محمد خضيرسلالة الحكّائين  بألسنتهم السحرية

تكسب القصة العربية القصيرة بنتاج القاص العراقي محمد خضير خبرة فذة ورؤية مختلفة

تتكون بفعل  فهمه الخاص للخلق القصصي والكتابة السردية وثقافته المتنوعة وتمثله لمؤثرات جيله وإعادة تمثيلها فنياً رغم أن محمد خضير لا يعد نفسه- رغم شهرته – قاصأ بالمعنى الحِرَفي للنوع الفني القصصي,انه( جامع حكايات) يحمل جرابا واسعا يرمي في جوفه بما يسمع من حكايات تروى على الطريق الخيالي الذي يسلكه أسلافه الحكاة ذوو الألسنة السحرية المختفون في أزقة القرى

,داخل كومات الرماد المتخلف عن الأمسيات التي تدار حولها الحكايات ,وتبدأ وتنتهي

بانتظار بدايات أخرى ,بألسنة رواة آخرين دائما ..

وإذا كان محمد خضير يحدثنا عن (قرية الحكّائين) بأسمائها المتغيرة ,فانه يشبّه ذاكرة القصاص بدكان عطار تختلط فيها روائح الأعشاب والبذور والزيوت , ومرة ثالثة يجد في مهنة (كاتب العرائض) المطل على شكاوى الناس وهمومهم من حافة منضدته والذي لا يكسب شيئا

من القضية التي يعرضها محررا أو كاتبا،النموذج المثالي لقصاص الخمسينات ذلك هو محمد خضير: جامع الحكايات, العطّار،  كاتب العرائض وهو في محترفه القصصي ,منكبّ على أوراقه ليسجل ما حفظت عيناه من مشاهد وهو يجوب شوارع مدينة (البصرة )جنوب العراق حيث ولد في يوم ما من عام 1942م ,ولم يفارقها إلا مرات معدودة إلى بغداد ,والى مدينة أو اثنتين داخل العراق للعمل , أو لحضور ندوة ..وبذا استحق لقب مواطن (بصرياثا)الأبدي .

حين ترى محمد خضير بقامته القصيرة وجسده الضامر ووجهه الجنوبي البشوش المشوب بسمرة خفيفة , ستظنه ذلك المعلم الذي يعطي دروسا في اللغة الانجليزية التي تعلمها ذاتيا

, والمشرف طوعيا على حديقة المدرسة الريفية على أطراف مدينة البصرة  لكن ظنك ذلك

سيخيب حين تستمع إلى تعليقاته بصوته المنخفض الخجول حول قراءته ومشاهداته التي تمثل

شبكه هائلة وخليطا من التراث والفلسفة والرواية ونظرية الأدب وحتى العلوم الطبيعية .

لقد كان محمد خضير يهيىء نفسه ليغدو عالِما ,لكن القصة القصيرة التي عشقها إلى حد الاقتصار عليها دون سواها من فنون الأدب وأنواعه غيرت مسار حياته , وان ظلت لدراسته العلمية آثار في بناء متاهاته القصصية الأخيرة لا سيما (رؤيا البرج ) و (صحيفة التساؤلات ) وكذلك في دفاعه النظري عن التأثير والتأثر عبر ما أسماه (مجرّات التأثير) وتدرجاتها ومنازلها ودوائرها ما عده بعض متابعيه إعادة إنتاج لرأي بورخيس حول العمل الأدبي وإمكان روايته بألسنة عديدة كما فعل –بورخيس نفسه حين أعاد سرد حكايات من ألف ليلة وليلة وبعض المأثورات الشائعة.

لكن هذا الرأي الذي دافع عنه محمد خضير دون أن يترفع عن احترام بورخيس والتأثر به و الاستمداد الرؤيوي والأسلوبي منه ، يتفق والرؤية الخاصة لمحمد خضير التي ترى في السرد القصصي مهمة شهودية لا يغض منها الحكي المستعار من مرجعيات متنوعة،ثم ألم تكن أعمال شكسبير الدرامية مستمدة في حبكاتها الأساسية من أمثولات ووقائع معروفة في أمكنة شتى

 أما المكان البَصْري الذي فتنه ووظف له مواقع السرد حتى تلك التي تجري على حدود المخيلة

واختراعاتها فهو ليس إتباعاً لماركيز و ماكاندو التي تكررت في رواياته رغم أن الإيهام والبقاء على حدود الاحتمال والإمكان لدى محمد خضير يضعه ضمن الاتجاه السحري الذي دشنه ماركيز وتميز به .

