عناء العراقي : هناك في فج الريح لعبدالرحمن الربيعي: الشخص والشخصية

 
مع الربيعي في توزر-تونس-صيف 1992

مقدمتي للطبعة الاولى من الرواية
يتهيأ القارئ منذ استهلال (هناك في فج الريح ) لاستلام عمل ضاج بالتفاصيل، ففي حوار بين الرسام العراقي المقيم بتونس حسان الزيدي وحبيبته التونسية فاتن عبدالعزيز نقرأ:
(- أنت منتبه لكل التفاصيل ؟
هزّ رأسه بنعم، ثم قال :
– الرسام يرى ما وراء الأشياء!)
ويمكن لنا أن نسحب ذلك على السرد كله في رواية (فج الريح ) حيث البطل  يرى كل شيء ، ويمضي على صفحات الرواية  معبرا عن وجهة نظر الكاتب ؛ فالشخصية الرئيسة حسان هو منطقة تبئير الأحداث وأفعال السرد ،ولأن عبد الرحمن الربيعي كروائي أمين لتجربة الستينيات البهية أسلوبيا وموضوعيا ، والمتميزة بأبطالها الإشكاليين وجرأتها في تشخيص عقدهم وهمومهم، نراه  يؤثث( فج الريح) بفسيفساء نادرة تستحضرها  ذاكرة تعمل بنشاط وذكاء: إنه ينتقي أكثر تفاصيل وطنه دلالة من الذاكرة في عملية استرجاع طويلة ، ويرصد جزئيات الحاضر التونسي بدقة مكانا وبشرا وثقافة، ويراقب تطورات الوضع الفلسطيني من النفي إلى السلطة ، وبما يسمح به الزمن السردي المتاح لوعي بطله حسان الذي عاش أدق فترات التحول في بلده ، وانهياراته التي مهدت- و تلت – مغامرات حاكمه عام 1990 بغزو الكويت، وتداعيات ذلك على وطن حطم المعتدون بنيته كلها ومسّوا حضارته ، وطال عدوانهم كل شيء ، وهكذا صار حسان شخصا متميز الوعي ولكن بعناء مفرط ينتقل من  شخصه  ككائن خارج العمل الروائي ، ليسم شخصيته أي بناءه الورقي داخل العمل ؛ فيقول عنه الراوي الخارجي ملخصا ببراعة :
( لقد اختلط حاضره بماضيه حتى لا يدري في أي زمن هو؟ وهاهو يغرق في ذكريات كأنها حصلت قبل يوم رغم أن أكثر من ثلاثين سنة قد مرت عليها .
لماذا لا يستطيع غلق نوافذ الماضي حتى لا تأتيه ريحه وتعصف به ذكرياته الصافية أو المحتدمة؟ العاقلة أو المجنونة؟ الفقيرة و الملآى؟ الهادئة و المشتبكة..).
بينما يقول هو عن نفسه في أحد حواراته مع فاتن(إنني إنسان يحلق على جناحي ْحيرته).
هنا لازمن للسرد يحدد وجهته ، تماما كما أن حسان لا وجهة له ؛ فلقد تنقل من مدينته الجنوبية ليدرس الرسم ببغداد متخصصا في الغرافيك ، ويعيش فيها  زمنا ،ثم يهاجر للعمل مع الفلسطينيين بتونس مشرفا فنيا على مجلى عمالية تصدرها منظمة التحرير ، وينتقل مع  زملائه الفلسطينيين إلى مناطق السلطة الفلسطينية بعد اتفاقات أوسلو  ، ولكنْ ثمة خيط يتخلل حياته كلها و ينتظمها رغم فوضاها وعيشه وحيدا بلا أسرة أو زوجة :وذلك هو الألم الموروث من حياته الماضية ومشاهد الخراب الذي حل بالعراق في حرب الخليج التي ترصدها الرواية ،وكذلك حياة الفلسطينيين في المنفى وعودتهم إلى وطن هو جزء يسير مما حلموا به محررا ومستقلا.
بين المأساتين تتذبذب حياة حسان ويومياته عبر علاقتين بامرأتين: جسدية فقط تمثلها( راضية) المعلمة المتازمة في علاقتها الزوجية ، و أخرى تتسم بالعمق وتبادل الأفكار والعواطف تمثلها الطالبة الجامعية  فاتن عبدالعزيز التي تقتسم السرد مع الراوي الخارجي ، فكأن ذلك الراوي ينوب عن حسان ويقدمه ، بينما تستكمل فاتن  في المقاطع المعنونة باسمها الأجزاء الباقية من شخصية حسان ، وهي خطة سردية نجدها في جل أعمال الربيعي السابقة،  فحضور المرأة يضيء جوانب من شخصية بطله ويغور في دواخله ، بينما تتصاغر هي  وتختفي خصوصياتها ومزاياها لمصلحته السردية ،وجلاء تلك الجوانب النفسية من حياته.
