متوالية المتاهات الآدمية     ا الثلاثية الروائية لبرهان شاوي

 
-1-
تقف الرواية العراقية  المعاصرة على مقربة  شديدة من الحالة القائمة، وتتلقف مفرداتها المتنوعة ؛لتتمثلها بوعي يربط ماضيها الخارج من ظلمة الحكم الدكتاتوري الأحادي والشمولي، وتعبر إلى الحاضر بعد التغيير وزوال النظام الجائر؛ لتقف ثانية عند ما آلت إليه البلاد وما تركه الاحتلال والعنف ،وصعود الأصوليات الدينية والطائفية، ومسخ هوية المجتمع بالصراعات والاغتيالات والتهجير، واضطرار الملايين للعيش خارج وطنهم.
وتتم إعادة تمثيل تلك المفردات – أو تداعيات المشهد – ؛لتظهر في أعمال سردية روائية تحديدا، لما تتضمنه الرواية من تمدد زمني ومكاني، وقدرة على التهام تلك الجزئيات الفاعلة وانعكاساتها من خلال الأفراد وذواتهم ،فتتوسع دائرتها لتعالج انعكاساتها العامة وآثارها القائمة والمستقبلية على الجماعة ووجودها وهويتها معا..
وتمثل أعمال الكاتب العراقي برهان شاوي نموذجا لتعامل الرواية مع الحالة القائمة ،فكانت روايته الأولى(مشرحة بغداد) ثم ثلاثيته الروائية (متاهة آدم ) و(متاهة حواء) و(متاهة قابيل) استيعابا سرديا  للكوارث الآنية، وجذورها وتداعياتها اللاحقة، وبشكل خاص مظاهرها  اليومية وما تعج به من مفارقات وأسى.
والملفت في هذه المتوالية السردية الضخمة التي فاق عدد صفحاتها الألف والثلاثمائة صفحة عدم ارتهانها بالواقع مرجعا وحيدا ،بل أدخلت الخيال وبدرجة تقترب من الفانتازيا أو اللا معقول، عارضةً الأحلام و الكوابيس والتهيؤات والظهور الشبحي لبعض الشخصيات ؛ لتوازي  بما يجري خياليا على الورق، بشاعةَ ما يحدث على الأرض، وما يمكن أن تمده المخيلة والذاكرة والقدرة الفنية على التصوير أو تجسيد الأحداث ورسم الشخصيات.
فاختلط في العمل : الواقعي والخيالي ،والفردي والعام ،والحب والكراهية ، والموت والميلاد ،والضعف والتحدي، والتضحية والخيانة، وتجلت عبر صياغات سردية متقدمة اجتمع فيها تبعا لذلك: الرمزي والمباشر، والمحلي والكوني، والمادي والروحي.. والشعبي والثقافي . شخصيات تلخص حيواتهم ومصائرهم ما تكتنزه الحياة المريرة في عراق يسير صوب المجهول معمدا بالدم والخسارات.
وإذا كانت الرواية في بعض تعريفاتها وتوسعها المفهومي هي فن التحولات فإن الثلاثية ترجمة وفية لهذا المفهوم.إذ لا شيء باقٍ على حاله : لا الأشخاص ولا الأفكار ولا العلاقات ذاتها. الجميع في غياهب متاهة طويلة لا يخرجون منها إلا لمتاهة أخرى.
