هل للعرب اليوم لغة؟

 
اللغة  العربية بين حُماتها والخصوم….
 
 لا شك في أن اللغة العربية  اليوم  تجد من يحتضنها من حماتها ومحبيها ، وتقام لها محافل الاحتفاء والرعاية عالميا ؛ فقد كُرّس لها يوم عالمي صار مناسبة لاستعادة ما كُتب بها خدمة للبشرية ،وما أُنتج بها وجدانيا وفكريا من تراث، وما استمر معاصراً وحديثا،لكن العلاقة بالعربية ظلت تتأرجح  حدةً من العشق العاطفي والتعلق بجمالياتها  وميراثها وماضيها، إلى التشاؤم وإطلاق نُذر الخوف عليها مما سيحل بها وما آلت إليه . يتنادى محبوها لإحياء تراثها وتفعيل تداوليتها وسط شيوع الهجنة اللهجية والتغريب وضعف الحساسية اللغوية السليمة وإهمال جماليات اللغة العربية عبر إقصاء أو تهميش تراثها الشعري والسردي والعلمي أيضا، بينما يذهب خصومها ظلما وجهلا إلى رميها بالقِدم والتخلف والصعوبة وعدم ملاءمتها للعصر وعجزها عن استيعاب تطوره العلمي والفكري .
إن الرد على تهم الخصوم هين وبسيط ، فاللسانيات الحديثة لا تقيم وزنا للغات إلا  بقدر ما يمكن لمستخدميها من التعبير بها عن أغراضهم وحاجاتهم المادية والروحية عبر آدابها وجمالياتها،وبطرق تعليمها وإجرائها في الإعلام والمدرسة والحياة ،أي بكونها كلاما بحسب سوسير، وبتعريف ابن جني للغة قبله بقرون حين ركز على خاصيتها الصوتية؛ فهي عنده أصوات وليست كلمات أو ألفاظا قاموسية .
 المبرر السوسيولوجي : احتمال الإنقراض ..مردود عملياً
 يجدد الدكتور الطاهر لبيب أستاذ الدراسات السوسيولوجية المعروف ببحوثه في الثقافة وتداوليتها الاجتماعية نداءه أو  أطروحته حول ما يسميه (احتمال) انقراض اللغة العربية و(موتها) بسبب إهمال مستخدميها وتقصيرهم، متسائلا في أحدث لقاءاته الجماهيرية بعبارات تشي بالجواب ضمن التساؤل: هل للعرب اليوم لغة؟
ورغم أن لبيب يصرح بأنه ليس عالمَ لسانياتٍ متخصصاً لكي يفصل القول حول اللغة ، نراه يحذّر من زاوية حقله في علم اجتماع اللغة أو السوسيو-لسانيات من ذلك الخطر الداهم:  موت اللغة وانقراضها، أو انكفائها كاللاتينية وغيرها من اللغات القديمة ؛لتنحصر تداوليتها في المقدّسات والتعبد.ولا نرانا بحاجة للتذكير ولعالم كالطاهر لبيب صاحب سوسيولوجيا الغزل العربي، وسوسيولوجيا الثقافة وغيرهما بأن  بقاء اللغة العربية  واستمرار وجودها لسانا وخطابا هو تفرد لها بين أعرق اللغات التي اضمحلت وتغيرت، وانسحبت لأضيق الحدود، كما أنها مرت بعهود أكثر ظلاما مما نحن عليه الآن كفترات الانحطاط والعصور المظلمة ،لكن شعلتها لم تنطفئ .وغِناها وجمالياتها وثراؤها ظلت كما هي . ولا أحسب أن حياة اللغات وموتها يقاس بما يجني عليها مستخدموها، بل بما تكتنز من طاقات متاحة لقدرات مستخدميها ولإمكان توسعها وانفتاحها على عصرها وحاجات متكلميها .وإذا كان الدكتور لبيب يرى من زاوية سوسيو -لسانية أن العربية انحصرت في الاستخدام في مجال الإنسانيات والإبداع الأدبي، فيما سبقتها وفاقتها اللغات الأخرى في ولوجها حقل العلوم وتطوير الحياة ،بما تجترحه لتلك العلوم من متون وتوسيعات ،فإننا بحاجة للتذكير بأن العربية اتسعت للفلسفة والعلوم الطبيعية والجدل الفكري ولم تعجز عن ذلك ؛ فتركت لنا مصنفات الصوفية مثلا، بل إرهاصات علم الإجتماع -مادمنا في حجاج مع عالم اجتماع متخصص- ممثلة بمقدمة ابن خلدون.وإذا كان للغتنا ذلك الميراث الخصب ، فكيف تتوقف اليوم لأسباب يصفها الدكتور بأنها أسباب إجتماعية مرة ؛كانعدام وعي أبنائها بها ، وأسباب كونية  مرة أخرى متمثلة (بالصراع العالمي لسيطرة لغة على أخرى) .ونحن نتفهم حرص الدكتور لبيب على اللغة من حيث رمي العجز على متكلميها ،وفي راهن أيامها لا ماضيها،ولكن ليس إلى حد القول إن لغة كلغتنا ( لا يتكلمها أهلها) ليس لها من مستقبل إلا الموت والإنقراض.
