محنة العارف: شاكر حسن آل سعيد منظّراً

يعاني منجز الفنان التشكيلي العراقي الراحل شاكرحسن آل سعيد(1925-2004) الكثير من سوء الفهم والقراءة الخاطئة ، ما انعكس على تلقي أعماله، وبدرجة أكبر على تقبل أطروحاته النظرية، وتأملاته في الفن التشكيلي وجوانبه الجمالية ذات البعد الفلسفي والفكري .

سوء القراءة..سوء التأويل

قبل أن ينعكس اهتمام شاكر حسن الحماسي بالتنظير على  متلقي أعماله الفنية ،ظهر تأثيره جلياً في تطوير منظوره للعمل الفني وتشكيله، مرورا بمراحله المعروفة لدى متابعيه التي يلخصها هو ذاته  في مقدمة دليل معرضه الإستعادي الكبيرعام 1996بأنها تتدرج ((من التشخيصية إلى الإنطباعية إلى التجريدية)) وكان عنوان تلك المقدمة ( لا مقروئية النص في رسومي) ذا دلالة كبيرة على تفهمه لسوء تلقيه من قبل مشاهديه، فضلا عن قراء دراساته ذات الطابع التأملي ، لكنه من ناحية أخرى يشير صراحة إلى رضاه النفسي عن تلك  اللامقروئية أو اللغز الغامض في أعماله ودراساته وتأملاته.لقد مضى التجريد كمرحلة أخيرة بالفنان شاكر حسن إلى الالتقاء بالفكر الصوفي وتطعيمه بقراءاته من المصادر التفكيكية والسيميائية ،مع محافظته على الرؤية الشعبوية للفن المتمثلة في الجفر والحروف والتعاويذ والكتابات الجدرانية ،وتنظيمها فكريا في النزعة الحروفية التي يعد الفنان من روادها عربيا. ولايغفل كذلك تأثره بتجارب فنانين عالميين قريبين من تفكيره ورؤيته الفنية ومنجزه البصري المتوسع عن اللوحة ، والممتد خارج الرسم كحرفة، و هجرالمرسوم كوسيلة وحيدة لتوصيل المضمون .ولطالما قوبلت اقتراحاته بالدهشة والاستغراب، فهو يقترح مثلا أن تغذى اللوحة من الفكر السيميائي والثقافة الإشارية؛ فيكتفي الفنان مثلا بكتابة اسم اللون على المساحة دون تلوين! ليدع البصر يتخيل تلك العلاقة على السطح التصويري، ولعل ذلك بداية تأثره بمنهجيات القراءة والتلقي والمنظّرين الألمان الذين أعادوا الهيبة للقارئ ودوره في تشكيل النص وفق ما يراه ، تأثراً بالفلاسفة الظاهراتيين .وسوف يضيف شاكر حسن ذلك كله إلى توليفة لغوية تجمع مصطلحات التفكيك،  والتأمل الصوفي الإسلامي ،وما بعد الحداثة في الرسم والكتابة لتزداد البلبلة المفاهيمية المراد توصيلها للقارئ حتى لأولئك المعنيين بالنقد الفني ومن هم في عداد القراء الخاصين أو المميزين .فهاهو جبرا إبراهيم جبرا مثلا -بتجربته  الثرية كونه التشكيلي والشاعر الحداثي والرسام والناقد الفني والروائي- يعلن عن صعوبة فهم الخطاب اللغوي والمفاهيمي لشاكر حسن وهو يقدم له كتابه (الحرية في الفن) في طبعته الثانية عام 1994 وهي ذاتها مقدمته للكتاب بطبعته الأولى عام 1974

ويقرر جبرا في كلمته التقديمية ذات الإثني عشر سطرا بأن أسلوب شاكر حسن في عرض افكاره (شائك أحياناً، وغائم أحياناً أخرى..) وبأن القارئ يجد صعوبة في الحكم على هذا النوع من الكتابة ، لأنها (تتراوح بين الحدس والمنطق تراوحاً لا يسعف القارئ في تتبع نمو الفكرة لديه على نحوٍمتماسكٍ متنامٍ) . فالقارئ بحسب كلمة جبرا لا يفهم أحياناً ما يقوله الكاتب .وبعد اعترافه بأن الكتاب ممتع يستدرك بعبارة ( وإن يكن مضنيا أو معتما شديد الكثافة) لذا يضع في الختام عذرا لمن (لن يرى من خلال العتمة الكشف والإضاءة المرجوة) وذلك الوصف بالعتمة والكثافة والصعوبة وغيرها سيتجسد في المشاهدة البصرية للمتلقين التقليديين وقراءاتهم،  إذ لا يرون في الخطاب المكتوب أو المبصَر ما يبتغون من تبسيط أو معاينة تزيينية أو تعبير مباشر.وسنرى أن بين هؤلاء فنانين أيضاً يُفترض أنهم يتوفرون على قدرة فهم الرؤية والمشغِّلات الأخرى للخطاب اللغوي والبصري للفنان، وأن ما يتخيلونه صعوبة أو هذياناً هو محاولة لتوصيل حالة شهودية وتجربة ذاتية ومعاناة خاصة سيفصح عنها الفنان في أعمال لاحقة ،وكتابات متطورة عن تلك الأعمال.

