أزمنة بيت الكتبخاني – عن روايةللكاتبة لطفية الدليمي

 
 
عن الرواية والعشق والتاريخ
د.حاتم الصكَر
 
ليس باستطاعة القارئ أن يستشف إيحاءً ما عند مطالعة عنوان رواية لطفية الدليمي (عشاق وفونغراف وأزمنة) بغداد2016، فالجمع الثلاثي بين بشر(عشاق) وآلة قديمة(فونغراف) وتاريخ(أزمنة) يكاد يغلق طريق أي تكهن بالمحتوى أو الدلالة.يزيد ذلك الغموض صورة الغلاف المقتصرة على الفونغراف وسيدة بثياب عصرية منتشية بسماع ما لانسمعه.
لكن مصادفة القراءة المؤجلة حتى الكلمات الثلاثة الأخيرة في الرواية تسعف القارئ بعنوان مقترح هو (أزمنة بيت الكتبخاني) الذي تختاره شخصية الرواية الساردة نهى عنواناً لعملها التالي ،انطلاقاً من مدونات سلالتها التي تركها لها والدها ؛لتقرأها عند عودتها من فرنسا إلى بغداد حاملة خيبتها بشيئين: الهجرة كحلم تبتلعه الغربة ،وزواج سريع فاشل .بذا تضيف لأخطاء الأسرة وخطاياها حدثاً معاصراً. لكنها تأتي بمزاج لا ينسجم مع ما ستراه في بغداد   من جهتين أيضا: وضع الأسرة وما تعرضت له من فقدان أحد أبنائها قتيلاً في فوضى  العنف و الأحداث الدامية في العراق، ومع تاريخ الأسرة الذي تلخصه هذه الأسطر(تنفر -نهى-  من كونها سليلة أسرة كان لها دور في سياسة العراق تحت الإحتلال العثماني والبريطاني قبل 1958 وبعد الإحتلال الأمريكي 2003،جدها لوالدها صبحي الكتبخاني الذي آل إليه اللقب من جد بعيدعاش في القرن السابع عشر، وكان كتبياً مولعاً بالمخطوطات والكتب وعاكفاً على الإستزادة  من كل علم، ولم يرث أي من أحفاده علمه وولعه ما خلا صبحي الذي أصيب بعشق النساء والكتب والكتابة.لكن بقية الأحفاد حملوا اللقب جزافاً مع إرث ممتد من أراض وعقارات ..) .ربما كانت تلك الكِسرة من السرد الخارجي الممهد للرواية تلخيصاً لمركز الرواية ونواتها ،وسط تلاطم المصائر والحيوات ومصارع العشاق وملذاتهم وخيباتهم ومباهجهم الممتدة على مدى خمسمائة وثمانين صفحة.
لكن العشاق ليسوا وحدهم أبطال الرواية وفرسانها ولا العاشقات كذلك.فثمة الفونغراف،جهاز الحاكي الموسيقي والتسجيل القديم الذي تعثر عليه نهى مكسوراً في صندوق مخبأ منذ زمن ، والمجلدات الأربعة التي يطلب منها والدها ان تطبع محتوياتها ،وهي عبارة عن مدونات أو مذكرات كتبها جد أبيها صبحي الكتبخاني .وهكذا تتعامد روايتان في الحقيقة: واحدة عن  نهى العائدة لبغداد وقد تغيركل ما  في بيوتها وناسها وأمكنتها وجمالياتها، وأحداث التاريخ المعاصرالتي ترويها مدونات المجلدات الأربعة ،ومذكرات الأسلاف عن تلك الحقبة الملتهبة من تاريخ العراق عبر احتلالين : عثماني وبريطاني.يتراوح السرد بإتقان وتزامن مدروس بين الحاضر حيث نهى الحفيدة الأحيرة للسلالة كما يسميها والدها، والماضي الذي تكشفه المدونات عن الحقبة الماضية .وتلك مهمة تنجزها الدليمي بحرفية وعذوبة وسرد متقن منضبط الإيقاع.
لكن لطفية الدليمي لا تريد لروايتها أن تكون تاريخية فحسب.فتعرض أحداثها عبر الأشخاص وحياتهم؛ لتكون الوقائع التاريخية هامشاً ، والحياة اليومية للشخوص متناً .ويمكننا القول إن التاريخ معروض عبر وعي الشخصيات وإدراكها وانعكاس تلك الأحداث على حياتها.ولكن القارئ لا يفوته ولع الكاتبة بسرد تاريخ العراق وتكوّن الدولة والمجتمع مطلع القرن العشرين . صحيح أن ملاحم من الحب والمصائرتضج بها الرواية، لكنها مسوقة في إطار التاريخ الذي تعيد تشكيله المدونات التي آلت لأسرة الكتبخاني في حاضرها وللحفيدة نهى تحديداً.
ولو تخير القارئ فك ارتباط الروايتين : واقع نهى وأسرتها ، وتاريخ سلالتها عبر المدونات، لاعتبر رواية المدونات التي تركها صبحي الكتبخاني خاصة والقليل الذي كتبته زوجته بنفشة خاتون،وابنه منها فؤاد،هي المتن الأصلي والمكتفي بنفسه.لقد تصاغرت قصة نهى وفشلها وعودتها وتعرجات حياتها وأخيرا قصة حبها مع نادر ، إزاء الملحمة الفخمة التي تقصها المدونات التي توفرت فيها عناصر السرد التاريخي الدقيق لأحداث ووقائع شكلت مستقبل العراق عبر أكثر من احتلال وحرب وانقلاب.
