قصيدة النثر في معيار التحليل النصي-إجراءات وتطبيق

 
 
 
– إجراءات مقنترحة وتطبيقات-
مدخل
تحتفي الدراسات النقدية الحديثة ، لا سيما تلك المتأثرة بأطروحات المدارس ما بعد البنيوية و جماليات التلقي بوجه خاص، بما تعارف النقاد على تسميته بالنصوص المحايثة للنص او المتن المعروض للقراءة أو موضوع الدراسة .
ومن تلك النصوص المحايثة موجّهات قراءة النص التي من أبرزها عتباته التي تحف به ولا تدخل في بنيته النصية الداخلية المسكوكة بوضع لساني خاص ونسق لغوي مغلق، له إشاراته وعلاماته الخاصة، ولكن تلك النصوص الصغيرة -وإن وقعت على حدود النص وأحاطت به- تمثل سياقات صغرى تعمل في إمكان فهمه واستيعابه، والحكم الجمالي عليه وتأويله، أو قراءته بمناظير متنوعة.
تلك العتبات النصية التي يقترحها البناء الفني تغدو موجهات قراءة على المستوى الجمالي التقبلي، فتلفت نظر القارئ –وتوجّه قراءته بالضرورة-وفي مقدمتها  الأغلفة بكيانها التصويري والخطي ،والعناوين  الرئيسة والفرعية، والأمكنة التي تحيَن النص وتُموضِعُه في مكان محدد ذي حمولة دلالية ،والتواريخ ، والملاحظات، والهوامش والحواشي ، والإقتباسات التصديرية ، والتسميات  ،  وجمل الإستهلال والختام ، وسواها من الفواعل في قراءة القارئ ، والداخلة في عملية القراءة ، بما أنها إعادة تشكيل للنص وترميم فجواته ، وإظهار المسكوت عنه في نسيجه البنائي المتاح للمعاينة.
 
يؤكد ارتباط  ممارسة  القراءة  بعملية التلقي ضرورة معاينة العوامل التي تسهم في تقريب النصوص من متلقيها ، وعرض ما يمكن وصفه بالمحددات التي تعيق الاتصال الجمالي بالمتون النصية ،وتجعل مزاياها الفنية مغيَّبة بسبب تعارض آفاق الكتابة والقراءة والتلقي وتقاطعها .
ومن أجل فحص تلك الموجّهات والمحدّدات وتشخيص وجودها و إمكانه سوف نقترح عدة إجراءات منهجية ، ونفترض طرقا ووسائل للتحليل النصي في الشعر خاصة ، لما تشكله عملية التلقي من أهمية في قبول البرامج التحديثية للقصيدة أو رفضها بذرائع مختلفة ، لكنها تلتم حول درجة وعي القارئ ، واستعداده لتغيير أفق تلقيه وفقا لأعراف القراءة التي تناسب  حداثة النصوص وتغيراتها المضمونية والشكلية.
هنا تبرز ضرورة ( تأهيل القارئ)( 1)باصطلاح نقاد نظرية  الاستقبال وجمالية التلقي ودوره في إعادة تشكيل النصوص،  وإعطائها ملموسية ووجودا متعينا من حيث قابليتها للقراءة والتحليل ، وكشف عناصرها البنائية ، والذهاب مع دلالاتها في آفاق التأويل وما يتطلبه من فهم واستيعاب واستنفار لخبرة القارئ في النوع الذي ينتمي إليه النص ، واستثمار (ذخيرة القراءة) (2) للإحاطة بجماليات النصوص واستيعاب دلالاتها .
يستطيع النقد إعانة القارئ على إنجاز عملية تلقٍ مناسِبة من خلال بعض الوسائل التي نحاول هنا المساهمة في اقتراح بعضها ، أو التأكيد على أهمية ما هو متداول منها ، وهو ما ينضوي تحت سجل اصطلاحي ومفهومي مقترَح ومعروض للنقاش لا سيما في الجانب التطبيقي .
فالتحليل النصي يواجَه غالباً بالتشكيك والسؤال عن إمكان تحقيقه أو جدواه في عملية القراءة التي يتفق النقاد على اختلاف مناهجهم على أنها نشاط فردي قابل بسبب ذلك للتعدد والتنوع ،منوهين بصعوبة تحليل الشعر نظرا للطبيعة الفنية  للقصيدة  من جهة، ولغياب القواعد المقررة لنقد الشعر نستعين بها عند عرض النص لتعدد القراءات ، نظرا لطبيعة النص الزئبقية  بتعبير أمبرتو إيكو(3)، وهو أمر تنبه له النقاد القدامى وتناولوه في نقدهم للشعر وطرق تحليله كتأكيد عبدالقاهر الجرجاني على دور القارئ ونشاطه في نقل الملفوظ الشعري إلى حيز الوجود بالفعل ، بعد وجوده بالقوة قبل تسليط طاقة القراءة عليه.(4)
وسوف يُعنى بحثنا بما ندعوه موجهات قراءة النص الشعري التي تقربه من القارئ ،وتزيل القلق الإجرائي الذي يصاحب عملية القراءة في العادة والملخَّص بسؤال  رولان بارت من أين نبدأ لتحليل النص ؟
تسعفنا موجهات القراءة وعتبات النص التي لم يلتفت إليها النقد بشكل جوهري قبل شيوع نظريات القراءة والمناهج ما بعد البنيوية التي  أكدت  أهمية  تفاعل القارئ وقراءته ، بعد أن كانت المناهج السابقة عليها قد انغلقت عند البنية النصية كردِّ فعل على تأكيد المناهج التقليدية على العوامل الخارجية  غير النصيّة ، واستغراقها في الكلام على ما هو خارج النص .
ونجد أن من أهم تلك الخطوات تعيين بؤرة أو مركز للنص تستشفه القراءة بمعاينة الملفوظ النصي، وما يوجهه تجنيس النصوص وإعلان هويتها ، ونحتكم في ذلك إلى مقصدية النص ووصفه كما جاء في تشكله وإرساله وعرضه للقراءة، ثم الاحتكام إلى مدى  مفارقته لما يذخره النوع المجنس تحته أو توافقه معه ، ويتيح لنا تعيين المركز البؤري للنص ملاحظة حركة أجزائه قربا وبعدا عنه، وتوسعها و تمددها لغويا وصوريا وإيقاعيا .
ولما كانت المستويات المقترحة للتحليل تتحدد تقليديا  في المستوى اللفظي والتركيبي والإيقاعي والدلالي فإن القراءة المطلوبة  لاستيعاب حداثة النصوص وما تقدمه من تعديلات على النوع نفسه تتطلب توسيعا لتلك المستويات،  بإشراك القارئ في إظهار مقصدية النص وجمالياته ،والانتباه للمستوى الخطّي الذي يتيح التعرف على هيئة النص وتشكّله البصَري المعروض لفعل لقراءة   .
لذا  تحتفي الدراسات النقدية الحديثة ، لا سيما تلك المتأثرة بأطروحات المدارس ما بعد البنيوية و جماليات التلقي بوجه خاص، بما تعارف النقاد على تسميته بالنصوص المحايثة للمتن  موضوع الدراسة والتحليل .
ومن تلك النصوص المحايثة موجّهات قراءة النص وعتباته التي تحف به ولا تدخل في بنيته النصية الداخلية المسكوكة بوضع لساني خاص ونسق لغوي مغلق، له إشاراته وعلاماته الخاصة، ولكن تلك النصوص الصغيرة -وإن وقعت على حدود النص وأحاطت به- تمثل سياقات صغرى تعمل في إمكان فهمه واستيعابه، والحكم الجمالي عليه وتأويله، أو قراءته بمناظير متنوعة.
تلك العتبات النصية التي يقترحها البناء الفني تغدو موجّهات قراءة على المستوى الجمالي التقبلي، فتلفت نظر القارئ –وتوجّه قراءته بالضرورة-وفي مقدمتها  الأغلفة بكيانها التصويري والخطي ، والعناوين  الرئيسة والفرعية، والأمكنة التي تحيَن النص وتُموضِعُه في مكان محدد ذي حمولة دلالية ،والتواريخ المعينة لزمن كتابته ، والملاحظات، والهوامش والحواشي ، والإقتباسات التصديرية ، والتسميات،  وجُمل الاستهلال والختام ، وسواها من الفواعل في قراءة القارئ ، والداخلة في عملية القراءة ، بما أنها إعادة تشكيل للنص وترميم فجواته ، وإظهار المسكوت عنه في نسيجه البنائي المتاح للمعاينة.، وقد حظيت تلك العتبات بدراسات معمقة أفرزتها المناهج  النقدية في الفترة المعروفة بما بعد الحداثة  وتوسعت في بيان ارتباطها بالنص أو متنه اللساني وأٍهميتها في تحليله وقراءته معا(5)، وهي عناصر لم يكن النقد التقليدي يلتفت إليها مع أنها داخلة في مقصدية إرساله وعرضه للقراءة ما يرتب له  بالضرورة إسهاما في بناء النص وملء فراغاته المتروكة لقراءة القارئ وإسقاطان وعيه وإدراكه الجمالي.
وسوف تساعد  التطبيقات النصية، و الفاعليات  التحليلية لبعض تلك الموجّهات والمحدّدات في  اختبار مصداقية المقترحات الإجرائية ومدى إسهام القراءة في استكشاف النص وإظهار البنى العميقة له، أو ما لا يظهر للوهلة الأولى بالقراءة التي لم تعد مسحا بصريا للنص أو اختباراً لمطابقته معياريا للأسس الموضوعة للنوع الذي ينضوي تحته بل اكتشافا لما يسكت عنه النص أو تخفيه بناه التحتية أو العميقة التي يزخر بها بسبب الوجود السيميولوجي للأشياء في النص والتعبير عنها بما يعادلها من الصور والإيقاعات، وتوظيف اللغة بشكل منحاز يجعلها خاضعة لنيات الشاعر وبرامج النص وأهدافه.
 
