة  يندم لأنه  حين زار العراق لم يزر المدينة التي ولد فيها المتنبي  ، وهو نص ينم عن نوع الكتابة العاشقة التي تستخدم الألفاظ وإيقاعاتها في التعبير العاطفي الشجي الذي يستوقفنا وكأننا نقرأ ميتا-نصاً يغلّف المتن الذي يريد الحديث عن المتنبي من خلال قراءة انتقائية لشعره.
ولا بد لقراءتنا أن تتوقف عند اختيار بنعيسى بو حمالة لعناوين كتبه وفصولها ومقاطعها.وهي جميعا تنطوي على تلميحات وإشارات ورموز واستعارات ، وتبنى بطريقة شاعرية يراد منها ألا يكون العنوان مجرد عتبة يعبرها القارئ متجاوزا إلى المتن ، بل تغدو نُصَيصا صغيرا يوازي النص الكبير الذي يوجه قراءتنا إليه.
واختياره ل(شجرة الأكاسيا) واحد من تلك العلامات المشيرة إلى عناية بو حمالة باللغة وشاعريتها الموحية والمؤثرة، فهي من فصيلة دائمة الخضرة وسريعة النمو ومتنوعة المظهر لتعدد أنواعها ..وكأن بوحمالة أراد للشعر أن يكون كهذه الشجرة أو أن يُقرأ على هدي هذا التشبيه الإستعاري!
أما العنوان الجانبي( مؤانسات شعرية)  فسوف ينقلنا إلى توازن آخر في جدول توازنات الكاتب وهي التراث والمعاصرة ، فالمعادلة التي التزم بها بو حمالة تظهر جلية هنا .فالمؤانسات نوع تراثي شبيه بالأخبار والمجالس والمنادمات، وهي أنواع تعتمد التبسط والاسترسال ، ومنها الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي ، وكذلك مقابساته الشهيرة. النقد هنا سياحة روحية لا تقصٍّ صارم أو تعالٍ على المقروء و القراءة تجسيد لتماهي النبرة الشخصية بنبرة النص.
وذلك ينسجم مع تعريفه للشعر حين يقدم مفهومه له ؛ فهو يرى أن الشعر  -كما ذهب هيغل – فن كوني، وهو(( أكثر الفنون رهافة… وهشاشة  من حيث  موارده وطرز تخلّقِه وإواليات اشتغاله، لكنه أوفرها أهليةً للحفر عميقا في الطبقات السحيقة لمعنى الإنسان ومعنى العالم)) وأحسب أن بوحمالة كان يتقصى تلك الحفريات في القصائد والأعمال الشعرية التي قاربها تحليلا وتأويلا ،وتلك التي اقترب منها داخلا في مضايقها وهي بلغات أخرى. ولعل تربية الناقد الشعرية منذ طفولته قد أهلته لتبني ذلك المفهوم ؛فهو يحدثنا عن مرافقته للشعر بسبب تربيته المدرسية المبكرة ،ونمو ذلك الترافق والصحبة مع المراحل العمرية اللاحقة ؛فليس مستغربا -كما يقول – أن يكون له ((اهتمام فائق بالشعر قديمه وحديثه، بالشعر المغربي والعربي ، وكذا بالشعر الذي تنتجه  آداب ومتخيلات في جغرافيات  ثقافية مختلفة)) وهكذا نصل إلى جذر شجرة الأكاسيا المقابلة لشجرة الشعر بتنوعه وديمومته .هي أكاسيا نقدية مثمرة  ذات فروع ثلاثة:مغربية ، عربية، أجنبية ، وجذر مزدوج: قديم وحديث ،فأنتجت هذه الوقفات التي يصفها بأنها مقاربات عاشقة احتفارية معا..وهنا نصل إلى ثنائية توازنية أخرى..
هذه المرة بين العاطفة =العشق والعقل النقدي=االحفرالموازي لحفريات الشعر نفسه. فيكون النص النقدي بحسب بوحمالة وكما ألخصه : حفرا عشقياعلى حفر ،وليس كتابة على كتابة  كما اقترح التوحيدي فحسب.
ذلك الوعي يؤهل بوحمالة لتقصي الشعربية العربية بتتبعها تاريخيا منذ بواكير النهضة  الأدبية ؛كجماعة أبوللو والديوان وطه حسين في مصر ونعيمة والشابي، فالتجديد العراقي أواخر الأربعينيات ،وهو على وجه الدقة يعني عنده تجاوز الإيقاعات القديمة واقتراح شكل جديد  ،ويواصل تتبعه التاريخي حتى الأجيال اللاحقة والتعديلات الستينية، ثم مقترح قصيدة النثر التي يرى أن لها وشائج بالنثر الشعري، ثم قيام كتابها بتحرير اللغة الشعرية والإيقاع والارتهان بما يسميه((معيارية فوقية لا تأخذ بالاعتبار فورة زمن الكتابة وجموحها..)) .
ومن توازنات بوحمالة النقدية أنه لا يرهن منهجه بالهبّة البنيوية التي سادت في الفكر النقدي العربي والمغربي خاصة، بل يجد في التحليل الاجتماعي إمكان التعرف على مشغّلات النصوص وبؤرها المولدة، وكشف علاماتها وإشاراتها الموجِّهة للقراءة.وكذلك يقترب من الشعر العامي ولا يترفع عليه فوقيا، فضلا عن موقفه المعلن والصريح من شعر المقاومة الذي يرى أنه تجسيد للإنسانية التي ينشدها في الشعر، ويجسدها في اهتمامه بالسود والمضطهدين.
