سركون بولص :نازلا من مركب نوح

 
 
 
((بمقبرةٍ خلف برلين يرقد طفلً من النخل.قيلَ استراح ))

*حسب الشيخ جعفر  

                                                                        

رحيلٌ آخر إذن….سركون بولص هذه المرة.لاحظوا أننا -العراقيين- مدمنو موتٍ منذ جلجامش  وصراخه عن مصير خِلّه وأخيه وسؤاله عن مصيره هو نفسه،.. نلاطف الموت ونسمّيه بأرقّ أسمائه وبألطفها وقعاً: فيغدو رحيلا والموتى راحلين ، كأنهم مبحرون أو ركابٌ ينزلون حيث تشاء المشيئة أو يشاءون..أو يجعلهم الآخرون ينزلون(أكتب هذه الكلمات بينما بدخل غياب ابني أو تغييبه هذا اليوم عامه الثاني بالضبط ، وحيث بدأ ابنه الذي ولد بعد – رحيله الغامض- يشكّل حروف الأبوة السلسة ويرددها بلا معنى..إلا ليزيد وجع القلوب.. ويعمّق الجراح والأسئلة).
تتعدد أسباب موتهم لكنهم يرحلون: بطلقة محتل ..أو خنجر أخ عاق ، قريبا من الموت اليومي أو حتى بعيدا عنه، تصل أحدهم الأسباب ليغمض عينيه في أية أرض ..لا فرق..ببرلين هذه المرة ..تتذكر قبر  ابن جودة الذي رثاه حسب الشيخ.. مفارقاً نخيله ينتظر وبلا جدوى السيدة السومرية التي لم يعد يغريها التحول أو العودة بمسمّى آخر حيث لا مكان للحلم..
أتذكر أيضا آخر اللقاءات مع سركون بعمّان –في مهرجان جرش- وبصنعاء في لقاء شعري عربي-ألماني. وهو نفسه يكابر مرضه ويتحامل على رغبته في العزلة، والفرار من حصار الأصدقاء والأهل.. يهمس إنهم يريدون تزويجي وأنا لا أطيق نفسي لا سواي ، يقرأ شعره بنبرة هادئة ويشكو من  موقف الإلقاء، ويناقش حول الشعر وكينونته الجديدة وصلته بالنثر والسرد تحديداً..يجالس الجميع ولا يرفض لقاء أو مقابلة، ويسهر بلا شكوى..ويسأل عن الناس الذين بَعُد به عنهم الزمن منذ إقامته النهائية في أمريكا وأوربا..ودعاباته التلقائية بلا لؤم لا تفارق أي حديث..
كان لسركون بولص حضور خاص في الشعرية الجديدة لا يتمتع به أي من أبناء جيله الستيني منذ نزوله إلى بغداد..أفاد بحريّة من حريته ولم يجعلها لافتة للتعارض فحسب: تعارض مع الزمن والمكان والأشياء حوله ، بل أعطى حريته بعداً معرفيا ..لا يقلد ولا يتابع إلا نداء ذاته وهي تعاني وسط لجة بحر سيصعد لعبوره في مركب نوح الذي ظلت مخلوقاته نائمة-كما يقول-إلى أجل آخر غير مسمى!
بهذه الروح تنقل بين الشعر والقصة القصيرة التي سألتْه في لقاء بعمّان  لماذا لا ينشر بعض ما كتب منها ببغداد قبل هجرته، فأجابني بإشارة تشي بعدم قناعته بجدوى ذلك، رغم أنها كانت مميزة ومعبرة عن مزاج الستينيات وأسلوبيتها  ، وتمثل خلاصة تجربة ورؤى الستينيات القلقة وأبطالها المأزومين..
وتذهب به حريته إلى الترجمة وبعربية تنقص الكثيرين، فهو كجان دمو لا يعرف الآخرون حرصهما على المفردة والتركيب وبراعتهما في العربية بين  المترجمين.
منذ كتابه الشعري الأول( الوصول إلى مدينة أين) يؤسس سركون لمناخ خاص في قصيدة النثر العربية لا تتمثل مراجعها ببلاهة وانسحاق تحت إغراءات الشكل وشطحات المعنى  وإغراءات الاسترسال النثري ، بل تحاول أن تتعين وتتجذر بجسدية واضحة حتى وهي تتناص  مع جبران خليل جبران (قصيدة :هذه ليست أورفليس )-ديوان حامل الفانوس في ليل الذئاب –
إذا بنا هنا نعيش
لكننا نحيا هناك
أعطني الناي
أو لا، لا تعطني الناي
..هنا تشتري المغني
بدولار
وهذه ليست أورفليس
