عالم الإشارات والرموز والعلامات:من التطابق إلى المجاز

 

كيف تعمل الإشارات والعلامات  كرسائل بصرية ذات دلالات بليغة مختصرة تغني عن كثير من الشرح والتعليق في مجال التواصل البشري؟

كيف اهتدى الإنسان إلى اختزال عالمه اللغوي بتوليد إشارات وعلامات ؟ وكيف اطمأن  الإنسان للصورة لتنوب عن لسانه وتوصل بشفراتها ودلالاتها ما يريد توصيله من معان؟

تلك الأسئلة تدعنا نستعيد بعض الإشارات البصرية التي تعمل كشفرات سيميائية بالغة الدلالة.

تصالح الإنسان الأول  مع عالمه في حياته البدئية لكي يفهمه ويتمثله، ثم يعيد تمثيله في رمز أو علامة أو إشارة لكن فهمه لم يأخذه أبعد من التطابق أي تمثيل الشيء بحقيقة ما هو عليه: يرسم حيوانا ليدل عليه أو شخصا ليجسده.تلك مهمة سيواصل التصوير إنجازها ،وهي مهمة تطابقية لا تحتاج خلفيات فكرية أو ثقافية من المتلقي لتسلمها.هي أيقونات تؤدي مهمة توصيلية مباشرة كما تعمل الخرائط والصور الفوتغرافية للأشخاص والأمكنة ؛ فهي تدل على مدلولاتها مباشرة وبشكل تام لا اختزال فيه أو تحوير..

إشارات الحياة والذاكرة

هذا ما تفعله   الإشارات في حياتنا اليوم.لنأخذ مثلاً صورة الرجل أو المرأة للتفريق بين الحمامات المخصصة للرجال والنساء.لا حاجة للغة ومفرداتها وتراكيبها لعابر متعجل يريد قضاء حاجته.بعض السيميائيين الفكهين أرشدوا مصممي المباني ومهندسيها المعماريين لأفكار طريفة، كوضع لوحة لشارب رجالي أو شعْر نسائي للتفريق بين المكانين..في أحد فنادق الدول الشرقية ثمة صورة لعباءة  نسائية أو ثوب رجالي على المكانين للتفريق الجنسي بينهما. واليوم تحتدم النقاش في الغرب حول إمكان استخدام المتحولين جنسياً للحمامات وأين يذهبون؟لمكان كان يحق لهم دخوله أم لمكانهم الجديد الذي لم يكن لهم الحق باستخدامه؟خذلان للإشارة سيكون إمتحاناً للوعي الأشاري لدى منتجي الإشارة والعلامة والرمز .

أما الإشارات الكبرى المرتبطة بالتاريخ  فهي ذات ثقل سيميائي مضاف. تهب الناظر إحالة فورية للبلد ، وتضخ مع تلك الإشارة فائضا تاريخيا يخاطب الذاكرة ،فهي تتعدى خريطة البلد أو موقعه أو اسمه ،وتستبدل به إشارات منتزعة منه، كالأهرام  الثلاثة للدلالة على مصر في النشرات والإعلانات السياحية ، أو برج إيفل للدلالة على باريس أو فرنسا كلها،وما تبقى من  المدرج الروماني(الكولوسيوم)في روما للدلالة على البلد ، وكذلك باب عشتار أو بوابة بابل في العراق. بينما تلتمع جدارية جواد سليم -نصب الحرية- المعلقة في فضاء ساحة التحريرلتختزل المدينة -العاصمة

 من الذي ( فعل ) الجورنيكا؟

جنرال فاشي يسأل بيكاسو بعد أن رأى  لوحة  جورنيكا بفظاعة تمثيلها لمحرقة سوق المدينة الأسبانية التي دمرتها الطائرات  في الحرب الأهلية :

– هل أنت الذي عمل  جورنيكا؟

يجيب بيكاسو : بل أنتم.

لقد جرى تمثيل فني للكارثة  ، وتحولت سوق القرية المحترقة إلى واقعة فنية قد لا يجد فيها أحد من الشهود مفردات حَرفية ، لكن الإحساس بالبشاعة والتقزز والألم سيظل يصاحب كل مطالعة بصرية تالية. وستظل جورنيكا إشارة  مختزلة لمثيلاتها من المجازر المتكررة في بقاع العالم..لاذا تلصق دوما بما يحصل من مجازر.كنا نستعيد رمزية اللوحة ونحن نتشمم روائح الأجساد المحترقة في ملجأ العامرية ببغداد حين قصف في حرب الخليج الأولى .

سوف تحذف الذاكرة العراقية كثيرا من صور اللوحة ورموزها.لا مصباح هنا حيث لم يعد أمل بالنجاة من المحرقة.وليس للوجوه الممتلئة بالرعب وجود في الذاكرة العراقية ،فقد مات الشهود جميعا.لكن صورة الطفل الميت وهو محمول في حضن أمه ستظل تذكر بالمجزرتين.

.

صرخة مونش الصامتة

لا يفعل الرجل -أو المسخ ربما-  في لوحة مونش سوى فتح فمه بكل سعة ووضع يديه على أذنيه ،كأنه لايريد سماع  ضوضاء العالم من خلفه مكتفياً بصرخته التي ستظل إشارة تعمل خارج سياقها التشكيلي لتدل على العنف والعذاب الإنساني.وراء الرجل تدور سورات من الضجيج والدمار المختزل بدوائرحمراء تضاعف الإحساس بالعذاب والوحشة..

لقد أهدى مونش العالم إشارة تشتغل دون حساب الزمان والمكان، فرأى فيها كثيرون صورة ما يحصل في عالمهم فاستعادوها .

