أحلم بالعيش في وطني-حوار أجراه الأستاذ عبدالدائم السلامي

 

حاتم الصكر: أخشى أن يكون مولودُ الربيع العربي وحشيا أو مُستَبِدًّا
 
الناقد العراقي: أحلم بالعيش في وطني وفي بغداد التي أحب ولوَاسِطَ التي أنتسب، ولكل ذرة تراب بين النهرين بلا رومانسية أو إنشاء.
 
ميدل ايست أونلاين
حاوره: عبدالدائم السلامي
أعرف شاعرية وطني وجماله وعراقته

• تقديم:
التقيتُ الدكتور حاتم الصكر في اليمن منذ أزيد من أربع سنوات ضمن فعالات مهرجان صنعاء الرابع للقصة والرواية، تحدّثنا كثيرا في أشياء تهمّ الفكر والأوطان، ولكنّ حُزنَه العراقيَّ النابت في وجهه أنبأني بأنّ له أثرًا من محنةٍ مَّا لم يحدّثني عنها من باب التصبُّرِ بالصمتِ، وقادني السؤال فيما بعدُ إلى العِلم بحادثة اختطاف ابنه “عُديْ” على الطريق الرابطة بين بغداد وعمان عام 2006، ووقفتُ على حجم الألم الذي عاشه هذا الرجل.
نشر الدكتور حاتم الصكر ما يربو على العشرين مؤلَّفًا في مجال النقد والجماليات، منها (المرئي والمكتوب: دراسات في التشكيل العربي المعاصر، الشارقة 2007 )، و(حلم الفراشة: الإيقاع والخصائص النصية في قصيدة النثر، صنعاء 2004)، و(انفجار الصمت: الكتابة النسوية في اليمن، صنعاء 2003)، و(مرايا نرسيس: قصيدة السرد الحديثة في الشعر المعاصر، بيروت 1999)، و(ترويض النص: تحليل النص الشعري في النقد العربي المعاصر، القاهرة 1998)، و(البئر والعسل: قراءات معاصرة في نصوص تراثية، بغداد 1992)، و(كتابة الذات: دراسات في وقائعية الشعر، عمان 1994)، و(ما لا تؤديه الصفة: المقتربات اللسانية والشعرية، بيروت 1993). هذا، إضافة إلى إنجازه لمجموعة كبيرة من البحوث العلمية في الشأن الأدبي، ومشاركاته في عديد الندوات الفكرية العربية والعالمية.
• الصُّدَفُ خدمتني في تمريني على الغربة
ـ جرّبتَ الغربةَ في المكان: من العراق إلى اليمن إلى أميركا، هل يترحّلُ الوطن في المُواطن؟
• يقينا أن الأوطان هي التي لا ترحل عادة. ما نحمله منها ليس إلا قطعا أو كِسرا مهربة ومعلبة في الذاكرة تجعلنا صرعى النوستالجيا الحادة أو مرض الحنين إلى الوطن أو تلك النزعة المرضية المنتشرة اليوم بين المترحلين المغتربين قسرا أو اختيارا، وأعني بها الفيتيشية أو التعلق بأهداب طفولة أو فتوة أو مكان أو زاوية أو قطعة أو نداء مّا عبر أغنية أو اسم أو رسم أو أثر. اُنظر كيف يبكي العراقيون اليوم حتى الحكام الذين تناسوهم في حمى التغيرات وصاروا يعيدون لهم اعتبارهم ويكتبون عن فترات حكمهم لاسيما الملكية وفترة الجمهورية الأولى. واُنظر الصور الشائعة بينهم لبغداد العشرينيات وزواياها ووسائط نقلها ومقاهيها وشوارعها وثقافتها، ستعلم كم هي قاسية غربتهم التي جعلتهم يتعلقون بكل ما يوصلهم إلى الوطن ولو عن بعد. وعندي أن العولمة ووسائل الاتصل التي أتاحتها عمقت جرح المغترب وضاعفت ألمه. ها هو يرى وطنه على الشاشة وفي الرسائل الهاتفية والحوارات الالكترونية والمواقع والصحف اليومية… كل ذلك متاح بكبسة واحدة في جهازٍ مّا؛ فيكون جرحك منفتحا أمامك بينما كان المغترِب الأول ومواطن الأجيال اللاحقة ما قبل العولمة يتمرن على النسيان بعيدا عن الحضور الدائم لوطنه، منقطعا كالزاهد يستذكر غيبا بعيدا.