2- إجراءات  تحليل وافتراضات قراءة
قبل الوقوف عند المقترحات الإجرائية لتحليل النص الشعري  وقصيدة النثرتحديدا يجدر بنا الوقوف عند التحليل النصي كمصطلح مقترض من علوم مجاورة ومتحصل من مؤثرات فكرية وسمت عصرنا بأنه عصر التحليل(6) إذ لم يخل حقل معرفي من تداول المصطلح وإجرائه في البحوث والاكتشافات الخاصة به ،فالتحليل عمل يقابل التركيب ، ويتضمن الجذر اليوناني للمصطلح معنى فك الشيء إلى جهات عديدة تجزيئا له وتفكيكا لعناصره (7) ويستكمل ذلك التداعي اللغوي ما يدل عليه التحليل في اللسان العربي ، فهو  تيسير ويسر وانبثاق وخروج بالمعنى ، وذلك يوافق تمددات مصطلح النص الذي يعني الظهور والانكشاف (8) ولعل هذا يعلل ارتباط النص الشعري بالشرح والتعليق وصولا إلى عمليتي التأويل والتحليل وما يرافقهما من فاعليات ، كالتطبيق الذي يبحث في النصوص عما يسند الافتراضات النظرية والقناعات المنهجية ، والممارسة النقدية التي تُعنى غالبا بكشف المهيمنات داخل النص ومستوياته المتعددة وتتكيف مع معطيات النص وما تقود إليه المهيمنات والموجهات النصية .ويساعد في كشفها تلاقي آفاق القراءة وآفاق النص ، و تتحكم فيها رؤى وتصورات القارئ  الذي يقوم بإسقاطها على النصوص .
إن ذلك يعني تجاوز  المقترحات السابقة التي رافقت النصوص القديمة وشروحها وتأويلها استنادا إلى الأخبار والأحكام المطلقة التي تتحكم فيها القيمة المضمونية أولا ولا تستند إلى بنى النص ذاتها ولا تعتقد بوجود طبقات غائرة تحت بنية النص السطحية ، ومن الطريف أن باحثة أجنبية تصحح قراءة النقاد القدامى لنصوص أبي تمام بهدي حداثة تلك النصوص وثبات نظر المحللين القدامى ؛ فترد على الآمدي صاحب الموازنة لأنه اتهم أبا تمام بالجهل حين جعل  الخيل تلوك الشكيم في مكرّ الحرب وهي عنده لا تفعل ذلك إلا واقفة وليس في حومة الحرب، فتشير إلى ما فات الآمدي من مجاز يناظر فيه الشاعر بين الحرب التي تلوك الخيل في الشطر الأول وبين الشكيم الذي تلوكه الخيل ، كما تدافع في باب السرقات عن اتهام الآمدي لأبي تمام بسرقة مطلع بائيته الشهيرة: السيف أصدق أنباء منة الكتب من قول الكميت  الأكبر (فإنه محا السيف ما قال ابن دارة أجمعا) منبهةً إلى التوسيع الذي أجراه أبو تمام للمعنى وتطويره له خلال النص كله بإزاء شحوب الأصل المتهم به (9).
بالمقابل ثمة مقترحات كثيرة لضبط خطوات التحليل النصي وإجراءاته كالخطوات الخمس التي يقترحها جوهانا ناتالي  والملخصة بالوصف، والتنظيم ، والتأويل، والتقويم الجمالي، واختبار الصحة ، ما يؤشر إلى اهتمام بالموضوع والتقويم (10)، فيما يدعو ريفاتير في (سيميائيات الشعر) إلى (اكتشاف الكلمة أو الجملة التي منها ولدت ، فالقصيدة توسع تلك المادة إلى نص يتوسطه نسق)(11)أما لوسيان كولدمان ووفق رؤيته التكوينية  ذات المنطلق الإجتماعي فيرى ضرورة توفر ثلاثة إجراءات هي : إلقاء الضوء على ما يسميه الأنموذج الدلالي الكلي  للنص ، والدراسة السوسيولوجية لتكوينه، وامتداد هذه البنية الدلالية على البنية الكلية للنص شكلا ومحتوى(12).وذلك يكشف رؤية كولدمان للنص كتعبير دلالي عن رؤية العالم ومجال لإظهار وعي الكاتب وتمثيله لطبقته.
ولكن التكتيك الأكثر شيوعا في التحليلات النصية لا سيما في مجال القصيدة هو تقسيم النص إلى مستويات مفترضة تتكفل القراءة بكشفها وتعيين حدودها التي لا تتحدد وتتعين إلا بفعل القراءة  وهي:
المستوى المعجمي أو اللفظي
والصرفي أو الصوتي
والنحوي أو التركيبي
والإيقاعي أو الموسيقي
والبلاغي  أو الفني
والدلالي أو المعنوي
والخطّي أو هيئة النص الكتابية .
ونلاحظ – باستثناء المستوى الخطي الذي يسمح بمعاينة تشكل النص بصريا وهيئته الكتابية التي تعد جزءا من موجهاته وتوزيع كلته التي تؤلف شكله المعروض للمعاينة –  إغفال المحللين على وفق تلك المستويات الافتراضية  للنصوص المحايثة خارجيا أي المتصلة بالتناص ووجود نصوص متعلقة بالنص المدروس أسهمت في توليد بؤرته ،وداخليا بتجاهل ذلك التقسيم  النصوص المصاحبة للنص الأصلي والمتفرعة عنه، كالعناوين والحواشي والموجهات الأخرى التي عنيت بدراستها مناهج ما بعد البنيوية خاصة والتي  لخصها جيرار جينيت  بالمناص. (13)
ولا شك في أن ما تقدمه النصوص ذاتها من مهيمنات هي التي تحدد التعامل التحليلي معها ، كأن يكون النص خاضعا لبنية لغوية كلزوميات المعري ، أو بلاغية كنصوص البديعيين العباسيين، أو دلالية كالقصائد السياسية ،أو تصويرية فنية كقصائد الغزل والوصف…
لكن النص الشعري الحديث لا يمكن أن يخضع لمثل هذه الافتراضات نظرا  لما يقدم من رؤى متشابكة تلغي الموضوع أو الغرض الواحد الذي يمكن إدراج النص تحته وفهرسته ضمنه، ومعاينة لغته ومستوياته الأخرى على وفقه.
وإذا كانت تلك الإجراءات المقترحة  تحصر النصوص في أطر تقليدية لا تسمح بإظهار التباينات والخصوصية النصية ،فإن الانقياد لما تريد النصوص ، والتكيف مع معطياتها والبحث في آفاقها هو الحل الأمثل في رأينا ؛ لأن التحليل النصي ليس منهجا بل إجراء يترجم القناعات المنهجية إلى أدوات وخطوات ونتائج، وهو فاعلية تتخذ من النص مناسبة للتوثق من أسس المنهج ، والكشف في الوقت ذاته عن عناصر شعرية النص وتماسكه البنائي وما يخبئ من دلالات، ب ليمكن القول إن التحليل النصي أصبح ميدانا لاختبار مصداقية المناهج وفرضياتها النظرية وللجدل المنهجي والاختلاف التابع للرؤى والتصورات عن القصيدة والقراءة معا، فيبحث الأسلوبيون مثلا عن (دليل ) بينما يذهب البنيويون صوب (النسيج) والتأويليون باتجاه (البيّنة) ويكون النص لدى المهتمين بالقراءة وجماليات التلقي  فرصة للتيقن من (ميثاق) القراءة ، و هو يمثل ( وثيقة) لدى المنطلقين من  المناهج الخارجية –التي تستعين بما هو خارج النص- كالتاريخ والسيرة والمزاج النفسي واستلهام الواقع وغير ذلك  .
ونعود مرة أخرى إلى ما تمثله الشبكة النصية من وجود يدعو القارئ للتفاعل ، فنجد أغلب المنهجيات التقليدية لا تولي الموجّهات والعتبات شأنا في قراءة النصوص وتحليلها ، كما تغفل عن تكتلها الخطي الذي بدا يسري إليها من التحديث المجتلب بتأثير الفنون المجاورة للشعر كالسرد والرسم والسينما والمسرح.
وسنرى في التطبيقات أثر ذلك في تعيين النص وتحيينه والتعرف على مفاصله البنائية والتفاعل معه عبر القراءة.
ونشير هنا إلى أن عملية التحليل النصي والتطبيقات التي تحتك بالنصوص وتحتكم إليها   تواجه عدة أسئلة منهجية ، منها السؤال عن إمكان خضوع النص للتحليل وصلاحيته للتطبيق دون النظر إلى مستواه الفني وتوفره على الشروط المستقرة في النوع الشعري، ومنها غياب القواعد النهائية والشاملة في عملية التحليل كفاعلية قراءة تقوم فيها الذات القارئة بالتفاعل مع نص يخفي بسبب طبيعة الشعر ذخيرة فنية يكون على القارئ إنجاز الجانب الجمالي منها ، وهي مهمة تتنوع بتنوع القارئ أولا وبسياقات القراءة أيضا ، وكذلك ما تكتنف عملية القراءة من صعوبات تتسبب عن اختلاف آفاق القراءة وآفاق النص أو ما يُعرف بآفاق التوقع الناتجة عن ذخيرة القراءة واستعداد القارئ وما يمتلك من خبرة قرائية في النوع موضع المعاينة والتحليل ، كما يندرج في الصعوبات ما يحيط عملية القراءة من محددات ومحظورات وما يمكن أن تجلبه القراءة من كشف لما يخفيه النص أو تعمل لغته ورموزه وشفراته على تغييبه عمداً، فتشير القراءة مثلا إلى مضمرات اعتقاديه أو أخلاقية أو سياسية يتيح المستوى الدلالي للنص على اقتراحها .
إن القول بان التحليل إجراء و ليس منهجا لا يعفي المحلل من الانطلاق من رؤية نظرية تؤازرها خبرة بالنوع الذي تنتمي إليه أفراد النصوص ومعرفته المتراكمة بأعرافها التي ستفرض أعراف قراءة مقابلة كالبحث عن آباء النص ومؤثراته الممتصة عبر التناص والمتمثلة بنائيا داخله والمنصهرة في نسيجه، كما تفترض حسّا ودربة في التقاط نقطة التماس مع النص ، وهذه النقطة تقابل فنيا البؤرة التي يتمركز حولها النص و يلتمّ ظاهريا لكنها تشع وتتمدد إلى أطرافه قربا وابتعادا.
إنا نورد هنا خططا عامة قابلة للتحوير والتعديل والتوسيع لأنها حدوس مجردة ومقترحات ،نرى أنها بقدر تجسيدها للتصورات النظرية حول القصيدة وشعريتها تمثل حوارا ممكنا مع النص، لا يتوقف عند كشف جمالياته الفنية ( كما في المناهج الانطباعية ) أو معانيه وموضوعاته ومراميه ( في المناهج الخارجية)بل نتوخى إنجاز فعل  قراءة  للنص ذي محرك ظاهراتي يعطي للذات شأنا كبيرا في تشكيل النص الذي تنتفي جدوى وجوده الموضوعي المستقل الذي يفرض على قارئه معنى نهائيا واحدا ،وفي ظننا أن ذلك يتحقق عبر:
– الانتباه إلى العتبات النصية والمداخل التي تمثل النص المحيط.
– والبحث عن مولّد أو مركز بؤري يفترض القارئ وجودها ويتابع  انتشارها .
– تعيين السياق العام –الكبير –للنص وصلته بسياقاته الصغرى ، وذلك يجعل القصيدة واقعة نصية ذات وجود خاص لكنها تتنزل عن واقعات خارجية تخالفها وتنزاح عنها.
– فحص انتظام مستويات النص الممكنة والتي تتكامل إبراز هوية النص وصلته بنوعه  تطابقا ومخالفة.
-الاستعانة بالأدلة السيميائية واللسانية  بافتراض أن النص وجود لغوي إشاري كي لا يكون التحليل ضربا من قراءة غيبية أو شبيهة بقراءة الفنجان المعتمدة على رؤى خيالية لا يقوم عليها مستند أو دليل نصي.
– توسيع التناص ليشمل التناص النوعي بين النص ومثيلاته في أنواع أخرى لا في نوعه الشعري فحسب بل عبر الأجناس أيضا .
– معاينة التكتل الجسدي للنص على المطبوع سواء جاء بالطرق التقليدية أو أفاد من التفاعلية التي تتيحها الممكنات الحديثة طباعياً وبصريا وإلكترونيا.وننشد هنا إعادة الاعتبار أيضا لعلامات الترقيم وما يضفيه وجودها على النص من سمات دلالية .
 