الماضي مهيمن على وعي حسان حتى وهو يعود إلى أصل تسمية المنزه السادس حيث تدور أحداث الرواية؛ ليستذكر اسمه القديم فج الريح ،ولكن التسمية تتسع لتدل برمزية شاعرية على أحداث الرواية ؛ فعناء العراقي معروض للعيان بفعل ريح السرد التي تفتح فجها ؛ لتأكل الذكريات بتفاصيلها كلها،حتى تلك التي يسترجعها حسان عن الرسم وعن فناني العراق الذين يستحضرهم في حلم طويل،  يكون وسيلة لاسترجاع منجزهم وكفاحهم الفني في مجتمع لم يعتد بعد  أساليبهم الحديثة في التشكيل،  وكانت له شهادة غنية عن حياتهم وفنهم كونه تتلمذ على أيديهم  ،وتأخذ رياح الذكريات مخيلة حسان ليستعيد بدقة تفاصيل عهد اتسم بالعنف و العسف الذي جعله يتمرد ليخرج من العراق نهائيا، بعد أن صار تمرده خطرا عليه ،ولكنه يسترجع أغلب مشاهد الاضطهاد وتكميم الأفواه وقمع الانتفاضة بالقتل الجماعي ؛ فيرينا مفارقات يعرفها العراقيون جيدا، لكنه عبْر ربطها بسياق الرواية يهبها معنى خاصا ودلالات عميقة عن الحرية ؛كأن يتذكر ظهور أعظم الفنانين التشكيليين في جوقة تغني للحرب وتمجّد القائد، منوّها بالمفارقة بين نشاز أصواتهم وبراعة أعمالهم التي تزيّن بأساليبها  المتقدمة ، وموضوعاتها الفريدة فضاء العراق وسماواته .
لقد ساهمت تجزئة الرواية إلى فصول قصيرة مرقمة  في استيعاب تداعيات
حسان وعرض أزماته المستحكمة التي لا يحلها حتى  بعلاقة الحب أو الجنس  شأن الإبطال الإشكاليين الممسوسين بهاجس التمرد والقلق ، والخارجين على انتماءاتهم السابقة وغير المستقرين في أمكنة.
وهكذا تكون مغادرة المكان التونسي إيذانا ببدء صفحة أخرى في سجل العناء العراقي ، وفصل آخر في جحيم الأوديسة العراقية التي تطول بلا نهاية ولا يبدو لها من أفق قريب واضح.
كان يمكن للربيعي أن يخفف من عصف الريح وعنف السرد فيجعل اقتران حسان بفاتن نهاية عادية مكررة لا سيما وهما يتقدمان (كمجنونين في مصحة كبيرة اسمها العالم) كما يصفهما الراوي ، وحتى حين يؤمن السرد لفاتن صفات تذكّر حسان بشبابه وتمرده، فهي تمارس ضجرها معه كما تقول الرواية ولكن دون أن تستقر معه في مكان.
يذكرنا عبدالرحمن الربيعي في عمله المدهش هذا بتفاصيله ومرائيه و تذكراته وحساسية موضوعاته  ، بأبطاله الإشكاليين المتمردين لا سيما في روايته المتميزة والمؤثرة في الكتابة السردية العراقية والعربية (الوشم) هؤلاء الأبطال الممتلكون لذاكرة يختلط فيها السياسي القادم من خيبتهم في العمل الحزبي ، و استغراقهم الوجودي في مفردات اليومي من خلال  معاقرتهم للمقاهي والتسكع والتشرد ،و حسّهم الوطني المجسّد  في ألمهم   و غيرتهم على أطلال وطن يتقوض شيئا فشيئا ؛ فيرون كل شيء بولع غريب بالتفاصيل ورؤية مالا تراه العين …بوعيهم المضاف وثقافتهم التي يحفظها لهم السرد ويثبتها كأبعاد فنية  لشخصياتهم فيتاح لهم أن يعرضوا ما يختبئ تحت جلد المجتمع وقشرة الحياة  ومياه واقعهم المرفوض والملغى من سجل حياتهم المعذّبة.
 
 
 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*