ولعل الصدف خدمتني في تمريني على الغربة؛ فأقمت في صنعاء خمسة عشر عاما قبل أن تطير بي ريح النَّوَى والنوائب على رأي ابن خفاجة الأندلسي لأَصِلَ الجنوبَ الأميركي. فجأة، أُخذت من هناءة اللغة والعمل والحب والمعايشة الحميمة لأصدقائي وطلابي في اليمن؛ لأكون قصيا مُقْصى في منتبذ أو مغترب أتقرّى أبجديته في وقت لا تناسبه فتوة وشدة وتحمل أفتقدها كلها. ويبرق الوطن في عتمة ذلك المشهد ليمثل فنارا قد لا تصله سفينتي التَّعْبَى، لكنه يصبح هدفا ووحيا ينير ويغذي فتيل الأمل المنطفئ.
ـ يعيش الوطن العربيّ حَراكًا سياسيا واجتماعيا وثقافيا تُسيّره رغائبُ الشعوب من جهة ورغائبُ خارجيّةٌ من جهة أخرى، ألا يُخشى، والحال هذه، من أنّ يكون مولودُ هذا الحراك هجينًاِ؟
• الأخطر من هجنة الوليد أن يكون مولودا وحشيا أو مستبدا يعيد دورة الظلم والقهر التي رفضها وثار عليها. الخوف أن يتكون رأي عام في مناخ الديمقراطيات غير المقننة وغير المؤهلة للتطبيق والإجراء؛ ليستبدّ بأعراف لها قوة القانون. تصفيات دموية، وثأر من الخصم، وتعليب للفكر، وإلغاء للآخر، وحجب للحريات، وتجييش للمجتمع، والارتداد إلى جاهلية جديدة وعشائرية مختلفة التسمية. أصارحك أنني فرح بتغيير الأنظمة المتكلسة والوجوه التي تعفنت وسممت النفوس والفضاء والثقافة والجمال. لكنني غير مستبشر بالواقع الجديد كثيرا. سيتعين على المثقف أن يواجه قوة أخرى لها سلطة الجماعة وسلاح الموروث والعرف. وبذا تتهدد منجزات التنوير والتقدم التي حصلت رغم شحتها وضآلة تأثيرها وبطء وتائرها.
الكل اليوم في عنق الزجاجة مُعَرَّضون للاختبار: طلاب الحرية وسدنة الأخلاق وعشاق السلطة ومحبي الأوطان. وعلينا أن نتوقع الكثير المختلط والمتناقض والغريب. ولكن التاريخ يعلمنا أن لا شيء باق على حاله. حركته حتمية والتغير من طبيعة الأشياء. والحياة نهرها جار ولا يتوقف فيأسن أو يتجمد. لتجرب الشعوب مصائرها وستعود لوعيها وتنادي الجذوة التي في أعماقها… تلك لم تنطفئ مستكينة لمحتل أو مستبد أو مداهن.
• الحُكَّامُ الجُدُدُ يهمُّهم لبسُ النقاب للمرأة أكثر من لبس الأحذية للحفاة
ـ إلى أيّ مدى يصدق القولُ إنّ الإسلاميّين قد بلغوا السلطةَ في بعض أقطارنا العربية بفضل أصوات شعوبهم التي “كَلَّتْ” من قهرِ حُكّامها “فعَمِيَتْ” في صناديق الانتخاب؟
• من سيئات الأنظمة الدكتاتورية أنها تجعل الشعوب ترضى بأي حل لخلاصها. تصل بها حال الاضطهاد والتجهيل والإفقار حد القبول بأي حبل نجاة حتى لو التف حول أعناقهم، وحالهم كصيحة الإغريق: أين البرابرة؟ متى يصلون لغزونا فهم جزء من الحل؟! هكذا تورث الدكتاتورية وأنظمة الجور وأفكار التكفيريين وموانعهم ومحرماتهم وتابواتهم بيوض الرضى بما يجلب القدر. فقط ليروا نهاية لهؤلاء المتعسفين الذين يحجرون عليهم حرياتهم ويصادرون سعاداتهم وكرامتهم.
بلغ الإسلاميون السلطة وهم مدججون بثقافة التطهير الأخلاقي. كل شيء في نظرهم سيئ وبحاجة للتطهير والتنظيف والتغيير ولكن بحسب إيديولوجيتهم التي تنهمك في الجري خلف قشور الحياة وتترك لبها وجوهرها. تترك الإرهاب والفوضى والبطالة والغلاء والتعليم السيئ والصحة المتدهورة والخدمات البائسة والقضاء والفساد المالي والفقر، لتفرض النقاب والحجاب وتحرم الأفلام والرسوم والكتب. ولَكَمْ كان مصور الفيس بوك المجهول دقيقا حين صور طفلا حافي القدمين وعلق بالقول إن الحكام الجدد يهمهم لبس النقاب للمرأة أكثر من لبس الأحذية للحفاة. ذلك ما نخشاه: أن توجه للجسم العربي المثخن بالخيبات والهزائم مزيدا من طعنات التخلف والحجْر والتكميم والقمع ما يجعلنا دوما في أسفل قائمة الشعوب رغم ماضينا وحضارتنا وما قدمه الإنسان على أرض هذه المنطقة من عون للإنسانية في مراحل تطورها كلها.