3-الفرضيات في سؤال  التطبيق
سوف ننطلق في الاختبار التحليلي من اختيار عينات نصية لا يعني اختيارها حكما قيميا بتفوقها أو امتيزها بل تمثيلها للفرضيات المنطلقة من الاهتمام بالكيفية النصية والتشكل البنائي للنصوص كما هو معروض للقراءة والتفاعل عبر التقي الجمالي ومعاينة الهيئة النصية المجسدة بصريا ،وحساب ما تقدمه الموجهات والعتبات من مقترحات على المحلل أن يتيقن من فاعليتها  ويتثبت من صحتها وجدواها في الإحاطة بالنص .
ذلك يفترض الذهاب مع النصوص إلى حيث تقود مهيمناتها البنائية .وهذا يعني بالضرورة تنوع المقترب في المعاينة النصية نفسها فالمهيمنة داخل النص تأخذ القراءة صوب استكشاف بؤرة مركزية للنص تسعق القراءة وتنشطها حتى لو كان ذلك بالحفر في طبقات المعنى احيانا أو الموضوع وكيفية الاحتكاك به، أو التوقف عند المهيمنة اللعوية او الغيقاعية بحسب ما تقترح النصوص ذاتها وما تحاور به القارئ وتبث له من رسائل نصية اعتبناها محايثات للنص لكنها إطاره اللازم لهويته النصية وانتمائه النوعي لقصيدة النثر التي سنرى أن اغلب مراكزها البؤرية يتمحور في السرد واالإفادة من ممكناته.وهذا يزيل في ظني الوهم القائم حول فوضى البناء النصي او مجانيته واعتباطيته في قصيدة النثر بل هي تعطي انتظاما مضمنا ، للقراءة الكاشفة أن تزيل عنه ترميزاته وشفراته وتعرفنا على ابنيته المضمرة أو المسكوت عنها في نظام القصيدة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 .الوصول المستحيل كنزهة رصاصة
 
قصيدة (محاولة للوصول إلى بيروت من بيروت)من ديوان(رجل في هواء مستعمل يقعد ويفكر في الحيوانات)1985 تؤكد أثر الحرب في شعر وديع سعادة، وهو مبحث يمكن أن يُستكمل بقراءة تجارب الحرب الشعرية في لبنان كذلك في  مدونات  الحصارات المتفاقمة كما أرخها الشعراء عبر يومياتهم ومشاهداتهم  .
تخدم  العنونة ستراتيجية النص لتمثيل التشظي بسبب الحرب ،والرعب من فكرة العبور إلى ضفة المدينة الأخرى،بعد أن حجزها الرصاص عن الضفة المقابِلة.فما يقوم به الشاعر في هذه القصيدة ، ليس إلا (محاولة) والمفردة هنا تحيل إلى عدم الإمكان والتحقق .وهذا ما يريد النص توصيله.
والعبور من المدينة إليها هو تأكيد آخر – بجانب انقسامها – لعدم الإمكان، في صياغة استباقية، أي ان العنوان يستبق محمول النص ليؤكد فشل محاولة الوصول إلى المدينة حتى لو كان الخروج  حاصلا منها.وتتخذ مفردة الوصول إضافةدلالية لأنها لا تعني وطء المكان بالجسد بل التعرف على ما كان مدينة اسمها بيروت ، حوّلتها الحرب مزقا متناثرة الأعضاء والأجزاء.اما إهداء النص إلى سركون بولص الشاعر العراقي المغترب حينها في أمريكا فهو تعضيد آخر لدلالتها .فالمنفي يتسلم ( قصيدة) فحسب كهدية ،ولكن عن مدينة يستحيل الوصول إليها.هنا نتساءل : هل كان وديع سعادة يعمل تناصاً ذكياً مع عنوان ديوان معروف لسركون بولص هو (الوصول إلى مدينة أين؟)  صدر في عام صدور ديوان  وديع سعادة ،  وهو يريد توريطه عبر الإهداء في مهمة الوصول المستحيلة وكأن الشاعرين يتجهان  معا نحو مدينتيهما البعديدتين والمحفوفتين بأهوال تعيق الوصول إليهما؟
المخاطَبة في النص هي المدينة –بيروت ، مؤنثة لا تظهر ملامحها بوضوح إلا في المقطع الثاني حين يؤثثها الشاعر بما كانت عليه : قذيفة الأعداء، والطريق المنسوفة ، وجثث العمال،والأرض منسلخة الجلد كقرصان محترق-يجدر التوقف لمعاينة القصدية في الصورة فاحتراق القرصان شديد القسوة لأنه يستحضر الغائب وهو البحر الذي يحف به ولكن دون أن تنطفئ النار-.
على مستوى البنية يهيمن الاستفهام على النص منذ الاستهلال ( هل كان عليَّ..؟) ؛فصار السؤال حاجزا بين المقاطع بتكراره في الجملتين الشعريتين الطويلتين الأولى والثانية . ثم يتخفى السؤال – الذي يريد تقرير حالة – وراء صيغة إيهامية بالوصول فعلا  ،ولكن دون تحقق ذلك . ويمكن تجريد أربع جمل شعرية تنتظم النص المتأرجح بين الماضي-نية الوصول – والحاضر-استحالة ذلك-فهناك التراتب الآتي للجمل الأساسية والثانوية :
– هل كان عليّ: أن أخرج اليوم
………….. أن أذهب

  • هل كان عليّ أن أخرج لأذهبَ إليكِ

– وأذهب إليك الآن، أحاول أن اذهب إليكِ
–  أحاول أن أذهب إليكِ
لكنّ ضفتيكِ مفصولتان ببحر لامع من المتفجرات
– فاتدحرج / أتدحرج / بلا قرار
هذا التجريد للجمل الشعرية يرينا حركة النص المقصودة بغية الوصول المقرون بفعلين لهما دلالة ميتافيزيقية هما: أخرج / أذهب ،ويمكن رؤية تناوبهما في النص، وثم امتزاجهما في جمل لاحقة ، وبتصدر لكن الاستدراكية لجملة شعرية كبرى في النص هي الجملة الممهدة للنهاية ،يكون الفشل المسبق قد حلّ مصيرا لمحاولة الوصول التي هي في أصلها افتراض( هل كان عليَّ) فالخارج المحتشد بالموت وتداعيات الحرب يحول دون بلوغ ذلك الهدف.
 