كما يستحضر المراجع الصوفية ، البعيدة معرفيا عن الانشغالات  والهموم المعاصرة ، لذا فإن سركون في ملاحظاته الهامة في خاتمة ديوانه(إذا كنتَ نائماً في مركب نوح) يعلن أن يوسف الخال سخر من صوفياته الأولى ببيروت ونصحه بأن يترك ذلك لأصحابه! لكن سركون يواصل قراءاته  ويلتقي بأشعار جلال الدين رومي مترجمة إلى الإنجليزية ويهدي له ديوانه أيضا الذي عنونه من وحي شطحة لرومي ،هو يواصل إذن تجربته دون وصاية رغم أنه متأثر بيوسف الخال ويعدّه مع أدونيس شعريا وإنسانيا (قدوة نادرة وضوءا كنت وما أزال أقتدي به).
المكان الأمريكي  الذي تنقل فيه لم يبهره ، بل صرّح أنه حين كتب قصيدته الشهيرة (حانة الكلب) الموجودة على طريق بين مدينتين  أمريكيتين- كان يقطعها بسيارته – مثلت له التسمية (اكتشاف سر أمريكا أخيرا) فهي حانة مضافة للكلب تقع على طريق الملوك التي سلكها الكهنة المكسيكيون إلى أديرتهم المقدسة  في كاليفورنيا ، فهم ملوك الروح..(ذلك المعنى المتأرجح بين الكلبية والقداسة ،بين حضارتين متضاربتين، عالمين بينهما فروقات شنيعة كتلك التي بين أمريكا الشمالية والجنوبية ، أو بين الغرب والشرق.)
هذه الملاحظة ستهز سركون وتعيده للكتابة بعد سنوات صمت طويلة ، ولعلها هي التي جعلته يتوقف عند شطحة جلال الدين حول النائم في مركب نوح فما يهمه وهو سكران – بالمصطلح الصوفي – لو أتى الطوفان؟ ويعيد إلى ذاكرتنا المركب السكران في الشعر الغربي:
وجدت نفسي نائما في الجانب المظلم من العالم
أنقّب كل صباح في مكتبة الآلام العامة عن جذرٍ
يربطني بك، أنت، دائما وحتى
أنني أتردد في أن أسميك ، لأنك لست امرأة
أو الأرض أو الثورة، شجراً،أو فقيرا حذّاءً في الطوفان
لا أسمي أحدا بالضبط …
وقد لاحظت ذلك حين درست  ديوانه (الحياة قرب الأكروبول) نهاية الثمانينيات ، فالمكان عنده مناسبة لرؤية ذاته بتشكلاتها ومعارفها لا بمجرد قشرتها الجسدية التي يؤطرها المكان .
هذا الحنين للمجهول سنراه في ديوانه الأول حيث المدينة المتوهمة ، مدينة (أين )التي ليست يوتوبيا ضائعة أو جغرافيا حقيقية، بل هفو لخلق بقعة آمنة من الذئاب الذين سيحمل الشاعر الفانوس –كمصباح ديوجين –ليبدد الظلام الذي يبثه ليلهم ، ويجعل ذلك محور تجربته في ديوانه (حامل الفانوس في ليل الذئاب) -1996حيث ثمة صحو أيضا  ولكن من نوم آخر تجسده قصيدة (الملاك):
)يظهر ملاك إذا تبعته خسرت كل شيء، إلا إذا تبعته حتى النهاية..حتى تلاقيه في كل طريق متلفعا بأسماله المنسوجة من الأخطاء ..في جبل نهاك عن صعوده كل من لاقاك… لكنك صحوت من نومك العميق في سفح من سفوحه، وكم أدهشك أنك ثانية عدت إلى وليمة الدنيا بمزيد من الشهية: الألم أعمق، لكن التحليق أعلى) .
ليس من قصيدة لسواه تؤاخي بين الأسمال البالية برتابة التركيب وبساطة العبارة ، وبين الحكمة التي ختم بها نصه القصير عن التحليق والألم.
عن أي ملاك يتحدث سركون بولص؟وأي جبل ؟ وأي نوم؟ وما تلك الوليمة الدنيوية التي يعود إليها من نومه؟
أسئلة تحتشد بها قصائد سركون بنثرها المشع واشتباك مراجعها ، وتسري عدواها إلى قراءتنا حتى وهو ينزل من مركب نوح ليواصل إغفاءة الأبد ..:
       (يستيقظ المخلوق النائم على وجهه ومن ظهره تنمو أشجار باسقة
              ولكنني الآن خفيف كأنني تخلصت من عظامي
             وفي داخلي فضاء يلمع ويستدير على نفسه كسكين

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*