وذلك ما تعكسه  سلسلة الرواة في العمل  ففي  متاهة آدم – القسم الأول من الثلاثية- تطالعنا  رواية الكاتب آدم البغدادي بعنوان العمل نفسه بعد ان تحول لديه من( السقوط إلى أعلى) لأنه أكثر تعبيرا عن الفكرة كما يقول، ثم التعرف على آدم التائه خلال الحكم الدكتاتوري  والرواية التي تقرؤها لنا زوجته حواء المؤمن قبل طلاقها منه ،وهي بذات  العنوان ،ولكن بتقديم المرأة المجهولة على متاهة آدم.وبعد القص تنتهي علاقتها بزوجها إذ وجدها في سرير جاره آدم اللبناني، وبعد تأكده من قيام والده بعلاقة جنسية معها  قبل مغا\رته العراق.وفي رواية آدم التائه نعثر على آدم آخر هو آدم المطرود وحواء أخرى هي حواء اللهبي.وفي وحدة مع نفسها تعثر حواء المؤمن على رواية كتبها زوجها الثاني آدم اللبناني في ألمانيا. فنقرؤها معها بأقسامها الموجودة لحين موته.وفي نهاية القسم الأول من الثلاثية  يتم اغتيال المؤلف آدم البغدادي.فتبدأ الرواية الثانية (متاهة حواء) من حيث انتهت الأولى بتفكير التائه بالسفر للتدريس في الخليج ولكنه وعبر مغامرات نسائية كثيرة تحف بطلاق زوجته يكتشف أنه بلا تذكرة سفر حقيقية ومنقادا لعلاقة ئأخرى مع حواء اجنبية ذه المرة.\أما رواية البغدادي فقد تسلمها ليكملها لنا صديقه آدم المحروم الذي سينتهي على يد ميليشيات دينية تغتاله لعلاقته بقريبة أحد قادتهم  وهو اخو زوجها الذي يموت في سجن بوكا ،وهي حواء الزاهد التي يشهد معها فصلا من فصول الرعب بتفخيخ السيارات وتهديد الاشخاص وابتزازهم ،ونعود لتتبع حياة حواء المؤمن التي تحاول الانتحار بعد موت زوجها اللبناني بحادث سيارة ،وينتهي المحروم في هذا الجزء مذبوحا ،وتموت من بعد ليصبح قبرها مزارا، بينما يرتبط آدم المحروم بعلاقة جنسية بحواء الزاهد، بعد أن دعاه أبوها للجوء عندهم عقب اغتيال آدم  البغدادي .وفي القسم الأخير والأطول (متاهة قابيل) يكبر(هابيل) ابن حواء المؤمن من عشيقها المحروم وتشتط علاقة آدم التائه فيعشق ممثلة أجنبية هي إيفا لسنج التي تعرّفه على حواء صحراوي ويقابلها في لندن حيث يقتل في شقته، بينما تبرز شخصية حواء الكرخي وتهرب إلى الخارج بعد مقتل الجميع  على يد المليشيات ذاتها ؛لأنهم كانوا يعضدون حواء المؤمن ولهم صلة ببعضهم.وهكذا تنتهي المصائر، لكنا نتابع تناسل الروايات والرواة، ونصل إلى نهاية المتاهة التي تغدو في لحظة قراءة ما متاهاتنا نحن.
-2-
و أول ما يلفت في قراءة الرواية هو عنوانها المستند إلى تكرار المتاهة البشرية واستمرار الضياع في تلافيفها .فالكل في الداخل والخارج ، النساء والرجال ، السياسيون والمواطنون العاديون غارقون في لجتها بأقدار متفاوتة ولكن بمصائر متشابهة : الموت غدرا أو بحوادث مرتبة أو بدوافع تنطلق من عسر المتاهة ولحظتها المحرجة للوعي..أو بمصادفات وأقدار تعضد الشعور بعبثية الحياة في وضع ملتبس كهذا ومجانيتها أيضا ،حيث تتعرض للعطب والمحو والانكسار دوما.
في ختام الجزء الأول متاهة آدم –والكاتب لا يضع أرقاما لأجزاء روايته بل عناوين- يقول الكاتب وهو الراوي الأول فيها: (إنها متاهة لا نهاية لها،أبناء وبنات آدم يتناسلون في هذه المتاهة، ولا أجد أفقا لهذه النهاية.).
