بريد بغداد-


 
 
 
 

 

 
 
 
 

نشر دائرة الثقافة والإعلام -الشارقةكتاب الرافد-العدد34-أكتوبر2012-يصدر مع مجلة الرافد

 

                                     قصائد اللبوة الجريحة

دراسات

 
 
 
 

د.حاتم الصكر

                      صورة الغلاف :منحوتة آشورية عرفت باسم اللبوة الجريح

 

 

تقديم

ألم عابر للقارات..

مرت سنوات عجاف وبريد بغداد لا يحمل إلا الموت وأخباره المصبوغة بلون الدم القاني ، والسواد الذي تعرضه جدران بيوتها ولافتات الغياب التي تشكل فضاء شوارعها ، دم وسواد يذكران بما قاله المؤرخون بعد الهجمة المغولية عن نهر دجلة الذي يجري ماؤه آناً بلون أسود هو مداد الكتب الملقاة فيه، وآناً بلون أحمر هو دم الضحايا في أعماقه..وحتى لو كانت تلك إحدى مبالغات التدوين المرتعب مما فعله التتار فإن الأسود والأحمر ظلّا عنوانا وإشارة لبغداد التي دخلت عصر الظلام ، وأُطفئت أنوار لياليها المقمرة بالسرد الشهرزادي والغناء والموسيقى والشعر والعلم ، والثقافة المتمازجة بلا عُقد أو تنافر.

يعود المشهد الدموي المسودّ ثانية ، فتفيض الشاشات بدم وسواد تصنعه كلمات نعي الراحلين بالجملة، وعلى مدار اليوم العراقي الثقيل والطويل المحتشد بالألم.

ولكنْ ثمة  بريد آخر كان يناور ذاكرتي ويقتحم غربتي  ويجعلني ألمس نبض بغداد حياً عبر رسائله ، كلما مددت يدي مجتازة غبار الصندوق وصمته أحيانا.. بريد يحمل كتب الأصدقاء المقيمين في الوطن وأخبارهم ونتاجاتهم،  ويؤجج ذلك الحنين الذي يتكاثر كنبتٍ وحشي على سهول القلب فيؤلمه ويطعمه للمرض والأزمات .

لزمن طويل يتوقف هذا البريد الذي صارت له هيئة الرمز المثير لرغبة الحضور عبر الذاكرة، لأسباب تتصدرها الحرب وتعذّر التواصل..ولكن سيعوض البريد الإلكتروني والهاتف أحيانا ذلك الغياب، ويمسحان عتمة الأسود و رعب الأحمر اللذين يؤطران حروف بغداد الخمسة ذات الرنين الشعري المحفوف بتاريخ بهي من التفتح والإبداع ، يؤهلها لنيله كونها عاصمة الدولة لأكثر من  خمسة قرون .

مؤخرا صار لصندوق البريد وجود خاص ..على خجل وببطء راحت ترد مطبوعات شحيحة، ثم تسارعت  لتجعلني على مقربة من المشهد الذي  كنت أعتز بوجودي زمناً في القلب منه كاتبا ومحررا..وصلت مجلة الثقافة الأجنبية وبصمات سهيل نجم وزملائه على أوراقها ، وأعداد الأديب ومحررها الناقد عباس عبد جاسم ، وأعداد يسيرة من ( الأقلام) تذكرني بعملي فيها وحماستي لحداثتها وتحديثها ،  وإصدارات الأصدقاء: أحمد خلف وطالب عبدالعزيز وجواد الحطاب  وناجح المعموري وليث الصندوق ونصير فليح وناطق خلوصي وإبراهيم الخياط وحسام السراي ، وحميد حسن جعفر ، ورعد فاضل ، وعلي عبدالأمير صالح ، وسلمان داود ،وعالية طالب، وفليحة حسن ،وبشرى البستاني،و عباس السلامي، وعبدالأمير خليل مراد، ومحمد كاظم جواد، وفوزي السعد ،وأمير ناصر ، وشاكر مجيد سيفو  وميسلون هادي ورفاه الامامي .. شعراء من بابل والبصرة  وديالى والموصل والكوت  كلها تجتمع في بغداد حيث قلبها المرتعش بالخوف والحب والجمال ، فتعيد ذلك البهاء الذي يسم الكتابة العراقية ، ويؤكد روحها العنقائية التي لا تكف حتى في أحلك الظروف عسفا  واحتلالا ودموية من تدوين عنائها  والرد على مدبّري موته وصمته ومحاولي قتله أدبيا وجسديا بالكتابة التي تقهر الموت رمزيا ، وتتحداه بأبهى أشكال الحياة.

بريد بغداد عاد ..إنه يمر بعواصم عدة ويتلكأ متعثرا  لكنه في النهاية يصل، إعلانا عن وجود الكلمة التي لم يطفئ وهجها الإحتلال والإرهاب، كما لم يوقفها العسف والكبت من قبل..هكذا  عادت يدي مخضرة كلما امتدت لفراغ الصندوق الممتلئ  فضاؤه بالكلمات النَديّة..صندوق لا يخفي رماد وحشته وغبار نسيانه تلك النار المتأججة في كلمات العراقيين المنبعثة من صحو بغداد وسهرها وألمها.مصرّة على البقاء.ومغالبة أهلها للجراح وسطوع الأمل العصي في حروفهم وأحلامهم وحيواتهم المنيعة على الموت المدبّر. وهذا الكتاب يجمع  بعض ما وصلني من بريد بغداد شعرا و ما ضمت روحها في  بعض المنافي ويعكس صورتها ممثلة بالقصيدة في فضاءات المدن التي لم تجعل بغداديات العراقيين إلا صورة أخرى تزيل وهم الداخل والخارج وامتياز كل منهما أو تميزه،فالروح التي احتوتها الشعرية العراقية وعبر أجيال الكتابة المتنوعة شعرا وسردا ونقدا لا تقيم فاصلا بين داخل وخارج ، ومنفى ووطن. لذا احتفى الكتاب ببعض ما ورد من قصائد الشعراء العراقيين : خطاهم هناك وروحهم معلقة ببغداد ومدن العراق من أخواتها في الشقاء والأمل والحلم..

حاتم الصكر

  • صنعاء- أغسطس 2010
 
 
التنوع والاختلاف-نقد لملف شعر ما بعد الستينيات
بتكليف من  جريدة الأديب حول شعر ما بعد االستينيات في  16-7-2008
1  
كيف أفلح في أن أفك ذاتي عن موضوع مراجعتي لقصائد تنعى ما راح وتندب ما بقي ؟
بل كيف أبصر المشهد وأنا مفردة موجعة فيه ؟ ألمّ شظاياي وأركّب خطاباً بدم بارد  وحياد مهني  لأعاين الفني والموضوعي في لوحة مستعرضة أو شريحة مقتطعة من جسد الشعرية العراقية الكثيفة ،ولكن المثخنة بالألم الذي يفيض فيجرف كالسيل ما يعترضه من لغة وتراكيب وإيقاعات وهيئات خطية ممكنة؟
كثيرا ما شبّهتُ الجسد العراقي بتلك اللبوة الجريحة في الفن الرافديني القديم: السهام تملأ جسدها  الجميل لكنها واقفة تتألم وتصرخ بشدة وكأنها تدّري السهم القادم الذي – وبمقترح شعري عراقي أيضاً تقدم به المتنبي – سوف يتكسر نصله على  النصال الأولى، الجمال والمقاومة والألم كلها تتجسد في تلك اللبوة الجريحة كما سماها الآثاريون ، هي ليست أمامي الآن وأنا أعاين قصائد ( الأديب) المتنضدة للمعاينة ، لكنني أراها بمخيلتي  كوطني البعيد وقد استطال جسمها الجريح حتى تعارضت أبعاده ونسبه التكوينية مع قوانين المنظور في التشكيل المدرسي ، أستعيدها مستنفرا ألمي الخاص بضياع ولدي ، وجرحي المفتوح بألم وطني ككل عراقي يعيش يوميات هذا العراق الجميل والجارح، القاتل والقتيل ، المشتهى والمهاب في لحظة وعي شقي واحدة  يتحسسها من هو( هنا )أو (هناك) ، الألم وفيضان الدم والدموع ألغى المسافات وسخر من ( داخل وخارج  شعريين) تخاصمنا حولهما طويلا  ،قبل الاكتواء باللهب العابر للقارات ، تماما كما حصل لبطل رواية غسان كنفاني ( عائد إلى حيفا) حيث انفتحت الحدود من الداخل وقرّبه  المحتل من بيته  القديم بعد احتلال مدينته التي أُخرج منها .!
لقد صار وجود العراق في الوعي القائم شبيهاً بالصورة التي لخّصها بودلير بالسكين والجرح، وطوّرها درويش إلى المقتول والقاتل ، وأصفها هنا بأنني المقروء والقارئ معا.. فكيف أفلح في أن .. وأفلح في أن .إلى آخر الإحترازات المسبقة التي هي بمثابة اعتذار..؟؟
2- ولكن  ألا تبدو خطة المحررين في( الأديب) طموحة للغاية ، وهم يتوخون عبر تقديم 22 شاعرا أن يلمّوا بأجزاء صورة شاسعة يصطف فيها الشعراء كحرّاس الليل الذين رتبهم فان كوخ في لوحته الشهيرة جلوسا ووقوفا لكي لا يحرم أحدا من الظهور؟ ثم هل يمكن لعدد خاص أن يلمّ بصورة ما بعد الستينيات كما عنونت (الأديب ) على غلاف العدد؟
أذكر – والعراقي كائن ذو ذاكرة  بل أكثر الكائنات الباقية اشتغالا على ذاكرته-  و بها – أن عدد مجلة الكلمة( أيلول 74) صدر خاصا بشعر ما بعد الستينيات ،وكتبتُ مقدمته التي ظهرت –وهذه من عجائب الثقافة العراقية ومفارقاتها- بتوقيع المجلة ، فأعدتُ نشرها في كتابي ( مواجهات الصوت القادم) بغداد 1986 ، ص23-29 بعنوان تقديم  المجلة نفسه، التواصل والانقطاع.وحينها لم يتوقف الجدل حول مسألة الأجيال وإمكان الحديث عن موجات شعرية تلامس شاطئ الشعر بمذاق آخر، يتيح- ويبيح- تسميتها وإعطاءها علامة فارقة عما قبلها ، كنت من المؤيدين لفكرة الأجيال الشعرية  والاحتكام إليها لمعاينة تبدلات الشعرية وتلاوينها وحساسياتها الممكنة من النصوص لا التفوهات الحماسية و التلفظات والتصريحات  ، وأحيانا البيانات الموسومة بإلغاء السابق وتكريس القائم في ما يشبه لعبة الكراسي التي لا مكان فيها إلا لواحد محتمل بجانب الجالسين !!
كانت مبرراتي تاريخية تستدعي أجيالا في الشعر العربي فارقت سابقاتها ، وستراتيجية تحتكم إلى التبدلات الحاصلة في الثقافة والمرجعيات المؤثرة والرؤية وتراكمات الكد النصي والمحصول الحداثي الذي يجني ثماره شعراء ما بعد الستينيات ويظهر في شعرهم ، ومهادنة التلقي ومؤسساته للتحديث والانفتاح المعرفي والفني ، وتكتيكيا كنت أرى ذريعة مضافة إذ يمكن بتجزئة المشهد جيليا أن نلمَّ به بدقة نظرا لضخامته، كما ظل الباب مفتوحا للتداخلات الصوتية،: ستيني يلحق بالسبعينيين وسبعيني نسي خطاه وظل في أسر الخمسينيات –وهذا بالمناسبة ما سنراه في نصوص عدد( الأديب )الماثل للقراءة. ولقد وسّعت ذرائعي بالتذكير بأن ذلك التقسيم الجيلي حصل في أدب شعوب أخرى وشعرها خاصة.
3- لكن ذلك الاعتراف لم يمنع المقدمة من الاستنتاج الاستقرائي بأن قصيدة النثر (طاغية) على الخطاب الشعري العراقي ،( تليها قصيدة التفعيلة بدرجة أقل فاعلية) ، وتوصلت المقدمة إلى وجود قصيدة النص نوعا ثالثا في الترتيب وهي نسق ( لها مركز وليس لها نهاية) ، وإذ أتحرز على الترتيب والوصف –بصدد التفعيلة والنص خاصة وتحديد الأخيرة زئبقيا دون ملموسية وبعجالة لافتةٍ- فإنني لا أستطيع أن أمنع نفسي مشاركة القارئ في التساؤل عن تحديد الستينيات خطا تليه أو تسبقه موجات شعرية وهو ما لم يُجب عليه النقد الشعري العراقي بشكل مقنع رغم ما كتبه الستينيون أنفسهم من كتب وأدبيات ،اتسم بعضها بتضخيم الذات وإلغاء الآخر وسيادة ما أسمّيه عقدة كولومبس أي الاكتشاف الذاتي المُلغي لإنجاز الآخر وإسهاماته التي تحددها السياقات المؤطّرة للكتابة زمنيا و المتحصلة من تراكم النصوص والوعي بالمشغّلات الفاعلة في التجربة الشعرية .لكن الستينيات المستدعاة هنا من ذاكرة الشعرية العراقية هي مناخ عام ونقطة تحول ، صار فيها للتجارب الشكلية مدى أوسع واتسمت بالانفتاح على قصيدة النثر كمقترح لتطوير أفق التجديد الذي جاءت به قصيدة الرواد (الحرة) في الأربعينيات –ربيع الشعر العراقي والعربي- وطوّرها الخمسينيون ببطء فترك سعدي يوسف ويوسف الصائغ خاصة بصمات مشجّعة على الإيغال في التحديث، وسمحتْ بإطلالة على الأفق الممتد عربيا عبر مقترح قصيدة النثر، أو تخفيف إيقاع القصيدة الجديدة والانتقال بها حتى في مجالها الوزني إلى مدى أقل غنائية ومباشرة.
ولكن السؤال يظل قائما–وسط فسيفساء الشعر العراقي ولوحته الواسعة وتعايش أجياله بخصوصية لافتة –عن إمكان الحديث عن –أو تقديم- مشهد متكامل لما بعد الستينيات كان بسبب القرب الزمني ممكنا مع عدد الكلمة السبعيني الذي كان له بمصادفة فريدة عنوان  عدد (الأديب) نفسه، بمعنى كيف يمكن الحديث عن نص لنبيل ياسين وطالب عبدالعزيز وريم كبة مثلا في مناسبة نقدية واحدة وهم آتون من مناخات وحساسيات متباينة ،  للجيل فيها أثر واضح رغم اندراجهم تحت مسمى ما بعد الستينيات؟
4- تلك المقدمات عتبات ضرورية تحف بالقراءة وتؤطرها ولا تنفك عن المساءلة النقدية الضمنية للنصوص المنشورة ، فهي سياقات تأتي النصوص المنشورة  داخلها كعيّنات ، تساعد على فهمها وتحليلها ،ويمكن لنا أن نرصد حركة الوزنيين كما أسمّيهم ممن ظلوا على حافة القبول بالنثر والتردد في اختياره ، لأن أصواتهم تكيفت على وفق ما في الوزنية المطوَّرة من أفق غنائي يناسب الحس الرثائي المتميز في شعر نبيل ياسين ونصّه المحتشد بالأسئلة كنايةً عن المتاهة التي دخلها العراقي وعاشها مُكرها، فظلت له هِبة أو فضيلة السؤال .و نص نبيل( دعوني أعبر هذا العالم) رغم كتابته قبل سنوات  هو أقرب النماذج إلى مناخ الستينيات حيث الذات محور السؤال والبحث عن الكينونة كما تجسد في شعر فاضل العزاوي  الوزني وقصائد شهيرة له مثل ها أنذا أصرخ في الجزيرة العربية وقضية هاملت وغيرها،  ولعل نبيل مندرج جيليا في المناخ ذاته ، وقد قوي التصنيف بتفحص نموذجه المختار الذي أعده استباقا لما جرى ووقفتْ عنده نصوص زملائه في العدد الخاص.
يبدأ النص من النفس بدافعيةٍ سقراطيةٍ واضحة مطوُّرة لنداء الكون المتجدد: إعرف نفسك ، فتصبح الجملة الشعرية:
دعني أسأل النفس الشقية في وداعتها  /من أنت؟
سؤال تصغر عنه القصائد ولكن تتسع من أجله الرؤية ، فيذكّرنا نبيل بنص أثير له في الشعر العراقي هو( الأخوة ياسين) معيدا مخاطبة نفسه : يانبيل! ليقرب السؤال من الذات الحاضرة بشدة في النص ( من أنا)و( ماذا تبقى)( ماذا حلّ بالماء) فتتسع دوائر السؤال كالموجات المائية تلوَ بعضِها ، فالمكان العراقي مستدعى هنا بإطاره الزمني –لا يستعيد العراقي الأمكنة إلا برنينها الزمني – أي إسقاط الماضي عليها وهو في الحالة العراقية ماض مكرس لحضارات مدوّية في وقعها على الذاكرة البشرية ومنجزها الروحي الباهر.ويكمل ذلك مكان جديد ( كدهليز ببابل أو زقاق في الرصافة) ولكن صيغ النفي تؤكد منحىً مضمونيا آخر،  فالذي ظل من ذلك كله شيء ( مثل أطلال) والنتيجة( لا زمنٌ تبقّى في يدي)والمكان سيتباعد كلما أوهمتنا القصيدة انه دنا عبر شبقية صورية ونوستالجيا مستدقة تستحضره بأدق زواياه وأرقّها سيعز المكان ( مثل سحابة- ويغيب في أفق بعيد) ومن هنا تتوسع دائرة الذات أو الأنا التي بدأت بها القصيدة أسئلتها الصارخة المعززة بالوزن لتشمل الجماعة بخطاب واضح:
يا سلالة إخوتي: قومي إلى عصر جديد
هم الآن مخاطبون أوسع من الأخوة الذين ضاقت بهم الدائرة في ( الأخوة ياسين) وتكتلوا كعراقيين أبصرنا  كيف كانت قيامتهم من بعد ..
والحديث عما تبقى وترادف الأسئلة وتتابعها سنجدها في نص كاظم الحجاج المعروف بتميزه عبر ما أسميه المفاكهة والمعابثة المبطنة بالألم والسخرية السوداء بالمصطلح الدرامي . ونصه يشي منذ العتبة العنوانية (صلاة على ما تبقى) بالخطاب الرثائي ، وكاظم يخطف ميزتي القرب المكاني –البصرة – والزمني-نصه مؤرخ في آذار 2008- ويستثمرهما في رؤية مكروسكوبية جدا لمكان يتداعى كموتيفات أو لقطات كاميرا سريعة ، لذا كان  مناسبا جدا استخدامه التدوير –اتصال البيت سطريا واستطالة الجملة الشعرية– فبنى بذلك نصا يقوم على تذكر واستعراض ما تبقى ليصلي عليه بما تحمله الصلاة من دلالات الموت:
    البيوت –- سوق الهنود – الجسور التي تحتها الماء يخضر- جسر العبيد- الشناشيل
سنلمح في مدوّرته ظلالا من لوركا وأغانيه الخضراء ، ومن سعدي في مزج الحال بالموصوف وإضفاء اللون ملازما للشيء كنكهة خاصة ، لكن تفرّد الحجّاج يأتي من حسّ السخرية الذي يجعله يرى في الأشياء ما لا يراه سواه ، وهو يتفقد ما تبقّى ليصلّي عليه معلنا موته في زمنية واضحة ،إذ بعد تثبيت الأمكنة يدخل الشخوص عبر التذكرات:
كنا خجولين نحن البنين –والبنات الجسورات يضحكن..
الإنسان يكمل مشهد المكان المصوَّر المستعاد والمرثي بهدوء يغش القارئ. فالنص محتدم ومتوتر لكنه عبر التفكّه والسخرية واقتناص النادرة والدعابة يهبنا مظهرا آخر ،علينا أن نحفر في مفرداته لنصل إلى عمقه.
إنه يشترك مع نص نبيل ياسين بالسؤال ( أين الخوارج) لكنه يجيب بالروح الدعابية ذاتها( صاروا دواخل) ،( أين النوارس) ( حلّ الغراب المدينة) ،( أين المدينة) (ذابت قرىً غزتها العشائر)ولكن قراءة مضمونية منفردة ستخطئ مرمى نص الحجاج لذا نلتفت إلى تقنياته : مزج النثر مقوسا بالشعر الموزون: زيارة يخت الملكة عالية للبصرة ،وساعة سورين التي  لم يعجب اسمها قوميو المحافظة في الزمن المر –إيراد حقائق وأخبار عن المدينة وناسها- واستخدام التداعي السينمائي بتوظيف الفاصلة الخطّية بين المتداعيات لتحقيق الغرض الإيقاعي والدلالي-الشعوري من التدوير، فكأنه  يدور مكانيا مع جزئيات البصرة متعامدة أو متقاطعة مع تداعيات الزمن الذي عاشه صغيرا ،ثم شابا ، وإسقاط هذين المحورين على الواقع حيث يقيم الصلاة:
لأجل الزهور التي أخطأتها البساطيل  يراها الحفاة
هكذا يلخص الشعر المسألة كلها ببلاغة: الطغاة والغزاة والغلاة هؤلاء الذين أكلوا أيام كاظم وذكرياته  ،وأكلوا أكبادنا وفلذاتها بلا معنى سوى شهية الموت ، كما يمنعون سركيس من عرقه ، والنساء من نذورهن ، والصغار من فرحهم ،والشعراء من شعرهم.
تصبح البيوت –الشناشيل لازمة لمقاطع القصيدة المقسمة بفاصل نثري استطرادي عن المدينة و شواخصها وشخوصها وأحوالها.
هل صار الحجاج شاعرا محليا بألمه وذاكرته وسخرياته ، بصراه عالمه وعالمه بصراه؟ يؤاخي التمر بالشفاه والطلع بالأسنان والنخلة بالمرأة والبصرة بالدنيا ؟ فليكن  فهكذا يصعد الشعراء إلى العالم من أدق أمكنته، وأقربها لقلوبهم الجريحة
5- من الوزن أيضا يختار العدد نموذج عدنان الصائغ السبعيني بامتياز والثمانيني أحيانا بمقياس الحروب ووقائعها في الضمير والتقويم العراقي: الألم نفسه مختصراً ب(نصوص النأي والناي).. هكذا يلاعب الصائغ اللغة ويخلق من انزياحاتها  صورا وجملا مؤثرة ، البعد والغناء معا ، وهو وصف اختزالي موفق لموقف القصيدة وأفقها ، ما يساعد التلقي ليكوّن أفقه عبر هذين الخطين، من هنا كان الوزن أيضا –لا النثر الذي يكتب الصائغ قصيدته  به من حين لحين-هو الوسيلة الممكنة بل الأليق بأفق القراءة ، نأي وناي ،لذا وجب علينا مراعاة محارق التقفية ورنينها الموسيقي المصاحب للندب، وكذلك الإيقاع الموقع المتكرر كجو مؤطر للملفوظ النصي.
تتركز أنا الشاعر بقوة يحسد عليها حقا –هو وجيله –، فها هو يقترح صورة جديدة أو قصة أخرى للتكوين ، كيف صار العراق وانخلق بين أصابع الرب وتنزّل إلينا بجماله وعنفه وقسوته وعذوبته؟ بعد أن انتهى الرب من خلق التراب ومنه الطغاة والحروب.. النبات والمياه والحظوظ!! تقول القصيدة بعد الاستطراد:
اعتصرت روحَه (=الرب)غصةٌ
فكان العراق !
لماذا كربت روح الخالق ؟ حزنا على ما سيأتي من أيام دون شك.
القصائد القصيرة تلفت النظر فهي جزء من إيقاع الجيل الزاهد بالمطولات رغم أن لعدنان قصيدة طويلة هي نشيد أوروك1996 ، لكن هذه القصائد تعكس مناخ الثمانينيات الكابوسي ومقدماته الشؤمية بالضرورة، وعدنان قناص صور وأليغورات وحبكات لا يرسلها بسخرية الحجاج ولا توتر نبيل ياسين بل بهذه الموسيقى التي يترجمها الناي عنوانا.
العراق( المرتعد) و( المبتعد) يخبئ طلقة من فوهة متخيلة دوما تأتي مع رنين اسمه وتاريخه (نصف تاريخه أغانٍ –ونصفه طغاة)وتلك هي لب المسألة التي تجعل النأي والناي متلازمين في نصوص الصائغ ، وكذا الغربة والعراق ،والمرأة والغربة ، والمرأة والقصيدة ، والقصيدة والغربة…
لكن الغربة لا تترك ظلالا على خطاب الصائغ ، بل نرى ذلك في نص شوقي عبدالأمير الصادم ببرودته المقترضة من النثر  ، ومن فهم خاطئ لمكانة النثر في قصيدة النثر، هنا نلتقي بتناصات منكشفة في القصيدة الأولى التي وصفتُها بالحجرية  ، لأنها متسعة عن أمنية الشاعر القديم ( ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر) التي اختارها ا أدونيس في (ديوان الشعر العربي)  فأعادها إلى ذاكرة القراءة  ، وأفاد منها شعراء كثيرون ليس آخرهم محمود درويش( ليت الفتى حجر –يا ليتني حجر)هنا  عند شوقي كل شيء حجر: الحلم واليوم( أربعة وعشرون حجرا)لكن التحوير حاصل عبر الأمنية الأخيرة لشوقي:
كم أحلم بكتابة حجر/ يُلقى / أني أقذف حجرا / يتلقاه سيل
وفي نص قصير آخر من نصوص( الصمت الممتنع)- عنوانا معدلا و تناصا عائما  مع السهل الممتنع! – سنقرأ في( ليل): لسنا متساوين أمام الليل
ولقد قرأت للشاعر الأمريكي الأسود إيوجين ميلرعبارة نقيضة: في الليل كلنا شعراء سود.
الغرض هنا يقود إلى صورة التساوي التي يريدها هذا الشاعر ، بينما تغدو الصورة مقلوبة تبعا لقوة المركز الذاتي والتمحور حول الأنا المتضخمة في نص  شوقي ، فالليل ليس واحدا هنا ،  وبعبارة ركيكة الصياغة: أمام الليل، بينما تستطيع الظرفية ( في ) أن تقدم صورة داخلية أعمق لما يحتويه الليل من أجساد وأفكار، لكنه يفاجئنا بصورة ليلية خلابة  لن تسقط من الذاكرة:
لا وسادة للّيل/هذا الذي ينام فينا كلما نستيقظ
النثر هنا صياغة أوربية وتلك ملاحظتي على ما قرأت من شعر لشوقي عبد الأمير تتكرر فيه مفردات الأبدية والكلوروفيل و فوسفور الكوكب  ، حتى التراكيب  المبنية بتراتب مترجمٍ مثل: فوق بقعة من دم /تظل واقفة /ذراع الصياد.أو مثل:
الشاهد الوحيد  الذي يرى / ويمضي فقط/ هذه الغيوم
ولعل للتنضيد البنائي  حقاً في القراءة ، يجدر بالشاعر أن يعيه ليحقق التواصل.
 
