روايات الجيل الثالث- الحفيدة الأمريكية لإنعام كجه جي

 
مثلما  ينشأ على متن الحياة جيل ثالث يطور أبعادها و يوسّع مدياتها ويضخ إلى جسدها دما جديدا لا يطابق بالضرورة فصيلة دم الأجداد أو الآباء ،  كذلك ينسلّ إلى الروايات بكونها إعادة تمثيل للحياة وتحولاتها  جيل ثالث من الشخصيات يتسلم مجرى السرد ويوجه الأحداث ويمثل أفعال السرد ومشاهده ووجهات نظره ويقود الحكي ويوصله إلى نهاياته .
ورواية (الحفيدة الأمريكية)  للكاتبة العراقية إنعام كجه جي من أحدث الأعمال التي ترصد  هذا التحول الجيلي في الفكر والفن معا، فهي عبر روايتها التي لقيت احتفاء استثنائيا لمبررات فنية وموضوعية تجسد تلك الحقيقة ، فتبدأ بصوت الساردة الشابة العراقية زينة بهنام مستذكرةً اللحظة التي رددت فيها أمها  بتول الساعور قسم الولاء للوطن الجديد أمريكا ثم انصرفت بحزن كأنها تمشي في جنازة  مخاطبة أباها يوسف  –جد الراوية-(سامحني يا أبي ..بابا سامحني) .. فيبرز ثلاثة أنماط من أجيال الأسرة من جهة الأب ،  فيما تتعامد من جهة الأم ثلاثة أجيال أيضا : الجدة رحمة جرجس التي ظلت كنبتة تتمسك بجذورها  متشبثة بالعراق ولم تغادره ، والأم المهاجرة  ثم الحفيدة الشابة المولودة في المهجر، حيث تنشأ أمريكية تتطوع في الجيش كمترجمة مع القوات المحتلة للعراق وطنها التذكاري.
سوف تتصارع المصالح والإرادات حتما صراع أجيال نشأ كل منها في سيرورة مختلفة وتلقّى ثقافة مباينة لمن قبله ومن بعده. هذا الجيل الذي تنتمي إليه الساردة جيل منشق على نفسه لكنه راضٍ باللعبة متواطئ على الاستمرار فيها نفعيا. تتساءل زينة في إحدى استرجاعاتها ( هل أنا  منافقة أمريكية بوجهين ؟أم عراقية  في سبات مؤجل..؟) بينما يركن الجيل الثاني للأمر الواقع رافضا الاندماج ومحتجا بصمت يمثله الأب المبتعد عن الأحداث والسرد معا ، والأم المكتفية بالتعليق دون الفعل. لكن الجيل الأول ممثلا يحتج ويرفض وينتمي إلى مصادمة مباشرة  يحولها السرد إلى مقاومة يمثلها الجد العسكري السابق وتمسكا بمثل تلخصها الجدة  .تضع الكاتبة بطلتها- رمز الجيل الثالث – في مواجهة مزدوجة: مع نفسها حين تتعارض إرادة الذات الطامعة والواجب تجاه الوطن الأم الذي تعود إليه جذورها ، و تتصادم مع  قيم رموز الجيلين السابقين من جهة أخرى، فالعودة  للوطن كمجندة مترجمة في جيش الاحتلال يقتضي إشعال هذا الصراع بالضرورة فهي لا تعود سائحة أو زائرة أو مهنية بل  ضمن  تشكيل يقاومه أهلها الباقون حتى تضطر لإخفاء عملها الحقيقي في العراق عن معارفها  وأقاربها  وجدّتها في المقدمة.
وستكون قراءة استهلال الرواية  فرصة للتعرف على مقدمات هذا التصادم الجيلي وانشطار الذات وانشقاقها على نفسها لا من موقع المهجر والوطن أو الأنا والآخر كثنائيات تقليدية عولجت كثيرا بل من موقع العاطفة والواجب ، والانتماء  الرسمي والولاء العاطفي  ،فقد تغيرت زينة تماما بعد تلك التجربة التي أدخلتنا الرواية في تفاصيلها بعذوبة يتآزر على إنجازها وصف الأمكنة والشخصيات والعادات ووسائل العيش  والطبيعة المتممة للمشاهد الروائية، وتغير الجيل رهان تعقد عليه الكاتبة أملا تحاول مطاردته في الرواية ورصده كتحول في المصائر ، تقول الساردة( حتى ضحكتي تغيرت، لم أعد أرى أقهقه من قلبي كالسابق..) لكن هذا التحول لا يتم دون خسائر،  فثمة مبالغات صنعتها الكاتبة لتبرر هذا التحول ومنها ما يدخل في مصادمات قدرية قاهرة كحب زينة لمهيمن المنتمي لميليشيات دينية تقاوم الاحتلال وهو أخوها بالرضاعة محرم عليها ليس فقط لاختلافهما الديني( مسيحية/ مسلم) أو السياسي ( مقاوم/ مجندة) بل لاشتراكهما في الرضاعة التي تتم ترميزا لإخاء بين الأديان  وسلم اجتماعي دأب عليه العراقيون قبل دخول الفكر التفكيري الجاهل في خط حياتهم كانعكاس لتداعيات الاحتلال و الساردة ذاتها تحس بالمنحى الفانتازي للمصادفة فتقول  مستبطنة اعتراض القارئ ( هل كان عليّ أن ألبس الخاكي وأن أدخل جيشا وأخوض حربا لألتقي به؟كم فرطت من العمر الذي مضى من قبل …حين عثرت عليه جاءت شفطة حليب ووقفت بيننا..). ولكن التحول سيأتي منها حين تعترف بعد رجوعها من مهمتها ( لم أعد امرأة أمريكية عادية بل إنسانة من منبع آخر بعيد وموغل في القدم..).
الجيل الثالث يدوّن شاهداً على الانقسام الذي صار جزءا من الحالة العراقية و طبائع العراقيين: يُسقطون الطغاة ويقاومون الغزاة الذي طردوهم ويقاتلون الغلاة والجناة الذين تهافتوا على أرض هجرها أهلها طمعا بالنجاة فتجثم الحروب فوق صدر الجيل الثالث  داخل جحيم الوطن أو نار الغربة.
تدشن  رواية إنعام كجه جي  مرحلة مراجعة سردية  لخسائر  الغربة وإن بدت منحصرة في إطار إثني محدد وزمان ومكان معينين – الآشوريون في ديترويت أثناء التجنيد لحرب العراق – لكنها في المدى الدلالي للعمل تخلق امتدادات وتوسعات  تستوعب هموم الجيل الثالث وارتباكاته اختياراته في ظل التعارضات بين المكان والماضي ،  والعاطفة والذكرى ، تعارضات كان قدر  العراقي أن يعيشها منذ هجر جلجامش مدينته بحثا عن سؤال الكون الأزلي وأورثه لأبنائه الذين أسلموه للأحفاد في سلسلة لا تنتهي من التحولات  تحاول الرواية أن تتعقبها عبر ذاكرات أبطال الجيل الثالث وتصوراتهم عن رؤى  الوطن . تقول زينة في آخر أسطر الرواية بعد أن ترمي البدلة الخاكية في برميل مطبخ بيتها  في ديترويت ( لم أجلب معي هدايا ولا تذكارات .لا أحتاج لما يذكرني بها.أقول مثل أبي :شلت يميني إن نسيتك يا بغداد) ولعلها مصالحة مؤقتة أملتها ا النهاية الحدثية للسرد لا نهاية المتن المفتوح لصياغات جديدة.
 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*