أخرج –أذهب فعلان ينتجهما الحصار والخوف من التنقل في بيروت المحتربة المحترقة؛ حتى ليستخدم الشاعر مفردة الرحلة لتجسيد التباعد بين ضفتي المدينة أو قسميها المنشطرين . ويمكن لي فهم المحرك الشعوري لا اللساني فحسب لهذا الاستخدام ، فقد قُدّر لنا  -نحن العراقيين-  أن نرى انشطار المدن ،وتَقابل أمكنتها عدائيا ،ويصبح العبور من ضفة النهر للأخرى، أو من محلة ما لجارتها مغامرة ومقامرة بالحياة.
وهما فعلان يوازيان رغبة الشاعر  في التجوال والرؤية والتعرف على مدينته التي هو فيها ويريد فحسب الوصول إليها من داخلها ، لكن بيروت لا تهبه ذلك.
السرد في القصيدة دقيق النسيج ويجب معاينته بدقة موازية . فالمخاطبات مختزلة والوجهات المكانية غير محددة كتسميات ، ما يرفع سقف الخيال قليلا ليناسب تخيل الخروج الذي لم يحصل.فثمة بنية خراب مهيمنة في النص: طريق مخرّبة ،وجثث عمال متناثرة، وأرض منسلخة عن جلدها.
وفي المقطع الثاني يكون الخراب شخصيا : أعضاء جسد الشاعرالاعزل ميتة كلها فيذهب إلى بيروت بما ظل له  من أجزاء محطمة: هي فك مدروزة بالرصاص ورأس وذراع واهنان، وما تأتي به الذاكرة: قرية بعيدة محترقة، وشجرة يتربع عليها الغربان ! والمدينة بيروت المنقسمة  إلى ضفتين مفصولتين ببحر يلمع بالمتفجرات.
والحل الافتراضي هو القيام بنزهة كالتي تقطعها رصاصة باتجاه هدفها.
لكن: ثمة  حراس عند بابها يحولون دون الوصول ، وبركلة منهم يظل الشاعر متدحرجا، متنقلا بلا قرار.وهذا ما استوعبه النص  عبر واقعة الحرب وانشطار المكان واستحالة الوصول إلى المدينة التي تبدل وجهها، وأثخنتها الجراح، بنثر لا يتعالى على الموضوع ولا يتجاهل الدلالة ، ويمضي في عمق تجربة الشاعرمستفيدا من إمكانية النثر في القصيدة،والاستعانة بالسرد، وتكثيف اللغة كي لا تهيمن عليها الغنائيات وإيقاعات الندب العالية.
 
.النص
محاولة للوصول إلى بيروت من بيروت
قصيدة إلى سركون بولص
 
 
 
هل كان عليَّ أن أخرج اليوم لأمسّد
بأصابعي الصغيرة قذيفةَ الأعداء
أن أذهب في طريق يذوب إسفلتها مستعيداً
عمَّالَ منجمه الذين تناثروا
بديناميت
مستعيداً عميانه، وبوهمييّن قدامى
يراقبون انسلاخَ الأرض عن جلدها
كقرصان محروق
هل كان عليَّ أن أخرج لأذهب إليكِ
بعد موت آخر أرساغي، وقدميّ، ويديَّ المتعانقتين
كعريسين أُطلِقَ عليهما الرصاصُ قبل المساء
بعد أن جُرِّدتُ من أسلحتي جميعها في وادٍ
يلعب فيه المغول،
وأذهب إليكِ الآن، أحاول أن أذهب إليكِ
بما بقي لي:
فكُّ مدروزة بالرصاص
نُصبتْ علامةً للجنود في وقت فراغهم
رأسٌ يوضع عادةً فوق كتفين كفلّينة تقاوم حوتاً في رأس صنَّارة
ذراعٌ لا تستطيع التلويح
قريةٌ بعيدة، بعيدة جداً
انبثقتْ ذات يوم من دخان السطوح
وشجرة
تزيّنها ابتساماتُ الغربان.
 
أحاول أن أذهب إليكِ
وذلك لا يستدعي سوى رحلة بسيطة:
نزهةِ رصاصة
بين التباريس وشارع الحمراء
لكنَّ ضفَّتيك مفصولتان ببحر لامع من المتفجرات
وحرّاس بابك يركلونني، فأتدحرج
أتدحرج
بلا قرار.
…………..
.نلاحظ بصدد المرأة التي دخلت  كائنا نصيا في القصيدة  أن تراث الحداثة الأولى لم  يولِها أكثر مما أعطاها الشعر العربي  القديم من مكانة ، فهي كائن خارجي يسعى إليه الشعراء ليسبغوا عليه ما يريدون هم منه ، لا ما ينطوي عليه كيان المرأة من رغبات وأحلام ومواقف، ولا من جماليات خاصة به، واتجه الغزل بدل ذلك صوب خلق امرأة مقبولة بمواصفات ذكورية مسقطة عليها ،ثم صارت مناسَبة لتوصيل الخطاب السياسي والثورة الاجتماعية عبر قصائد الشعراء الثوريين والرافضين لمجتمعاتهم ،ولعل شعر نزار قباني في المرأة وحتى ماجاء باسمها ومن منظورها تجسيد لهذا التعامل مع المرأة .
ليس (سرَّ مَن رآكِ) للشاعر امجد ناصر ديوانا بالمعنى الفني للكتابة الشعرية يضم قصائد متفرقة ومتنوعة ، بل عمل ذو موضوع واحد، ونصوصه المكتوبة بين عامي 1989 و1991 تنويع لزوايا النظر لهذا الموضوع .وقد وصفتْه قراءاتنا الأولى عند صدوره(1994) بأنه إحياء لديوان الغزل العربي .وفي ذلك تلميح لعودة شعراء الحداثة إلى الغزل بأنواعه بعد أن فقد أهميته لسببين مختلفين تماما :

  • وقوعه في التقليد والميوعة العاطفية أو الابتذال الحسي .أو
  • الترفع عليه والاستنكاف عن كتابته في وهم التحديث المجافي للمباشرة والوضوح.