6- تنقلنا ريم كبة إلى أجواء أخرى تماما تجعلنا نعيد التساؤل حول جدوى جمع هذه النماذج تحت لافتة قراءة واحدة، فريم تأتي بهيجانات اللغة وسيول المفردات وعنف الصور ما يناسب الموسيقية العالية في شعرها ، وهي أيضا تكتب ( قصائد) قصيرة بحجم الصرخات الصادرة عن وجع حقيقي صادق لكنه لا يعلو عن تراب الواقعة ويمسّها بعصا الشعر لتغدو واقعات شعرية أولا:من التقرير تبدأ ( بلد الجنائز يا عراق) لتقرير حقائق التاريخ المجيد ! بل بغنائية زاعقة تحاول التفكه  تقول: بغداد يا بلد الرشيد ، وبدل منارة المجد التليد ستقول:قصفوا المنارة/ واغتالوا حلمك الآتي./ومجدا قد يعود، وحسنا فعلت إذ استخدمت التقليل (قد) لأنها بتفاؤلها هذا نسفت روح الحزن النبيل الذي يشع في نصوص أخرى قرأتها لها. أما الانسياق للتقفية فهو موروث ريادي من زمن القصيدة الحرة ، وهي تستعيده بقولها بعد جملة( كأنا قرادٌ يموت): أشلاء سيارة / كان فيها قُبيل ثوان / أب أو ..بيوت.
ولا أفهم كيف يكون ذلك على مستوى التخييل ( الأب والبيوت في السيارة !) فداء لعيني القافية الأثيرة  عند ريم !ولكن كيف نعلل المباشرة في نص مكتوب في الألفية الثالثة يجترّ سياسيات نزار المدغدغة للمشاعر وخطابيات أحمد مطر الشعبوية المغازلة للتلقي الجمعي  = الشفاهي :
          لمن وضد من؟ /   نسجل البلاغ عن حروبنا / هل ضد مجهول / أم ضد مسؤول/ أم  ضد مخبول.
وسيكون بعض تلك الملاحظات شاملا نص الصديق جبار الكواز (أسلاك شائكة) المدور في معظمه والمحتكم إلى تصميم بصري طيب في تنضيد جمله الشعرية بتوازٍ وتقاطع، يشوش التلقي اتساقا مع غرض النص وأسلاكه التي يفصح عنها العنوان ، ولكنني سأتهم بالتحيز للنثر إن قلت إن للوزنية –حتى الجديدة منها  والتي تصدرت النص وفارقته وعادت إليه في مواضع عدة– جنايات على النص والمخيلة-ذلك لا يعني التبرؤ من جنايات النثر كما سنرى لاحقا في هذه القراءة، ولكن كان بالإمكان إنقاذ كثير من نقاط البريق الشعري في نص الكواز ، أرجو ألا أكون قد قمت بقراءة فوقية تطل لترشد كيف يجب أن يكتب النص،  فهذا ليس من مهمتي قارئا للنص ومستعينا بمنهجيات التلقي ، لكنني أقترح الممكن ، فالأسود مثلا هو ما يليق فعلا بوصف نص الكواز ذي الحساسية اللونية الواضحة ، وهذا مؤشر جديد لتلاقي الفنون في النص الحديث أولا-وهذا ما لمسناه في خضرة الحجاج وبياضاته- ولمعرفة الشاعر الحديث وثقافته المتوسعة عن الشعر أو الانحصار في ثقافته ثانيا.
لا شك أن الكواز يوسّع التناص مستفيدا من الرنين الدلالي لتسمية العراق ( أرض السواد) ( كل سواد يمر بياض) يقول الكواز مكتشفا في السواد ألوانا شتى مضافة أو مشتقة منه، أنبه إلى أن العرب يسمون الأسود اخضر والعكس – يقول الكواز:
في السواد ألوان شتى/ لم يعد الدم أحمر ولا البحر/أزرق ولا الكفن أبيض
كما ينهي باحتفالية لونية تتدرج تصاعديا وتدور لتختم بالأسود .من هنا جاء اقتراحي أن يكون السواد عنوانا للنص ، قد تشكو الجمل الشعرية والصور استطرادات وإغراءات بالتطويل والتداعي ما غيّب  الملموسية والتحقق عن النص  في بعض مناطقه  ،ولكن ما قرأت هنا للكواز يشي بتطوير منظوره وخطابه ونضجه قياسا لأشعاره منذ السبعينيات وما بعدها.
7- مع نص سلمان داود محمد يبرز النص المشاكس الذي يتحدى مقدرة -ومعرفة؟- المتلقي ، ويستعرض حداثته بشكل تجاوزي لافت يذكّر بمغامرات الشكل في دواوين الستينيين التي ولدت صدمة على مستوى التلقي كانت ضرورية ليفيق من تقاليد القراءة النمطية السابقة ،ويعدّل منظوره وأفقه مع حركة النص الجديد وآلياته، فحتى في تقديم نفسه يخبئ سلمان مناكدة طريفة للقارئ: إنه يعرض سيرته الموجزة بشكل فهرس له موضوعات وصفحاته كلها تندرج تحت (بلا) ، فهي فراغ فاغر ودلالة بليغة على الإحساس باللاجدوى وتوجيه للقارئ صوب تلك الدلالات التي نأمل قبل القراءة أن ينتجها النص بملفوظه لا بموجهاته التي لها  ثقل في التلقي دون شك.
العنوان يسهم في تلك البلبلة الدلالية المتعمدة فيضع النص خارج الزمن ( الثلاثين من فبراير) هو تاريخ لا وجود له وناسه هم كائنات خارج التاريخ : محتملون،  وغير ممكنين ، متجذّرون ومهددون بالاقتلاع ، ويكفي أن نطالع صورهم وأشياءهم الهشة: شبكات بلا توصيل  ، والماء بدجلة  متشاطئ مع مبولة الكومانوز مما يورث العسرة بدم الشهداء، فواجع ومواجع كلها قيد الحصر والتسجيل ، لكنها تدع للشاعر مناسبة للتنكيت الذي هو من صنف التبكيت: التكنو..ضرا..، وآلهة تتحوسم في مصرف الدم وسواها من التقاطات تفتح شهية النص لأية فرصة ممكنة ،ولكن تلك عادات النص الجديد وممكناته ، أن ينفتح على القول بلا حدود سوى سياقه ذاته ، وخطابه الغرائبي في حالة سلمان داود الذي اقتنص لنفسه صورة فريدة أزعم أنها وحدها تكفي للإفصاح عن شاعريته في أعلى درجات اشتغالها النصي:
غير أني عديم اللمس ك (لاشيء)
مخلص في اعتقال الذكريات كألبوم صور
لعل هذه الصورة المشتغلة فوق النص واصفة عمل الشاعر ذات دلالة أشد بلاغة من مناطق أغلق النص فيها على نفسه بالشعبويات والرؤى الصادمة كل باب للتأويل، وأفلحت في جر المتلقي إلى مغطس النص ليغرق  عنوانا لنص،وأحد النصوص يمزج كلمتين فتغدوان كلمة (بلا) بلُعب  مثل  واحدة(سيفوعراقيا)..وهذا إيغال في المشاكسة التي صارت لافتة لشعر جيل سلمان وله خاصة في ما قرأت من أشعاره، كما تدل قصائده القصيرة أيضا على ما ندعوه دفاعا عن التحديث بثقافة النص التي أزعم أنها من مظاهر عافية الكتابة العراقية الحديثة شعرا وسردا ، حيث سمات المثقف في السرد وإحاطة الشخصية بشؤون عصره وفنونه وآدابه ، بجانب ثقافة النص الشعري المتمظهرة في اقتراضه مما يجاور الشعر من فنون ومن إطلالة على التاريخ والثقافات و الاستعانات الممكنة الأخرى.
ويقدم لنا نص طالب عبدالعزيز مناخا آخر ، إذ  يتغذى النص من التاريخ بما أنه وقائع ذات دلالات سيميولوجية وثقافية مؤثرة ، وليس تسلسلا متعاقبا لأحداث أو مفاخر ومآثر جوفاء، يصبح والحال هذه لرنين التاريخ إيقاع عذب  ، كما هو شأن طالب في قصائد كثيرة أفلح في  أن يضع عليها خاتمه الخاص وختم مدينته الأخص، هنا عودة  منه للجاحظ ورثائية لأصابع كتّاب تركوا نورا خلف قناديل حياتهم المطفأة بالموت، وتذكُّر للمستنصر، وتصوير دجلة بشاعرية حسية دقيقة:
ودجلة يصهل عاليا
مثل مهر من خضاب
كما لو أنه يحتج على الجسورالطويلة
نثر طالب هادئ متوازن الإيقاع منطقي وذهني ، لكن الصور المؤطرة بالتاريخ وجوهر حركته المحسوسة في الآن تخلق هذه الحميمية التي ميزته وأخرجته أسلوبيا من عنق زجاجة التجييل ، كونه ممتدا عبر تصنيفات عديدة ممكنة.
تؤازر شعرية قصائد طالب لغة تقطف من أكثر من حقل دون تردد: رعوية في مفردات العشب والبقرات والنخيل والتمر والعذوق وتنويعاتها ، والأشرعة والإوز والصيادين والشواطئ  والسفن وربابنتها ومرادفاتها الصورية.حتى لنسمع كما يقول( اصطفاق الزمن بالأشياء) فالزمن هو الذي يحرك مخيلة طالب ويحدد علاقته بالمكان ، ويفرض هذا الانسياب العذب والتلقائي في استرسالاته وتداعياته التاريخية المسقطة على الحاضر ، والمعتمدة ثنائيات دأب طالب على تقوية دم نصه بها ، ونبذ شحوب النثر بمفارقاتها الحادة ، وأبرزها ثنائية المهمشين والسادة أو الحكام الظَّلمة التي لا يبخل تاريخنا العربي ناصع الدسيسة بإمداده بالمزيد منها !
8- ويمكن قراءة  نصّي حميد قاسم وأحمد عبدالحسين  من منظور مشابه كونهما يتوفران على وعي خاص بدور النثر في القصيدة ، وإمكان استغلال السرد لتثبيت ما يتسرب بالمجافاة للغنائية والإيقاع الزاعق ، وهذا يؤكد حِرفية وتجربة تنقص البعض، عبر(كآبة بغداد)ينجز حميد قاسم رؤية دراماتيكية بامتياز تلم كسرا من زمن  بغداد الراهن المندلق على المكان يلونه بتلاوينه الدموية لكنه يستخدم السرد بمهارة لافتة ويجرد من بغداد أنثى ممتنعة ، فيصل إلى سكب آلامه عبرها ..يكرس الشعراء العراقيون اليوم ضربا جديدا من رثاء المدن لا كما بكاها الأندلسيون والمورسيكيون بنوستالجيا مفرغة إلا من بكائيات الذات الحزينة ولكن عصريا بهذه الدراسة التي –كما يفعل الرسام قبل تنفيذ عمله –يعدلها  الشاعر ويعاينها ليختار أشدها أثرا في التلقي لأنه هو نفسه في موضع المتلقي لكآبة مدينة إذ يغادرها تظل أصابعه في سريره الأول  في غرفة(ها (لذا يرفض مناداته غريبا من غرباء استباحوها ، معيدا مسألة الخارج والداخل والأقرب أو الأبعد عن(ها )من سواه:
عليَّ أن أقف بعيدا  عنك /
/     وأنت تستيقظين
على سخام شوارعك
تلملمين جثث أبنائك ودماءهم
لا أملك أن أفعل لك شيئا
أنا الوحيد الأعزل والحزين كذلك
ليس الشاعر كما في الخطابات المتنفجة البالية مبعوث عناية آلهية يجيء فينقذ المدينة من أشرارها وسواهم  ،بل هو معترف بضعفه لذا ينهي القصيدة بالسؤال المفتوح : ماذا أفعل؟
ويشاركه أحمد عبدالحسين في استثمار السرد في ( ثلاث قصائد) تتبسط نصوصها مع القارئ ، حتى لتبدأ إحداها سرديا بعبارة مولدة لسيل من التداعيات( و بعد / ماذا سيقال..) إنها الأسئلة ثانيةً   ذات الفخاخ والإجابات المخبأة في الوعي المدبِّر لمكائد الشعر ، فحيث يتساءل الشاعر يقدم نصه إجابات بليغة أخرى ، ليس أبلغ منها سؤال السكران :ما الروح ؟ وروح من؟ ثم سقطت منه الإجابة عند يقظته ولم يعرف ماذا أراد، وفي ( كربلاء الوقت) يستدعي بالضرورة ما يحف بالمدينة من رنين مأساوي، وغنى رمزي ،وحمولة دلالية تغذيها الميثولوجيا التي لا يجدر بالنص الجديد مجافاتها وسط انشغالاته بالواقع واحتراقاته بالراهن ..لكن القصيدة زمنية المحور والمركز المولّد الذي ينتشر ويعود في حركة رخوية مع أطراف النص وأقاصيه ، الوقت متضايفا مع كربلاء سيجعل التحيين – أو التزمين بالمصطلح المرحّل من السرد- هو بؤرة النص:
فالآن فوات الآن
و …أنا في فوات الأوان
وإذ يحسب أنه يمكر بالوقت يكتشف أنه ممكور به! ومكذوب عليه! كما يقتلنا –الوقت- إذ نحسب أننا نقتله ، يلدغنا بعقاربه- ليس عبثا تسمية القارض الزمني في متن الساعة بالعقرب؟!
الذات حاضرة في توجيه السرد لا بهيمنة السارد الأول (الأنا) وضمائره النحوية الممكنة ، بل أيضا في استرجاع جريرة الوقت أو الأوان ، فتظل له كتعلّة تلك الكربلاء الخاصة به و التي لا تنتهي كما في الوقائع الدموية المتوارثة:
انها كمثل ياقوتة اليأس تجدد نفسها كل آن.       لي كربلائي ..وكربلائي لا تنقصني
يتمرد النص الجديد على الصورة النمطية المجترة لكربلاء في الشعر العربي ، ويفجر من وجودها يوتوبيا حميمة لا تهزمها معارك ولا تفنيها مَقاتل أو نكبات..ولعل ذلك اليقين فاض على هيئة النص الخطّية فكان النثر هادئا لا لجاجة فيه ولا استعراض ..حتى وهو يصبغ الزهرة بالسواد وينعى أزمنة وأمكنة عزيزة عليه..تركته أرمل  اللحظة ..يتيم الأزمنة يحتاج أربابا بقدر خطاياه..صورة معبرة لإنسان عصري يتعذب كالآلهة القدامى في الأساطير.
وتندرج قصيدة الواسطي العتيد الصديق حميد حسن جعفر في هذا الخطاب المتخذ النثر ابتعادا عن الهيجانات العاطفية التي تحجب الرؤية بدل توصيلها . ونصه( أصابع القول) يستثمر التزمين أيضا فيكتب شتائية سيكون على القارئ وهو يتلقاها أن يتمثل تلك الكِسَر المهرَّبة من ذاكرة الشتاء ،وهي مهمة سياقية عليه أن ينجزها ليتواصل مع النص ويتصل به ويتلقاه كما ينبغي، هنا ستكمن المفارقة ( التي نوّه بها من قبل عبدالواحد لؤلؤة وهو يترجم في سونيتة لشكسبير بيته: كيف أشبهك بيوم صيف!مقارنا ذلك بالسياق الصيفي العراقي وآب اللهاب كما يسمّيه العراقيون)، فنحن نقرأ نص حميد في تموز العراقي وذرى القيظ الذي لا تنعش به ذاكرة بشتوية مكتوبة في كانون الثاني! ولكن تجاوزا  منا لافتراضات سياقية خارجية سنبصر في النص تثبيتا رائعا منذ مفتتحه الذي أحيل القارئ إليه ليرى كيف تتسلسل القناعة بمقدرة الشاعر على ( صناعة النهار وسط العتمة والجهل وتساقط حراشف البرية) ، هنا تتآزر المخيلة والذاكرة في عمل فريد لإنجاز صورة وتوليد دلالة ، فيغدو مناخ النص كله شتويا حتى ماء الحبيبة المناداة كماء المطر الذي  يؤطره الشاعر بمستطيل يقطع استرسال النص ، وينبه المتلقي إلى إشاراته ، وهذه إحدى لعب الحداثة ذات الجدوى في إعادة هيبة الهيئة الخطّية للنص وتشكّله أو تنضيده السطري ليساعد في التوصيل ونقل الأثر، وتغريب الشكل عما ألفه القارئ الذي سيشم روائح شتاء مختلف يدبره الشاعر مرتكزا على طبيعة خاصة وتكرار محسوب ضمن المستطيلات الاعتراضية التي تتخلل النص والتي تتصدرها مفردات في مطلع كل مستطيل هي بالتتابع( السحاب-العتمة- الريح -المطر- اللقالق-الشتاء – الهواء-آخر الشتاء..) لكن الطبيعة المستوحاة هنا لا علاقة لها بالمشغّلات الرومانسية فهي مُسقطة على يوميات العلاقة بالمرأة التي ستصبح الأصابع دليلا على ماله عليها من ماض،  يسأل حقوقه  واستحقاقاته ، ويستدير الخطاب إليها في غنائية عذبة تنعش النص وتهبه هذه الخفة التي تحمله منساباً بنثر موظّف لتفجير شعرية  ذات نكهة مميزة تعوض تلك الإيقاعات المتصادية المحذوفة من برنامج النص وستراتيجية الخطاب:
