خبز القرى  في الفضاء الشعري

 
 
قراءة في الأعمال الشعرية لعيسى حسن الياسري
 
1-
الأعمال الشعرية  للشاعر العراقي عيسى حسن الياسري تتيح للقراءة الإستعادية مناسبة نادرة، حيث يكون بالإمكان تتبع خط سير القصيدة والتحديث الأسلوبي والتنويعات الموضوعية للشاعر.لكن حصيلة القراءة سترينا أيضاً أن الشاعر الستيني يطور أطروحته الرعوية أو القروية بشكل جدي، بدءاً من قصائده الوزنية الأولى حتى قصائد النثر المتشظية في مقاطع قصيرة بالغة التكثيف والتي  تقترب كثيراً من الهايكو، حتى في موضوعاتها المحتفية بالطبيعة، والمحتكمة إلى القرية ومفرداتها كتجسيد لها في رصد مظاهر الحياة وتناولها شعرياً.
في قراءة نقدية سابقة لديوان (شتاء المراعي) لعيسى حسن الياسري الصادر عام 1992 شخصنا ميزة الرعوية في قصائده  واحتفاءه بالطبيعة ودلالاتها.فهو يعلن في أول بيت من أولى قصائد الديوان :
أنا آخر قرويٍ
حاول أن يترك أغنية في وحشة هذا العالم ْ
أن ْيمنحه مرعى ًوقطيع شِياه
كان ذلك في زمن  احتدام بغداد وأيامها بالحصار وتبعات الحرب.كان مفهوماً ان الشاعر يلجأ إلى قريته الشعرية هرباً من درن العالم وتلوثه وقسوته، بعد أن غادر قريته الجنوبية منذ أعوام، مستسلما لضيق العيش في المدينة التي لم  يناصبها العداء شأن  ما تقدم في العادة الرعويات والقرويات  أو الزراعيات العربية لدى الكثير ممن عاشوا ظرفاً مشابهاً ؛كالسياب وحجازي وسواهما..
لكن السنوات  العجاف تكر دورة أيامها  الأكثر قسوةً وظلاماً ،ولا يعود الياسري لقريته أو حلمه وخلاصه.على عكس ذلك ستسير رياح الحياة ليجد الشاعر نفسه مغترباً في الشمال الأمريكي. فهو يعيش في كندا منذ عام 2001 بعد إقامة مؤقتة في عمّان.لكن ثيمة القرية لم تفارق نصوصه.(أنا طفل القرية) يقول في ديوانه قبل الأخير(أغاني البيدر).ويرثي صديقاً من قريته بوصفه آخر الرعاة..
2-
ينتقي الياسري تنويعات أخاذة ذات دلالات رمزية ليستذكر قريته.ويواصل ماكان قد بدأه في مطلع تجربته، ووجد فيه تميزه عن زملائه.ووجدت قصائده ميزتها عن السائد في الخطاب الشعري.
وليس مصادفة أن الأعمال الشعرية البالغ عدد صفحاتها اكثر من سبعمائة
تبدأ  صفحتها الأولى وسطرها الأول بعبارة (خبز القرى)وتضم  القصيدة الأخيرة عبارة(أنتم يامن دفتركم رغيف الخبز) وكذلك في الصفحة قبل الأخيرة  نقرأ اعتراف  الشاعر بأنه يكتب:
للذين لا يعرفون عن (الإيديولوجيا) غير
رغيف الخبز
وكأنهما قوسان يلخصان تعويذة عراقية قديمة تقدس الخبز وتمجد زارعيه.هو الخبز النذري في الملحمة الخالدة(جلجامش) تحمله النسوة لتموز الراقد في العالم السفلي كل فصل لينهض.وهو الخبز الذي حسب به جده أتو نبشتم أيامه السبعة التي نام فيها في الأعماق.وهو الخبز الذي يقسم به العراقي حتى اليوم ، ويستخدم اسمه  رديفا للعيش أو الرزق .
لكن خبز القصيدة هنا ذو بعد سيميولوجي.فهو ينطوي على  إحالة مكانية. القرية هي مولد هذا الرغيف الذي تضوع رائحته في فضاء القرى كل صباح ومساء ،مذكّراً بالحياة .
لقد ارتضى الياسري أن يمحور نصوصه حول مفردات القرية وتنويعاتها الممكنة مسترجعا طفولته ومناظر الطبيعة في الريف، لا بنبرة رومانسية تحلم بذلك كله جزءا من جمال تام أو مكتمل، فثمة ألم وأدواء لاتخفيها القصائد.
الجنوب هي الجهة التي تنتمي إليها القصائد حتى في إقامة الشاعر الشمالية الباردة. وعناوين دواوينه تشي بذلك.فقد بدأ بنشر( فصول من رحلة طائر الجنوب) مطلع السبعينيات ، وتلاه  ديوان (سماء جنوبية)وديوانه الرابع ( شتاء المراعي) ثم (صمت الأكواخ) و(مايمكث في الأرض) و(بقايا البيدر) وأخيراً(أغاني الغروب).وهي عتبات نصية وموجهات قراءة تفصح عن تلك النزعة المميزة التي ذكرناها.ويعضد ذلك عناوين القصائد أيضاً حيث تتكرر فيها الثيمات الأساسية لشعره.
ولقد فهم بعض الشعراء للأسف أن الانتماء للريف شعريا هو موقف رومانسي تجاوزوه لاحقا ،ولا يرضيهم أن تستذكر القراءة النقدية تلك الإهتمامات القروية. وكأنهم بذلك  يذكروننا بأمثولة ساذجة عن زوجة طبيب الأطفال التي تسأله متى يترقى كي يصبح طبيباً للكبار!
