إلى شاعر شاب – من محمود درويش

 
 
 
 
لا نصيحة في الحب،لكنها التجربة
لا نصيحة في الشعر ، لكنها الموهبة
محمود درويش
(إلى شاعر شاب)
 
كثيرة هي النصائح التي وجهها شعراء مكرسون -أو كبار في الخطاب التقليدي القائم على التصنيف التراتبي لطبقات الشعراء!-  ليس أشهرها وآخرها ما كتبته الراحلة نازك الملائكة إلى الشاعر العربي الناشئ (أو اليافع) كما خاطبته في رسالة جوابية على أسئلة وجهها إليها عدد من الشعراء ، طالبين( توجيههم في دروب اللحن ومزالق الوزن) كما تقول، ولكن النص الذي كتبه محمود درويش ( إلى شاعر شاب) وهو من نصوصه  الشعرية الأخيرة قبل غيابه ، يجعلنا نتأمل المسافة بين موقفين  وخطابين ورؤيتين، يخلقها فهم جيل نازك للقصيدة ،وما أضافته الحداثة الثانية لجيل درويش.
تنطلق نازك من الوزنية التي تشكل عندها أساس إيقاع الشعر، وتنبني بالاحتكام إليها  رؤيتها للعروض العربي كإيقاع  ، وللغرض الأخلاقي للشعر كمضمون ، رغم تفريقها بين أخلاقية الشاعر وأفكار الواعظ، كما توصي الناشئين بألا  يحكموا على الجيل السابق بحماسة تلغي شاعريتهم ، ولا تنسى أن تذكرهم بالجرأة في مواجهة الحقائق وألا يستسلموا للغرائز والغرور، ولا يقلدوا الغربيين في مواقفهم وتجاربهم، وسمات شعرهم كالتشاؤم والغموض .
ولا أرى أن شعرية وصايا درويش ونثرية رسالة نازك هي التي ستفرق بين مستواهما وجوهرهما ، بل الرؤية التي ترققها الحداثة ويعطيها منظورها المتجدد والمتجاوز .
تنبني قصيدة درويش بما أنها تقدم خلاصة تجربته ورؤيته للكتابة على نظام الشذرات أو الجمل الشعرية القصيرة التي تتخذ المقطعية والانتقال من فكرة إلى أخرى برشاقة وخفة سبيلاً لتقليب الأفكار، والتبسط والسخرية أحياناً ، و رغم اتخاذها أسلوب الوصية وكثرة جمل النهي والأمر فيها مما يعكس موقع درويش ووجهة نظره خلال كتابتها ، لكنها توصي بما هو جوهري أولا؛ ومؤداه الاختلاف والخروج على السائد :
لا تصدق خلاصاتنا
وابتدئ من كلامك أنت ، كأنك
أول من يكتب الشعر
أو آخر الشعراء!
وهذه هي الثيمة الأساسية في وصايا درويش : كن انت  ولا تقلدنا! حتى حين تقرأ تجاربنا فلا لكي تعيشها أو تكون امتداداً لنا ، فالشعر عند درويش تحول دائم واكتشاف لا ينجزه المتماثل والمتشابه والمقلد ، لذا سيوصي الشاعر الشاب في مقطع آخر  بالابتعاد عن الشعراء ، والبحث عن الفرادة:
لن تخيَّب ظني
إذا ما ابتعدتَ عن الآخرين ، وعني
فما ليس يشبهني أجملُ!
تقوم تجربة القصيدة لدى درويش على التفرد ونبذ الاجترار ، وأحسب أن  وصف الشاعر بالشاب   لا الناشئ تعكس وجهة نظر درويش المتقدمة التي  لا ترى في الشاب ضعفا أو تخلفا ،بل هي مسألة عمر ومرحلة زمنية ،
لذا تتردد هذه الفكرة كثيرا في المقاطع، وتُصاغ بهيئات عديدة وكأنها الخلاص في الكتابة ، وربما كان في هذا التركيز على التفرد والتجاوز تعويض عما لم يفعله درويش وجيله من شعراء القصيدة الحرة ، والشعور بالحاجة إلى دخول القصيدة الوزنية آفاقاً أكثر رحابة وحداثة ، رغم أن ما أضافه درويش غلى تجربتها عميق الأثر ، ولن تغفله الذاكرة وسيرورة  الكتابة الشعرية  العربية  في صفحات تاريخها الطويل، وربما كان اندراج درويش المبكر نقديا ضمن موجة شعراء المقاومة بتجويق وتفويج جماعي، – وهو ما رفضه درويش لأنه  لا يبرز التفوق في الأداة والفكرة واللغة – قد  ترك ذلك الإحساس  في نفسه؛ فأراد ألا يقع فيه شاعر شاب ستنضج على يديه القصيدة وتكتمل:
شذَّ شذَ بكل قواك عن القاعدة
لا تضع نجمتين على نقطة واحدة
وَضَعِ الهامشيَّ إلى جانب الجوهريّ
لتكتمل النشوة الصاعدة !
وإذا كان البيتان  الأولان في هذه الشذرة يوصيان بالخروج أو الشذوذ المقصود بحمولته الفنية والأسلوبية ، فإن البيتين الأخيرين ينتقلان إلى جانب بالغ الأهمية في الفكر الشعري الحديث ، والأسلوبية التي تقوم عليها القصيدة ، وأعني الالتفات إلى الهامشي لا إلى الغرض( الجليل) الذي يرفع القصيدة في المنظور التقليدي إلى مرتبة الأصالة ، فكل ما هو هامشي جدير بأن يجاور الجوهري لأنه معه في صفحة الحياة نفسها ، وعلى الشاعر أن ينقل موجودات الهامش لا إلى درجة المتن فحسب بل إلى الجوهري الذي يتخذ مكانه في المركز والقلب من الحياة، وبهذه الالتفاتة يكون درويش قد أوصى أو دعا الشاعر الشاب بألا يترفع عن كل ما هو أرضي يخفيه تراب الحياة أو مظالمها الكثيرة ،وغياب العدل والحق والحرية فيها .
ولكن درويش في مقطع آخر من سطرين يرتد على ما أوصى ، وينبه الشاعر الشاب ألا وجود لوصايا في الشعر سوى  الموهبة التي يوليها درويش أهمية  واضحة.
وفي سطر واحد يرمي  درويش المهمة كلها على عاتق الشاعر نفسه:
الوصي الوحيد عليك من الآن : مستقبلٌ مهملُ
وبذا تستكمل الوصية دورتها ناسفة وصفها وضرورتها ،فلا قواعد نهائية  في الشعر ، ولا أبَ للشاعر إلا نفسه .
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*