أصابعي ..التي صنعت نسيانها لتغفر ذنوبك…أو لتكوني المرأة..
التكنولوجيا والتقنيات سوف 9- تتسلل للقصائد لا عبر النصوص التفاعلية والعالم الرقمي الذي يراد لحداثتنا الناشئة أن تغوص في عمائه ،ولكن كما صنع السرديون والسرديات من البريد الإلكتروني، والرسائل النصية القصيرة في الهواتف وسائل وحيلا للحكي هاهي دنيا ميخائيل تتحدث عن رسائل الحبيب في نصّها  ( بريدك الإلكتروني ) مصورة الفرح برؤية لمعان الرسائل والوحشة من غيابها وما يعم العالم كله إذ تتسلم عيناها حروف ( الإيميل):
عندما ترد على الإيميل
كل الكواكب تأتي إليّ
حتى بلوتو يلتحق
دودة القز تعلن نفسها فراشة
إنها تطور الفضاء والأثير التي تنتقل عبره الرسالة  ليخدم تلهفات وتشوقات غزلية تقليدية، التقنية إذن موظفة هنا –والنثر كوسيلة تجاوز-لاجترار عواطف عادية  ومشاعر مباشرة ، فهذا الذي صنعته كلمات الإيميل هو ما تصنعه رسائل الحب العادية ، فلا استثمار إذن لغرائبية الوسائط الجديدة . وربما أحست دنيا –وهي ذات تجارب طيبة ضمن الشعر النسوي العراقي -بضعف النص وهشاشة صوره ، فراحت تقحم العراق الجريح وعشتاره التي مسحها التداول الشعري لتشاركها الانتظار، لكن النص الثاني لها (في العراق بعد 1001 سنة) ينجح في خلق التأثير الشعوري وروح المشاركة في المتلقي عبر التناص مع ألف ليلة وليلة وسردها الطويل كملحمة عجائبية توازي ما سيحصل في العراق وما تتوقعه الشاعرة كأمنيات بعيدة ، تبهرنا بساطتها ويصدمنا تأجيلها تلك الأعوام كلها كقدر أصاب العراق العراقيين:
في العراق/
بعد ألف سنة وسنة
شخص سيتحدث إلى شخص آخر
أسواق ستكون مفتوحة لزبائن عاديين
شابات ستتمشى
في الشوارع
ولا أحد يختطفهن..
هذا النص مثال جيد على اقتناص لقطة تولّد ما لا ينتهي من الصور الشعرية .أي أن دنيا بإمكانها الاسترسال لتسجل أضعاف ما ذكرته عبر مفارقة بساطة الأماني وتأجيل تحققها كل تلك الأعوام ..
وكأن إبراهيم الخياط عثر على ذلك أيضا، فكتب في نصّه( بعد ألفين) جملا شعرية برقية أو هايكوات متناثرة مستقلة عن بعضها ، تؤرخ لما يتوقع من بقايا وآلام .أي أنه يقلب بحزن صاف ومتهكم ما سيصير إليه الأمر من خلال خساراته:
بعد ألفي خريف
لا أملك من وسائل الإيضاح
غير دمي
وهكذا يسير النص بخطة منضبطة تبدأ بإضافة الألفين إلى مضاف إليه مما تيسره الحياة ثم تنتهي بسطر يبين ما سيظل – وهو خسائر وجراح وفراغات لا يملؤها شيء – وهذا التكرار المقصود دليل على أن النثر في القصيدة لا يسلمها للفوضى ، بل يفرض عليها انتظاما يساعد على جلاء دلالاتها وتقريب مراميها  وخططها.. ويوجب على المتلقي التنبه له.
وعبرالرسائل النصيّة التي تيسرها الهواتف (النقالة) المحمولة يقدم فائز الحمداني( sms  عراقية)  يحملها رؤى تمزج البصري بالشعري –ستزودنا بطاقة الحمداني التعريفية بمهاراته التشكيلية ما يفسر لنا مفردات وتراكيب تشكيلية تتكرر في رسائله- فهو ليس لديه الوقت( ليرسم الأحزان المولودة على شرفته) ،وهي كالنصوص العراقية الأخرى تحتشد باللافتات السود وتعرض الأزقة المهجورة التي تشكّل في النفس أثر الفراغ والجدب والهجران.. وقد نحس بمسحة ماغوطية  في النص عبر التعارضات والمفارقة، كالطلب بأن يسمحوا للشاعر بمخاطبة الوطن ..ولكن بعد قليل يكون الخطاب لأولئك البعيدين الذين يفسر صمتهم بأنه خوف من رؤية ما في الوطن من كوارث وأوجاع.
10- قد نجد لأنفسنا العذر في عدم الاطلاع على ما كتبت نضال القاضي من شعر. فهي باستثناء ديوان واحد منشور بالاستنساخ لا تزال ودائعها الشعرية مخطوطة ، ولكن  سيستوقفنا ما يقدمه نصها( عائلة البيكونيا ) أو فراشة الطين كما أحب تسميتها اشتقاقا من تعريف نضال للمفردة بأنها زهرة  تشبه الفراشة تلتصق بالطين  كي لا تطير – تعليل الشاعرة في الهامش – فالعائلة إذن أرضية كذلك لا حياة لها إلا هنا ملتصقة بالأرض كفراشة الطين.
ولكن الشاعرة تدير كل محصول دلالي من الالتصاق بالأرض لذاتها حتى تنتهي بالقول بصوفية عذبة تماهى في الوطن رغم أنه خزق جسدها:
لي / ولي وحدي /
/ بما يكفي      البلاد التي خزقت جسدي
إن النص يفاجئ من يقرأ لنضال لأول مرة مثلي ، بل سيضعه في تفاؤل واضح  لاسيما ضمن الشعر النسوي العراقي الذي ترفده أصوات جديدة ومجددة،وتصريح الشاعرة  صادق ومهم  عن المؤثرات الفاعلة في تجربتها لاسيما بيكه س الإبن- شيركو، ولطيف هلمت الذي لا أنسى تقديمي له في الثمانينيات ، فالجو الصوري القائم على التناقضات الحادة والمفارقات هي السمة التي تركتها تأثراتها  ،وبالضرورة عربيا  محمد الماغوط الذي أحالتنا إليه انشقاقات النص الدلالية المتقابلة ترميزا لفراق الصوت الجماعي وللتفرد الذي خُص به الشعراء:
لي الأصابع التي تخيط الكفن /
لكم المائدة وأسفل الورقة  /    
لي البحر
ولكم الموجة
لي المصباح الذي يشع سوادا
لكم دفتر الذكريات
وتتعزز تجربة أخرى لشاعر نثري هو رعد فاضل بمقاطع قصيرة أيضا- أتساءل هنا: هل نفد صبر الشعراء أم ضاقت بهم فضاءات النصوص؟ أم هو عصر الإيجاز والإيماء وفقدان شهية الكلام؟- وتنبني  مقاطع قصيدة رعد على تمجيد الطبيعة منذ عنوانها( فصل في الشمس والريح والغيوم) .هي تجليات الطبيعة إذن حين يرتفع الشاعر عما هو أرضي ، ولكن ليس هاربا كعبّاد الطبيعة التقليديين بل ليشتق ما فيها من جماليات تخفى على العين غير الباصرة.
يظهر رعد في نتف وجمل مكثفة متأملا ومتمنيا وواصفا في آن واحد:
/   حاجبا لعين الشمسلو يكون الغيم
كم محمول تتسع له  مفردة (حاجب) ؟ سيمرح المؤول ويسرح ليستقدم الحاجب= الحارس البواب للشمس ، والحاجب =الحارس للعين غطاءً ،والحاجب= الساتر للعين من أن ترانا ، ألا تكفي تلك الإغراءات التي تقدمها المفردة لتبرير غموض النص الحديث ودعوته للمتلقي كي يسهم في التأويل والتأليف معا؟
هكذا تمضي سياحة رعد بجمل مقتصدة كالتوقيعات  بساطتها سر جمالها والعكس أيضا..ولا تنقص حكمتها باقتصادها بل تتعزز وتقوى دلاليا وإيقاعيا .
أما الإطار المكاني الموحد لقصائد  صفاء زياد القصيرة فهو يشي بوحدة الرؤية التي نسندها لنص الحداثة أو نراه من اشتراطاتها، فالبصرة هي المسرح المشهدي لقصائد صفاء التي تعوزها في كثير من مناطقها حرارة الشعر التي يضخها الشاعر للنثر وهو يتمدد في جسد النص ، ولم يفعل السرد شيئا إزاء ذلك،  حتى والشاعر يكتب عن ساحة سعد كتقريب منظوري لمدينة أحبها ورسم لها بورتريتهات جانبية عديدة: فالعقلنة الشديدة في المدخل الاستهلالي مثلا ستحيل كل شيء إلى برودة المنطق:
لا يمكن أن تعرف أية مدينة تجهلها / بمجرد أن تصل عند بوابتها المتربة
وأحسب أن الشاعر بحاجة ليعيد النظر في فهمه لدور الشعر في قصيدة النثر،  أو أي شكل مفارق للوزنية  معتاش على الاسترسال والتواصل النثري.
وفي نص ماجد الحسن نتلقى أصداء واضحة عن  تأملات حول الزمن والمكان الضيق والخارج المتسع ( الداخل ضيق / والزمان بلا أجنحة) فهل أورثته دراسة الفلسفة هذا الحس الميتافيزيقي الذي هيمن على نصه وقرّبه من عوالم أدونيس وأسئلة نصوصه النثرية؟
 كان عليه أن يسمي المطر شهوة / والرياح سرواله
هذه التسلطية الفوقية التي يهبها الحس الغيبي تمنح الشاعر سلطة قرأها متفلسفو النقد الثقافي في شعر أدونيس وأشباهه كذكورية عالية وعبادة للذات وتضخيما لها ، بحيث يمتلك الشاعر سلطة إعادة الخلق والتسمية والتعيين والتعريف،  وأن يعيد ترتيب الطوبغرافيا ، فيقترح جناحا وهو يحرث الغيم بدعوى أن الشمس كالأنبياء تسيل على كتفيه!؟.
11- مع الوزن نختم لنعاين غجريات حسن عبد راضي وعشبة رؤى نصير الشيخ وفزاعة ولاء الصواف ، وكنت أحسب النص الأخير –نص الصواف – سيفيد من قناع الفزاعة وخوائها كرجال جوف هجاهم إليوت ، لكن النص هوّم في صور مجترة و تشبيهات مستهلكة( مساء يرفل بالأغنيات و فجر يورق  على الشرفات ) ولو ظل النص باتجاه مناجاة الأب ( فزاعة أنا يا أبي ) وتنويعات ذلك وتوسعاته الصورية والدلالية لكان أجدى .
والتهويمات ذاتها تحاصر تلفظات نصير الشيخ ووعيه الفائق بالصورة والتركيب ، لكن اللغة التي اختارها ملاءَمةًً للإيقاع الوزني جرّت معها كالعاصفة- التي غاصت رؤاه عند تخومها كما يقول – سيلا من الترهلات البنائية ، تتمثل في انتقال الخطاب من الذات إلى أشياء متباعدة ، لا يكاد القارئ يضبط خطاه مع أحدها حتى تستدير اللغة لخطاب آخر، مع مقدرة طيبة واضحة لدى نصير على توليد صور شفيفة تأنس بها الذائقة وتستريح لها وهي تهدا وتستقر في تراكيب منتقاة بعذوبة.
أما نص حسن عبد راضي فهو لا يستجيب لدواعي الوزنية إلا بما تتطلبه الاشتراطات الفنية ، لكنه يحافظ على خصوصية جمالية تبدأ منذ اختيار الغجر عنوانا ، ومقتربا لرؤية العالم لا بالمصطلح الغولدماني بل بالتذكير بحاجة الخطاب الشعري إلى رؤية مكتملة ، هي من شروط الحداثة ومتطلبات اكتمالها ، فالفكر والمعرفة منظومة ساندة للشعر في القصيدة التي لم تعد مناسَبةَ إيقاعية أو تخييلية قدر انطوائها على ستراتيجية تميز القصيدة الحديثة خاصة، بذا نفهم الغجر في النص ، إنهم هؤلاء القادمون هكذا بهدوء مؤطّرين بدخان قراهم  تائهين :
ويأتي على غفلة غجر تائهون /أتوا من وراء الزمان البعيد
أتوا من رسائل أهملها في  الحروب /سعاةُ البريد
هذا الغموض الذي يحف بهم تكمله في القصيدة أجواء البرية التي يعيشها الغجر الظاعنون الذين يصحون على ضياع أبنائهم وخرائطهم  فتاهوا:
كأغنية لم تجد سامعين /أصبحوا غجرا آخرين
لقد توسع مدلول الغجر وصاروا شعبا أو ناسا تقذف بهم الأقدار والتقديرات والتدابير إلى سديم مصيرهم ومجهول غدهم . وتلك رؤية النص التي لم ينقص طرافتها وأهميتها احتفاء حسن عبد راضي بالوزن أو تعمده القافية كعامل إيقاعي أساسي في النص.
12- نخرج من العدد بنص عباس عبد جاسم الذي لم أستطع تأويل عنوانه (سياسة الكلام)  رغم التفسيرات الثلاثة التي يقدمها النص المندغم  بالواقع منذ بدايته  المفتتحة باسم الوردة أو فم القتيل،   والتي تمر بتحطيم التماثيل كناية عن فعل مضاد للحضارة، فالعنف كما أنه كاره مزمن للإنسانية فهو باغض شديد للروح التي تتجلى في الفن، وتمجد التاريخ جماليا ، كما يستعين بالترميز فتهبه الميثولوجيا صورة الغراب معشّشا في خوذة الجنرال هذه المرة ، ولذا كان المنطق متسيدا النص ومسيّرا لخطه الدلالي والصوري،  ولأن الألم شاسع فإن الموتيفات الملتقطة له  ليست إلا جزئيات جارحة تحفر عميقا في الضمير والشعور والذاكرة.
ونخرج من العدد  بملاحظات قد لا تعمم بسبب الانتقائية في مختاراته ومحدودية الأسماء  وظروف النشر ،ولكنها مؤشرات على حساسية واضحة وعناية بالجماليات النصية ، و ينعكس فيها مزاج ثقافي يميز القصيدة العراقية ، وميل لتكثيف والاقتصاد ما أدى إلى تشظي النصوص. ومضمونيا لا تخطئ أية عين ما يؤرق الشعراء جميعا ، فهم – حتى من لن ترضيهم ملاحظاتي التي تخصني وحدي قارئا ولا تلزم أحدا – مهمومون بوطن جارح -جريح محاصر بالمحتلين والدمويين  ،ماسكا روحه بكفين واهنتين لعله يرى سلامه القادم وحريته وأمنه، وأبناءه الغائبين والمغيبين قبل أن تبيّض عيناه وأعين محبيه حزنا ودمعا ومراثٍ.
صنعاء  20 تموز-2008