الياسري لا يترفع على القرية شأن سلالة من الشعراء الذين اهتم النقد بتجاربهم وصنفها ضمن تراث الشعر الرعوي الذي يحمل رؤية خاصة ليس تمجيد الطبيعة إلا مظهراً من مظاهرها، فهي تحمل أيضاً الإحساس بالنقاء والبراءة والجمال . ولقد اشتهر قول فيرجيل في الرعوية السادسة:
قد يغذي الراعي غنمه لتسمن
لكنه ..وعندما يغني
يشدو بأغنية رقيقة
تلك الأغنية التي يرددها شعراء المراعي والأرياف.لقد وُصف الشاعر  يسينين بأنه مغني الطبيعة الروسية العاشق.لكن المدينة وحياتها القاسية دفعته للإنتحار.أما الياسري فقد غدت المدينة  في شعره مكاناً للتذكر والحنين ،ورأى أعماقها المظلمة ومآسيها فرثاها أيضاً.
3-
وكما وجدنا عند قراءة شتاء المراعي ،فما زال لجملته الشعرية قوة الشفرة  ذات المدلول المنفتح على وعي الشاعر ,الموصوف في قراءاتنا بأنه وعي رعوي , فهو
يصف كل (جميل) و (طيب )و( بريء  )  بأنه كائن رعوي بمعنى الانتماء الفني – الرمزي – ويقابله بعدوانية كل شيء ( قبيح ) و ( قاس ٍ) و ( مدنّس). كما يشتمل ضمنياً على ثنائية زمنية يقابل فيها (الماضي )بعدوانيةٍ (الحاضر) القائم.
أسلوبياً يلاحظ القارئ ميل الياسري في دواوينه الأخيرة إلى تأكيد نزعته المميزة منذ بواكيره لتجنب كتابة القصيدة بمعناها التقليدي، ومبناها المعروف كقطعة شعرية واحدة.وتكون نصوصه في دواوينه كلها ذات مقاطع مرقمة .لكنها في أعماله الأخيرة تميل إلى القصر الشديد، فقد يكون المقطع بيتاً واحدا ً او آثنين .لكن القراءة تستطيع التقاط الخيط الذي ينتظم هذه الشذرات المرقمة .
ويمكن تفسير ذلك نفسياً بأنه انعكاس لإحساس الشاعر بالتشظي وانفراط كل شيء كحبات مسبحة ،لا يستطيع إلا أن يلمها بعد انفراطها  دون بنيتها الكلية.وذلك واضح في استنتاج الدلالة في القراءة.فهو يرثي بحرقة مستخدماً تأكيد النفي للقول:
لا قرى..
لا مواقدَ
هذي مدافن طفل الشتاء
وهذا الذي يتصاعد من كوة الكوخِ
دخان احلامنا الذابلة
سيميائياً تتعدى القرى والمواقد وجودها اللغوي والمكاني.المواقد تصبح إحالة شديدة التأثير إلى من كان يجتمع حولها في ليالي الشتاء.والقرى تصبح وطناً أو مكاناً لهذا الجمع الملتم طلباً لدفء العلاقة الإنسانية.ماالذي ظل إذن؟ مدافن لطفل الشتاء تؤوي أحلامه وماضيه.ودخان أحلام ذابلة كانت نيراناً في ما مضى.
كما تستحيل الحقول الخضر بدلالة لونها إلى مطلب شعري يحلم به الشاعر.في قصيدة (الأخضر) يذكرنا الشاعر باحتفاء أبي تمام باللون ووصفه الأخلاق بالخضرة ،وصرخة لوركا : خضراء …خضراء .لكن الياسري يبدأ نصه بحرقة:
من مقتنياتي قمر أخضر
ذات مساء سُرق مني
فيما يختم بمقطع الحلم:
أحلم..أن أسترجع لون حقلي الأخضر
أن أسترجعكِ خضراء كما كنتِ
تتغذى قصائد الياسري من ذاكرة ثقافية أيضاً، فيكتب عن لوحة حقل القمح التي رسمها فان كوخ  الذي يخاطبه بالقول: ياصديقي/ أيها الفلاح المتخلف مثلي!ويقول له تعويضاً عن حقله الذي سُرق ذات ليلة:
حسنا  فعلتَ يافان كوخ
لأنك حفظتَ لنا حقل القمح
وفي مقطع آخر من القصيدة ذات العنوان الدال(حقل القمح) يقول:
حقل القمح الأشقر
الأكثر لمعاناً من ذهب الشمس الغاربة
هكذا يقرأ الشعر اللوحة كما يقرأ اسطورة جلجامش وعشبته، وكما يرى الحرب تلد خراباً وآثاماً ،وكما يجسد بإنسانية فذة في قصيدة(الأبناء) تلك العاطفة التي لا يعرفها إلا من تتفرق بأبنائه السبل ،وتفيض بهم المنافي:
من الظل إلى صهد الشمس
ومن الدفء إلى ثلج الوحشة..يبدأ سفرهم
ولكن الآباء يدفعون الثمن أيضاً حين يخلو من الأبناء البيت:
قريباً ستهب رياح باردة ..ويتثلج سقف البيت
فبماذا سندثر شيخوختنا..؟
 
لقد كانت الأعمال الشعرية للياسري كما ذكرنا في بدء القراءة هذه،مناسبة لإستعادة ما أنجزه بتميز في الشعرية العراقية ضمن جيل الستينيات ، وتفرد بهذا الإقتران الشفيف بالأرض والإنسان والطبيعة ،حتى صارت سمةً لقصائده التي واصل تحديثها وصولاً إلى قصيدة  النثر المقطعية، أو الشذرات الشعرية المكثفة التي تحمل عباراتها الموجزة دلالات متسعة، أوردها الشاعر بحرفية وتفنن وانتقاء..
 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*