ويأخذ الغزل الحسي نصيبه من الإهمال لوقوعه في الوهمين الآنفين، بجانب ما يحف به من عوامل الحجب والمنع لدواعٍ اجتماعية وأخلاقية، وموانع ومحددات لا قدرة للشعراء بالمرور عبرها وتجنب سطوتها.
لقد كان للجسد في التراث الشعري العربي حضور واضح رغم قلته ،وقد اقترن بتجارب افضل الشعراء وأشهرهم كأبيات امرئ القيس في معلقته عن مغامراته، وما تداولته المدونات من قصائد كالمتجردة وغيرها مما يتصل بالجسد وتفاصيله، لكن انقطاع  الكتابة على منوال تلك القصائد باعدَ أثرها حتى في الدراسات والقراءات اللاحقة .
وإذا كنا ربة نذكر الغربةفي سياق كتابة القصائد  فإنما لنشير إلى أن أمجد ناصر في عمله ذاك قد أفاد من فضاء الحرية ، وقول ما لايمكن قوله أو قبوله  في خطابات الشرق، ولأن لندن كانت فرصة وضوح ذلك الوعي بالجسد الذي
تقدمه القصيدة-العمل كما في لوحات رسامي العري ونزعاتهم التشريحية لإبراز الأعضاء وتركيزها كبؤر للأعمال ، وكذلك أتاحت مرحلة قصائد لندن لأمجد ناصر تقديم منظور للقاء الشرقي بجسد الآخر، وتأمل الصلة به ، لكنه لا يسمح برؤية ضدية الموقف من الآخر كما  تظهر في كتابات غير شعرية ومواقف فكرية .
المرأة في العمل ليست كتلة بل تفاصيل، والنظرة المعملية  للجسد لا تخذل الرؤية الجمالية وإبراز مفاتنه وجاذبيته ووجوده كفاعل ايضا ،لا كشيء مرغوب ومشتهى فحسب. ويمكن معاينة نص (تحليل القبلة ) نموذجا لذلك فهي لا تذهب للتحليل كفعل مخبري بل إلى مغزى القبلة كرسول بين الأرواح. ولا نوافق القائلين بوجود نزعة فيتيشية عبر تلك التجزئة للجسد والتعلق مثلا باللون أو الرائحة ؛ فهي تأتي في سياق أكبر لا بد من مراعاته في القراءة ،هو حضور الجسد كاملا  وتوسعاته الدلالية .
البياض في أكثر من قصيدة يتكرر لا كلون بل كمسقط للوعي بالجسد، فإشعاعه وانفتاح ضيائه وشيوع نوره انما يتم بهاجس قبْلي مسبق، هو التصور الصوفي والوجد الخفي للقاء روح خلفه تحرك او تصنع جماله. وهو ما نعدّه إضافة للإيروتيكية التقليدية أو الموروثة، و كما يحصل في أحد مرجعيات النص – وأعني نشيد الإنشاد الذي لسليمان  تحديدا- تأتي أوصاف الجسد كلوازم لتبرير الهيام به وإعلائه عن وظائفه الفيزيائية .
وإخراج الجسد من مألوفيته هو المؤئر الأول في صياغة الوعي به وخلق صور لتمثيل ذذلك الوعي.فكان البياض انعكاسا للولادة والعذرية تهبهما اللونية التي انشغل بها النص ونجا بها من تكرار الاشتهاءات والشبق المبالغ فيه جراء معادلات الحرمان والنظر للمرأة كمناسبة جنسية فحسب.
وهذا ما يمكن قوله بصدد الرائحة التي صارت عنوانا للنص، فهي أثير يُفترض تبدده وزواله ،لكنه سيعلق في الذاكرة  بفعلها(العنوان : الرائحة تذكّر) فهي الفاعل الشعوري بعد انقضاء الحواس من مهماتها وتوقف هيجانها الذي انعكس على أجزاء من العمل .لكنه هنا لاحضور له لأن الذكرى تستدعي التأمل والاستذكار عبر( الرائحة ) التي ستتكررلفظياً في مطلع مقاطع النص غير المفصولة عن بعضها، كاستمرار للفعل  السابق لها،وتذكير أيضاً لما تذكر به .
تلعب الحواس دورها في العمل متراسلةً أي متبادلةً للوظائف، كما في استذكار الرائحة التي تعود لتذكَر بما سيتداعى من أشياء،واللغة تستجيب لهذا العمل فتكون رصينة كما في لغة التصوف والغزل الموروث، فتحضر تضمينات محيلة لمراجع ومدونات مختلفةدءا من العنزان المنزاح عن العاصمة الإسلامية سامراء=سر من رآى ، وكذكر الماء المنساب من الأصلاب والترائب اختزالا للقاء الجسدي، والحيَة التي تسعى في الأفواه عبر الألسنة ، وفي استرجاع جزئيات من الماضي لعلها ترنيمة فرحة بتحقيق ماكان حلماً أو رغبة  قديمة مكبوتة؛ كالاعشاش  والأكباش، والامطار على أسطح الطين، والحنطة في الحظائر، والأسرّة في الضحى ، ثم القفز زمنيا لاقتناص تمثيلات من الجسد المعروض للوصف ولكن بترميز قوي يمكن تفسيره في حالة اختفائه اللغوي وتعقيد تراكيبه بأنه تخفٍّ وهروب من البوح ، لكنه في مستوى آخر من القراءة يكون لصالح نورانية التمثيل الجسدي ، وتقديمه محاطا بهذه الهالة من الضوء المنبعث من النظر إليه لا من اعضائه وحدها.
هكذا يتعقب النص الرائحة الباقية في اليد والانف والشفتين والصدر والشراشف والهواء أيضا.وهذا الحشد المكاني المتباين المرجع إنما يشير لانتشار  الرائحة كرمز، وليس لوجودها الحسي فحسب.
تتسيد الرائحة وتكشف لنا قليلا بالوصف عن أعضاء يستوعبها النص تلميحا ، رغم نهاية القصيدة بالقهقرى، واختفاء الرائحة من الخاتمة في  ضوء  نهار، ومفازة نسيان ضيقة لا تتسع لرائحة ولا للون .
لقد تخلصت القصيدة من غنائية الغزل التقليدي ومباشرته ، وتنكره للجسد كحقيقة جمالية وذهنية فاعلة ، لكنها استعارت لغة التصوف والوجد فأنشدت لجسد مأهول بالأعطيات ومعروض للعرفان والتمجيد.
 
 
 
 
 
.الرائحة تذكّر
الرائحة تعود لتذكّر
الرائحة ذاتها
في المتروك
والمأهول
بالطيف والهالة .
الرائحة تذكّر بأعطيات لم يرسلها أحد
بأسرّة في غرف الضحى
بثياب مخذولة على المشاجب
بأشعة تنكسر على العضلات
بهباء يتساقط على المعاصم
بأنفاس تجرب مسالك جديدة إلى مرتفع الهواء
بمياه الأصلاب
مسفوحة على الدانتيلا
بالترائب
برواد فضاء تخطفهم سحنة القمر
بالصنوبري
بالليلكي
بالمشرئب
بأمطار على أسطح من طين
بحنطة مركوزة في الحظائر .
 
الرائحة تذكر بالأعشاش
بالنـز
بالغيبوبة
بالمستدير
بذي الحافة .
الرائحة ..
الرائحة ذاتها التي تهاجم في أمسيات
معلقة بقنب الهذيان.
 
دعي متربص الشقوق
يشهد صحوة الفراشة .
الرائحة
تصعد
إلى
الخياشيم,
اليعسوب
يطير
بين الأ عمدة
ويهوي
على العتبة .
قربيه صائد الضعف
من رقائق الذهب ,
قربيه
من الزغب الطالع على المرمر
من طعنة الآس
من تويج زهرة الإغماء
من الذي يعيد الفم إلى طفولته
ويطلق اللسان حية تسعى.
 
الرائحة تبقى
على اليد
في الأنف والشفتين
في ثلم الصدر
على الشراشف
في الهواء المكابر
الرائحة
ذاتها.
 
يا لأحكام النهار إذ تبدأ القهقرى
وللمواضعات إذ تسّاقط تباعا
وللرغبات إذ تطلق فهود الكتفين
لتجوس مفازة الهجران
……………………………
 