 

قصائد في أفق الحداثة

 

(قراءة  نقدية مرسلة كمساهمة   في التعقيب على  الصباحية الشعرية التي  أقامها بيت الشعر العراقي  بعنوان  – الشعر تواً – في شارع المتنبي ببغداد صباح الجمعة 16/10/2009.)

 

  • إذن فهذا فجرُ يوم تصبغ أفقَه قصائدُ العراقيين سحرةُ الكلمات منذ ذاك الذي رأى كل شيء، وحلم أن تتغنى به بلاده قبل أن تعبث بأور العاديات والحروب والرصاص.

إذن هي أوجاعي الراقدة تحت صبر قليل  نفد حتى انعدم ، وأمل أقل  تلاشى في فضاء غربتي الغريبة- بتلخيص التوحيدي- وحلم صار وهما كتلك الأوهام التي صيرتها أحلاما،ن في زمن مر كسحاب أو سراب وزنت سنواته بالقصائد وقصائده بالسنوات ، فضاعا معا : العمر والقصائد وبينهما مفردات الطفولة  والصبا ، والبيت والوطن..

ألا يكفي لوجعي- -أيها العراقيون الشعراء والشاعرات – هذا الخريف الثالث الذي سيمر على غياب ابني في صندوق سيارة أحد (الوحوش بدشاديش قصيرة )ممن  تتحدث عنهم قصيدة هنادي خليل لأنه مدوَن الولادةِ في مدينة لها ذاكرة تاريخ لا يعرفون له اسما  .

رغم ذلك فهو وطني الجارح الجريح ..الذي لا نبكي إلا على كتفيه ،ونلامس رحمة قلبه التي بها نثق دوما وعليها نراهن.

هذه مناسبة قراءة لا تتيحها إلا هِبات قليلة من زمن بخيل: أن نقرأ قصائد جيل بنت قصائده سنوات عمر ينضج تحت نار أخرى ..وقودها الأرض وما ظل من البشر..فكيف تمثلت القصائد ذلك الاحتراق ؟ وأي شواظ نشم تحت الكلمات ؟

القصائد للشعراء التسعة مناسبة قراءة تمثيل القصيدة للأوجاع، وتقطيرها فنياً بعد قصقصة وتشذيب زوائدها وتهدئة هيجانات خسائرها وندب خاسريها.

الحياة هنا باسمها الصريح ، وبكناها ومسمياتها ورموزها الكثيرة..وهذا أول ملمح نرصده في قصائد هذه النخبة من كتاب القصيدة الجديدة في العراق..قصائد عراق الألفية الثالثة بتحولاتها وتغيراتها وتبدلات خطاباتها في شتى الأحوال.

أفواه لا تكممها الرقابات ولا الخوف..  حرية  فائضة عن خوف أعم : على وطن وحريته وحياته ويوميات أهله المطعَمين للصدفة: أن نموت ونختفي بلا سابق توقع.

تكتسب القصائد حياتها وفنيتها –شعريتها في الأصح – على ذراعي هذه المعادلة: القول بلا حد والموت بلا موعد –وربما بلا سبب غالبا-، وبتفريعاتها الكثيرة: الماضي والأسرة والطفولة ، والحب والحبيب والصداقة والصديق، والشعر والقصيدة ، والهجرة كوعد والبقاء كاختيار ، والانتظار كلحظة عدم طويل ..والمستقبل الذي لا تبين ملامحه .

وتلك  لحظات شعرية نادرة في تاريخ الشعوب وآدابها منذ فجر التاريخ حتى غروبه الوشيك..  العراقيون مؤهلون لتمثيلها وبناء إهرامات شعرية من مفرداتها الموجعة غالبا.

القصائد مناسبة نادرة للدخول إلى عالم جيل نشأ في أتون هذه التحولات وكان قدره إن يرى خراب كل شيء ويبدأ من النهاية. وذلك سيحدد صلته بالشعر كخطاب ، وبمظاهره النصية: أعني القصائد.

هنا سنعثر على اختيار واضح وانحياز تام لقصيدة النثر. لم تعد الوزنية وغنائياتها الملازمة لخطابه أي مجال . ثمة  الترسل والاسترسال والسرد والحواريات والتأمل داخل الذات لرؤية ما يحصل خارجها هو السبيل .

هناك استثناءات قليلة: شعر موزون لصادق مجبل الموسوي الذي أعلم أنه متحول لا محالة للنثر ودليلي على ذلك وعبه النظري الحواري، وقصيدة نثره الأولى،وفي الاستثناء قصائد مؤيد الخفاجي الذي بنى ( أخطاء تنبئ بالمسيح) على هيجانات اللغة والإيقاع..رغم انه في ( الجنوبيون) أعاد لذاكرتي قصائد طالب عبدالعزيز وتاريخه الشعري واستبطانه له في تلك الرقعة الملتهبة المؤثرة من جغرافية الوطن.

قصيدة النثر إذن بمحصولها العراقي القائم على التعين والتجسد والملموسية هي الغالبة على تجارب الشعراء التسعة،  وتقنياتها المستفيدة من السرد هي الشائعة في ثناياها،واللغة المنزاحة عن القاموس هي لغتها، والإيقاعات المتبسطة مع القارئ والمسترسلة في فضاء نثري حي هي موسيقاها.

القاموس الذي ورد في الفقرة السابقة ربما ترسب من قصيدة هنادي خليل ( الحياة في عطلتها)فهي تحاور القاموس وتعكس الصلة باللغة كمعنى لا دلالة فترفض ذلك الوجود الكتلوي للغة في بيت القاموس. إنها تمنحه الورق والمحبرة لتحرره، مستعينة كزملائها الجدد بالهاتف، ومعلقة على وحوش يترصدون حياتنا ليسرقوا أحلامنا بإشارات تختزلهم كالدشاديش القصيرة –ربما النظيرة لقصر ضمائرهم وغياب إنسانيتهم-.

بلغةٍ سهلة وعوالم عفوية تبني هنادي قصائدها فيتسلل إليها بعض ظلال المباشرة؛ كحديثها عن (ذِراعَيْ الواقع) ..لكنها تنبئ عن جرأة مطلوبة في اللغة والصور واختيار زوايا النظر إلى الخارج لتستل منه الشعر.

ثمة استفادة من تقنية القناع بوضوح تمثله قصائد أحمد عبدالسادة بتجربته الطيبة في الكتابة وخبرته:سيحضر المعري وكلكامش والحلاج  في قصائده ،ومتلفظين بذواتهم عبر القناع كتقنية هجرها شعراء سابقون لجيله .

يستحضر احمد  المعري راثيا نفسه بعماه الرائي ( يعتق النار ليصنع منها عينا)ثم تتردد اللازمة وتتكرر: لكنني أرى! لتنتهي بشمس قتيلة –نقيضا للعمى الظاهري- فاستطاع الشاعر تلمس الرائي خارج محابس المعري وسجونه الكثيرة التي لا يمثل العمى إلا إحداها. وهكذا يحضر الحلاج في نص آخر داخل اللغة الأخيرة للمدينة التي صلب فيها جسده و أحرق و ذرَّ رماده في فضائها. .

ويكتمل المثلث القناعي بحضور كلكامش باحثا عن خلود يتحدى حتمية الموت وقدريته عبر ما أسماه أحمد( اسمه الكامل).

ويدهشنا تماهي الشاعر مع الشخصيات وبقاؤه بعيدا كلاعب ماهر يحرك خيوط تلك الشخصيات ،ويدعها تتحدث بلغة آسرة.

الحوارية التي تسم الخطاب الشعري الجديد وتتشظى في نصوصه يمثلها عمل حسام السراي الذي  أكد لي ديوانه المنشور (وحده التراب يقهقه) ما سأقوله حول استفادة الخطاب الجديد من وجود الآخر علامةً على حضور صوت الذات والآخر في ندية وجودية شيقة. بغداد في فخ حيرة والأخضر بن يوسف ونيتشه العارف وسيحضر الحلاج أيضاً.

الموقف الثقافي  الواضح للنصوص الجديدة سيؤكدها حسام أيضا ،فهو عبر التناص يعيد إنتاج مقولة كافافي عن الخراب الذي سيلازم الإنسان في أي مكان بعد أن خرّب حياته في المكان الأول. شعور يفهمه أمثالنا  المغتربون ممن تتناسل خسائر حيواتهم ويتضاعف خرابها حيث حلوا؟(يخطفك  الخراب الذي فررت منه ) إيجاز بليغ لمقولة الخراب التي ترحلت من فكر الجيل السابق لأن دواعيها ماثلة يبصرها حسام السراي بوعيه الشعري المؤازر لإدارته لفنه ومقدرته على تعزيز النص بالصور والإيقاعات المناسبة وثراء الرموز.

تستفيد القصائد من صنع سيرة شعرية للذات ..هذا الفضاء لجديد الذي أتاحته قصيدة النثر، وتؤكده نصوص هيثم جبار عباس الذي يسلسل العائلة كميراث ،يُعاد تشكيله شعريا ،وتظهر فيه مساءَلَة الجيل الجديد لميراثها الذي يثقل كاهله ويتسبب في شكواه، ويولّد مشاكسته التي تجد نيتها في السخرية والمناوأة:( أتيتُ من إرهاصات أب..أوله سكر وآخره  عبادة ) ومن (أحاسيس أم ملطخة باليأس )فيعيش ويترعرع مقمطاً بأوزارهما!!

وفي قصيدة أخرى تتسع دائرة التلفظ السير- ذاتي لتشمل الجماعة؛ فالجنوبيون أسماك عطشى وتِبر يستجدي على الرصيف.

وأجد في توسيعات هيثم ولغته وإيقاعاته واستفادته من المساخَرة أفقا يطلق قصيدته في فضاءات بليغة ومؤثرة.

الذات المتلفظة داخل الخطاب تحضر في إطار مدن الوهم الآتية ؛  لذا تتدرج اللغة في تعزيز الإيهام وتلوينه بغموض شفيف  يثير الفضول المطلوب كاستحقاق رئيس في عملية القراءة..

مع قصائد صادق مجبل الموسوي يصبح الحلم بالموت واقعة شعرية ،يختار لها صادق إيقاعات مناسبة ويختار الانزياحات بلا تردد ( رب اشرح لي اسمي)  فهنا تعمل اللغة الواصفة لتعبر عن مراقبتها للبناء الغوي داخل النص. حتى لو تطلّب الأمر الاحتكام لإيقاعية وزنية أراهن على أن صادق سيتجاوزها بدليلين : قصيدته النثرية ضمن المختارات( أصوات..) ومعرفتي بوعيه، وتعرفي على أفكاره  رؤاه النظرية عبر لقاء تفاعلي جمعني وإياه مؤخرا موقع مدد الإلكتروني.

ويمكن أن نضيف لذلك نهمه المعرفي وقراءاته المضمن بعضها في شعره( لدرويش كنا نغنّي يطير الحمام..) ولعل صادق يعلم أكثر من سواه بأن القصيدة لا تكتفي بالغناء حتى إن رضي به الشعر والشاعر، وهو أَولى مستقبلا بمفارقته.

أما في الحرب والحب والراء التي بينهما فصادق يولد صورا فاتنة عن تلك الواقعة المدمرة في حياة العراقيين ولها.

(الحرب أرملة تتزوج الأموات) ثم  يلعب على الراء التي وجد شاعر ألماني قبل صادق هو أنتسبرغر أن الدكتاتور لمّع الراء ليخفي الحب.

بشعر صادق تتدشن آفاق قصيدة ذات نسغ حي ووعي باللغة والإيقاع معا .وهذا محصول أكثر من طيب في عمر تجربة صادق، وعمره المؤرخ بالشعر لا السنوات.

مؤيد الخفاجي يقدم في (جنوبيون) سيرة جمعية لموج من الطيبة والإبداع وحب الحياة..لقد قال شاعر ذات يوم لا بد لكل شاعر من جنوب ، يبدأ عندي بالسياب ويمتد لأمل دنقل ولا ينتهي بطالب عبدالعزيز الذي تصادت لذاكرتي بسبب جنوبيي الخفاجي  بعض رؤاه ولغته وسير ه المدونة عن الجنوبيين والبصريين خاصة، (الجنوبيون بقلوبهم البيض هؤلاء المضيئون بالطيبة ) كما يدون الخفاجي.

(أخطاء تنبئ بالمسيح ) للخفاجي تنقلنا لأجواء الوزن وهيجانات إيقاعه وتداعيات صوره بلوازم الوزن ومغرياته.. فافتدنا رمز المسيح ووجوده الشعري ، رغم التماعات صوره الجميلة (أبٌ يهذب ليله ،ولد يصفف غيم أفق تالف).

وصورة الطفل الذي يبيع المناديل( لمسح أنوف الشتاء عن الأرصفة).

أخيرا يعزز زاهر موسى ما قلناه عن ثقافة النص الجديد وتطعيمه بالمعرفة ؛ فزاهر يروي سيرة ذاتية بضمير الجماعة موسعا أفقها ومقلّبا مفردات سيرته، بدءاً من البيت:بيتنا بسمة كاذبة، السلّم ظهر مكسور، النساء يدخلن سن اليأس بعد نضج الطعام..

وهكذا تتداعى السيرة بمفردات ذكية الاختيار، يستلها زاهر من تراتبها الحياتي ليضعها في تراتبية شعرية جديدة ،تهبها حضورا شعريا أخاذا ،وبلغةٍ تنمُّ عن وعي بجمالياتها وطاقاتها التعبيرية والتصويرية والإيقاعية.

في التكرار يجد  زاهر منفذا آخر:يكرر سؤاله البالغ الدلالة:كم أبلغ من الشعر؟ ليجيب بأوجه متنوعة  ذات دلالة وجودية وحياتية:العمر صار شعرا لا سنوات ،والشعر صار كلمات تؤرخ لعمر تملؤه الخسارات والآمال العليلة.

 

 

إحتراقات المنفى وخسارات الماضي

عن دارالنشر passageفي هولندا صدر كتاب مختارات شعريه باللغة الهولندية لعشرة شعراء عراقيين  مقيمين في هولندا بتحرير هيئة من الشاعرين شعلان شريف وموفق السواد والهولندية دينيك هيزينجا وبرسوم للفنان كفاح الريفي.  هذه مقدمة الكتاب التي ترجمت ونشرت مع المختارات.

-1-

لقراءة قصائد الشاعرات والشعراء في هذا الكتاب – والحديث عنها بالضرورة – لابد من استذكار انتمائها إلى سياق الشعر العراقي الذي يعدّه  مؤرخو الكتابة الشعرية ونقادها المناخَ الذي تأسست فيه الحداثة الأسلوبية وانطلقت منه إلى العالم العربي في لحظتين تاريخيتين مهمتين أولاهما قديمة تتمثل في العصر العباسي الذي غدت فيه بغداد – العاصمة العراقية الأزلية والعريقة – عاصمة للدولة العربية الإسلامية لأكثر من خمسة قرون ، وشهدت تجديد القصيدة العربية التي أرهقها التقليد والجمود وأثقلتها  صرامة موضوعات الشعر الكلاسيكي وأساليبه وإيقاعاته  ولغته العربية المورثة . وتشاء أقدار بغداد أن تكون محلاً لولادة الحداثة في العصر الحديث حيث ظهر فيها ما يعرف عربياً بالشعر الحر منتصف الأربعينيات ، ليقلب نظام القصيدة العربية ويهدم تناظرها الموسيقى والشكلي والموضوعاتي ، ولتبدأ من هناك موجة تحديث جذرية يقودها بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وزملاؤهم ، ستمتد إلى البلاد العربية وتشيع تقاليد التجديد التي ستتطور بجهود الأجيال الشعرية اللاحقة التي يزخر بها العراق ، وتمنح لوحة الشعر فيه فسيفساء فريدة تتسع وتتنوع رغم الحروب المدمرة والقمع والكوارث التي جلبتها الدكتاتورية لأكثر من ثلاثة عقود وأدت إلى هجرة ملايين العراقيين إلى المنافي وبينهم مثقفون وشعراء سيواصلون مشاريعهم هناك و يتكونون أو تنضج تجاربهم في المنافي  التي أصبحت مادة شعرية ، سنجد  تنويعاتِها في قصائد هذا الكتاب الذي يضم أسماء متباينة  العمر في التجربة الشعرية ، ومتنوعة في الرؤى والتصورات ، رغم أن ثمة قاسماً مشتركاً بينها هو قصيدة النثر بمزاياها الإيقاعية، وانفتاحها على السرد ، والتقنيات الشعرية المتنوعة والمتعددة دون قيود .

وسيجد القارئ أن الشكل الحديث للقصائد لم يسلبها كثيراً من روح الشعر العربي ونكهته وأساليبه ، وأبرز ما يمثل ذلك حضور ( الأنا) والذات الشعرية في مركز النص ، توجهه بعذوبة  صوب مناطق الحنين إلى المكان الأول ( العراق) وزمن ماض يصلح للاستذكار واستحضار صور الطفولة والشباب وجمال الأمكنة وشاعريتها  ثم مقارنتها بالمكان الجديد والغريب بشراً ولساناً   وثقافة ، مما يمنح النصوص حياة ثانية في المنفى الذي كتبت فيه ، فتتوتر لغتها وصورها وإيقاعاتها ، كما تثير أكثر من محور موضوعي كالصلة بالمكان الأول كحاضنة رافقها عذاب دفع الكثيرين من شعراء هذه النصوص إلى الهرب . فالوطن ليس جنة مثالية .. والأوطان بالعادة أمكنة ليس لها وجود مستقل عما تشير إليه  من عسف ومعاناة .إننا لا نستطيع اختزاله أو استبداله بل نحمله مجبرين كوجود لازم ، ليست الذكرى إلا إحدى  طرق العودة إليه واستحضاره عبر  نشاط الذاكرة و التقاطاتها .

