لوسيفر:مدونات إنسان الصومعة -رواية محمد علي النصراوي

 
تمثل رواية الكاتب العراقي محمد علي النصراوي( لوسيفر)  نموذجاً للسرد الحديث المستفيد من تقنيات أسلوبية متباينة تتعاضد لخلق المتن الروائي؛ ليأخذ مبناه في العمل. وهذا يستدعي قراءة تعتمد التناص وسيلة لها ؛لفكّ شفرات العمل الذي – شأن أغلب أعمال الكتاب العراقيين – يعج بالفانتازيا والمزاوجة بين وقائع معاصرة وأحداث واقعية من جهة ، وخيال نشط وإيهام متعمد من جهة ثانية.
تعتمد (لوسيفر) على تقنية شائعة في الرواية الحديثة هي تقنية المخطوطة او المدوَّنة التي يعهد للكاتب الكشف عنها ، وهذا الأسلوب المتكرر في الأعمال الروائية له مبرراته في عمل النصراوي، فهو يريد تقليب صفحات مدينته ( كربلاء) التي أسماها هنا أو اختار لها اسم( قُربئيل) مبيناً في هامش ملحق بالعمل أن ذلك هو اسم كربلاء بالآرامية ، حيث( قُرب ) تعني الحرم ، و(إيل ) تعني الإله ؛فهي حرم الإله كما ينوّه ماسينيون في كتابه (خطط الكوفة) ،ويؤيده في ذلك الاستنتاج العلامتان الأب أنستاس الكرملي ومصطفى جواد.
أما لوسيفر الذي صار عنواناً للعمل فهو (حامل الضياء) في أصله اللاتيني؛ لكنه تعرض لتبدل دلالي مع الزمن؛ ليصبح من أسماء الشيطان ،حيث سقط من السماء ليخبو ويصبح رمزا للسوء لدى البشر؛ فوضعه دانتي في مركز الجحيم المظلم في (الكوميديا الإلهية ) كما يبين الكاتب في هامش عمله .
الفكرة الموضوعية إذن هي حول لوسيفر وصلته بما يجري للبشر في غابر الأزمان وحاضرها.والبشر هم ورثة لوسيفر بل هو ملهمهم .هكذا تقول مدونات أو منمنمات الشيخ محيي الدين القربائيلي والتي (شاء القدر) أن يكون الراوي الخارجي العليم في الرواية (واحداً ممن أوكلت إليهم مهمة تحقيقها) كما تقول الأسطر الأولى من الرواية. مصير الشيخ في حدث استباقي يتصدر وقائع العمل  فهو قد ( وُجد مقتولا في صومعته التي اختارها بنفسه والكائنة في خان الزوراء وسط المدينة) . وسيكون حضور القُربائيلي من خلال مدوناته فقط، وأحياناً من خلال استرجاع أقواله وهواجسه.هو شخصية تختلط فيها الصوفية والدنيوية: الثورة والعبادة.لكنه أقرب للفقراء والمظلومين.وأداته هي الكتابة .لذا جعل الكاتب مقتله رمزياً فقد ترك الجناة رأسه المفصول عن جسده على منضدة الكتابة بجانب مخطوطاته وأوراقه وكتبه القديمة. وتكاد الرواية أن تكون تمجيداً للكتاب حصراً ، فكل فصل من أقسامها الثلاثة تتصدره عبارات مقتبسة أو من وضع الكاتب تعلي من شأن المكتوب والمسطور في الورق ،لأنه الأداة الباقية للإنسان كي يدوّن ألمه.بل أن النصراوي يربط في مفتتح يتصدر الرواية بين الكتابة والمعرفة حصراً ، فيقول مخاطباً القارئ:( إذا أردتَ أن تكون تلميذ معرفة،فما عليك إلا أن تدخل الكتابةعند مطلع الفجر…فهي محرابك الذي يوصلك إلى الخلود.)
يكتفي الكاتب بالوجود الخارجي والحضور من حين لآخر لمواصلة سرد الحدث أو القيام بمهمة الوصف، فهو محقق المدونات المتروكة في صومعة ( المولى الجليل محي الدين القربائيلي)  .ويظهر من حين لآخر ليستكمل أو يملأ فراغات المدونات أو يستطرد بشأن تفاصيلها. كما يظهر مُعقّباً في الأسطر الأخيرة من العمل كما تتطلب تقنية الرواية المعتمدة على مخطوطات متروكة بعد رحيل كاتبها .فقد خاطب القارئ متأسفاً لأنه لم يقابل القربائيلي نفسه بل قضى زمنا مع أوراقه ومدوناته في صومعته التي يجلس فيها مستريحاً من رحلته مع تجليات القربائيلي ومذكراته ، وناظراً لعيني حمامة بيضاء من كوة مفتوحة على الخان وكأنها روح القربائيلي تعود لتخاطبه (بعينين يملؤهما صفاء الكون وبراءته).لقد قدم القربائيلي نفسه قرباناً لمدينته التي تملؤها الشرور: انفجارات وقصف واغتيالات . لم يسلم منها الشارع الذي يقطنه الشيخ في صومعته قبل مقتله.