لقد هاجرت نهى من العراق عام 2007 بعد محاولة اختطافها وتهديدها ، لكن ما تصوره حياتها في الغربة في غرينوبل بفرنسا.لكنها عادت لتجد نفسها أسيرة مدونات السلالة.تتناظر الأحداث بين حياتها وشخصيات المدونات المتروكة كميراث للأسرة.نساء ينتحرن في الحالين، وعشاق تخيب قصص حبهم وتعصف بهم رياح فراق أو موت أو هجران. نهايات متشابهة عبر موت الرجال بالمرض الممض.وسيل من الخيانات التي يرتكبها الرجال في الغالب كتصويت لنسوية الساردة وانعكاس صوت المؤلفة عليها.
لكن انتقاء الشخصيات يعكس وعياً مصاحباً لدى المؤلفة بالتمرد على تقاليد الأسر المتخلفة.       وكلا الشخصيتسن : نهى وصبحي رغم تباعد الزمن بينهما يتمردان ويختاران  بجرأة وينحازان للعدل والحرية والحب.
وإذا كانت الدقة التاريخية وتمثل أجواء الماضي بإتقان عال يميزالجانب التاريخي، فإن الحب والتبشير به كحل لأمراض النفس البشرية هو ما يميز جانب الحاضر في الرواية ،ويطبع ماضيها بطابعه أيضاً.
لقد كان ذلك واضحاً بجلاء لم أجد مبرراً لتوكيده عبر اختيارات الكاتبة للعبارات التي تتصدر القص في كل انتقالة .وهي غالباً اختيارات ذكية ودالّة ومترابطة مع جوهر العمل .ولكن بلاغة الحكي في ظني تغني عنه .
لا يخفى أن تقنية المدونات او المخطوطات وسيلة كثر استخدامها في الرواية الحديثة عربية وعالمية.وهي تتيح شيئاً من الحرية للكاتب ،وكذلك تخفف من عائدية العمل للشخصيات المتخيلة فيه ،فيكون مرجعها هو المدونة التي يكتشفها شخص أو توكل له مهمة الكشف عنا كما حصل لنهى في الرواية، فقد استغرقتها مهمة نسخ المدونات الموروثة عن جد أبيها وماجرى له من أحداث ، بل صار الفونغراف نفسه وسيلة لاسترجاع الأحداث وتدوينها حيث ستجد بعد إصلاحه صوت بنفشه زوجة صبحي الكتبخاني تعترف بكثير من أسرار حياتها. لقد هيمنت المدونات على طريقة السرد ، حتى أن عودة نهى  ثانية في ثنايا السرد لاستكمال مصائر أسرتها أو تصوير حال بغداد في سنوات عودتها من فرنسا تبدو أشبه باستراحات سردية، تملأ فراغ العمل وتمنح فرصة لالتقاط الأنفاس: أنفاس القراء والكاتبة والشخصيات معا! لهذا أجد سؤال نهى عن مهمتها بعد انتهاء نَسْخها للمدونات سؤالاً نابت به عنا -نحن القراء- . فبعد فراغها من طباعة المدونات وقراءتنا لها معها ، تتساءل: ماذا سأفعل بعد  الفراغ من هذه المجلدات العتيقة؟ وكأن حياتها ارتبطت بتلك الأحداث العاصفة التي ترويها المدونات.والتساؤل الأهم هو عن  تفكيرها بكتابة مدونات زمنها وعشقها لنادر وقرارها بالسفر معه وإخراجه من عزلته.
ولكن تلك النهاية لا تضاهي في دراميتها نهاية رواية مدونات صبحي الكتبخاني الذي تمرد على أسرته، وأصر على التعلم في الأستانة ،ورفض الإحتلال العثماني وعمل من أجل الإستقلال وتوظيف علمه وثقافته وقراءاته لهذا الهدف.لكن حبه لزوجته بنفشه وجنونه عند مفارقتها له تأخذه من ذلك الهدف، وتعزله عن العالم فيظل حتى موته أسير حزنه المفرط. وتاتي النهاية كفاجأة صاعقة حيث تختفي بنفشة بجمالها وعذوبة صوتها ورقتها، وتختفي لأنها اكتشفت مؤخرا أن والد  زوجها صبحي هو التاجر الذي اشتراها من خاطفيها وهي ترعى الأغنام في قريتها قرب سمرقند، ويكون صبحي زوجها بمنزلة أخيها بعد ذلك الاكتشاف المفاجئ الذي تصنعه رؤيتها لصورة الوالد في  صحيفة ضمن وجهاء بغداد المجتمعين بالجنرال مود .فتقرر الاختفاء من حياة صبحي .وتترك ولدها  مهاجرة إلى سمرقند موطنها بمساعدة المس بيل ذات النفوذ في الحياة السياسية في العراق وقتذاك.
نهاية تجعلنا نفكر بأن الكاتبة أرادت أن توقف سيل التفاصيل الكثيرة في الرواية ، فاختارت اختفاء المرأة بهذه الطريقة التي تشكلها المصادفة والتي تتسم سردياً بصعوبة اقناعها القارئ بإمكانية الحدوث اتفاقاً فيكون والد زوجها هو نفسه مشتريها كجارية من خاطفيها قبل تحريرها وعتقها.
الجميع هنا يدونون.فغدت الرواية مدونة مدهشة عن نبض الحياة وتفاصيلها كلها ثقافة وأمكنة وأحداثاً وسِيراً وحقائق ، و بإتقان يكشف براعة الكاتبة في تمثل تلك الفترة والحفاظ على خط سيرها عبر المدونات ،بموازاة القصة المعاصرة للأسر المنهكة في الاختيارات والمصائر كانعكاس لتشظي الوطن تحت هياج العنف والغربة والخذلان.
 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*