لكن الوجود في المنفى ليس حلاً ، فإذا علمنا أن الوطن ليس جنة يغادرها الناس آسفين – كما حصل في قصة الخطيئة الأولى وهبوط آدم إلى الأرض بحسب الرواية الدينية لقصة الخلق-، فإن المنفى كذلك ليس الجنة الموعودة أو المنتظرة .. خاصة إذا ما تأملنا ما يسقطه الشعراء المنفيون على مكانهم الجديد من خسائر ماضيهم ومراراته وآلامه .. أو إذا جعلوه ( مكاناً) اضطرارياً ببعدهم عن المكان الأول الذي ظل له حضوره في وعيهم وعاطفتهم .

سنجد أيضاً انعكاس ذلك في لغة النصوص التي تتكرر فيها مفردات البيت والأسرة والماضي والنسيان والذكرى ، كما نلاحظها في الصور التي يمثل بها الشعراء عواطفهم ، ويجسدون اقتطاعهم من الجذر الأول وحياتهم في المكان- المنفى.

وكثيراً ما يستخدم الشعراء والشاعرات صياغات سردية ، فقد وجدوا في القص شكلاً مناسباً لتوصيل تلك الذكريات كتعبير عن حدوثها في زمن ماض ، يصلح للسرد ، ويناسب هجران قصيدة النثر التي يكتبونها للموسيقى التقليدية كالأوزان والقوافي والتناظر البيتي ، ولوسائل التعبير المألوفة كالمباشرة والغنائية والبلاغة المبتذلة ، وهذا يساعد في دمج القارىء في أفق النص ، ويعرّفه على الأماكن والأزمنة  ، ويجعله في قلب حوارات داخلية (مونولوجات ) تمتليء بها النصوص ، يجريها الشعراء مع أنفسهم في مراجعات وتذكارات حزينة وعندما يشتد توتر اللغة الشعرية ، يلجأ الشعراء إلى استخدام أشكال حرة في بناء نصوصهم ، كالقصيدة القصيرة المكثفة والسرد الملحمي الطويل او القصيدة المستقلة متوسطة الطول ،أو في تقسيم النص أحياناً إلى مقاطع مرقمة ، او منفصلة بنقاط ومساحات بيض ، تسمح بتنوع الحالات الشعريّة وتبدّل إيقاعها وزوايا النظر فيها مع كل مقطع .  إن الشاعرات والشعراء العشرة في هذا الكتاب لا يجمعهم المكان القديم والمنفى فحسب ، بل هم ورثة تقاليد شعرية وإرث من المعاناة التي جسدها شعراء كثيرون قبلهم ، وعاشوا تجارب اغتراب وإن كانت أقل قسوة وأقصر  زماناً – جعلت شاعراً كالسيّاب يكتب  في قصيدة مشهورة له ، أبياتاً مدوّنة اليوم تحت تمثاله الشهير على ضفة شط العرب في البصرة :

الشمس أجمل في بلادي من سواها

والظلام – حتى الظلام –

هناك أجمل ، فهو يحتضن العراق

ولاشك أن تعبير الشعراء في هذا الكتاب عن اغترابهم لا يتضمن هذا الحنين القريب من الرومانسية ، إلا أنهم يعبرون بأداء أكثر تعقيداً وغموضاً وعنفاً  عن عمق معاناتهم المماثلة.

-2-

هذا الحنين موصوف في نص محمد الأمين ( وردة الغريب التي لا يبصرها أحد ) بأنه ( وحش) يطارد القلب، وتصبح الأشياء غريبة – كالشاعر نفسه- حتى الوردة والظل والغروب . كما توصف الذاكرة بأنها ( ساهية ) لان الشاعر يريد منها أن تعيد  له تفاصيل حياته الأولى. وفي ( النشيد الوهمي للصباغ الغريب ) يصنع مناظرة (أو محاورة ) يدير فيها السرد الشاعر نفسه ، لكنها تجري بين الصباغ الغريب ومالك المنزل ، وهي تذكّرنا بقصيدة من أدب وادي الرافدين القديم هي( حوارية السيد والعبد ) التي تصبح فيها تبعية العبد لسيده قوة ضرورية لوجود السيد نفسه . هنا سيغمس الصباغ الغريب فرشاته في دمه أمام  ترف الأثاث وسعة المنزل الذي  يقترح الشاعر  ترتيباً خيالياً له فتتفوق الفرشاة على ملكية السيد لداره .

وفي ( انثيالات) – ناجي رحيم – القصيرة ، لانجد ترهلات صورية أو مجازات مبالغاً فيها ، بل يتبسط الشاعر مع قارئه بألفة تجسدها اللغة والدلالة ، فيصل بسهولة إلى خاتمة النص التي تشبه نهايةَ مقطوعةٍ موسيقية تساعد في تكثيف المقاطع القصيرة وإيصال دلالاتها .

بالطبع هناك بنى يتعمد الشاعر في تركيبها أن تصدم القارىء ، ليشاركه إحساسه بمحنته ، وتتمثل في نقل ما هو عادي إلى مركز النص وبؤرته مثل ( العهر والعواء والصراصير ) لكن خطاب النص يسمح بذلك ، إلى جانب الإفادة من الرموز التاريخية في الأدب العراقي القديم مثل ( جلجامش ، عشتار، أنانا) أو بالتناص الذي يجلب إلى القصيدة ملامح من قصة النبي يوسف. كما يستعين بالقناع في قصيدة ( جسور) المهداة إلى الرسام العراقي ستار كاووش – الذي يعيش في المنفى أيضا-و يعبّر الشاعر من خلال صورته المنعكسة في مرآة النص عن عذاب التعبير عن الأعماق المضطربة ، لكنه في نصه الأخير ( في مطعم هولندي ) يجعل المكان استهلالاً للنص فينقل لنا أصوات الناس والملاعق والصحون كموتيفات  لعالم غريب ( في مطعم ، مع أناس لا يعرفون شيئاً عن هذا الذي يركض في رأسك ) .. تلك إذاً فاتورة المنفى ، وليس على (الأخر) صاحب المكان أن يدفعها ، بل الغريب طبعاً . وليس على (الأخر ) أن يعدل اللثغة  في لسانه ( وهذه إشارة مكررة في النصوص ربما لوصف اللسان الهولندي ).

-3-

وستحضر الميثولوجيا الرافدينية ليس بالإشارة إلى اسمها فقط ، ففي نص  شعلان شريف- وهو ذو تجربة طيبة في الشعرية العراقية الجديدة منذ التسعينيات – دعوة للقارىء إلى تعديل قراءته لملحمة جلجامش  التي تبدأ بعبارة ( هو الذي رأى كل شي ، فغنِّ بآسمه  يا بلادي )  ، فإذا كانت الملحمة تسرد رحلة الملك- الإله جلجلماش بحثاً عن الخلود بعد موت صديقه (انكيدو) فإن نص شعلان شريف يعكس ذلك تماماً بدءاً بالعنوان ( هو  الذي لم يرَ شيئاً)، فالرحلة خائبة ، والعالم لا يهب البصر لأحد حتى أحفاد جلجامش الذين  توزعوا  غرباً وشرقاً ، فصاروا مثل سيزيف الحامل صخرته ، ويوسف الملقى في قعر  البئر.. ولعل في مؤاخاة سيزيف ويوسف ترميزاً للغرب والشرق ولقائهما الممكن في العذاب الإنساني ، وذلك ما نبهني إليه إهداء الشاعر قصيدته( إلى دينيكا وصالح) الهولندية والعراقي ، كأنما ليشركهما الشاعر في مصير النص وخططه .

إن عبثية النهايات والمصائر في نص شعلان شريف تجسّد لا جدوى البحث عن  عشبة الخلود في ملحمة جلجامش ، وهي مرثية لبحث الغريب – حفيد جلجامش- عن حل لسؤالٍ ظلّ بلا جواب ، وكأنه يعيد الحكمة الشعرية التي قالها شاعر الاسكندرية ( كافافي) ”  إذا  أنت خرّبت حياتك في مكان ، فهي خراب حيثما حللت)) .

هذا البحث العبثي نجده لدى علي شايع ، فهناك دورات سيزيفية كأنها جزء من عقاب قدري ، ويرشّح هذا التأويل عنوان النص (دوران )، لكنه يلامس الغربة ذاتها كقدر، والذكرى المتروكة هناك والتي لم يبق منها سوى ( كيس عظام أبيض ) هو عنوان نصه الثاني  الدال على جدل الذاكرة والحاضر.ٍٍٍٍٍٍٍٍٍ وحضور الأب في هذا النص والنص الثالث للشاعر نفسه ( مآرب) له دلالة بالغة ، فأغلب شعراء هذا الكتاب هاجروا شبّاناً ، وظل للأسرة ككيان هيمنة شعورية تجعل آستحضار الأسرة ( والأب خاصة ) جزءاً من نوستالجيا  لها ما يبررها، كما أن لها مظاهرها الشعرية في النصوص . وتفلح جملة الشاعر القصيرة والمتوترة في تصوير الارتباك والحزن الذي يعتّم حتى الذكرى في ختام نصه الأخير ، فتغدو (عمياء تتلمس صور أبنائها الغائبين).

لكن الشاعر موفق السواد يتفحص المشكلة من جانب آخر هو الإحساس بعجز اللغة في التعبير عن فداحة الخسائر المجتلبة مع ذكرى الماضي ، وعجز الكلمات عن تكوين صلة مناسبة بالآخر في فضاء الغربة . لذا كان علينا قراءة عنوان نصه ( عزلة الكلام ) لآشتقاق تلك الدلالة على الصلة الغائبة بالآخر . يشجعنا على ذلك تصميم الشاعر لقصائده وخططها بذهنية حادة تقودها إلى نهاياتها المتشابهة في نصوصه الثلاثة ( الوصية تتساقط/ الجلد يُرمى من النافذة / الرجل يموت في الصباح) وبهذا نشاركه إحساسه القوي بالغربة كمناخ  نفسي وثقافي معاً ،تجسده فقدان الصلة بالأخر ، عبر العجز عن الكلام ( حين حاولت أن أكلمهم / سقطت شفتي ) فذلك شبيه بالشلل النفسي الذي يصيب الإنسان بالعجز عن النطق وخاصة في الأحلام والكوابيس الليلية .

إن موفق السواد يوهمنا بأن ما يقدمه لنا هو نوع من الفانتازيا توازي الواقع الذي يعيشه ، لكنه يخرج على شعرية الفانتازي إلى الاستفادة من تفاصيل ما هو يومي وحياتي لكي يلخص المأساة برهافة .

-4-

وحين نصل إلى نص صلاح حسن ( الخروج من أور) بقسميه ، يكون علينا أن نستنفر ما لدينا من ذخيرة قراءة ، لكي نلامس الأفق الأسطوري للنص المحتشد منذ بدايته بالإحالات الميثولوجية ، ففي نص هذا الشاعر الأطول تجربة والأسبق من زملائه في الكتابة الشعرية ، يشير ( الخروج ) إلى قصة هبوط آدم إلى الأرض وهو ما أسماه ( الطرد من الجنة ) ، وهي ثيمة  تكررت في نصوص أخرى لشعراء هذا الكتاب ترميزاً لخروجهم الاضطراري  من الوطن،  لكنه لا يستسلم للقدر كعقاب ، بل يدعو – وهو سارد النص – في القسم الثاني إلى (تدوين الصحائف ) لتكون الكتابة تعويضاً عن الخسران ، ولكي يشتق منها تلامذة وهميون دروساُ لمستقبلهم . هنا يأخذ صوت الشاعر هيأة المبشّر والنذير معاً : يسرد الدمار القديم في أرض سومر- أقوى الحضارات وأعرقها في بلاد ما بين النهرين- وما جرى  لشعبها من شتات ، وتضغط عليه هذه الواقعة التاريخية ، فيخرج على زمنية نصه  ولا يلتزم بتسلسله الخطي ، فينقلنا إلى ما جرى لبغداد في ظل الدكتاتورية في الماضي القريب ، حيث عمَّها  خراب الحرب ، فصارت أرضها أرضاً محترقة ( لشعب يتلاشى) وصارت بيوتها (قبوراً تمشي) . وهنا يلتقط الشاعر صوراً مقرَّبة لجزئيات المكان البغدادي : الأسواق والأحياء  والشوارع والمعالم المحلية المأثورة ، في تداعيات تتآزر لإنجازها المخيّلة والذاكرة معاً . وتقطع تسلسلَ سرد الماضي إحساسُ الشاعر بوجود عجز لغوي أيضاً . كما أحس  زملاؤه بذلك ( لغة مهاجرة / لم تعد بلاغتها تكفي لتضميد حاضرنا ) وما دام الماضي قد مضى / والحاضر يحتضر فالمكان سوف يُمحى .. وذلك ما تعكسه  مونولوجات  شجية  يهرب بها من كلام تلاميذه .. وإذا كان المكان مرشحاً للمحو ، فإنه لن يزول كما يؤكد الشاعر .. وهنا تنفتح في النص دلالات جديدة بالأمل بحياة   قادمة . فإذا

كان( شعب أور يتلاشى في المنافي) ، وبغداد (لم تعد وطناً بل ساحة للرماية) ، فالنهاية الشعرية تفتح كوة من الأمل ربما سيكون كافياً لبناء أور جديدة .

-5-

الإحساس بالبعد والرغبة في الاتصال بالماضي يصل عند الشاعرة  فينوس فايق  حد تخيُّل وصول رسائل بيضاء فارغة ، هنا لا حاجة للإحساس بوجود شفتين صامتتين أو كلمات خرساء ، فالبياض يختزل الصمت والانقطاع . بذا يصبح وجود الشاعرة ( خلف جدران الليل الأسود بلا قنديل ) وتخلق بذلك عتمة مضاعفة ( جدران/ليل / سواد / بلا قنديل ) فتصبح منتظرةً أبدية ، ضائعة ، تصف حالتها بمهارة وتشبيه مؤثر ينبثق من الشعر نفسه لا من خارجه :

( كأنني سطر وقعتُ من / قصيدة بلا عنوان)

لكنها في قصيدة مقطعية مرقمة تمتلك ( التمني)، وتفتتح كل مقطع بعنوان القصيدة ذاتها ( أتمنى لو …. ) وهو بناء شعري مفتوح بلا نهاية ، ويمكن أن يستمر طويلاً.. إلا أن أمنياتها بسيطة وعصية في الوقت نفسه كالعودة إلى رحم الأم ثانيةً ، والولادة من جديد  ، في أزمنة متخيلة وبأسماء أسطورية .. وتشجعها هذه الأمنية المستحيلة على خلق عالم طفولي ووجود ساذج ،كتمنّيها أن تكتب  غزلاً لم يوجد في كتب العشق واللقاء بالحبيب في جنة لم يصفها نبي .. ولكن ذلك يجب ألا يوهمنا بما توحيه سطوح النص ، ففي العمق منه رغبة في التجدد ، والوجود في كيان لامرئي، ربما هرباً من أرض ملأها البشر بالشرور.

وهذا العذاب يجد لدى شاعرة أخرى هي بلقيس حميد تجسيداً ثقافياً  ،أي أنه يتسرب إلى الخارج ويُسقَط على المرئيات التي تشكل ثقافة بصرية جديدة في أرض غريبة . فهي ترى أعمال الرسام فان كوخ في هولندا التي تعيش فيها لتستعيد قصة أذنه   التي قطعها من أجل حبيبته، فنتخيل أنها ( عروسه الشرقية) .. لكنها مرة أخرى تضعنا أمام ثنائية الصمت والكلام في قصيدتها (الخوف والكلام ) وقد أمتد الخوف هذه المرة من الأرض التي جاءت منها الشاعرة حيث كل شي ممنوع هناك :الحب والحلم والشعر .. فنتمنى لو تستحيل ورقة تسقط من شجرة أو ريحاً ، بدل شاعرة بجذورٍ بعيدة وفمٍ محشو بالخوف والكلام .. وتتوسع دائرة الخطاب في (قصيدة الحرية) ليغدو الإنسان المتحرر من سجنه هو المخاطَب ، وتكون مفردات القصيدة متقشفة وبسيطة كأنما لتنهض بطمأنينة هذا الإنسان المخاطَب الخارج من سجنه للتو.

-6-

الإنسانية تتسع أيضاً لدى كريم ناصر لتشمل موجودات الكون الخليقية من حيوان وطير وشجر ، فتحتشد  قصيدته بأسمائها وأنواعها ، وتكون بحضورها الرمزي معبرة عن محنته هو لا ( محنة الحمام) التي كتب عنها قصيدته ، وإذ يريد تجسيد الخيبة فلا يراها في أذن فان كوخ المقطوعة بل في (أرنب مقطوعة  الأذن) وإذ يصف الخراب لا يسترجع ما حلّ بأور أو بخيبة جلجامش بل في قوله ( لا غزلان في الغابات / لا زهرة في الحديقة ) وهو يحاول أن يدفع  عن موجوداته نذر الموت ( ينام تحت شجرة كي لا تأكلها جنازير الدبابات  )  ويشير إلى (وحش محنّط يخدش العذارى) وهنا أيضا لا يجدر أن تضلل قراءَتنا الأطرُ الرومانسية للقصيدة ، لكونها تستعير موجودات الطبيعة وتهبها حياة داخل النص ، بل علينا أن نرى أعماق النص التي تشكو عبر محنة المخلوقات مظالمَ البشر وترثي خساراتهم .. فالشاعر لا يتنازل- كزملائه أيضاً -عن ذاكرته تلك التي يستعين بالبرق المنبعث من أيامه لتضيء ( غياهب الماضي والطفولة المبتهجة ..).

وثمة خوف من نوع آخر هو خوف القراءة الخاطئة للوجوه يعكسه نص حميد حداد (الإرهاب) فالسيدة التي تتهمه ( نظراتها المتشككة بالإرهاب) تجعله يفكر (بفراغ الآخرين والتواطؤ على الصمت) .. وفي جو متشكك وفضاء خائف كهذا تظل المدن الأليفة هناك بمفرداتها البعيدة التي تجلبها الذكرى ( أحلام موازية / غبار  معشوق / سماء تنتهي حدودها عند آخر نخلة .. ) ومقابل هذه الموتيفات المستلّة من ماضي الأيام والذكريات ثمة ( غياب ينمو) كما يقول الشاعر.. غياب يضع الشاعر في متاهة . سيزيفية من نوع آخر . إنه ( يدور فلا يجد بيته ) ويظل وجوده فارغاً معذباً ، كساعة لا تعرف الوقت ، بينما هي نفسها مصممة لتشير إليه ، تماماً كرسائل فينوس فايق البيضاء ، وجلجامش شعلان شريف الذي لم يرَ شيئاً ، وفرح بلقيس حميد الغائب ساعة صلواتها ، وخرائط صلاح حسن التي لا توصله إلى سومر أو أكد أو أور ، ودائرة علي شايع الساقطة في أبديتها ، ووردة محمد الأمين التي لا يبصرها أحد ، ورمل ناجي رحيم الذي يشعل حرائق صمته  ، وحمامات كريم ناصر الذبيحات في الفضاء الخالي، وشفة موفق السواد الساقطة لحظة الكلام .