ضرورة الخروج من الشرنقة

يوضَع الرسام في التصنيف التقليدي وراء عمله تماماً.إنه مجرد يدٍ تلوّن المساحات التي ملأها بالأشكال وحسب، وأي نطق أو تصريح أو محاولةِ تأصيلٍ نظريةٍ تعد عجزاً تعبيرياً أو منجزاً  فائضاً خارج الميدان!وهذه تهمة تلاحق الفنانين استجابة للمتخيل الجمعي والثقافة المنبثقة عن تكتل الأعمال وتكرارها وتقليديتها أو تقاليدها معا.لذا يجد الكثيرون أن التنظير فائض كلامي لا يلزم أحداً ولا ضرورة له. ويرتاح لهذه القناعة ويعضدها الفنانون محدودو الثقافة والمتكئون على قوتهم الحِرَفية وقناعاتهم المدرسية. لكن الكتابة النظرية ظلت ضرورية ومهمة للفنان طوال رحلة شاكر حسن التشكيلية .بل هو يدعوها (ثمرة الخروج من الشرنقة) كما يقول معللاً بأن (العمل الفني ليس خلقاً وإنما هو موقف) وفي تبرير قريب من الخطاب الديني التقليدي يرى شاكر حسن أن الخلق مرهون بالخالق الأعظم وما العمل الفني إلا إعادة خلق.هنا تحضر المؤثرات الأفلاطونية حول المثال وإعادة صناعته بالفن وعدم الحاجة للخلق المعاد بعد تحقيق المثال في اليوتوبيا المتخيلة أو الجمهورية الخيالية. وهنا تتجلى فكرة اللامقروئية لدى شاكر حسن الذي يرى أننا نصوص لآثار غير قابلة للقراءة.أو أن حقيقة قراءتها مستحيلة وكامنة في لا مقروئيتها. وسوف يقترح في مرحلة اهتمامه بالفن المحيطي او مايسميه الحقيقة المحيطية ان يعمل الفنان ضمن إطار المحيط أو البيئة؛ للكشف عن المعطيات الجمالية والواقعية والأخلاقية عبر الكيان المحيطي لذاته، أي كفضاء أو سطح أو رموز منتشلة من المحيط، ولكن بدءاً من ذات الفنان. ويعرّف المحيط في كتابه (مقالات  في التنظير والنقد الفني) بأنه العالم الخارجي الذي يحيط بالذات بعد تحويله إلى مفردات وصيغ تشكيلية.أما الوسيلة فهي الوصف بديلا لمبدأ الخلق في الفن.وهذا قريب من التصور الظاهراتي  للعمل الفني المرتبط بالوعي الذاتي للفنان وليس بالعالم الخارجي الذي لا ترى الظاهراتية أنه موجود إلا بوعي مسقَط عليه وشعور فردي  كوسيلة لفهم العالم الخارجي. وطريقة لوصفه لا تفسيره .  ويتكرر ذلك في تعريف شاكر حسن لمفهومه عن البعد الواحد فيقول  إن البعد الواحد( تأملٌ للكون أو وصف شهودي للعالم الخارجي وبواسطة لقية فنية يتوحد فيها الإنسان والعالم كأثر لا كخلق) وهذا مادعاه في مرحلته الحروفية مثلاً إلى اعتبار  استخدام الحروف في العمل الفني وسيلة للكشف عن النظام الداخلي لحركة  تلك الرموز اللغوية المفصولة عن قيمتها الأولى كوسيلة تكوينية .وهو يقصد بذلك إلغاء دلالاتها ومعانيها. وكذلك التنازل عن دورها التزييني في المعايير الفنية للخط العربي الرسمي. هنا يكون للحرف حضور ثالث لا معنوي ولا تزييني.وهذا خروج آخر من شرنقة الوظيفة لصالح الوصف بما يمليه الوعي الذاتي والشعور. وهذه المهمة الفردية أو الذاتية للوعي ستقود شاكر حسن لاستحضار المقترح الصوفي حيث الاتحاد بالذات الإلهية يتم عبر التأمل الشهودي الخاص وبواسطة الطريقة التي ستعزل الصوفي عن العالم الخارجي. بل لن يكون له خلاص وتحقيق لرغبته في الاتحاد بالذات الإلهية إلا باعتزال الخارج ومواضعاته وموضوعاته.

