بيت جِنّي: الخيال الماركيزي والخرافة العربية

 
 
 

 
 
ليس لدي شك بأن الروائي والقاص حميد الربيعي سيفاجئ قارئ مجموعته القصصية (بيت جنّي) كما فاجأني بأجواء قصصه وبنائها السردي وتلازمها ؛حتى لتبدو أشبه بفصول رواية. حرفة الكاتب وخبرته الروائية (صدرت له أربع روايات ) تتضح في منحه لنصوصه القصصية هذه ما يشبه الانتظام السردي في الرواية . تبهرنا تقنية جديدة لجأ إليها الكاتب حين  ختم مجموعته بقصة(في البدء) جاعلا شخصيات قصصه الأربع عشرة وكلهن نساء يجتمعن في حافلة تتسع لأربعة عشر راكبا ويقمن برحلة غريبة تختلط فيها الأماكن والمقاصد . وبجانب مفارقة كون القصة الأخيرة في المجموعة تحمل عنوان (في البدء) فثمة ميزة أخرى للمجموعة هي انطلاق القصص من واقعة أو حدث واقعي بمعنى إمكان الوقوع ،إلى غرائبية أو إيهام تجعل القصص أقرب انتماءً  إلى الواقعية السحرية ذات المرجع الماركيزي مؤطرا بالخرافة العربية كما ترد في التراث الشعبي أو السرد القديم – والف ليلة وليلة بشكل خاص-   .يتبنى حميد الربيعي   تلك الرؤى الماركيزية بقاسم مشترك هو الاستعانة بالعجائبي أو الغرائبي من الوقائع، ففي قصة (امرأة من ماء ) تمطر السماء ضفادع يمتلئ بها الفضاء،وفي قصة المجموعة التي أخذ الكتاب عنوانها(بيت جنّي ) تنبت لفرج المرأة أسنان، وثمة بنت تلاحق رائحة الشاب الذي جلس جنبها وتظل تبحث عنها (قصة شغف) والشاب الذي يشم رائحة الأنثى من مسافة بعيدة( قصة يازر دلي)والفتاة التي تموت من فرط حلمها وتمنح ثديها لفتاها     (رغبة ملحّة  ) ومتحف العهر الذي تحلم بإقامته فتاة يغويها سمسار ، وغسّالة في شارع المتنبي تغسل التاريخ ، وتجعل الحوادث تنتظم أوتوماتيكيا في في تاريخ آخر. و تصبح الفتيات حمامات بيضاً يطاردهن سرب غربان سود ورجال بثياب وعمائم سود، وطبلة أذن الفتاة التي تتمزق بسبب ضوضاء المدينة وصوت الفتى الذي يلاحقها. تلك أبرز الأمثلة التي تشير لغرائبية القصص  ولصلة بعضها مباشرة بالمرجع الماركيزي الذي يتذكره كل قارئ لمبدع مائة عام من العزلة. ويقوم بناء القصص ومنحاها السردي الخاص على الإيهام والارتقاء بما هو ممكن الحدوث؛ ليغدو ذا دلالة على التحرر من واقعية الحدث وما يستلزم من مباشرة.وتخدم اللغة هدف الكاتب فترتقي لتوصل لقارئها شفافية الحاجز بين الممكن والمستحيل.
ينجز حميد الربيعي بعمله السردي هذا ما يجعلنا ننحاز لشعرية القصة القصيرة التي طغى عليها طوفان الرواية وما حظيت به في السنوات الأخيرة من اهتمام ونتاج  وافرين. وتنقل القصص أجواء المكان البغدادي في حضور خاص يشتغل فيه عنصر الوصف وتقل مادة الحوار ، وثمة أمكنة أخرى : كبرى كالمدن، وصغرى كالمدارس والأسواق والمكاتب والأسرَّة والغرف والسيارات والبيوت… الاسترجاع كثيراً ما يقيد المحاورات الخارجية ،ويقترح استبطانا عذبا تحلّق فيه المخيلة وتنشط الذاكرة . الساردة غالبا امرأة ،كما ان المرأة هي مادة السرد وموضوعه، حتى ليمكن تصنيف رؤية القاص وموقفه في قصصه ضمن تيار النسوية المتحررة لا المنغلقة أو الملغية للآخر(=الرجل). الشخصيات نسوية والساردات أيضاً.والجنس يحضرلا للعرض والرغبة بتجاوز التابو كغاية ؛  بل ليكمل تهميش المرأة أو معاملتها بعنف ، أو بقمع اختياراتها وشهواتها وأحلامها. والمرأة سارد خارجي كلي العلم مراقب للأحداث (قصة رغبة ملحَّة مثالاً) ،أو هي سارد داخلي متموضعة في الحدث مشاركة فيه جرياناً ومصائرَ وتحولاتٍ(قصة الانتشاء مثالا)كما يمزج بين النوعين السرديين ويغير ضمائر القص (قصة مدخرات).
مهارة حميد الربيعي وحرفيته في نصوصه تبدوان للقراءة بيسر، وتعيدان الثقة بإمكان الإبهار والتأثير عبر قصص قصيرة لم تترفع على حرائق العراق المعاصر، ولا تغفل زمنية الحدث، لكنها لا تتخذه منافقة أو استجداء لتميز وخصوصية.الحرائق الماثلة للعيان في يوميات مدن العراق وبشرها تتخلل القصص وترسم المصائر والخواتم السردية ؛ لذا تنتهي المجموعة بحرائق كمب سارة ،والضياع في جغرافية رحلة غامضة  في حافلة تحمل شخصيات بلا يقين لوجهتها أو ما وصلت إليه.

 
 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*