تحتاج لوحة مونش إلى ما أسميه الوعي الإشاري.فهي لا تصلح لمكان تسوده الأمية مثلاً.فيما يمكن أن تعمل إشارة صورية مباشرة معروضة للبصر، مثل صورة قطار قبل مسافة من سكة حديد.أو إشارة منع التدخين في المحلات المحظور فيها.هنا يمكن تسلم العلامات بلا جهد لدى المتلقي، فالمطابقة والرموز المضافة كعلامة الضرب أو الخط الأحمر المعترض لصورة السيجارة تتكفل بتوصيل الدلالة إلى المتلقي.

ولكن الإشارة الإعتباطية تعمل أيضاً في ترويض الوعي الإشاري ،كألوان علامات المرورالثلاثة: الخضراء والصفراء والحمراء. وتختزل إشارات الثياب الدليل المشير إلى جغرافيا بشرية؛ كالثوب العربي مثلاً والعقال دلالة على ثقافة العرب كشعب له مزاياه الموروثة والمميزة له.وتصبح الإشارات في بعض استخداماتها استفزازاً للآخر كإصرار بعض الشعوب على ما يحيل لمعتقدها، كوجود نجمة داود مثلاً أعلى المباني القديمة في بعض العواصم ، وكذا تصبح اللحى الطويلة والثياب القصيرة دليلا يعمل لاستفزاز المتلقي ويشير للإرهابيين.

لكن  سيكون على متلقي صرخة مونش أن يكد ذهنه لقراءة اللوحة وترتبيب عناصرها المركّبة. التمعن بدلالة العنوان  في صرخة الرجل الهزيل والخائف والمتخفي خلف فمه المفتوح ويديه  اللتين تغلقان أذنيه، فيما يبتعد الشخصان في نهاية الجسر بلا ملامح.هنا لن نكون ملزمين بما قدمه مونش نفسه عن خلفيات رسم لوحته ومؤثراتها.قصة طريفة تنفع في التحليل النفسي كواقعة، ولكن جرى صهرها وتمثيلها فنياً بهيئة جديدة، رغم وجود بعض عناصر السرد المنقولة من الواقعة: الصديقان والجسر وتوحد مونش فجأة وتأمله.

الإشارات في الوظيفة التواصلية

اعتباطياً ابتكر الأنسان ألوان الأعلام الوطنية رغم محاولة بعض القراءات إسنادها لمعانٍ تاريخية أو وطنية. وقد شاع في التربية المدرسية زمناً أن العلم العراقي القديم بألوانه الأربعة مأخوذ من قول الشاعر العراقي صفي الدين الحلي- من مخضرمي القرنين الثالث عشر والرابع عشر-:

بيضٌ صنائعنا ،سود وقائعنا        خضر مرابعنا، حمر مواضينا

ولاشك في أن البيت يوظف الألوان للتعبير الرمزي عن معاني الفخر ، ويستثمر الطباق بينها ، والجناسات بين الموصوفات التي تلي الألوان، ولكنه ليس المشغّل الأساسي في ابتكار ألوان العلم حتى لو وجد المؤولون رابطاً بين البيت الشعري وصورة العلم المكتفية بالتعبير اللوني.

تحوير العلامة: المغزى والدلالة

يدل تمثال الحرية  في نيويورك على تحرر الإنسان المرمز له بالمرأة التي نزعت عنها القيود والأغلال ،وحملت مشعلاً في يمناها وكتاباً في يسراها، و تاج سباعي  فوق رأسها ،ووقفت بهيئة شامخة عند خليج المدينة.نسخ كثيرة ستنتشر في أرجاء العالم تحاكي التمثال أو تستنسخه.وسيدخل في قصائد شعراء كثيرين.وسيتعرض للتحريف في لوحات محتجة أو مناهضة .ولكنه سيوظف أيضاً للمخيال الشعبي والسردي.بالصدفة تقع بين يدي نسخة من رواية للأطفال تحكي عن مدينة فئران تتعرض لهجوم من القطط العدوانية، وتنتصر عليها، فتصنع تمثالا في نيو ماوس ستي  محاكاة لنيويورك ستي، تمثالا للحرية للفتاة نفسها، ولكنها تحمل في يمناها جُبنا هذه المرة بدل الكتاب، فالفئران توفرت لهم الحرية والطعام معاً.تحوير يخدم معلومة، ورمز يخدم سياق السرد.

الثقافة العلاماتية في الهوس الرقمي

لا نرى مثل بعض المتشائمين أن الثقافة الرقمية  شر ومدعاة للتخلف الفكري، فما جاءت به الأجهزة الحديثة واستخدامها لأغراض تواصلية بين البشر عززت الوعي الإشاري ،ونشّطت الجهاز التعبيري المجازي لدى الإنسان.وما علامات الشبكة العنكبوتية (النت)إلا مثالاً بليغاً لها.فالعلامات الرقمية المشتركة تلغي الفوارق اللغوية، وكذلك الصور المصاحبة والعلامات كرموز المرفق والإهمال والإعادة والإرسال والرد على الرسالة وسواها من حشد العلامات الحاسوبية.

ثمة هوس رقمي يلتهم اللغة الورقية فتتحول الصحف والمطبوعات إلى فضاء الشبكة ولا يتم الإتصال الحسّي بالمطبوع .ذلك صحيح .ولكنه يخلق ثقافة إشارية محايثة تعزز الثقافة ،وترفدها بما لاينفد ولا ينتهي من الإشارات التي تناسب إيقاع عصرنا وحياتنا فيه.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*