مقترحات  مابعد الحداثة

لم يتخل شاكر حسن عن الرسم في أوج توصلاته النظرية وحمّى تأثره بالتفكيكية ديريدا خاصة ونظرياته في الكتابة، وبالسيميائية  الممثلة بأمبرتو إيكو ودراسات عن العلامة والإشارة ،مع الاقتراب المستمرمن  الظاهراتية ورموزها مثل هوسرل وهايدغر.بجانب قراءات متفرقة لسارتر وميرلوبونتي وفوكو وبارت وغيرهم.وسط حشد من الكتاب الإشراقيين العرب من المتصوفة كالحلاج وابن عربي والخرازوسواهم.كان الرسم يتطور باتجاهين لتمثيل تلك القراءات والتنظيرات المؤسسة عليها:أولاً بالتمدد خارج اللوحة و نبذ مفهوم الرسم كأصباغ وأشكال وموضوعات؛ وذلك بصنع جدرانيات ومجسمات وأعمال بصرية خارج اللوحة كالأوفاق والمثلثات الضخمة والخطوط .وثانيا بالعبث القصدي في اللوحات ذاتها كأن يستخدم الحرق والثقب والطي والكسر للإطار أو قطعه دون استكمال والاستغناء عنه غالبا ،والمزج بين الأعداد والحروف والوجوه والأشكال الخليقية والرموز في سطح تصويري واحد، وهكذا تبدو مهمة البصر أو المعاينة والمشاهدة عسيرة في مواجهة أعمال الفنان.إنها مهمة تستدعي مشاهدا إشكالياً له خبرة بصرية وعُدَّة جمالية مناسِبة لتلقّي العمل وفهمه. وقد عرض في هذا السياق أعمالاً تجسد ما طمح إليه من تنظير متأثراً بمقولات ما بعد الحداثة؛  منها لوحات ورقية  ذات وجهين، كلوحته كتاب المهداة لي، وأخريات تتطلب لإدراكها رؤية مزدوجة ؛لأن كل وجه منها يقوم بتشويه الوجه الآخرفي اللحظة ذاتها، ويصارعه في حالة نفاذ النور واختراقه أحد جابني اللوحة أو وجهيها،ولاحل إلا برؤيتها من الجهتين في آن واحد، وهو ما لايمكن تحققه زمانيا على سطح مكاني واحد كسطح العمل. وكتابياً وصل تأثره بهجران الرسم كحرفة إلى حد اقتراح ان يكون العمل الفني ذاته مرجعا للخارج لا العكس، مذكرا بكرسي بيكاسو الذي يقترح أن تكون الكراسي على مثاله، أو يكون هو المرجع لصورة الكرسي في الذهن لا العكس. فيما يقايس المشاهد التقليدي العمل محتكما إلى خبرته البصرية السابقة، فيقارنه بالموضوع الخارجي أو الشيء الذي رآه من قبل.

أن أتكلم دونما لغة…وأن أرسم دونما واسطة

هذا ماكان محل نقاشاتنا في حلقة الدراسات الجمالية التي كان الفنان يسيرها في الثمانينيات ومطلع التسعينيات في بغداد.ومن أمثلتها تعويله على الخطاب الشفهي بديلا للمكتوب وتكييف السمع للاستيعاب والفهم .وكذلك الرسم دون تلوين أو تشكيل والخروج من شرنقة المعرض والمتحف واللوحة والرسم ذاته.

تلك كانت أمنية شاكر حسن الذي وجد ذاته في الفن إفناء لذاته كموجود..ويالها من مهمة عسيرة على الفنان وقارئه ومشاهده.

لكن ما ترك من إرث تنظيري سيكون  ملهما لأجيال من الفنانين ومتذوقي والفن والمهتمين بجماليات الفنون والفكر الفني عامة.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*