      هكذا تتنوع حجج الدكتور لبيب، فيعزو موت اللغة للمحيط اللغوي العالمي ،             وانعكاسات  الصراع على وجود اللغات ، والتنافس الذي كانت نشأته الأساسية كما نعلم بين الثقافتين الإنكلوسكسونية والفرانكفونية ، والسيطرة المفترضة للغةٍ ما على الثقافات السائدة بحكم الجغرافيا أو التاريخ الاستعماري للبلدان .و يلقي الدكتور لبيب مرة  اخرى اللوم على متكلميها أنفسهم.نحن لا نختلف بصدد جنايات متكلمي العربية على لغتهم  فذلك مانراه إهمالا في المناهج الدراسية، وتقليدية محضا في طرائق البحث والدرس اللغوي، وتقاعسا في تجديد أشكال التعبير بها ،واستثمار جمالياتها، ومواجهة ما يحيط بها من أخطار الضعف؛ كتفشي العاميات وتسطيح الإعلام للغة وإشاعة المرذول من أطرها وأبنيتها ، لكننا نؤمن بقدرة العربية على التهام ما يواجهها، بدءا بتحدي الترجمة والتعريب بسبب التقنيات المعاصرة ، وانتهاءً بذبول بعض جوانب قوة اللغة وجمالياتها ؛لا سيما في الجانب الكتابي كفقدان مهارات علامات الترقيم  ،وكالخط العربي الذي يتضاءل إزاء زحف الحواسيب والرقميات والطباعة الحديثة. فضلا عن كثير من مفردات اللغات الأخرى التي تدخل في خطاب المثقفين خاصة،
نعم …ولكنْ!
لعلنا  نلتقي مع الدكتور لبيب في حرصه البيّن على اللغة العربية وتشخيصه لبعض ما يحيق بها لأسباب ،من بينها التعليم والتداول الخاطئ والإعلام التسطيحي والحداثة التقنية ، لكننا لا نشاركه نبوءته حول موت العربية وانقراضها.
  سنجد السبيل العلمي لمعالجة الخطا الشائع الشنيع علنا وفي منابر الإعلام والجامعات، والمشاهد البصرية كاللافتات والإعلانات والعناوين،أو تتسلق على ثمارشجرها الجميل الأمية التي يرعبنا أن بيننا خمسين مليون عربي أمي –بمقياس القراءة والكتابة لا استخدام الاجهزة التواصلية الحديثة- كما تشير احدث الإحصاءات ، أو تستهين بها اجتهادات بعض المترجمين ؛فيُشيعون الخطأ وينشرونه على مستوى المصطلح والمعنى والدلالة  وهنا نتساءل كمهتمين بالشأن اللغوي وتجلياته أو مظاهره الأدبية : ترى كيف  سنصحح عنوان رواية فكتور هيجو (البائسون)  أي المعدمون جمع بائس التي ترجمت للعربية ب(البؤساء)  أي الأقوياء، وظل أغلب الكتّاب والدارسين يستخدمون البؤساء للفقر وهي أصلا للقوة والبأس التي  لا يمتلكها الفقراء العرب أو شخوص رواية هيجو!- مثل تلك الأخطاء وسواها تشيع فيتهاون المتكلمون بالعربية بثوابت لغتهم ،ما يدعو للتنبه وابتكار ما يقرّب العربية لمستخدميها اليوم ؛ فلا يكون بمقدور مستشرق (لئيم) أن يصف خلو العربية من زمن المستقبل النحوي إلا  بحرف إضافي كالسين أو سوف ، بأنه يلائم وضع شعب بلا مستقبل، به حاجة دائمة لأجنبي يجعل لحاضره مستقبلا! أو تمضي
 كثيرمن الجامعات الغربية  في تدريس الطلاب اللهجات المحلية العربية بدل الفصحى في محاولة مقصودة لتفتيت  الهيئة اللغوية الموحدة ومظهرها الثقافي من بعد واجتراح ثقافات متعددة مختلفة ،وليس البحث عن تنوع داخل الثقافة العربية ذاتها كما يتذرعون. ومن جهة أخرى تسهم بعض المجامع اللغوية  المتشددة في الغربة اللغوية بفرض مفردات صعبة الاستعمال والتداول فضلا عن غرابة بعضها وبعده عن المقصود  فنراهم يضعون للأجنبي من آلة أو مادة نظيرا عربيا لا يكتب له الانتشار لصعوبته أو تعقيده، و غالباً ما تتم المنافحة عن الفصحى بوجه العامية باستعلاء وازدراء  وصل حد منع البرامج المتصلة بالتراث الشعبي من أمثال وأشعار وأخبار في المنابر الإعلامية في بعض الدول العربية.
 
 
 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*