ذلك ما قاله آدم البغدادي  وهو قناع الكاتب ونقطة التبئير في العمل وناقل وجهة النظر، قبل أن يموت اغتيالا بسلاح كاتم للصوت ككثير من شخصيات روايته التي سيأخذ صديقه آدم المحروم نسختها متسللا إلى بيت البغدادي المغدور ، وينفرد بها ليقرأها ونكون نحن المقصودين  أو المروي لهم بتوصيل العمل واستمرار المتوالية الآدمية هذه. فقد اتخذ الكاتب من حدث الاغتيال مناسبة للعبور في الجزء الثاني إلى مصير كاتب أو مبدع آخر واستمرار المتاهة والإيغال في دهاليزها.
وفي إطار التسمية  ودلالتها يستوقف القارئ اقتصار الشخصيات كلها على اسم آدم للذكور رجالا وأطفالا ، وحواء للنساء عربيات أو أجنبيات.وما يختلف هو اللقب فحسب للتعريف بهوية الشخصية.
وراء هذه التقنية اللافتة- بجانب توالي المتاهات – اعتقاد فكري يصرح به الراوي في مناطق متعددة من العمل، وهو القناعة بما فعلته الخطيئة الأولى لآدم من أثر في سلالته وتوارثهم لتلك الخطيئة واستحقاقاتهم من العقاب أو العناء الذي تسببت فيه .
وهي ليست منطلقة من اعتقاد غيبي بل من دراسة الوضع البشري وما يتركه السابق للاحق في متوالية الحياة على الأرض وما يجري للبشر فيها من عذابات ومعاناة.
وسوف تعطي التسمية  التي يعتمدها الكاتب بجرأة وقناعة دلالة مضافة للعمل من جهتين:  أولا  في التجريب  الأسلوبي  والتحديث القريب من الغرائبية في  المضمون والأسلوب الذي يسم العمل كله .وسنبين مكملاته في جوانب أخرى ، وثانيا في الهدف العام للعمل أو فكرته القائمة على كشف العنف المدمر والالتواءات الظاهرة والمختفية في مسببات الوضع الدموي في العراق وعدم استقراره بعد التغيير . فالكل ضالعون في ماساوية الحياة  عبر زيف الشعارات ومرحليتها القائمة على المناورات السياسية والمصالح والمستجيبة لنوازع تحاول الرواية كشفها للقارئ سواء أكانت حزبية او جنسية او مادية او شخصية.
3-
يمكن تشخيص مرجعية العمل الشكلية أو تعيين هيئته النصية  أولا وبقراءة سريعة إلى القص الشهرزادي في الليالي العربية .ففي الف ليلة وليلة تغلف شهرزاد حكاياتها بحكايات رواة يتسلمون السرد نيابة عنها؛ لتقوم هي بفترات صمت أو انسحاب كي يستكمل الرواة الثانويون سرد حكاياتهم الثانوية .ولينخلق بذلك سرد غلافي تتقشر كل حكاية فيه عن سابقتها وتتفرع عنها ، الأمر الذي لفت انتباه دارسي السرد وكتبوا في خصائصه الفريدة هذه.