الخسارات إذاً تجمع  هذه القصائد ، والأحزان ا لمتجذرة  لا السطحية الغنائية هي مادتها ، التي لا أشك أن القارئ سيتمثلها كما عانى الشعراء والشاعرات من أجل توصيلها ،بطاقةِ الشعر التي تمتد من وطن بعيد معذب وجميل إلى منفى يراجع فيه الشعراء أنفسهم وماضيهم وحاضرهم.

أرواح الشعراء في عراء القصيدة

مختارات شعرية كردية

للشعر الكردي الحديث حضور واضح في القراءة النقدية المعاصرة رغم التقصير المتبادل بين المثقففين العراقيين ، وأعني به الشحة الممثلة بعدد ضئيل مما ترجم إلى العربية من الشعر الكردي، وندرة اللقاءات المشتركة بينهم لدراسة هذا الشعر والتعرف على اتجاهاته وأسلوبياته وأصواته الفاعلة في المشهد الشعري الحديث.

وكذلك إحجام المطبوعات العراقية عن تخصيص أعداد وملفات عن الشعراء الأكراد وشعرهم ، وأنا أعلم أن ذلك ليس بدوافع إثنية مثلا لأن الثقافة العربية منزهة عن تلك الدوافع ومبرأة من كل مشغَلاتها مهما تبدلت الأنظمة والأوضاع السياسية.

ولكن الجهل الغوي والتباعد والكسل أحيانا، جعل من وجود الشعر الكردي حتى في المدارس والدراسات مهمشا بصورة تدعو للتساؤل.

لذا يفرحنا أي جهد تعريفي لاسيما إذا كان ببلوغرافيا أو بشكل مختارات ودراسات باللغة العربية حوله. مع علمي بجهود مترجمين أكراد جادين طوال العقود الماضية قدموا عبر الصحافة خاصة في العاصمة وبعض العواصم العربية ترجمات طيبة لكنها غير كافية للاتصال و الاستمرارية في اعتقادي.

مؤخرا صدرت انطولوجيا الشعر الكردي المعاصر بعنوان دال هو  (أرواح في العراء) يقترحه المترجم و الشاعر الكردي العراقي عبدالله برزنجي المسهم هو نفسه في المشهد الشعري بقصائده الحديثة التي قرانا نماذج منها بالعربية..وقدم لها بدراية معمقة حاول فيها تقديم بانوراما نقدية عن الشعر الكردي المعاصر دون أن يهمل جذوره ومؤثراته ومستوفيا تياراته المختلفة  ومنظّرا للشعر بكون صناعة إنسانية والشعر الكردي تحديدا هو( شعر الإنسان المتسائل عند حافاته عن مصيره وحريته) منوها باحتشاده بالميثولوجيا تعبيرا عن موقف رؤيوي يجد الشعراء الكرد واقفين عند حافة غابة تصنعها الحروب  الطويلة دوما، لكنهم مضادون لهذه الغابة يهفون بتوق عارم تجسده أشعارهم للوصول إلى المدينة حيث الهوية والحرية والوجود .

عنوان الأنطولوجيا  التي صدرت ببغداد عن  ديوان المسار للترجمة  يعد عتبة مهمة  توجهنا صوب تخيل  منازلة بين الروح الشعرية  الضاجة بالحياة، وحنينها لتكتسب الوجود المادي بالسكن في جسد القصيدة التي تكون عارية ببياضها قبل أن تظهر بالفعل باصطلاح الفلاسفة بعد أن كانت موجودة بالقوة في أَسر الروح .

أهذا إذن تمثيل رمزي للوحة الشعر الكردي الحديث عبر مشاهده الافتراضية الثلاث التي يتقدم بها استهلال المترجم ا:مرحلة الحداثة الأولى الأقرب للمعاصرة والتجديد كما دشنها عبدالله كوران رائد الشعر الكردي  ومجايلوه كنوري صالح وكامران موكري ، ومرحلة التحديث  الفني والأسلوبي بتقنيات الحداثة المعروفة كما تجسدها أشعلر الستينيين ولاحقيهم : شيركو بيكس ولطيف هلمت وفرهاد شاكلي وأنور قادر ورفيق صابر وحسين عارف وجلال زنكبادي وصلاح شوان والمترجم نفسه وغيرهم، ومرحلة التسعينيات وتغير الخطاب الشعري بفجائعيته التي رصدها المعد والمترجم ،وبالتمرد الأسلوبي إلى حد كتابة النصوص البصرية والكونكريتية ونصوص البياض وسواها.وهو تجييل منطقي يسهل مهمة القراءة رغم تحفظ المترجم على التجييل كتكتيك أو إجراء نقدي .

في شعر المراحل كلها سيرصد متابع الشعر الكردي المنشور في العقود السابقة  ذلك الاحتفاء بالذات جزءا من تعزيز الهوية والانتماء إلى الأرض والتاريخ في رسالة شعرية تتلقفها فضاءات القصيدة لتوقف هيجاناتها العاطفية ، وتحوّلها بتطهير نفسي راق إلى مجازات أخاذة أسهمت الترجمة –و منجزها شاعر من المشهد نفسه- في توصيلها بأبعادها المضمونية الإنسانية وبحداثتها الأسلوبية.

إنسانيا لا تترفع القصيدة الكردية الحديثة عن الموضوع  فتكتب  لأبسط المشاهد البصرية والشعورية ما حدا بالشاعر علي الفواز إلى وصف الشعر الكردي  في الإستهلال بأنه محمول على سلالات طويلة من الميثولوجيا .

تتخيل الشاعرة  كزال أحمد في قصيدة ( سفر) لقاء مع كوران فيهبها بضع وصايا :

(صدفة في جادة فارغة

مررت بعبدالله كوران

ومن خلف خماري غمزت له

فعرّفني على الشعر ،

عقدَ قراني عليه

قال لي: كوني كما أنتِ ،كما كنتِ

كوني  دوما مشاكسة كطفلة

أشهد أن ذلك يليق بجمالك.) .

يلخص هذا المقطع قراءة الأجيال التالية لشعر الريادة والبحث عن قصيدة وصفها لطيف هلمت بأنها كالريح لا تصادق أحدا ، تُقبل وتتوارى ..وفي هذا الظهور والاختفاء تتلون القصيدة الكردية بأطياف الروح والطبيعة متخطية أصولها ، وهو ما رمز له صلاح شوان بالصلة بين النهر والجداول كدوال معبرة عن صلة الأصل بفرعه:

( لا وجود للنهر

 ما لم تتداخل  أجساد الجداول عارية

 في ليل الحب

و يقفر النهر ما لم تبح الجداول بعضها لبعض).

طبيعة تتماهى بها قصيدة محمد عمر بصورها المعمقة وشاعريتها:

( أنا جنرال الخريف

أعتمر قبعة من الغيوم

وأنجم أكتافي بضع أوراق مذهبة ليس إلا

 معطفي من الريح

وسيفي غصن شجرة متهرئة.)

 

اتحاد المتناقضات:

حول بيان الجنس الرابع

يرسل البيان الشعري –الجنس الرابع- ( جريدة الزمان 1-5-2008) الذي كتبه مجموعة من الشعراء العراقيين الشبان أكثر من إشارة أجد أن علينا ملاحظتها قبل مناقشة المقترح الذي يقدمه العنوان ويلخصه البيان المقتضب بشاعرية و دون تفصيل ، في مقدمة تلك الإشارات عودة روح الشباب العراقي إلى واجهة الحياة الثقافية رغم الظروف المريرة الحافّة بالحياة اليومية والخطر الذي يتهدد كل لحظة وجود الكاتب نفسه لا كتابته فحسب، والإشادة بهذه الروح الكفاحية لا تستدعي انتفاخ ذواتنا أو تمركزها قبليا أو قطريا  ، بل هي وصف لهذا الإصرار الواثق والمنتمي للكتابة  قدراً وكيانا ووجودا .

والإشارة الأخرى تتصل بمسؤولية التحديث التي أخذت في العراق أولوية ثقافية خاصة  رغم طابعها الشعري  ، منذ الأربعينيات التي غيّر الشعراء العراقيون فيها مسار القصيدة العربية صوب التجديد الكلي الممهد لما سيلي من إيغال في التحديث وجرأة في التطوير الشكلي للقصيدة .

وإذا كان مقترح قصيدة النثر قد ولد في لبنان هذه المرة في أروقة مجلة شعر وعلى صفحاتها ، وكان لها دور التبشير في المرحلة الأولى ،  فإن الإضافة العراقية في هذا المجال واضحة ومؤثرة وجرت دراستها وتأشيرها في أكثر من مناسبة نقدية أو بحثية..ويكفي أن نشير هنا إلى استباق المنشورات العراقية في ترسيخ التجربة عبر منابر متخصصة ، مثل  مجلة الكلمة والشعر 69ومن ثم في الطليعة الأدبية والأقلام والأديب المعاصر وأسفار،  بجانب الدواوين  المنشورة للشعراء العراقيين، والتجمعات ذات الطابع الجيلي أو المديني –جماعة كركوك – جيل السبعينيات- المؤتمرات والندوات الشبابية- والبيانات الشعرية  …

لكن أهم إشارة يرسلها بيان الجنس الرابع- ومن الموقعين عليه شعراء لهم تجارب  معروفة في كتابة قصيدة النثر- تتصل بالقلق الدائم بصدد التسمية ، والتجنيس ، والخصائص النصية  ،والتلقي ، وهي مشكلات أربع أجد من خلال المتابعة أنها تهيمن على  مجمل الكتابات المتعلقة بشعرية قصيدة النثر ، وقد جاءت شهادة البيان لتضيف ما يعزز هذا الاعتقاد ويؤكده ، ويلفت الانتباه إلى التساؤل عن علاقة قصيدة النثر بالأشكال والأجناس المجاورة.

لقد بدأ البيان من يقين بأن أجناس الأدب ثلاثة  ، دون إيضاح لهذه المعضلة التي شغلت منظّري الأدب ومصنّفيه منذ شعرية أرسطو حتى أحدث الكتابات في نظرية الأدب ، والأجناس والأنواع التي تنضوي تحت مميزاتها وخصائصها نصوص معينة دون سواها ..

يبدو الانزعاج واضحا في البيان من الإشارات النقدية  المقتبسة – المجتزأة- في المفتتح إلى  ما يجتمع  من مزايا متناقضة في قصيدة النثر ، بينما هي ميزتها الأساسية كعبور جريء على التصنيفات المستقرة و تجاوز للمحددات والحدود الإجناسية.

وهذا الأمر حاضر في الدراسات المنشورة حول قصيدة النثر في الفرنسية التي هي حاضنة قصيدة النثر الأولى.

في  الصفحات الأولى من كتاب ميشيل ساندرا ( قراءة في قصيدة النثر 1995)  -ترجمة د. زهير مجيد مغامس- تنبيه إلى ما تنطوي عليه قصيدة النثر من تناقضات تبدأ من المصطلح والتسمية  التي أطلقها بودلير على مجموعة من قطعه النثرية القصيرة ظهرت في الأول من نوفمبر 1861حتى صار مصطلح قصيدة النثر مستخدما في ثمانينيات القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ..

ويصف ساندرا قصيدة النثر بأنها نوع متقلب منطوٍ على تباينات وتناقض شكلي أسمته سوزان برنار( اتحاد المتناقضات) في دراسة مبكرة وتاريخية لقصيدة النثر كان لها أثرها عربيا  في صياغات المرحلة التبشيرية  لبياناتها حول قصيدة النثر ، والخطاب الشعري لجماعة شعر التي لخصها أنسي الحاج اختزالا  في مقدمته الشهيرة لديوانه( لن)  ، وعلى صفحات مجلة ( شعر) في فترة إصدارها الأول ـ  وأدبياتها،واستطرادات أدونيس حول الشعر والنثر، وتعديلاته اللاحقة المقترحة للتسمية التي أشاعها هو نفسه ( قصيدة النثر) والتي رأى في مقدمة أعماله الكاملة أن نستبدل بها مصطلح  (كتابة الشعر نثرا ) وهو ما لم يتوقف عنده البيان الذي اكتفى باجتزاء جملة من تفوهات أدونيس في لقاء صحفي قديم –عام 1960..

لكن ما أثار انزعاج شعراء البيان الشعري  هو معضلة تلق في المقام الأول ، حيث يعبّر البيان بلغة شعرية عن القلق بصدد الإشارة  المكررة في الدراسات والنقد إلى تناقض قصيدة النثر واحتوائها على مزايا وراثية ثنائية وازدواجات وتناقضات هي جزء من تكوينها الجيني-والجنيني؟- ، وهو مركز شعريتها أيضا.. فلماذا يعدّ البيان  التنبيه إلى تناقضاتها اتهاما ينشغل بالرد عليه وتوصيفه عكسيا بالتناقض  ، بل رجم القائلين به  بالشيزوفرينيا (لم نفارق أتون القدامة ونحن ندخن سيجارة الحداثة) كما يرد في البيان؟

و لكن  دعونا نسأل شعراء البيان :هل البديل أن نحشو سيجارة الحداثة بتبغٍ مولّف كيفما اتفق بلا نكهة أو ميزة حتى لو تولدت من تنافرات وتعارضات وتناقضات واضحة؟ ألا تنفتح بذلك مساحة القصيدة –النص لتلفظات  لم تتفرع عن غصن الناص كما يذكر البيان في سطريه الأخيرين وهذا  الانقطاع عن الغصون يخيف كما ينص البيان  كما تخيف الاستطالات والتفرعات أيضا؟

ومشكلة التلقي تهيمن ثانية على خطاب البيان بدل أن تكون التجربة التي يعانيها الشعراء الموقّعون على البيان هي المشغّل لاصطفافهم وإصدارهم لهذا الموجز النظري الذي زادته الصياغة الشعرية التباسا-وهي مشكلة بعض نصوص قصيدة النثر ذاتها التي لم تتخلّ عن الفضاء المجازي المتاح في تناغمات الوزنية الموروثة وإيقاعات الصورة واللغة الشعرية التقليدية- فالبيان يشير بذكاء وواقعية إلى ما يسميه( الرهبة من ثورة الآذان على اللسان ) في إحالة إلى السمعي والملفوظ أو التلقي الشفاهي للقصيدة التي لم يتغير موضع أو موقع القارئ في عملية تلقيها.. وهو أمر يتصل بما فهمت بصعوبة أن البيان يدعو إليه من حيث الجرأة في وصف قصيدة النثر بأنها نص وأن كاتبها ناصّ، وبذا تنضاف ميزة أخرى لمزاياها هي الاتساع النصي الذي أشرنا من قبل إلى انه يتمدد باتجاه السرد ويعطي قصيدة النثر تعيّنات وملموسية عوضا عن التهويمات الغنائية في الشعر الموزون  والخطابية في النثر الشعري ..

رهبة أخرى يشير إلها البيان وتُحسب لكاتبيه الشعراء هي رهبة القيمومة  كما يسمونها ، أي الانفلات من الأبوة والوصاية من الجيل السابق أو القناعات السابقة ، وهو حق لكل تجربة  ماثلة عبر أية ولادة أو ولادة جديدة كما يصف البيان الذي لم  يسمح برؤية سمات أو ملامح هذا المولود الذي حكى عنه ضمنا ولم يرِنا صورته لنتعرف  عليه، أهي خشية اللسان من العيان هذه المرة؟

– هنا أنقل للقارئ نص البيان

قصيدة النثر مخنثة مثل زهرة الجوري –الجنس الرابع-بيان شعري
إن كلمة ” قصيدة نثر ” ليست سوي اصطلاح أريد التعبير به عن نوع من الأدب ليس هو من النثر العادي كما أنه ليس بالشعر بل هو في قالب نثري وروح شعرية ، فكانت من هنا تسميته ” قصيدة نثرية ” ولكن هذا لا يمكن أن يعني أن القصيدة النثرية هي شعر ، وإنها حلت بالتالي محل القصيدة ، فالشعر شعر ، والنثر نثر .
أدونيس / حوار : إلياس سحاب / مجلة حوادث لبنان – 1960م .
قصيدة النثر حالة مروق لا تشاكل الشعر ولا تشاكل النثر ، هي تأسيس يمثّل جلداً متلفعاً لجسم الشعرية الحي ، فقصيدة النثر نص مخنث منفعل بنفسه مثل زهرة الجوري فيها صفات الذكر والأنثي معاً ، وقصيدة النثر فيها صفات الشعر وصفات النثر معاً .
ينظر : القصيدة والنص المضاد : د عبد الله الغذامي : 146.
بين الشعر وقصيدة النثر وشيجة حلمية … حيث لا ندري هل أصبح الشعر نثراً أم النثر هو الذي حلم أنه صار في القصيدة شعراً .
حلم الفراشة : د حاتم الصكر : 5.
– أن قصيدة النثر تستفيد من نصّيتها وإفلاتها من التجنيس في الإفادة من الخصائص السردية .حلم الفراشة : 48-49.
لم نفارق أتون القدامة حتي ونحن ندخن سيجارة الحداثة ، فنحن ما زلنا نمارس لعبة المدنّس والمقدّس ، ونحارب المفهوم الطبقي ونحن منغمسون فيه حدّ اللذة ، ما زلنا نحلم بسحرية فوقية للشعر علي كل ما ننتجه من إبداعات ، بحيث استحال روحاً لكل بديع…
الحيرة ملاذ أنساقنا الثقافية التي عادت لعرجونها القديم ، لا تنفكّ تغنّي لعشبة كلكامش ألحاناً طيفيةً ، لكنها لا تنتشي بغير شنشنة الشعر ، فهل آن لمن حار أن يبحث عن ملاذ جديد يعرفه في سرّه ؟!… لكنها الرهبة من ثورة الآذان علي الألسن .
المتن :
الحفر في البرزخ لا يؤدي إلي الحياة دوماً لكنه قد يعبر بنا إلي فضاء الموت الرحب … نسبح بالحلم أو الكابوس ، نلبس أكفان بعضنا لنقتنع بولادة من نوع خاص … هكذا هو جدل الولادة والولادة الجديدة .
حين انسلخت الكلمة عن إهابها في صناديق المعجم ورسمت لوحات إبداعية ، اقتنع بولاداتها الجديدة ، وأطّر حاميته بأطر الاسم الجديد الذي تبادل معه الحميمية … ولم يكن ضجراً من تناسل الولادات ما دامت تخلق له أفقاً لا يختلف في رحابه وإن ضاق … فهو يلتذّ بـ ” لذة الولادة الجديدة ” ، ” بالدهشة الولودة الآن ” ، فكانت الرواية أدباً جديداً نسل وجوده من موت الملحمة علي الرغم من أن الملحمة تحتضن الشعر بحميمية عالية ، لم تعدّ الرواية ضرباً عاقّاً ، بل كانت بارّة ، وإن لم تحتضن الشعر .
الرهبة من انفلات القيمومة عن الجديد هاجس أجلسنا في ظلال غير وارفة ، فتغيّرت سحنتنا ولمّا نغادر ، أما آن أن نترك لباس الرهبة ذاك ؟!… فالنثر لم يعد نثراً كما لم يصر شعراً فهو انسلخ كبذرته ” الكلمة ” عن أطره العتيقة لينفتح علي أطر باصرة بما تريد ، لكننا رجمناها بخفافيش قيمومة قديمة هي قيمومة الشعر .
قصيدة النثر … هي جنس رابع يجاور أجناس حاضنة الأدب ” الثلاثة ” لتغادر حاضنة الشعر التي لم ترحّب بها يوماً إلاّ علي مضض .
ما الضير في أن يكون ( شاعر / كاتب ) قصيدة النثر ” ناصّاً ” ليركز في قيعة طاعنة بالجديد والمغايرة .
الحدود المفتوحة تخون أحياناً رؤانا ، والضفيرة تمسك أحياناً أيضاً خيوط الدخان … فحضن ” قصيدة النثر ” أقعد بظلّه نتوءات لم تتفرّع عن غصن ” الناصّ ” .
انقطاع الغصون قد يشي بالموت المبكر … كما يشي التفرّع الشاسع بذلك أيضاً.
– الجنس الرابع

                                     ألف ياء الزمان -1/5/2008
الموقعّون :
مشتاق عباس معن ، فائز الشرع ، أحمد ناهم ، علاء جبر الموسوي الناجي ، حسن عبد راضي ، حسن قاسم ، إحسان التميمي ، علي محمد سعيد مهند طارق ، أمجد حميد التميمي ، قاسم السنجري ، علاوي كاظم كشيش ، سلام محمد البناي ، صلاح السيلاوي ، أحمد حسون ، محسن تركي ، عقيل أبو غريب ، حسين رضا ، حسن الكعبي ، علي أبو بكر .
 