. في نصه (مدن الملح(  ينسل سيف الرحبي  من الرواية المعروفة لعبدالرحمن منيف بالعنوان نفسه ،  ليستحضر راويها، متخيلا عمله (ناحتاً للصحراء أحوالها المريرة التي /تبدأ من تحديقة ذئب )  وهو قريب من عمل الشاعر بخصوص الصحراء التي يجمع ملامحمها منوجودها مكانا وانعكاس الزمن فيهاووحشتها المستدعية وحوشا غير متعينة تهيمن عليها . وبذا تكتمل ابعاد صورة الصحراء كما تمثلها الشاعر ، فهي مكان وزمان وكائنات تشكل مجتمعة تلك الصورة الرمزية للصحراء التي عنون بها عددا من كتاباته  مثل( قوس قُزح الصحراء، تأملات في الجفاف واللاجدوى 2002) ، و( أرق الصحراء 2005)  وقبلهما (رجل من الربع الخالي)الذي لفت القراءات النقدية الباحثة في تمثيلات الشعراء لحواضنهم ومنطلقات تجاربهم ومؤثراتها ، حيث اعطى الشاعر  للصحراء موضعا محددا رغم أنه وسع مدلولها للخروج بها من ثباتها كموضع، إلى الوجود الرمزي المناسب لمكانتها  في المخيلة ، وما ورثه الفرد عنها في ذاكرته ووعيه وما تتيحه للخيال من نشاط وتفاعل لتوليد الصور المناسبة لحمولتها الرمزية.
يلخص الشاعر في شهادة له  مغزى الصحراء وتغير منظور الشاعر لها من الوجود الجغرافي إلى الوجود الرمزي، فيقول  ( الصحراء تشكل عاملا حاسما في تكويني الشخصي.. فالصحراء في مجالها الجغرافي المحدد عمانيا والذي يشكل منطقة ضخمة من الربع الخالي يجتذبني سرابها ولا نهائيتها كطيف شديد الحضور منذ طفولتي على حواف هذه المنطقة، ومع ذلك التقدم في التجربة والعمر صارت اكثر حضورا على المستوى الذهني والكتابي، وتحولت الى ما يشبه المنطقة الرمزية التي تترامى بالخواء والعدم واللامعنى على صعيد الكائن والوجود البشري والكوني بصورة عامة.)
وفي ديوانه ( رجل من الربع الخالي ) تتخذ الصحراء هذا التكوين المتنافر بفعل عناصر الجمال والخطر التي نسبها لها الشاعر،ويحمل سكانها ايضا  التناقض فهم كما يقول (ذئاب الصحراء) فإزاء الشبح الذئبي وإمكان انقضاضه على الإنسان وخوفه من قدومه المؤجل واللامحدد يتحول هو نفسه ذئبا،ويحمل ذلك الوصف فخراً بطبيعة الحال كما حمل لفظ الرجل في العنوان ، و في قراءة لا شعورية،تتسقط ما يند عن الشاعر من تعبيرات لاكتشاف ما  تغيبه اللغة أو الصور الشعرية،سنجد أن البور الموصوف لدى الجغرافيين بالربع الخالي سينسب له الشعر رجلا يعلن أنه منه ، يتتبع خطوات أهله ويستقرئ أحوالهم مسافرين بلا وجهة ولا قرار، مبقيا وجودهم كالصحراء نفسها غامضا وبعيدا وشاسعاً، رغم انه  سيصغر ليغدو وجودا خاصا بالشاعر.
الوجود الرمزي للصحراء سيفترض له إكسسوارات وتاثيثا مناسبا، فالعتمة  فيه تتسع لتصبح ليلا قديما ..موغلا في القدم ، فيتحد الدال ومدلوله: عتمة الليل والماضي المسفوح على رمال الصحراء، والمتموضع بكثافة على وجهها. ويمكن أن نتعرف على حقيقة الأمكنة هذه من عنوان القصيدة المعنونة  (مطارح )التي ستكون نموذجا لمعاينة وجود الصحراء في شعرسيف الرحبي.
يهبنا المعجم دلالة لافتة للمطارح تنبثق من معنى المطرح وتتوسع لتستدعي الطرح والترك، ثم ينشأ البعد والسفر ايضا ، فالمطرح في المعجم العربي
مكان بعيد  وثمة من (قذف به السفر إلى ذلك المطرح- هاجر فلم يجد سوى ذاك المطرح) وللطرح معنى قدري فمن ( طرح به الدهر كل مطرح: بعُد به عن أهله وعشيرته).
وبذا يحيلنا  العنوان إلى الهجرة والسفروالبعد ، وهي لوازم لا تبتعد كثيرا عن دلالات الصحراء الرمزية ووجودها المتخيل في الذاكرة..لاسيما وأن الشاعر عاش فيها طفولته.
وإذا كانت البداية بالمكان فإن الاستهلال سيكون بالزمن : في  الليل المتكرر مع انه حاضر بكونه يقع فيه ما سيقع في القصيدة (غالبا) لكن غالبا هذه منزاحة عن( دائما ) التي ربما  لم يجد فيها الشاعر  ما في (غالبا ) من  شاعرية  واحتمالية ، ما يجعلها تهدد عابري الصحراء في كنف الليل.
والليل كان عنوان إحدى قصائد الديوان  المهداة إلى امرئ القيس للتذكير بليله الطويل وصوره المعبرة عن ثقله ،فيراه ليلا غيرقابل للاندحار،ولا يمكن أن تقطعه بمنشار أو تعتقله في كأس ، بل يؤاخي صورته القاسية بالصحراء نفسها فيصفه بأنه( ليل وعر).
يسلمنا الاستهلال إلى حضور الشاعر في النص أو الليل الذي يقتفي فيه (أثر البداة) متبادلا الوظيفة معهم لانهم معروفون بقيافة الأثر، لكن عدوى القيافة تصله ؛ فيقتفي أثرهم ليكون راحلا وهميا ومسافرا خياليا يرى كلابهم النابحة ومواقدهم المريبة  ، معيدا صياغة فعل الاقتفاء الليلي لأثهم مرة اخرى بتقديم وتأخير( في جوف هذا الليل / الموغل في القدم/ أقتفي أثرهم) معطيا للاقتفاء بعدا ماضويا يناسب الصحراء وليلها المتماهي معها فأصبح موغلا في القدم.
وفي مثل هذا الليل والسير في أثر البداة لن يتبين الشاعر الضوء إلا على أطراف أصابعه ، مختزلا  الرحلة في الليل والهجس بالمكان في ظلماته.
بداة راحون  في حشد هائل يصحبهم  من الكائنات التي يسري إليها التعب والقدم (تجاعيد نسوره) ويخلق بحضور ثغاء الأغنام ثنائية ستضيف لوجود بداة الصحراء بعدا سحريا، فهم راحلون نحو القرى المتاخمة لخط الأفق بينما النسور كائنات الاعالي  والأغنام  كائنات الارض تسير معهم .
القصيدة التي بدأت بالاحتمال (غالبا) صرحت بهدفها فاختتمت ب(دائماً).
وبسبب غيابهم في قرى الأفق المتاخمة للسماء ،فإن أحداً لن يعرف طريق مطارحهم القادمة إلا ذئاب مثلهم منسوية هذه المرة للصدفة ، تمام كوجودهم الماثل على الصحراء والمتحرك نحو الافق.
 
يقدم واحد من زملاء سيف  الرحبي هو الشاعر عباس بيضون وصفا مقربا لعمل سيف في قصائد مرحلة الربع الخالي ، ومراجعة وجود الصحراء في الذاكرة ، فيقول إن بنية تلك القصائد ( في الغالب شذرات قصيرة ومقاطع خاطفة. انها لحظات ولقطات وتعليقات وتدقيقات أحيانا، أي انها مقاطع قوامها اللحظة واللقطة ).وهذا تشخيص فني لأسلوب الشاعر في تجسيد رؤيته الصحراوية ، فهو يكتب القصيدة القصيرة المنقسمة إلى مقاطع غير مستقلة بالأرقام أو بعناوين جانبية  ، معتمدةالمونتاج القائم على لقطات من مشهد واسع يتفنن في رصف مفرداته ، ويتسم ذلك البناء بالقصر لأن الرحبي لا يتخذ القصيدة الطويلة شكلا لعالم يريد أن يقتنص ملامحه ويضعها امام القارئ دون تداعيات ، فلا يلجأ للتطويل رغم عنايته بالتفاصيل، لكنه يدعها تتشكل عبر تجاور الجزئيات وتقابل صورها ، وتكملة بعضها لبعض حتى بعلاقة الضدية أحيانا..كما رأينا في ارتفاع الأفق وانخفاض القرى المحاذية له ، ووجود الأغنام والنسور في الحشد ، وتيه الجبال مقابل الهاويات السحيقة بلا قرار.
لقد وجد سيف الرحبي في هذه الشذرات والمقاطع ما يسمح بتشكيل حر ومكثف ومجسم للصورة أو الحالة المراد تمثيلها شعريا، وقد كان في إيقاع قصيدة النثر وميزتها السردية والبصرية ما يشجع على استلال اليومي والعابر وكذلك الدفين في ثنايا العياني والمبصَر؛ ليخلق هذا العالم القائم على تخوم الخيال ، فبرزت الصحراء في توتر فضائها منعكسة على لغة القصيدة المختزلة والمكثفة بجمل شعرية  قصيرة، ولكن المتمثلة لجوانب موضوعها والمحيطة بتفاصيله  ، مشيرة وملمحة دون ترهل أوإطناب .
. مطارح
في الليل… في الليل غالباً
أقتفي أثر البُداة
بكلابهم النابحة على الحافة
ومواقدهم المرشوشة بالريبة.
في جوف هذا الليل الموغل
في القدم
أقتفي أثرهم
لا أتبين الضوء إلا على رؤوس أصابعي
هناك في الجروف البعيدة.
محدقاً في الحشد الهائج
بثغاء أغنامه وتجاعيد نسوره
راحلين نحو القرى المتاخمة لخط الأفق
ساحبين وراءهم تيه الجبال
وهاوياتٍ لا قعر لها.
راحلين دائماً…
وحدها ذئاب الصُّدْفة تعرف
مطارحهم في المرة القادمة.
 
………………………..
 