لقد بدأت الرواية وقد انتهى كل شيء: الأعداء يدمرون المدينة، والشيخ مقتولاً في صومعته بين مخطوطاته.والعنف يضرب المدينة بينما يواجهها القربائيلي بتجليات صوفية ومونولوجات مطولة عن البراءة والحكمة والجمال وغيرها من التجليات الصوفية  التي يستخدم فيها الكاتب كثيرا من مصطلحات الصوفية وعباراتهم .لكن النقطة المحورية التي ستهيمن على العمل وتنقذه من التكرار والسكون هي أفكار القربائيلي عن لوسيفر: الضمير السري لكل  كائن حي والسؤال الذي يتكون داخل كل نفس بشرية .وهو المخلّص والموجود داخل كل إنسان كما يقول، وهو القائل : لا  أمام وجه كل نعم. وبهذه السمات يحضر الثوري المعاصر الذي يفسر التمرد في الوجود تصويتاً لصالح الحرية والاختيار والرفض الممثل بكلمة : لا.هنا نستعيد بيتاً للراحل أمل دنقل عن ابن نوح الذي رفض ركوب السفينة وقال لا . والرواية تعج بالتناصات بدءاً من أجواء المدينة التي صار كثير من الكتاب يعمدون إلى رفعها لمرتبة الخيال أو الهتروتوبيا أي المدن التي تمزج الواقع بالخيال مثل بصرياثا وكوتيا وقربئيل.. وتستجيب الرواية لتلك الأجواء فتظهر المدينة مكاناً يدمج الماضي والحاضر، وكذا الزمن الذي لا حدود له كحاضر وماض.بجانب الخلط بين الواقع والخيال أو الواقعة والإيهام بها.
تعوض الرواية عن محدودية المكان ولجوء القربئيلي إلى صومعته بالتداعي الحر أي الاستطراد من واقعة أو لمحة أو عبارة لتوقيف الحدث واستثمار الصمت أو التوقف بمصطلح السردييين للكشف عن أعماق فيها أفكار مستترة  أو مشاهد يصنعها الكاتي بتقنيات مختلفة من أبرزها سيناريو الفيلم الذي يظهر للقارئ ماجرى في العراق من حروب مدمرة واحتلال ، أو التعويض بالتداعيات الإنشائية وهو ما يناسب فكر القربئيلي المتأثر بنوع خاص من التصوف يجمع بين الجوانية والفيض الروحي والإشراق وتوهم وجود أشياء نورانية ترتقي بفكره للحلم والخيال المقموع عمليا وفي الواقع. ومن ا÷م تلك القضايا مسألة الجبر والاختيار ومسؤولية المعصية والخطيئة التي تلقى عادة على الشيطان.
لكن لوسيفر سيبؤأ من جرائم البشر ويقول في إحدى تداعياته: ( أنا لم أكن عاصياً ، ةلم أرتكب أية خطيئة. بل إن الخطايا هي من صنعكم، أما أنا لوسيفرحامل ضياء الرب ، الجميل دائماً، أعرف في أي وقت أجعلكم تفكرون، أزرع في داخلكم التحدي وبذرة الشك.) من أجل ذلك غدا النص مصهراً لمواد من مختلف الأزمنة: لوحة لشاكر حسن آل سعيد يمحتواها العرفاني وتنفيذها بطرق تجريدية حديثة، بجانب صراع الآلهة وحضور كبارهم من الأولمب والاساطير والرموزالتي يحيتشد بها العمل .وبذا يمنح الكاتب النصراوي قراءه متعة تخلقها حرية الربط بين ذلك الماضي وحاضر المدينة التي تتعرض للدمار.
رواية( لوسيفر) مثال آخر على تطور ثيمات السرد العراقي واحتكاك الكتاب بأخطر المسلمات والمراتب اليقينية كما أسلفنا، وكذلك حرية الأسلوب وحداثة البناء حيث لا تقليد أو تكرار لطريقة بناء الشخصية والأمكنة والاحداث والمصائر.
قد تكون لقراءة التناص كشوفات عن عوامل فاعلة في بناء المتن الروائي  لعمل الكاتب محمد علي النصراوي الجديد هذا ،كاللجوء لتقنية كشف أسرار المدونات كما أسلفنا ،وتكرار أجواء المدن السحرة ووقائعها اللامنطقية واختلاط الخيال بالواقع ، لكن ذلك سيكون ضمن أبنية العمل واندراجه في الاستمداد من جنسه الروائي وميراثه السردي .

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*