وفي جرد أسماء الشعراء الذين ألقى ضوء دراساته على نتاجهم سنجد أن أغلبها كان عربيا بجانب شعراء بلده والبلدان المغاربية ..ولعل عمله الأهم في اعتقادي هو دراسته الأكاديمية الموسعة  لشعر الشاعر العراقي حسب الشيخ جعفر( أيتام أور)،بجانب دراساته عن قصائد لسعدي يوسف والبياتي  ودراساته عن السياب وبلند الحيدري وصلاح نيازي ومن ذكر من الشعراء في دراسته للسبعينيات وقصيدة النثر كخزعل الماجدي وسركون بولص وسواهما.ومن الشعراء العرب أيضا ثمة دراسات عن   أدونيس وصلاح عبدالصبور والفيتوري وأمل دنقل ومحمود درويش وقاسم حداد وحلمي سالم.كمادرس الشعر النسوي العربي وما فيه من خصوصيات ومحددات محتكا بنصوص لأحلام مستغانمي ومليكة العاصمي وسعدية مفرح وظبية خميس وخلات أحمد..ومن شعراء المغرب له دراسات معمقة عن محمد بنيس وعبدالرفيع الجواهري وعبدالكريم الطبال وعلال الحجام وحسن النجمي والمهدي اخريف وشعراء السبعينيات. ويمتد اهتمامه لما يسميه (شعراء الجيرة المغاربية) فيدرس  أنطولوجيات شعرية او دواوين وأعمال لشعراء من موريتانيا وتونس وليبيا..
لكن ما يمكن تلخيصه هنا اهتمامه بعلاقات الفنون وانطلاقا من دائرة الشعر كوجود السردي في الشعري.لكنه يبلور العلاقات الإجناسية حين  يدرس الشعري والتشكيلي كمقاربة دلالية لعلاقة المجاورة. ويهتم خاصة باللون كدالٍّ شعري ويتقصاه مطولا في (كتاب الحب) لمحمد بنيس وما يسميه الاستعارة اللونية.وهي ذاتها المهمة التي يدرس فيها ديوانا لشاعر آخر من جيله هو علال الحجام.كما يضع البورتريت  وهو ضرب من فنون الرسم للصور الشخصية كمفردة من توجهات كتابه (مضايق شعرية) بجانب مفردتي : ترجمات ومقاربات.(3)
إن جهد بنعيسى بوحمالة ينطوي على كدٍّ واضح ينسجم في سيرورته ،ويتطور ضمن إطار الحداثة المنهجية المتوازنة كما بيّنا.وإذا كان لرولان بارت وجيرار جينيت خاصة من أثر واضح في اهتمام ومنهجية بوحمالة، فإنه من ناحية أخرى ذاتية وكفاحية يوظف ذلك لخدمة النص وكشف تلك الطيات والطبقات النصية فيه، مكيفا المنهج ،ومتمردا على صنميته بالسياحة الحرة في أزمان وأمكنة وأنواع وعلائق وموضوعات متنوعة.وما اهتمامه بالعتبات النصية إلا مثال لذلك؛ فهو إذ يتبنى رأي جينيت بأهمية العتبات نصياً يحاول توسيع مدياتها لتشمل الخصائص النصية الذاتية في شعر الحداثة العربية.
إن الناقد والباحث الأكاديمي والأديب بنعيسى بوحمالة يضيف للجهد التحديثي العربي إضافة مهمة لما يجاوز في خطابه من عقبات، ويتخطى من جغرافيات شعرية، ويعلي الخطاب النقدي، ليظل أدبيا في المقام الأول لا ينسحب لصالح أنواع نقدية أخرى تقوم على فنائه…(4)
 ملاحظات
(1) صدر كتاب بنعيسى بوحمالة (شجرة الأكاسيا-مؤانسات شعرية في الشعر العربي المعاصر) عام 2014.ولصعوبة حصولي على نسخة ورقية من الكتاب بسبب وجودي بعيدا  في المغترب منذ سنوات ، فقد استعنت بنسخة مرقونة على الحاسوب،وخالية من الترقيم المتسلسل ، لذا لم أحِل إلى الصفحات مكتفيا بالاقتباس.
(2) أما قبل : عبارة مفتاحية للكتاب ، وهي تتكرر أيضا في كتابه (مضايق شعرية)
وتنطوي الإزاحة عن( أما بعد) على نوع من الشغب اللغوي الجميل، والتعارف مع القارئ في مدخل الكتاب ،وتحوير  لافت لعتبة مهمة من عتبات النص النقدي ..
(3) أطروحة بوحمالة حول علاقة الشعري بالتشكيلي، والاقتراض المتنافذ بينهما حظيت باهتمام واسع حين قدمها كدراسة ضمن الحلقة النقدية لمهرجان المربد الشعري ببغداد عام 1986 ،  وقد استأذنته حينها لنشرها في مجلة الأقلام وصدرت في العدد 1-1987 بعنوان(الشعري والتشكيلي: مقاربة دلالية لعلائق المجاورة) . وانطلق فيها من فرضية جيرار جينيت حول التعدي النصي وأشكال التناص الممكنة بين الأنواع المختلفة..
(4) يخامرني شعور حاد بأني في هذا العرض الموجز لواحد من كتب بنعيسى بو حمالة لم أردّ الدين الذي له على الحركة النقدية والشعرية العراقية خاصة، حيث خصص لها الجزء الأهم من جهده النقدي، وقاربها في مناسبات عدة ،ومن زوايا مختلفة ، بل كان مسكونا بالذاكرة الشعرية العراقية وسيرورتها الجمالية ، ومتقصيا لحداثتها  وريادتها و تعاقب اجيالها وتنوع مناخاتها. ماجعل كتاباته من مصادر دراسة التحولات الشعرية العراقية والعربية مصدرا للدارسين الأكاديميين ونقاد الأدب..
 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*