.الأب: غياب لا ينقصه الحضور
يرثي الشعراء سواهم .ويتفننون في نسبة المزايا والأوصاف لهم كي يشركونا في الألم والأسف لفقدهم. لكن الأب يحتل في المراثي مكانة خاصة.الحزن عليه يرتبط بالوفاء له والانتماء الذي يهتز بواقعة الموت. تظل منه في البيت الروائح والذكريات ، وفي المخيلة صورته التي يحف بها التكوين والنشأة والحياة بتفاصيلها ، يغدو رمزا لا تنطمس صورته ولا تبتعدحتى لحظة مراجعتها في الكبروالهرم.
يختار الشاعر طالب عبدالعزيز لمرثية أبيه  عنوانا مباشرا مكثفا ،يكتفي باسمه فحسب: عبدالعزيز، فكأنه يراجع صورته إنساناً لا أبا ً، ويحذف بسبب ذلك حضورذاته-ذات الشاعر-  كآبن ؛ لينصرف لتقديم الأب فقيداً تستحق سيرته أن تُستعاد لمناسبة غيابه.هذا التبسط والقرب من الأب شخصا تحيل إلى اهتمام الشاعر بإنسان ريفه الذي ينتمي إليه ،ويمده بخصوصيته  عبر استرجاع تاريخه،وحين نعاين المفتتح نتعرف على موقع الشاعر في سرد ما اختار من وقائع ، فهو خارج المحتوى السردي ،مكتفٍ بالمخاطبة وإسناد الفعل للاب.
العبيد والفلاحون ، القارب والحقل، المكان –أبو الخصيب، هي الشفرات الأولى التي نتسلمها لنحدد السياق الذي وضع فيه الشاعر اباه وراح يخاطبه. وهي مفردات سياقية لا تخرج عن مألوف طالب وقاموسه النخلي، لذا سيكون حتى مديح الأب وذِكر سجاياه مقترنا بالنخل: كثير الفسيل أنت. و يقترح عليه ألّا يأخذ من الماء إلا ما يأخذه فسيل نخلة صغير، مادام شط العرب -وقد اتخذ هيئة إنسان- يمسّي الميت ويغمره بالماء. وهنا استرجاع لطقس عربي قديم يرد في المراثي ،وهو الدعاء بالسقيا لقبر الميت، معادلةً للجدب الذي لاقاه في حياته، والجفاف الذي يسم مناخ الجزيرة التي نشأ فيها الشعر العربي.
يدخل المرثي في لعبة الإيهام والإمكان الخيالي التي يتخذها طالب عبدالعزيز لتعيين الأمكنة او رسم الشخصيات لتأخذ بعدا روحيا ، فنجد الأب فقيرا ثريا، ميتا لكنه مدعو للعودة إلى البيت حيث تنتظره سعفات خضر على الباب، عرشه على اليابسة هو كوخه المجدول من جريد النخل، وحضوره الخرافي سيقترن بحضور الأطياف والأرواح ، يذرع الحياة بعيدا عن الموت، وكصوفي دائم الححضور وشاسع، تقتسمه الفيافي، وتتوزعه الدهور.
لقد وجد طالب عبدالعزيز في واقعة غياب الأب مناشبةً لتطوير فكرة العود الأبدي ؛لتغدو حضورا اقل فضائية، فيقترح عودة الأب لبيته وحقله وذريته، كائناته التي امتلكها خرافية أيضا تقع في دائرة الإيهام، كصورة الماء الذي يمتلكه في كرخ البصرة:فحدوده تنزاح عن الخريطة والتجسم الأرضي، فيكون واقعا  في مكان أوله الفجر- زمنا- وآخره بين قدميه- مكانا- .
ولا تكون واقعة الموت نهائية  مادام للغائب قدرة الحضور ،لذا تقترن بالبهجة فالمرثي تتراخى عنه المنيّة، وكأنها أمسكت به فتخلص منها عائدا للحياة ، ولكن مثل كائن نوراني  تحف به الطبيعة التي تحددت بالنخل وتنويعات لوازمه: عرشه كوخ من الجريد، ولحزنه حديقة، له سعف وصفصاف،ولصمته شجرة، ولبهجته أفق من العشب، اما سنوات عمره فهي متسعة لحضوره لا يحددها الرحيل الجسدي ؛ فتتشبه ممثلة بنخلة لا تنتهي ذؤاباتها في السماء.
في الختام يتسلم المرثي دعاء : أن يكون وقته-زمنه القادم في رحلته- آساً ، وان يكون محيّاه مطرا يسقي ذلك الزمن الموهوب عطاء لأب  ما كانت أحلامه  يسيرة أو متيسرة ، تورق ولكن  في صخر صلد ، وكهولته دأب على تقليمها مثل كَرْم مورق، ويبدو أن الشاعر أحب الصورة التي مثل بها   لمهمة تقليم شجر الكهولة  ، كتشذيب لزوائدها واستمرارا في الحياة برغمها ، فهي ترد بنصّها في قصيدة أخرى له هي ( سجيّة) (أقلّم كرْم الكهولة ) ، كما يعيد ترتيب صورة  بائع الشباك  ،الشخص المنتظر موته والذي صادفناه في (سوق عثمان)  ليقرنه بالأب في قصيدة( عبدالعزيز) (ألبستَ نفسك ثوب الرحيل) ، فهل كان الشخصان واحدا يخرجان من مخيلة الشاعر او يلتقط صورتهما ليقرنها في كائن واحد متكرر؟
تجتمع في القصيدة أدوات كثيرة اهتم بها الشاعر مبكرا، ومنها إكساء  قصيدة النثر بسرد متوازن لا يحجب الشعر فيها ، فاختار الشخصية  باسمها ، ووضع لها أبعادا نفسية وجسدية وتاريخية واجتماعية ، فعرفنا عمله ومرتبته الطبقية وسجاياه ، ودلنا على مكانه ومحيطه ، وأزمنة حياته وماضيه، كما اختار أن يكون ساردا خارجيا يكتفي بالمخاطبة لإنجاز أفعال السرد، وقدّم مثالا لتصاعد الشعور من التقرير بذكر واقع الشخصية تصاعدا إلى روحانيتها وشمولية حضورها وامتدادها بعد الغياب. وهو شبيه بما فعله في مرثية سابقة لأخ فقده في الحرب، فاستدار لرثائه بدءا من سياق موته: الحرب.فعنون المرثية( حرب اخي) وكانت له فيها معالجات قريبة من مرثية الأب هذه ،لكنها تقترب من رثاء جلجامش لأنكيدو في الملحمة الخالدة ، وفي كسرات معينة تؤطر الرثاء وتندب شابا أكلت الحرب عمره وأحلامه وظل الحقل والنخل والماء واشياء الحياة والأسرة بانتظاره .ويقدم فيها انزياحات مشابهة تزاوج المكان بالزمن مثل( المسافة بين حياتك وموتك ستة أطفال).
استثمرالشاعر  الإيهام لنسج تلك الصورة المتخيلة لاختراق الغائب حجُب الموت وعودته لبيته، وحقله ومائه ، بانزياحات صنع منها تلك الصورة المتخيلة للمرثي قادما من وراء غيابه. وأسعفت اللغة المترواحة بين المفردات ذات البعد القاموسي وأخرى قريبة المعنى والدلالة ؛ لتأكيد تلك الصورةالبالغة التأثيرللمرثي ، دون بكاء زاعق، أو مديح متكلف للميت ، أو غنائيات مباشرة  ومواجع مكررة.
 
من النص
 
.عبدالعزيز
 
العبيد يصلحون قاربك
وفلاحون من (أبي الخصيب)
يحرثون لك الأفق
..نهر ينزع من دجلة العوراء
يمسّيك كل ليلة
فلا تأخذْ من الماء
أكثر مما يأخذه فسيلٌ منسيّ
وحين يبعدك الفجر قليلا
اجعل البنفسج على يمينك
والرحبة(رحبة بني مازن)
تحت شِلوك الحي
وتعال:
هذه أفنية السرور
فضَّ غضارتَها الماء
وهذه المنيّة تراخت عنك
سبع سعفات خضر على الباب
يومئن لك أن ادخل
لتطلع المشارق على سباخك وبحرك
كثيرُ الفسيل أنت
وها قد ملأتَ خاصرةَ الأرض ذكورا
ولكَ في كرخ البصرة ماء
أوّلهُ الفجر
وآخرهُ تحت قدميك
لكأنك تذرع الحياة
بعيدا عن الموت
تقترح آساَ لحديقة حزنك
قلَّمت كرْم الكهولة
وألبستَ نفسك ثوب الرحيل
ومثل شطآن منخورة قصيّة
خلصتَ إلى الشجن
جلبابك القديم..
آويتَ فوانيس غربتك
وانطبقتَ على أفراحها
حتى وأنت تموت
ينعم فتيلها في دنِّ قلبك
أفق لبهجتك العشب
وسماءٌ تتقلب في زرقتها لياليك
كوخُك الجريد عرشُك على اليابسة
كلابك مذعورة
وابناؤك نيام
لكأنّ العمر نخلة لا تنتهي في السماء
 
 
ليكنْ وقتك آساً
ليكن محيّاكَ مطراً
. أبو الخصيب: قضاء جنوب البصرة حيث يقيم الشاعر ، دجلة العوراء: من أسماء شط العرب، رحبة بني مازن : من أخماس البصرة القديمة.
 
 
 