لكن  ذلك القص الغلافي أو الصندوقي – بمعنى انفتاح رواية ثانية  داخل الرواية المسرودة وربما تتولد عنها ثالثة وهكذا..لكن السرد لا يأتي في ثلاثية المتاهات أوالمتوالية السردية هذه بشكل غلافي متواتر أو مطرد .إنها تقدم رواتها ومصائرهم وهم يتسلمون حكاية واحدة يكمل كل منهم جزئية منها ،ويستند الى عمل مكتوب –مخطوط تحديدا- ليستأنف المزاوجة بين  أحداث المدونة وما يوازيها من أحداث في الخارج. وهذا ماشخصته الكلمة المنشورة على الغلاف الخارجي  للجزء الأول من المتوالية –متاهة آدم- فقد ذكرت الكلمة أن هذه التقنية مأخوذة عن أشكال صندوقية صينية  وروسية  تتداخل فيها الروايات (( لتعيد نفسها في زمان ومكان مختلفين وباسماء شخصيات جديدة، لكنها تعيد دورة المأساة.)) و يمكننا أن نعثرفي القص الشهرزادي ما يشبه ذلك داخل الحكاية ذاتها وتسلسلها المنفصل عن سواها. واحسب بعد تأمل الظاهرة الغلافية في العمل  وتسلسل الروايات وتعاقبها المطرد لا تقاطعها
إنها أقرب إلى تقنية الوثيقة ؛لأن النص المقروء هنا  يقدم كوثيقة تنطلق منها لحظة السرد، وليس تغليفا لرواية سابقة بل استئناف للحدث واستكمال له.
وهذه التقنية أقرب إلى طريقة  الاعتماد على مخطوط يتسلمه آدم  من آدم سابق عليه كالوصية ويرى فيه مصائر شبيهة بما يحصل له . وبهذا يجسد الكاتب فكرته عن البشر والشر الكامن فيهم .
-4-
ومما يقوي التجريب في العمل ويمنحه هوية التحديث وكسر التسلسل الخطي للحدث أو السرد الوصفي ، لجوء الكاتب إلى استخدام طريقة الميتا –رواية او الرواية التي تتحدث عن نفسها و التي يحضر الكاتب  فيها معلقا ومعدلا ومقترحا ومغيرا عبر الراوي ، ويكاشف القارئ بما يريد ان يفعل أو مغزى ما فعله.ويبرر ذلك بلسان آدم المحروم معقبا على إحدى هوامش البغدادي المفروزة باللون الأسود نهاية الفصل بأن المؤلف يفكك النص في نهاية كل فصل محاولا ممارسة التطهير الإبداعي.
ثمة روايات متعددة  تتناسل في العمل، وهو تناسل يوازي تناسل الآدميين والحواءات فيها. لا يخلو جزء من الثلاثية من كاتب يكتب رواية، او رواية يعثر عليها مخطوطة.
ولا يكتم الراوي وجود الكاتب عبره ، بل يمنحه مساحة لمكاشفة القارئ حول الفصل الذي قرأه.ولما كانت الرواية مجزأة إلى أقسام قصيرة اشبه بالسيناريو السينمائي؛ فقد أتاح ذلك حضور الكاتب عبر صوت السارد آدم البغدادي  وكاتب العمل الأول،ليعلق على السرد، ويوضح بعض خطوطه أو يكشف ما أضمر من خطة لم ينفذها ،وأحيانا ليعترض على مجريات السرد.. ولقد ابتلعت المتاهةُ الرواةَ الخارجيين والضمنيين والضحايا والجناة  وقراء المخطوطات الذين كان عليهم توصيلها شخصا عن آخر.وفي العمل كله يستلم الرواية شخص ليعرض انطباعاته عما يقرا ثم ليكمل الحدث. ويمكن تجريد ذلك لوصف العمل  بهذا المخطط:
.آدم البغدادي –يؤلف متاهة آدم/المرأة المجهولة-يتحدث عن آدم التائه وحواء المؤمن
.آدم التائه يروي بعد مقتل البغدادي-ويكتب روايته مقلوبة المرأة المجهولة/متاهة آدم-يتحدث عن آدم المطرود وحواء اللهبي
.آدم اللبناني يروي رواية- تقرؤها حواء المؤمن بعد ان يُقتل
إن هذه السلسلة أو المتوالية السردية الداخلية ضمن النص الأساس او الرئيس تتيح استثمار طاقة التجريب الأسلوبي أولا وتعدد الشخصيات والمصائر والاحداث ثانيا ،كما تعضد هوية النص المتنوع بوجود المباشرة في سرد الأحداث ثم تطعيمها بالمخيلة والكوابيس وكشف النوازع الإنسانية الدفينة التي يمثلها حشد الآدمين والحواءات في النص.