هنا نحن إزاء ذاكرة محلية تكوكب الموقع القريب و تعليه بعد إضفاء الشعرية عليه وجعله مكانا خاصاً، بصرياثا هنا بصرة محمد خضير وحده وأي تطابق مع جغرافيتها الحقيقية ما هو إلا مناسبة للتعالي الخيالي والخلق-وهذا واضح حتى في استرجاع تاريخ الأمكنة والأشياء الخاصة بالبصرة: القطار –السينما –الميناء-النخيل- الصيد-الأسواق…- فهي في استرجاعات  محمد خضير ليست شواهد طوبغرافية للمدينة ككيان متعين، بل كأشياء تكونها الذاكرة والوعي بها-أعني بالأشياء ذاتها كما اكتشفها وعي محمد خضير وإدراكه وشعوره وإحساسه وعاطفته-.

 في مقدمة كتابه (بصرياثا)-وعنوانه الجانبي(صورة مدينة)الذي يدل على خصوصية ما يرسمه لها من أبعاد فهي( صورة) لا سجل أو وثيقة، يقول محمد خضير:(فهذه المدينة لا تاريخ لها وإن سربلها  الزمن برداء  الحادثات.تبدأ تاريخها أنى تشاء،حين تستل من ردائها خيطا تحوك منه حادثة أو رواية،لذا فإن تاريخها لم يبدأ بعد ، لا أستطيع أن أتصور في  بصرياثا  قوّالا  بلا منبر،أو مواطنا بلا نول. المنبر والنول شعار هذه المدينة السرّي.)

بذلك يكون محمد خضير قد قام بنشاط  ظاهراتي خلال الاسترجاع وعملية الكتابة، أي أنه( أسقط ) بالمعنى المنهجي المعرفي لا المَرَضي على المكان وأشيائه قدراته الإدراكية التي سمحت له بتمثل البصرة ككيان زماني ومكاني وحاوية أشياء وخبرات وذكريات، نتجت عنها بصرياثا التي كتبها مرات في مناسبات سردية أو عروض للوعي والذاكرة.

هذه في ظني هي الشفاعة الجمالية والمعرفية الممكنة لاختراعات محمد خضير ومخلوقاته وهي التي تبرر كذلك التصاقه الرحمي بها، فهو ( يخشى) أن يغادرها، تماما كما كان يحصل للسياب حين يغادر جيكور، فيرى (المدينة) قاسية مخيفة / جسّدها سلبا بالقول:

                   وتلتف حولي دروب المدينة 

                   حبالاً من الطين يمضغن قلبي

                     ويزرعن فيه الضغينة  

انه مواطن بصرياثا الأبدي : لا يغادرها إلا ليسكن في طبقات تاريخها , ولا يحلم إلا بها , مستريحة على كتف  شط العرب , مغطاة بالنخيل يلفحها هواء رطب حار سيكتب في أجوائه أفضل قصصه (في درجة 45 مئوي) عام 1978م بعد إن نشر عام 1972م عددا

قليلا في قصصه بعنوان (المملكة السوداء) لكن زهد محمد خضير بالنشر وعزلته وتأملاته  ليست( عادات ) ثقافية مكتسبة , بقدر انتمائها لمزاج قاص فريد , أضاف بلمساته الشعرية

البارعة الكثير للقصة العربية القصيرة .

حين يسير معك في أزقة البصرة أو تصحبه  في جلسة ليلية في نادي أدباء البصرة ستصل إلى سريرة عميقة , قد لا تكشف عنها الرؤية الأولى لشخص محمد خضير الحزين والمنطوي والمقل ..فهو يكتنز ويختزن وينسج بنوله الخاص مفردات بصرته التي رفعها لمصاف الأسطورة والمدن الفاضلة التي تحيا في الخيال وأعطاها هذا الإسم ذا الرنين الأسطوري: بصرياثا .

برز محمد خضير منذ اكتشفته (الآداب ) بقصة (الأرجوحة) والشهيد غسان كنفاني الذي أشاد

بقصته (تقاسيم على وتر الربابة) عام 68م , وظهوره ألمفاجىء في (البطات البحرية ) الفائزة

بجائزة ملحق جريدة  الجمهورية  الأدبي ببغدادعام 1966م ، ولكن القراءة النقدية العربية لأعماله ظلت قليلة وحذرة قد يتحمل  وزرها ابتعاد محمد خضير و شحة ما ينشر لكن بعض جوانب الجهل به وبأعماله يتحمله المزاج النقدي السردي وتمحوره النمطي حول ظواهر وأعمال وكتّاب بدافع المركزية أولا، والظن بأن المكان العراقي صالح لتوليد الشعر في المقام الأول والأخير.

سنعثر على محمد خضير فجأة وهو يشيد ( بصرياثا ) مدينة الحلم والخيال والواقع وهو يلملم أجزاءها دائرا في شوارعها , كما كان أسلافه الحكاة وهم على طريق القصة الخيالي يحملون جراباً يخبئون فيه كنوز لقاهم السردية ,  ثم يسلمون ما بحوزتهم حاكياً لآخر .. وسيكون اسم محمد خضير : المتواضع البسيط والعميق الغني أحد أبرز هؤلاء الحكاة في مدائن القصة …

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*