 
 
 

آدم وخليقته  الشعرية

بديوانه  الأخير ( أيام آدم) يدخل الشاعر علي جعفر العلاق منطقة ميتافيزيقية  لم يألفها قارئ شعره القادم من ذاكرة دواوينه الأولى المنتمية في مجمل خطابها إلى نزعة رعوية نفتقدها في القصيدة العربية التي تدين للمدينة بأعرافها ، وتجافي فضاء الطبيعة ومفرداتها وموجوداتها ودلالاتها دون أن تتفحص أو تراجع الكيفية  التي كرستها  الرومانسية للطبيعة  بصورة نمطية ، جعلت الاقتراب منها اندراجا  جرميا في ذلك التيار العاطفي الذي يأخذ الطبيعة مهربا  وملاذا بديلا للعالم المديني بشرا وأمكنةً وعلاقات ، ويسبغ عليها سيولة أو ميوعة عاطفية أنكرها الواقعيون والرمزيون معا .

ولكن الطبيعة في شعر العلاق شيئية تحيل الفضاء إلى متعين حسي، و تتغذى من مفردات يُسقط عليها الشاعر إدراكه و وعيه وشعوره ويعيد تشكيلها شعريا لتكون مرجع ذاتها وتكتسب وجودا جديدا في فضاء آخر جديد هو  النص الشعري المحتدم بالرموز والإشارات اللغوية .

هكذا قرانا العلاق  الواسطي الستيني وأوّلنا شجره وماءه ورياحه و ناره وغيومه وطيوره وأمطاره وما تنضد في قاموسه الريفي المستند ببراءة تغيب عن برامج الحداثة  السائدة غالبا،  ليستعاض عنها بمكر تتآزر المخيلة والذاكرة والبصر على تشكيله من وهم أحيانا ، ومن تجارب ذهنية بادية الافتعال والاجترار.

يتفهرس شعر العلاق في النقد الشعري العراقي المفتون بالتجييل والتقسيمات- شأن الروح العراقية المتشظية والمنقسمة والهادرة بالأصوات – ضمن شعر الستينيات ، عقد التحولات والمراجعات والاحتدام في الشعر كما في السرد والتشكيل والمسرح والنقد ، ولكن العلاق يأخذ مكاناً خاصاً جعله بعيداً عن نزعات التجريب التي هيمنت على الخطاب الشعري الستيني .وانعكس ذلك في لغة  شعره ذاته وتسلل إلى مقالاته ودراساته النقدية أيضا.

فنياً ظل العلاق – وسط مقترحات التحديث الشعري ومشروعاته المتلاحقة كقصيدة النص  وقصيدة النثر وقصيدة السيرة والقصيدة السردية  وقصيدة الومضة القصيرة – متمسكا بوزنية سلسة وعذبة لا تنصاع للتلقي الشفاهي وضجيج الموسيقي و الحس الغنائي وما يفرض من أعراف ينتفي معها الاسترسال ، وتجنبا لهذا يلجأ العلاق لتهشيم البيت الشعري التقليدي مستعيضا عنه بالجملة الشعرية المكثفة ، ويستغني عن التقفية النسقية و تكرارها كمحرق إيقاعي يفقد أثره على المتلقي  بالتعاقب والثبات .

وكانت تلك الحميمية والألفة والصداقة الوثيقة للطبيعة طاردة للرموز والأساطير ومستغنية عن وجودها الثقافي أو الرمزي حتى كان احتكاك العلاق بقصة الخلق التي تضغط على ذاكرة الشعراء ومخيلاتهم منذ ابتدع الإنسان ملاحمه الكبرى ،وفكّر بالكون كوجود زمني ومكاني، واسترجع من أجل ذلك تاريخ الإنسان على الأرض ومرجع كينونته عليها ومغزى حضوره فيها ..ذلك الحضور الملتبس بالأسطورة التي يخلقها الموت كواقعة قدرية قاهرة لا قدرة للإنسان بقواه العقلية والجسدية على ردها بل حتى تفسير مغزاها وعبثية مدلولها .

هذا الدخول في الهم الكوني وتأمل مصائر البشر بعد تدبّر درس الطبيعة التي كان لها نصيب في تلك الأقدار وتدبيراتها أيضا نقل شعر العلاق بحدة استوجبت  منا انتباهة نقدية في زمن نشر قصيدة الديوان الرئيسة التي أخذ عنوانها عنوانا للمجموعة – وأذكر أن ثمة من رأى في وصف القصيدة بالمنحى الكوني مبالغة وتهويلا،  لكنني ما زلت أزعم أنه وصف محايد لا إطراء لزاوية النظر المطورة ، وترجمة للانشغال بالميتافيزيقي وما فوق الأرضي .

ويستتبع الانشغال بالخليقة شعريا كثرة الأسئلة التي تحتشد في القصيدة ،إذ لا شيء  يقيني في فكر الحداثة و الشعر المسكون بالقلق و الحدوس ، وبالبحث عن مغزى لهذا الاشتباك المصيري والحضور الكارثي للمجهول كما يرمز إليه الموت الذي يثير الأسئلة عن المبدأ –الولادة والخلق- وعن المنتهى –الموت والفناء-ومابين هذين القوسين القاسيين من بحث وعناء.

سيرينا عنوان القصيدة –أيام آدم –  مغزى نسبة الزمن لآدم توسيعا للسؤال وتوجيها للقارئ صوب الهم الملحمي وتحريكا لذاكرته وإحياء لرمزية الخلق والنزول إلى الأرض، كما يشي  استهلال القصيدة بذلك الاحتدام الاستفهامي المعبر أسلوبياً عن الرغبة العارمة بالسؤال:

أمن ضوء تفاحة

بدأ الكون ،

أم بدأ الكون

من ندمٍ

عاصفٍ

في الضمير؟

يمثل  استدعاء الخطيئة الأولى مرتكزا مهما في النص ترمز له التفاحة وشجرة الغواية ، بينما تتساءل الجملة التالية عن  حقيقة أخرى هي الندم الذي يعقب الفعل ، وينبغي أن نلاحظ قلب الصيغة في الجملة الشعرية الثانية والتي صارت استفهاما  ثانيا في حمّى السؤال وهيجان الرغبة في المعرفة ، وكان بالإمكان جعل الاستفهام واحدا في الجملتين بدلالة أم المعادلة كما في الوظيفة النحوية لها.

وتطول الأسئلة فتغدو جملا بفقرات واستطرادات، لأن العلاق يعين نفسه وقارئه لتلمّس ضوءٍ ما في عتمة الأسئلة ، فيقترح احتمالات  للإجابة على سؤال (كيف غدا آدم سيدا) مثل:

حينما اندلعت بين كفيه شمس الضحى؟ حينما شاع في الريح عطر رجولته؟ حينما جاءت امرأة…….

وبدخول المرأة يكتمل البعد الرمزي للنص وتلتم عناصر القصة لتفيض عنها مواجد يلخصها حضور ضمير المتكلم ساردا للحدث بعد أن خاتلتنا البداية بحيادية القص وموضوعيته ، وحضور المرأة ذاتها متناسلة أو متناسخة في شخص شهرزاد وتناظر وجودها مع الرجل.

كثير من الأسئلة يشيع في  بدايات قصائد الديوان الذي تطالع القارئ أولى جمله في أول صفحة بسؤال: ما الذي يشتعل الليلة في تيارك الغامض يا ماء المرايا:  ليورد الشاعر احتمالات ممكنة لا تتشكل كإجابات بل كأسئلة أيضا. ورموز مهمة تحضر في الديوان لتعزز منحاه الجديد الذي لم يفارق إيقاعاته المألوفة نغميا ، وإن ازداد الزهد بالتقفية واشتدت تشظية البيت الشعري في جمل تتناثر كمصائر البشر على كوكبهم الغريب.

الكتابة الشعرية النسوية- في العراق

نماذج مختارة

 
لا تزال الكتابة النسوية مثار جدل قائم ومتجدد يبدأ غالبا من حيث انتهى أو حسِبنا أنه توقف أو أفرز قناعات وزوايا نظر تغني قراءة الأدب شعرا وسردا وتنبه إلى مجالات مغيّبة فيه كالسيرة الذاتية ، ولكننا نتداول نقديا تلك التقاطعات بين منكر وجود خطاب نسوي مستقل ومميز ، وبين قائل بوجود هذا الخطاب والنصوص المؤشرة إليه والمؤكدة وجوده لا كامتياز أو تفوق بل كوصف وتمثيل لكتابة نوعية ذات مزايا خاصة تفرضها الظروف المحيطة بمنتجة الكتابة أولا وبالكتابة ذاتها عبر الذاكرة النظرية والنصية في أدبنا .
إن ما يصدر في السنوات الأخيرة من كتابات نسوية في الشعر والسرد يؤكد توفر الوعي النوعي المطلوب لإنجاز المهمة الفنية المتصلة بالكتابة ،  فيما تتعمق من جهة أخرى جماليات خاصة تتجاوز النظرة التقليدية لتلك لكتابة على أنها نتاج أنثوي جدير بالرعاية الأبوية من الذكور صانعي الخطاب المتداول والمدافعين عن جدواه واستمراره. فصارت للكتابة النسوية أعراف قراءة وجماليات تلقٍ  توازي المهمة الفنية المتبلورة في بنيات المكتوب النسوي وستراتيجياته وبرامجه.
و ذلك لا يعني التفاؤل بنضوج نقد نسوي بآليات وإجراءات ومفاهيم ومصطلحات منهجية مستقرة وواضحة ، فذلك ما لم يتعد بعد حدود إدانة الخطاب الذكوري المهيمن وفك النصوص من قبضة الوصاية الأبوية والتقاليد المهينة للمراة  كذات ووجود وتقصي ذلك في أعمالها أو في ما يكتب حولها
 
يزخر الشعر النسوي العراقي, شأن الحركة الشعرية فيه, بأسماء تتدافع عبر حلقات التجديد والتحديث, منذ اندرجت نازك الملائكة في ريادة حركة ( الشعر الحر) وتلتها أسماء ذات تجارب متنوعة الاتجاه والقيمة الشعرية مثل لميعة عمارة وآمال الزهاوي وبشرى البستاني ومي مظفر وأخريات..
لكن الأجيال الشعرية الشابة, وكاتبات قصيدة النثر خاصة, ستأخذ مكاناً مهماً مزدوجاً:
–         – في حلقات التجديد الشعري وموجاته التحديثية. –  وفي الإبداع النسوي كترجمة للوعي بالنوع الاجتماعي الخاص.
وبهذا المنظور سترد أسماء وتجارب نسوية متباينة الأهمية والمستوى أيضاً نذكر منها: سهام جبار ونجاة عبد الله وريم كبه وأمل الجبوري ودنيا ميخائيل وبلقيس حميد وفينوس فائق..
 
 
قديما مثل ذكرى في الريح
 
لكن ديوان الشاعرة العراقية والأكاديمية سهام جبار التي تنتمي إلى جيل الثمانينيات الشعري يؤكد ويدعم اعتقادنا  بما وصلت إليه الكاتبة والشاعرة من وعي بذاتها كنوع ثقافي ضمن مجتمعاتنا التي -وإن عانى رجالها من كثير من الإكراهات والحجز والعنف –  تظل المرأة  تعاني في درجة قصوى من ذلك كله أيضاً ولكن بمضاعفة الموانع والحواجز  .ٍ
في نص ( في قارب الطوفان ) تغدو الذات الأنثوية رمزا للخلق بعد الطوفان فترى نفسها سليلة تلك اللعنة الموصومة بالخطيئة الأولى وتستلهم رمزية التفاحة كإغواء منسوب إلى جنسها:
لن أعود إلى الشجرة
تفاحة ماضية
في عفن الإغواء
لقد جرى تكييف الحكاية كلها وتغيرت عناصرها السردية فصارت المروية –حواء-راوية  ً ولم تعد ثمة حدود لحضور الأسطوري والرمزي، فهنا الطوفان والخلق التالي على الأرض والتفاحة والشجرة والغواية ثم تطعيمات إغريقية: إيكاروس وميدوزا، مع عناق حار لحاضر معذِّب وعذب: العودة راعية عاشقة:
الحب خبأ إكليلي
وما أنا إلا فلاحة في مشحوف
أزرع ما أصطاد
والربات على رأسي
ينمون من شق شراعي
ستستوقف قراءتنا النسوية تكرار وتأكيد المؤنث: التفاحة –الشجرة-التلميذة –في النص نفسه-الجاذبية –العاصفة-الفلاحة- الربات ..
وإذا قارا هذا بالتنضيد الذكوري وتكدي وجود المذكر في قصيدة أخرى كتحدٍ للشاعرة نستطيع أن نشتق دلالة إضافية على وعي الشاعرة حتى في اللغة بوجودها ففي نص هو الثامن من( قصائد) تعد الشاعرة سجونهافهي خبيسة العلم الذي في الكتب( العلم مذكر ثم الدين والدخان والبيت وومعول وكرسي وحيطان وثوب وجسد .
وهذا ربما كان انعكاسا لسانيا للوعي النوعي لدى سهام التي أكدت ذلك حتى في تسمية ديوانها الأول بعنوان( الشاعرة) وكتبت قصيدة لاحقة في هذا الديوان بالعنوان المؤنث نفسه تتبسط فيها بما يشبه التعريف أو التقديم الذاتي لتعيد الشاعرة إلى مكان سماوي ربما للنظرة التطهرية والأخلاقية للشعر ولمكانة الشاعرة من بعد:
من السحائب أوقعتني العلل الخيالية
الشاعرة تروّج
الينابيع حليبا
يستر الغياب
…مجدها السحائب
والعلل الخيالية
والفلك الغائص باللؤلؤة
بنائيا يغلب على الديوان بوح متقطع تجسده الجمل  والقصيرة والتراكيب المقطوعة عن نهاياتها في القصائد ، وتلك التساؤلات التي تجسدها أبنية الاستفهام والتعجب الكثيرة في الديوان الذي تؤطّره الحالة العراقية ، التي اكتوت الشاعرة بنيرانها الكثيرة الاحتلال والعنف والهجرة –انتقلت سهام  مؤخرا للعيش في السويد بعد إصابتها بطلق ناري طائش في  طريق عودتها إلى المنزل ببغداد- مدينتها التي ولدت فيها ونشأت وتعلمت وعملت وكتبت شعرها ونشرته-.
بغداد الآن نقيض وقعها العاطفي ورنين اسمها التاريخي  / هنا بغداد/ إذ الحب أشد إماتة
والموت أشد حبا / هنا دويّ /..وبغداد رماد
وشأن العراقيات والعراقيين المتحسرين على وطن مضيّع تستنجد سهام بماضِيَين : شخصي يتحدر من جنوبٍ سكنها وتمثّل في أهوار تحمل عبق التاريخ والطفولة ، وعامّ ينطوي على ما شهدت بلاد الرافدين من حضارات،  ولكن الذي ظل الآن يدبّر محواً لهذين الماضيين معا بعد أن أعادت سومر لها بضمير المتكلم :
            طوفان قبور/ يمحو آثار سومريتي
أما الطلقة التي أصابتها فهي إحدى عطايا الدم المغدقة على البشر التي تستجيب لها ،  فتشير في هامش قصيدتها (أبدٌ مصغٍ) إلى أن القصيدة (رد على الإطلاقة الطائشة التي أصابتها!)فجعلتها تتخيل الميتة الأسطورية كما وردت في الذاكرة البابلية حيث الموتى يهبطون إلى ظلام العالم السفلي :
       في بلاد العالم السفلي  / هبطتُ / كنتُ خطىً آيبةً / وكانت الأيام غائصة ببيتي
وفي احتمالات الموت بعد الطلقة تتخير الشاعرة ما عرضته مسرحية هاملت عن الكينونة ( أن تكون أو لا تكون) بتحوير واضح الدلالة:
        أن تموت  / أو لا تموت / تلك هي المسألة
وتصبح هذه التعديلات إعلانا عن نهاية النص بالإصرار على الحياة بالقول:
      وأعيش ..أعيش / أعيش / وتلك هي المسألة
كما تستعين الشاعرة بثنائيات حداثية  تلائم منهج النثر في القصيدة:
الألفة والغرابة / اللتان تدفناني / واليقظة والحلم/اللذان يلامسان ينابيعي/ الاتساع  والضيق / اللذان أهرب بينهما  / القول الخالص والتردد العميق /الاستغناء والإلحاف المطلوب
ومن تعارضات تلك الثنائيات ينبثق شعر صافٍ تلونه النسوية كوعي بالذات  و بالخصوصية التي تنبئنا عن جراح إضافية لما حلّ بالوطن ،  فالشاعرة تتأمل دلالة  تأنيث الإصبع الذي لا يصلح صديقا بعد ذلك لأنه يضن بوجوده الذكري كإحالة للجنس الآخر:
الإصبع ليست صديقي، إنها صديقتي، إذ اللغة تجعلها أنثى/كانت إصبعا سحرية ما إن تدخل في خفايا الوجود/إذ اثنتان تصيران موجبا..
وفي النص نفسه: وهكذا أستعين بإصبع لأرسم نفسي
ستتكرر الإصبع –مدار تأويل  يمتد إلى اللذة والتوحد مع الجسد والاستيهامات الممكنة كأحلام يقظة:
   لكنك/ لست إصبعي/لست يدي/ لستَ العينين المتحيرتين في الظلام/لستَ الظلام
وما من عرش لمستوحدة.
   وستكسر هذه الدنيوية المغطاة بالصور والخيالات  تداعيات الشاعرة  في النصوص ممزوجة بصوفية متخفية تفصح عنها مخاطبات ومناجيات تعرضها بجلاء قصيدة  البداية ( على بابك) التي ذكرتني بقول السياب مستغيثا في أيام مرضه الأخيرة:
منطرحا أمام بابك الكبير/ أصرخ في الرمضاء..أستجير
تلك الاستغاثات أمام باب الله غير المذكور في النص أو المضاف إليه ، يمكن أن نردها لروح شعبية ترسبت في أعماق الشاعرة ، حيث الأبواب تفضي لمزارات وبيوت يمارس فيها الدعاء فتشاركها مجموعة من :
    العجائز والمحرومات وقلبي المعطَّلات كيد الصبر بك وقلبي/ الناذرات الموفيات والحانثات/ السائرات حافيات لاطمات/ المنكسرات بالزوايا / الخائفات الباكيات
وقلبي وقلبي وقلبي
ومثل هذه  الكِسَر المهربة من التقاليد الشعبية وعفويتها نجدها أيضا في مواقع أخرى من النصوص التي تقترض من الأسطورة والرمز والحكايات ما يدعم النصوص ويقويها  ،كالمرأة في القارورة والخروج منها-إحالة إلى ألف ليلة وليلة :
    كم أينع الشوك / ولم تخرجي من القارورة
واستخدام رمز الطوفان في قصة خلق مقترحة ومتخيلة بصور شعرية مؤثرة يحضر فيها دوما مركب يأخذها في اللجة وليس بعيدا عن الهاوية فكما انتهى الطوفان الكبير في جبل في العراق تنتهي طوفانات سهام جبار به وفيه فترى نفسها ( قيثار نهرين يترنحان).
النهايات الحزينة الفارغة من الحياة المستسلمة لموت أكيد نجت منه جسديا مرة لكنه يعيشها وتحياه وينتظرها وتتأمله ( الموت معش في الصلب/ والرأس يبحث)
وفي الختام نقرأ آخر بيتين في الديوان ليكونا آخر ما في هذه القراءة لأوجاع شاعرة مجدها الوحيد أنها أحاطت بالألم وصنعت له ذكرى ..
   الحمامة لم تغرد أية سيرة / عن شجر غائب /  ماكثة على شفا /  تركَنا وحدنا هذا الزمان..
 