5-
هذا التحشيد يقودنا لتأمل إشكالية واجهت المتوالية وباح بها الراوي –قناع المؤلف
للقراء في أكثر من هامش من هوامشه التدخلية على الفصول.إنها تخص وجود الجنس في العمل والحاجة له والغرض منه. فيعلق مثلا  بلسان آدم البغدادي على مشهد ممارسة الجنس بين آدم التائه وزوجته((فربما ستتحول هذه الرواية إلى برنوغرافيا تضج بالمشاهد الجنسية))ثم يستدرك مبررا تلك التفاصيل وسواها بالقول متسائلا ((لكن أليست حياتنا مبنية على العلاقة الجنسية في الكثير من مفاصلها؟)).
وقبل ذلك تساءل في احد الهوامش((هل هناك ضرورة لذكر التفاصيل الجنسية في العمل الروائي؟ألا يمكن أن يفسر بمحاولة ابتزاز مشاعر القارئ وإثارته؟أو أنه تعبير عن كبت الكاتب الجنسي ..)) ولعل هذه الاستباقات لملاحظات القراءة تعطينا مفاتيح لمناقشة حضور الجنس في الرواية، إذ لا يخلو فصل من تفاصيل متنوعة وإشارات أو تلميحات أو وصف لعمليات جنسية، وجدتُ أن أغلبها يدخل في كشف طبائع الشخصيات.ولكن التنويعات الأخرى للجنس كالاغتصاب  المتعدد في العمل  لعدة نساء وكذلك لرجل هو آدم ذو النورين،والعلاقات المحرمة (الجنس بين المحارم)تلفت النظر لأن الفصول مكتظة بتلك الوقائع منها مثلا:
علاقة حواء المؤمن بوالد زوجها، وحواء كوناي ووالد زوجها ، و مضاجعة العم لزوجة أخيه في قصة عاملة المطعم ، وإيفا أومسك وعلاقتها الجنسية بزوج أمها ، كذلك الولادة سفاحا كحمل حواء الزاهد من آدم المحروم دون زواج، والخيانات الزوجية وممارسة الجنس مع صديق العائلة أو الضيف ، وهي باعتقادي محاولات فنية لتعميق الشعور بالتقزز والرفض للحالة العامة التي تريد الثلاثية إدانتها.رغم أني وجدت بعضها يعيد ترسيخ طبيعة الشخصية بعد أن توضحت لدى القارئ مايجعل ذلك تكرارا أو حشوا.
-5-
يبرز الجانب الثقافي في الرواية من خلال  تأملات شخصياتها وتعليقاتهم ، ويطالع القارئ كما كبيرا من الجدل الفلسفي والديني والمعرفي.فكثير من أوادم وحواءات الرواية مثقفون أكاديميون أو كتّاب أو قراء مميزون وسياسيون.وذلك يتيح  تلك الحوارات الطويلة بينهم حول الفن والجمال والموت والثورة والدين ووجود العالم ومصير البشر كما يبث معلومات وأفكارا مسندة لشخصيات حقيقية كالمعماري خالد السلطاني والشاعر حميد العقابي  وهي أفكار تأملية في الغالب تطول أحيانا وتتعمق انعكاسا لشخصية الكتب واهتمامته الفكرية .ولتدخّل الكاتب غالبا بشخصية المؤلف الأول آدم البغدادي دور واضح في تداعيات وحوارات الشخصيات عربية وأجنبية حول الفن والكتابة والشعر والموسيقى  والرواية العالمية ؛فنقرأ أفكارا عن فعل الكتابة ذاته ، ويصادر اسئلتنا كقراء ، ويستبقنا بطرحها وهي من قبيل((هل يكفي أن يسمع  من الآخرين سرداً لحياتهم ومشاعرهم والأحداث التي مروا بها لكي تكون مادة لعمل روائي؟ وإلى أي حد يمكن للكاتب أن يغير من مسار الأحداث ويلون عوالمها ويخلق شخصيات وهمية من عنده؟))وتلي ذلك اسئلة أكثر عمقا عن استمداد الكاتب ومرجعية سرده: أمن الذاكرة الجمعية أم الفردية؟وما دور التجربة الحياتية في السرد؟ وقد طبق برهان شاوي تلك الفرضيات وهو يضفي ألواناً من التغريب تنقذ العمل من الواقعية والتتبع الخطي للأحداث والافعال والمصائر.فقد ادخل الكوابيس والفانتازيا او الإيهام في العمل في عدة أمكنة .منها ظهور الراهبات لحواء المؤمن في المستشفى ولقاؤها بهن في بيتها واكتشاف أن ذلك لم يكن واقعا بل رؤى وتهويمات ، وهو ما حصل للتائه نفسه  حين فقَد تذاكر سفره وموعد طائرته لأن كل مافعله كان  استيهاما لا يقين له. وسيحصل لاحقا للمؤمن وهي في سكنها الجديد في برلين.و ذلك ما تؤكده الرواية بجانب الأحلام التي تراود شخصياتها وكوابيسهم المتكررة، واستعانة الكاتب بمقولات التحليل النفسي حول الاحلام وما تشير إليه .
لقد قدم لنا برهان شاوي متوالية عن عذابات البشر بين عهدين: دكتاتورية رهيبة في عنفها وقسوتها ، واحتلال  له بقايا يدبرون مصائر البشر تحت مبررات دينية ومذهبية واهية.ولكنه رصد نبض البشر وهم يعانون ولم يكتف بتلك الوقائع الكارثية شديدة الألم وإلا لكان ناقلا لتلك العذابات دون رؤية ما يتحرك وراءها من مشاعر ورغبات وهواجس وخوف وأمل وعلاقات متباينة الغرض.
واحسب أن لبلورة تلك الثيمات لم يكن العمل بحاجة لبعض الحبكت الجانبية التي جاءت أقرب للقص الشهرزادي، حين تطيل شهرزاد الحكاية حتى يدركها الصباح وتحصل على يوم حياة إضافي ؛لأنها ترتبط المروي له –شهريار-بخيط حكاية لم تتم فيؤجل موتها يوما آخر. الحبكات الجانبية التي جاءت بهيئة استطرادات أو تنويعات على ثيمة واحدة   تدعو للتساؤل عن ضرورتها ،كعلاقة آدم المطرود بإيفا لسنج مثلا ووجود إيفا جايكوفسكايا في العمل وقصة هجرتها واغتصابها وعملها اللاحق.وكذلك وجود حواء ذات النورين وقصتها الطويلة وابنها مع الميليشيات وابتزازهم المادي والجنسي لها ونتساءل عن جدوى رواية نشيد المتاهة التي يكتبها اللبناني وتقرؤها زوجته المؤمن بعد موته ،وحتى قصة حواء صحراوي و لقاء التائه بها وموته في الطريق إلى علاقة جديدة بها .وتلك ومثيلاتها من الحبكات الجانبية  عملت على تكثير المفردات السردية وتوسيع العمل في نواح متعددة من العينات التي تصب أخيرا في الرؤية الأشمل للعمل .
لقد اختار برهان شاوي تلك اللحظة الحرجة من تاريخ العراق وانتقى أحداث السرد بما اختزنته ذاكرته ووسعته مخيلته ، وما عاشه مياشرة ،وقدم  لنا بذكاء وشاعرية  هذه المتوالية من المتاهات  التي ستصبح متاهاتنا كلنا كآدميين مرشحين لنكون ضحايا تلك العواصف التي هبت على الوعي والشعور، وزيفت كل شيء .
 
 
 
 
 
 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*