.ليسوا أحياء لكنهم لم يموتوا
يكتب الشاعر عبده وازن ( قصائد حرب) بعد ان انتهى كل شيء.وعاد الجميع : الجرحى بجراحهم ، والأسرى بحريتهم ، والموتى بقبورهم .الوحيدون الذين لم يعودوا  هم المخطوفون .
تلك هي الخلاصة التي تشتغل عليها قصائد حرب عبده وازن . تنزاح عن هوس النصر، و تتجنب ندب الهزيمة ؛لتبحث في مصائر معلقة لبشر لن يعودوا لحياتهم ، ولن  يراهم ذووهم ، رغم أن الحرب توقفت ،ولملم الجميع شظاياها وبقاياها.
من هنا تبدو خصوصية ما يكتبه الشاعر عن حرب طحنت بلده سنوات وكبدته خسارات لن يعوضها صلح أو تصالح . يحفر الشاعر عميقا في طبقات الحرب، ويذهب إلى أكثر مفرداتها دراماتيكة ، ويعاين الهوامش على متنها السميك القاسيٍ مستفيدا من السرد الذي ينتهجه في قصائده النثرية، وكذلك في نثره .في ما كتب مثل (حديقة الحواس ) و( قلب مفتوح)  لكنه في قصائد الحرب هذه  يتخذ من  السرد استعانة لا مركزا ؛ لذا نجد الصور والمجازات واللغة اللابثة عند المحتمل والمتوقع ، تقطع انسيابية السرد  وتتابع أحداثه وأفعاله ؛ لتعيد الإحساس بالقصيدة كبنية لغوية وصورية   شعرية في المقام الاول..تقدم مشاهد كالخيال يتاخم الواقع ويغاير صورته .
ولما كان عبده وازن يبحث عن الضحايا لا عن المتحاربين العائدين بذاكراتهم : فإنه ياخذنا إلى حرب مختلفة عبر الصور، والربط الذكي بينها لتوليد سرد شعري بالغ الدلالة.في أحد نصوص قصائد حرب يتحدث عن موتى يموتون مرتين.لقد لاحقت القذائف نعوشهم وهم محمولون على أكتاف مشيعيهم الذين فروا وتركوهم يموتون ثانية:
(كانوا يرفعون التوابيت على الأكف ويسيرون بهدوء في جنازة  لم يُدع إليها أحد،عيونهم تحدق في السماء.. في أعماقها تبرق نار الخوف. عندما سقطت القذائف تفرّقوا،..المشيعون تواروا خلف الأشجار ولم يبق سوى التوابيت المخلعة وبقايا أناس قتلوا مرتين.) ويمكن لمثل هذه اللقطات،  سواء أحصلت أم تخيل الشاعر إمكان حدوثها، أن تنقل مقدار تأثر الشار بفكرة الحرب ومدى تعويله على توصيل فداحتها لمتلقيه باختيار مشهد الموت مرتين لضحايا فرّ مشيعوهم وتركوهم في عراء مواجهة الموت ثانية.
في نص من قصائد حرب  بعنوان ( المخطوفون) يضمها ديوان عبده وزن (حياة معطلة  ) يرصد الشاعربألم وحساسية ما يعنيه غياب هؤلاء المغيبين أحياء في الحرب، وانعكاس حدث اختطافهم على من تربطهم بهم علاقة ، ولأنهم ظلوا مغيبين حتى بعد توقف الحرب وانتهاء مسلسل أحداثها ؛ فإن من ظل مخطوفا في الحقيقة هم  أصدقاؤهم وأهلهم ومن تهمّه حياتهم .
ولدقة ما تنقله القصيدة من هاجس إنساني تساءلتُ في قراءة سابقة عن حقيقة كون الشاعر قد عاش التجربة بتغييب احد من تربطه بهم علاقة مباشرة، خاصة وأن هاجس الغياب الدائم واحتمال الوجود يتكرر لدى الشاعر في نصوص أخرى، كحديثه عن أصدقاء يغيبون لكنهم حاضرون متوقعون فهم يهيمون أطسيافا في دائرة الإمكان والعودة بعد غياب.
بالنسبة للمخطوفين لم يعد من شيء يربطهم بالحياة التي كانوا عليها منذ لحظة اختفائهم ، وذاكرة أهلهم وأصدقائهم هي الوحيدة التي تظل أسيرة الحدس بوجودهم أو عدمه ، حياتهم أو موتهم، عذابهم وما لاقوه على أيدي خاطفيهم لاسيما حين يكون الخطف عشوائيا وضحاياه المفقودين بالصدفة.
يهيم المخطوفون في القصيدة  مثل ملائكة نورانيين لا تراهم الأعين، ليسوا أحياء بالمعنى الوظيفي للحياة ، لكنهم يتحركون مثل الأحياء. يعيشون حالة انتظار عدمية  كما هي حال سكنة الأعراف في القيامة  التي صورتها أدبيات القصص العلوية وخيالاتها  ( كرسالة الغفران والكوميديا الإلهية) :   ليس لهم سوى أن ينتظروا.. مصيرهم معلق بلحظة لا يدرون متى يحين زمنها ، فينعكس ثقلها على المكان ويتلون بقلقها وإرجائها،  و يأخذ مغزاه من الجهل بحقيقتها.
المخطوفون في نص عبده وازن مفردة بنائية وموضوعية ما كان لها أن تظهر فاعلة وحيوية  في نصوص الحروب القديمة التي لم تعرف الخطف كمظهر للقتل والبشاعة التي تنطوي عليها . هي من مستجدات الاقتتال الذي  يعود فيه قابيل ليمارس شهوة الموت بأسماء جديدة و كيفيات مبتكرة. تبتسم الحرب وتربت على كتفيه شكرا وعرفانا لأنه ابتكر وسيلة جديدة لمزيد من الضحايا. فاتتهم القنابل والرصاصات ووفرت حياتهم ليتسلى بها الخاطفون ويمارسون ساديتهم. الحرب مفتوحة الكتاب ووجود المخطوفين على لائحة الانتظار: بين احتمال موتهم وأمل عودتهم المؤجلة ، بين يأس أهلهم  ونفاد ذخيرة أملهم، وبصيص نور يضئ بالتعلة والصبر بعض العتمة التي يفرضها غيابهم.لقد عادوا بسبب عبثية تغييبهم أشباحا وصورا ، وبالأسود والأبيض أو بألوان باهتة.في الحقيقة نحن الذين نراهم هكذا لأنهم لن يعودوا كما كانوا ،رغم أن القصيدة تقول إنهم لم يتغيروا لحظة ووجوههم لم تتغضن ولا تزال أعينهم تبرق بفرح ، لكن ذلك كله ليس كافيا ليجعلنا نراهم داخلين فجأة  كما غابوا بلا مقدمات.
النص يعاملهم كحاضرين غائبين دائمي الاحتمال وممكنين؛ لذا تسهم اللغة في تقديم ذلك الإيهام واللا يقين ، فلا تقدم تعيينا لمكانهم أو حياتهم (في جهة من الليل/  لا أحد يقول إنهم ماتوا) وهكذا يظلون في فضاء دائم الحركة بين غيابهم وعودتهم وحاجة الحرب لهم كي لا تدخل مثلهم في كتاب النسيان شيئا فشيئا.
 خاتمة شخصية
ولدي الغائب ! أيكون عليَّ كما  تفعل أمهات  مخطوفي قصيدة عبده وازن :أن أضيء  شمعة بأصابع يابسة  كل مساء.. محترقا مع دموعها وما يسيل من جسدها في الفراغ المظلم.. منتظرا نبأ ما عنك في الخريف الخامس لغيابك ؟
 
 
 
 
 
 
.المخطوفون
ليسوا أحياء
لكنهم لم يموتوا
إنهم يحيون
في جهة من الليل
في عيون أمهاتهم
اللواتي يحدّقن في السماء
كل ليلة.
إنهم الخط الأخير
للحرب التي عبرت
بقتلاها
وأسمالها
بالصرخات التي ما برحت ترتفع.
كان عليهم   ألا يعودوا
لئلا تدخل الحرب   كتاب الذاكرة
لئلا يلتئم   الجرح السري للأرض.
إنهم
الأخيرون   الذين لم يعودوا
يتركون زهرة غيابهم
على حافة النافذة
لا أحد يقول إنهم ماتوا
في الحفر
أو وراء القضبان
في الغرف العفنة
أمهاتهم
يضئن شمعة كل مساء
بأصابعهن اليابسة
مثلما فعلت
أمّ البحّار
في قصيدة كفافيس.
إنهم المخطوفون
هكذا يسمّونهم
صورهم تدل عليهم
هم الذين لا يزالون
مثلما غابوا
بالأسود والأبيض
بالألوان الباهتة
لم يكبروا لحظة
وجوههم لم تتغضّن
وعيونهم تبرق بفرح!
إنهم المخطوفون
الذين قد يعودون
ولو متأخرين
في نوم أهلهم
بأحذية مهترئة
وندوب لم تمّحِ
بألم يشق ظهورهم!
ليسوا أحياء
لكنهم لم يموتوا
الحرب غالباً ما تحتاج إليهم
لتظل بلا نهاية
لتظل ستارتها

 مثقوبة برصاص القدر(14)

 
 
 
.الهوامش والإحالات
1) و2)- مصطلحات القراءة والتلقي يمكن مراجعتها في كتاب آيزر: فعل القراءة-نظرية في الاستجابة الجمالية،ترجمة عبدالوهاب علوب ،المجلس الأعلى للثقافة ،المشروع القومي للترجمة، القاهرة ،2000وفي نظرية التلقي : روبرت هولب ، ترجمة د.عزالدين إسماعيل ،النادي الأدبي الثقافي، جدة 1994.
3-أمبرتو إيكو:تحليل اللغة الشعرية_ضمنة كتاب :في أصول الخطاب النقدي الجديد، ترجمة أحمد المديني ، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد 1987، ص82.
4) يتجلى الاهتمام بالقارئ لدى الجرجاني في أكثر من موضع من كتابيه ( أسرار البلاغة) و(دلائل الإعجاز) وقد درست مكانة المتلقي في نظرية الجرجاني النقدية في كتابي ( مالا تؤديه الصفة) ،دار كتابات ،بيروت 1993،ص131وما بعدها.
5)عبدالحق  بلعابد: عتبات –جيرارجينيت من النص إلى المتناص،الدار العربية للعلوم،ومنشورات الاختلاف، بيروت-الجزائر2008،ص67 وما بعدها.
6) و7بشأن التحليل وترحيل المصطلح من العلوم إلى النقد ، ينظر، حاتم الصكر: ترويض النص-دراسة للتحليل النصي في النقد المعاصر-منهجيات وإجراءات، الهيئة المصرية العامة للكتاب،ط2، القاهرة 2007، ص11-12
8) ينظر، ابن منظور:لسان  العرب–مادة : نصّ وحلَّ
9)سوزان ستيتكفيتش: الشعر والشعرية في العصر العباسي، ترجمة وتقديم: حسن البنا عز الدين،المركز القومي للترجمة، القاهرة 2008
10) عن حميد لحمداني: سحر الموضوع-عن النقد الموضوعاتي في الرواية والشعر،منشورات دراسات سال، الدار البيضاء،1990ص16.
11)ميكائيل ريفاتير : سيميائيات الشعر، ترجمة محمد منقذ، مجلة شؤون أدبية، العدد 3،الشارقة-الإمارات، صيف 1987،ص315.
12) لوسيان كولدمان: المادية الجدلية وتاريخ الأدب، ترجمة محمد برادة ، ضمن كتاب :البنيوية التكوينية والنقد الأدبي، مؤسسة الأبحاث الجامعية، بيروت 1984،ص24.
13)عتبات، سابق، ص43.
14) لم اذكر مراجع النصوص الشعرية  المختارة للتحليل هنا ؛لأن الدواوين مذكورة في الدراسة.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*