في ظني أن الإسلاميين هم أيضا يعيشون أزمة ما بين الفكر المجرد والمثل، والواقع المحتدم الضاج بالمتغيرات، وتطميناتهم وإفادتهم من دموية وتخلف النموذج الأفغاني المنقرض، ستجعلهم واقعيين. إذ من يستطيع مصادرة السمة الحضارية والمدنية؟ ومن يصادر رأيا أو فكرا في لعبة ارتضوها هم وكانوا الفائزين ولكن ضمن إطارها؟ من سيفصل الجنسين في حياة صار من ضرورياتها الاختلاط؟ ومن يسلب المرأة حقوق العمل والدراسة والسفر والاختيار؟ ومن يقلب موازين الحياة ونواميسها الدارجة؟ مشكلات سيواجهها الحكام المتأسلمون: إما بالتشدد فيخسرهم هذا شعوبَهم، أو بالتغاضي وهو ما يمثل دحرا لفكرهم ومقولاتهم ومنطلقاتهم.
ـ بوصفك كاتبا ومثقّفًا عراقيا، ما الحلّ الذي تقترحه على ساسة العراق ليخرجوا من الفوضى التي تأكل من المواطنَ روحَه وأمنَه وكرامتَه؟
• هل لمثقف في ضجيج السياسة أن يقول كلمة؟ وهل من آذان تصغي له وهو الذي لا رأي له ليُسمع، ولا مكان له ليعلن منه رأيه، ولا أحد يضع له وزنا أو صوتا أو دورا؟ لكنني كأي عراقي أرى أن جناية الساسة هي التي أودت بأحلامنا وآمالنا وأفقدتنا طعم الحياة الكريمة. ساسة مستبدون لا يكررهم التاريخ، وآخرون وضعهم الفراغ والقمع في أمكنة لا يناسبون مسؤوليتها بما هم فيه من وعي قاصر وفكر مقتصر على فئة ضيقة. والأنكى هو التقسيم على أساس الطوائف والأعراق؛ فينال كلٌّ حصةً ليست له لو تُرِك الأمرُ للمواطن كي يختار. وتمضي اللعبة الكريهة التي لم نتوقعها… لعبة الأنصبة والحصص والموازنات، ليكون كل شيء وفق حصة مسبقة التواطئ والتراضي.
الحل في ما أراه كغيري هو العودة للأمن الأهلي والسلم الاجتماعي وأن يأخذ المختصون بغض النظر عن أفكارهم وطوائفهم وانتماءاتهم دورهم في بناء وطنهم. وتعميق ثقافة العدل والحرية والمساواة والحقوق المتبادلة وحتمية التطور وأهمية الوطن كقاسم روحي مشترك بين الجميع وفوق الغايات والمصالح والأيديولوجيات أياً كان زيها الذي تتخفى فيه.
• في يدي من العراق جراح لا تُخْفى
ـ هل تنوي العودة إلى التدريس بالجامعات العراقية؟
• هذه أمنية (عزيزة) بالمعنيين: العاطفي المعبّر عن الاعتزاز، واللغوي المعبر عن الصعوبة، فبلدي هو الذي أدين له بتعليمي وتربيتي وحياتي بتفاصيلها، له دين في عنقي، وحب لا يأتيه الشك ولا المزايدة ولا الاتهام. ولكن في يدي منه جراح لا تخفى. ولدي الذي غُيِّبَ خَطْفًا على أرض العراق بلا سببب سوى الطائفية والجهل والتشدد المقزز الذي أساء للجميع دينا و بشرا ، وبيتي الذي أخشى أن أسكنه ومكتبتي وحديقتي المهجورتان جفافا وهزالا، والظروف كلها حيث لا أمان ولا مستقبل. أحلم – لا أتمنى فحسب – بالعيش في وطني وفي بغداد التي أحب ولوَاسِطَ التي أنتسب، ولكل ذرة تراب بين النهرين بلا رومانسية أو إنشاء، فأنا أعرف شاعرية وطني وجماله وعراقته. وأدرك أن حقبة الدكتاتورية والفرد والغزوات الهمجية قد ولت، وستولي بعدها سلطات الجهل والتطرف. وسيعود الوطن إلى تاريخه وثرائه الروحي والحضاري. لكن في النفس غصة وخوف وندم وألم. وسأظل رغم ذلك أحلم… وأنا متفائل بأن العودة ستحصل ولو في حافات خريف عمر تتناهبه الأيام والأحداث.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*