برتقالة داليا رياض وتقاويم كولالة نوري
 
في هذه القراءة سنتوقف عند إصدارين ظهرا عام 2005م يجمعهما مشترك شعري ونسوي كما كما تفرقهما زوايا النظر واللغة الشعرية..
( البرتقالة والقمر) لداليا رياض( بغداد 1970م) و( تقاويم الوحشة) لكولاله نوري ( كركوك؟) وبحسب الإشارات البيوغرافية في الديوانين فإن الشاعرتين متقاربتا السن والثقافة ( دراستهما للأدب الإنجليزي وهجرتهما المتأخرة من العراق..) ولهما هموم شعرية متشابهة في خطوطها العامة: كالوعي بالنوع النسوي, والموقف من الرجل ورؤية العلاقة به, واستذكار الوطن بجمالياته وجراحه.. كما تحيلنا تقنيات قصائد الشاعرتين إلى ما هو مشترك بينهما كالكتابة بأسلوب قصيدة النثر دون سواها, وكتابة سلسلة من القصائد القصيرة جداً أو الومضات الشعرية.. وذلك لا يعني افتقاد الخصوصية لكل منهما, فثمة وعي متفاوت ينعكس في لغتهما وصورهما وعتبات نصوصهما كما سنرى.
تطالعنا داليا رياض بعنوان عادي لا يثير إحساساً بالانتماء إلى الحداثة كخطاب متكامل العناصر والأبنية النصية, وقد تسربت هذه التعبيرية العادية إلى رسام غلاف الديوان الذي كان مباشراً وتعبيرياً حين وضع برتقالة في أعلى اللوحة وقمراً متدلياً من سماء مليئة بالنجوم, فضلاً عما يثيره العنوان من حس شعبوي يتوافق مع الدلالات الرمزية ( المستهلكة) لكل من البرتقالة والقمر.. وكان بإمكان الشاعرة أن تأخذ من قصائد ديوانها عنواناً أكثر دلالة وشاعرية ولكن قارئ شعر داليا سيفاجأ بأن (البرتقالة) هنا رمز للذات لا للجسد فثمة في قصيدة (البرتقالة), وهي أولى قصائد الديوان ومفتتحه, ما يشير إلى الخوف من تقشير واعتصار يقوم بهما المخاطب, الذكر:
( أخاف أن تقشرني, فتكتشف انقساماتي البرتقالية
                                       أخاف أن، تعتصرني ظمآن, فأنزف ذاتي
                                        كم حاولت أن أصبح تفاحةً من أجلك
                                                رغم أني برتقالة. )
هذه القصيدة القصيرة, شأن أغلب قصائد الديوان, تنبني على فكرة الإرادة والمقدرة: رغبة الآخر في احتواء الأنثى ومقدرة الذات الأنثوية وهويتها التي لا تستطيع تبديلها إرضاءً للرجل.
أما (القمر) فهو قطب الديوان الأخر.. الرجل الذي خلقته الأسطورة من رحم ( النهار) بعد أن أحب ( ليلة).. ولكن المهم هو ما تختم به داليا قصيدتها( أسطورة القمر):
                                 ( ومنذ أن سمعت الأسطورة
                                    وأنا أحاول أن أفك القمر
                                    لأقرأ القصيدة التي بداخله)
ويمكن للقراءة الرمزية أن تجد في هذه النهاية محاولة من الشاعرة للبحث عما هو أنثوي في الرجل نفسه لتجد (القصيدة) المؤنثة داخل (القمر) المذكر.. ولتتبدد مخاوفها من مغايرة الرجل واختلافه عنها.. لكن (الشعبوية) ليست بعيدة عن خطاب داليا الشعري سواء في مفردات مثل (نوم العافية) أو(الكراميل والقرقشة) أو في عبارات الإهداء, لكن المنظور النسوي يطغى على الخطاب ويوجه قراءة القارئ.. فالذكر مدان ومنبوذ بل هو(الكلب الضروري), عنوان إحدى القصائد, والمختفي في بطون الأصدقاء والذي لا تدري الشاعرة متى يخرج وينهش لحمها..
والنسوية واضحة في قصيدة (ماذا نطبخ غداً) حيث ستطهو المرأة سخافات الرجل وتعبه وحبه البارد.. وكذلك في ترميز أساطير الخلق كما رأينا في تفسير خلق القمر من ورقة رمتها (ليلة) أحبها (نهار).. وفي (أسطورة دجلة والفرات) كمؤنث ومذكر, و(حوارية آدم وحواء) كمخلوقين متناظرين عدائياً. وثمة خوف متكرر من (أن تؤكل) الشاعرة كثمرة ومن آخر ذكر يقرقش عظامها.
الوطن له في الديوان حضور واضح فهو كالرجل ضرورة قاسية, تقرر عدالته:
( أن تكون أيامكم كلها
مسيرة في مأتم عظيم)
وبغداد والجلد بينهما خارطة لا يغيرها الاحتلال, كما تقول الشاعرة في قصيدة ذات عنوان ساخر (خارطة الطريق) لكن الوطن عذاب في الحالين, داخله وخارجه:
( أبدو كالخروف المسلوخ عندما أخرج من بغداد
وأبدو كالخروف العدّ للسلخ عندما أكون فيها)
ولكن ما يسجل على خطاب داليا المنتمي لقصيدة النثر كلياً هو تساهلها في بناء الجمل الشعرية وأخطاء اللغة والتراكيب التي يفهمها القارئ ضمن تلك الشعبوية الواضحة في الديوان والتي تقابلها_ كمفارقة_ روح مترفة ذات برجوازية تنعكس في مفردات أجنبية كثيرة في الديوان ومنظور متعال لا تخفيه العامية.
وبسبب ذلك تزهد داليا بالصور والمجازات فتكتفي باللغة المباشرة دون وصف وشرح أو تأكيد, وتتنازل عن التشبيهات التي تهنها المخيلة إلا على سبيل التناظر وهو موقف كلي يؤطر القصيدة:
( نعمل سوياً كفريق
كالبحر والغوص
والظفر والخربشة
والقفل والمفتاح
والقنديل والضوء
والشفة والقبلة)
لكن قصائد داليا القصيرة المنفردة داخل الديوان الصغير بعنوان خاص ( قلادة الغجر) تمثل حبات مصغرة في القلادة.. وتنضغط حتى تصل أحياناً البيتين فقط بتركيز يتخفف من ترهلات القصيدة وتفاصيلها:
( وضعت فمي على الزناد
فانطلقت قبلة منسيّة)
تنتبه كولاله نوري إلى موجهات القراءة بشكل أكثر ذكاءً فتهتم بالعنونة ليكون عنوان (تقاويم الوحشة) مركباً إضافياً من الأجندة والزمن المتراكم ومن حالة (الوحشة) التي ترقى بالغربة من مجرد حضور جسدي في مكان آخر إلى شعور نفسي بالعزلة والحزن.. والعنوان مأخوذ من بيت ختمت به الشاعرة إحدى قصائدها.
كما يبدو الإهداء انعكاسا لإحساس مأساوي وجمعي, وهو مأخوذ من بيت للشاعرة في رثاء حسين الحسيني:
( إلى أجمل الضحايا..
نحن    )
وهذا الحس الفاجع يضاف إلى العنوان لتوجيه القارئ صوب خطاب حزين يعي مأساة الإنسان على هذا الكوكب, ومعاناة الإنسان, رجلاً وامرأة, في وطن محترق كالعراق, والذي يصبح العيش داخله وخارجه سواء كما عبرت زميلتها داليا أيضاً.. فتقول كولاله متضرعة في إحدى قصائدها أن يعود البلد ويرحل الممثلون:
( إلهي ردّ لي مطري
ردّ لي بلدي
وأحملهم مع أكاذيبهم)
لكن الوطن ليس جنة فقط بل هو (بلد النخيل وقاطعي الرؤوس) كما تقول. وهذا الموقف المزدوج قبولاً ورفضاً يتضح في رؤية الرجل من منظور الشاعرة, فهي ذات منظور نسوي يتسم بالوعي بالدور الاجتماعي. لكنها في الوقت الذي تبعث فيه برسائل حب واشتهاء للآخر الذكر, تسم الرجال كلهم بهبائياتها:
(… الرجال كلهم نائمون
كثيرون
هم الرجال
لكنهم ليسوا سوى ضجيج)
وإذا اعتبرنا ذلك إنفلاتات شعرية وهيجانات صورية في ما يشخصه سليم بركات في شعر كولاله على أنه (سياق من الشغب) فإنها ستعيد ذلك لتصور الرجل الذي يقابل حلمها بالبرودة والعادية في قصيدة (أنا أحلم) التي تتكرر فيها لازمة النص (أنا أحلم) تليه كل مرة ابتعادات الرجل ووقاره  وحساباته.. فيما تشارك زميلتها داليا في فكرة التقشير ولكن بمنظور معاكس فهي التي ستقشر الرجل هذه المرة وحين تتزوج (يطلقها السلام) لذا كثرت قصائد كولاله  إهداءات القصائد إلى نساء وأحياناً إلى أطفال.
السخرية لدى كولاله تجعلها تعابث اللغة فتصنع تقابلات ساخرة بين المفخخة والفخفخة, والأنغام والألغام, والمعادية وعدوت, والسراب والسرب…
والسرد أيضاً يجمع الشاعرتين ضمن انتمائهما لخطاب قصيدة النثر المستندة إلى بؤر أو مراكز سردية تنتشر من قلب النص إلى أطرافه ونهاياته حتى في القصائد القصيرة التي تكتبها كولاله في هذا الديوان.
سرد وحوارات مقطوعة واسترجاعات وغزل وغضب وشعبوية وترف.. كل ذلك بين قوي الاهتمام النسوي للشاعرتين وتقاسمهما القدر والمصير علامة على جيل يوائم إيقاعه الخاص في الحياة وإيقاع نصوصه مع إيقاع وطني يغيم فيه كل شيء ويحترق ويتناثر رماده في الريح.
 
فليحة حسن: عاطفة جامحة  وشعر أنثوي
 
مع (قصائد أمي) ديوان فليحة حسن نطالع مشهداً لوعي مغاير قليلا للنسوية المتيدية في شعر زميلاتها،هي أنثوية الوعي بمعنةى انشغالها بمفردات بيتية وعاطفية يجسد بعضها ون قصد الدور النوعي الذي يسنده الرجل-الذكر للأنثى فالعاطفة المنبعثة من لغتها وصورها وموضوعاتها تشي بذلك ، فضلا عن العنوان الذي يسند القصائد للام في تكريس للانتماء التقليدي والعلاقة المتوارثة أم –بنتن هناك المقتبس الذي وضعته اعتزازا وإعلانا على غلاف ديوانها وهو مقطع يؤكد تلك العلاقة:
لو فتحت أبواب سمائي اليوم/ودنا وهج دعائي من أذن الغيب/
لقلت رغم الموت المربوط بكاحلها الآن/ يا رب (احفظ أمي).
وفي شعر فليحة تختلط الأشكال الشعرية : فصيحة وشعبية ومختلطة ،وكذلك موزونة  عموديا وحرة وقصائد نثر. وربما كان فيض العاطفة يكتسح حدود الاشكال ويدخل الشاعرة وصائدها في مناطق مختلفة الإيقاعات وزوايا النظر والرؤى.وهذا يبدو في القصائد المتجهة عاطفيا إلى الرجل-الحبيب شوقا وعتابا، كالقول:وان أراد قليلا من الشاي/هل سأسكبني كوبا له؟ والقولك
أدري أن هناك رجالا أكثر منك حنانا/وأكثر من عينيك أماناً / لكن لا يعنيني كم أصرةٍ لجزيء الماء/ ما أعرفه أني من غير الماء أموت ظمأ/ وكذلك / من غير وجودك.
وفي قصائدها الأسرية الموجهة للأبناء مثلا وسواهم ،كقصيدتها المهداة إلى ابنها في عيد ميلاده،او الموجهة لامها،  وهي الروابط التي تراها كوشائج بينها والشعراء الذين ترثيهم:نازك الملائكة ومحمود درويش.
ولكن ما يميز قصائد فليحة ربطها أكثر الموضوعات ذاتية كالحب مثلا بالمحيط والجو المهيمن على شعورها وفي مقدمتها دخان الحروب وما تفعل بالبشر حين تئد أحلامهم وتباعد بينهم وتأخذهم إلى مجهولها:
إلى أول الأمس كنا صغارا/ ونلعب في العصر جر الحبال/ ولما نعي/سيأتي ظلام/ وان الحروب تحوك/وراء السواتر/ حبلا من الدم/لتلعب فيه/ جر الرجال.
كما ترى المدينة في مشهد وي تلبس فيه الأمكنة شارة دم وموت، فتقول في قصيدة قصيرة بعنوان (عادة ) :
   حين أتسلق كتف مدينتنا/لا أبصر غير اثنين/بقايا ذاكرة/ وجثامين تجهل وجهتها أين؟
 
ولا أشك أن المنظر الذي تقدمه قصائد فليحة حسن سيضيف لدارسي القصيدة العراقية النسوية مبررا للقول بوجود وعي مغاير يرتب على الدارسين فحص خطابه وفهرسته أنثويا بجدارة لأنه يرى الأشياء والعالم والآخر بزاوية نظر مختلفة.
 
.الذئب والهاوية: الإفصاح و خصوصية الكتابة النسوية في شعر بشرى البستاني
 
رغم أن العنوان  في عمل الشاعرة بشرى البستاني هو( أندلسيات لجروح العراق)،فإنني إذ  أقدم  مجموعة أشعارها هذه  – وهي حصيلة سنوات متباعدة ومناخات شعرية متنوعة  لا تكفي للتعرف على جهد بشرى البستاني وحضورها في الشعرية العراقية منذ عقود ومواكبتها للتحديث واحتوئها لقضايا  ذاتها و ووطنها –  آثرت أن أقاربها  من خلال المنظور النسوي، وكيفية تعبيرها عن الوعي النوعي والدور الثقافي في الشعر والحياة معا، مشجعا بمقدمتها النظرية المغرية بالتأمل في مفتتح أعمالها والمعنونة: إبداع المرأة بين الخصوصية والسؤال، والدخول إلى نصوصها  لما تتجسد فيها  من انعكاسات ذلك الوعي ،وكذلك من فسحة لتأمل مسافة التنظير والتطبيق: أي مقارنة التلفظات والرؤى النقدية حول (خصوصية) إبداع المرأة ، و التي احتلت الصدارة كعتبة مهمة تقدمها الشاعرة لقرائها كبيان تصوري عن إمكان وجود ما يميز الخطاب النسوي عن الذكوري على مستوى الرؤية والتحقق النصي .
تلك الشهادة أو البيان الافتتاحي سيكون لها دور الموجّه القوي في قراءة العمل كنصوص يحيط بها الوعي النوعي أو الجندر الذي كثرت الدراسات النظرية حوله، لكنه ظل محل اختلاف محتدم يرد السؤال كله ويلخصه  في البحث عن سمات تؤكد اختلاف خطاب المرأة عن الرجل ، وبالتالي يبحث في ملامح تلك الخصوصية المفترضة.
ولقد جرى رفض المصطلح –الأدب النسوي – حتى من طرف كاتبات وأديبات –أعلنَّ لأسباب عدة أن ليس من فرق بين الخطابين مادام الرجل والمراة يعانيان كلاهما من محددات واحدة وضغوط وإشكالات متشابهة.
وسيجد القارئ أن بشرى البستاني تقترح موقفا معتدلا من قراءة أشعار المرأة بمنهج نسوي يرى مدى توفر الوعي بدورها وذاتها كنوع ( امرأة /ذكر)  وليس كجنس (أنثى / رجل) ، وكذلك كيفية تعبيرها عن ذلك  او تمثيلها له في صور ولغة وإيقاعات تسمح أخيرا بتلمس خصوصيةٍ
ما تتيح بدورها تأكيد الفرق بين الخطابين: النسوي والذكوري.
تشير المقدمة النظرية إلى (ثقل) ما يقع على المرأة والاعباء التي ترتبت على كون الرجل صانع الخطاب الذي يهيمن على المجتمع والأدوار المسندة لكل من الرجل والمرأة ، وهو ما سيدعو الكاتبة العربية للتحرر مما تسميه الشاعرة في مقدمتها (أغلال الصمت الذي فرضته اشتراطلات عدة) وتقترح الشاعرة أن تكون الكتابة إفضاء وإفصاحا عن ذات المراة بمقابل الصمت المفروض عليها، وبعد ذلك يأتي السؤال عن إمكان وجود خصوصية في تلك الكتابة وسمات فارقة لها عن أدب أو كتابة الرجل، وهو الموضوع الخلافي لدى دارسي ودارسات النسوية والنوع والدور
الاجتماعي والثقافي للمرأة.
تلك المقدمة النظرية تحترز من التطرف والنقابية النسوية التي تجعل الكتابة رد فعل فحسب على اضطهاد المرأة ، وتوسع أفق الرؤية لتلتقي كتابة الجنسين في فضاء القضايا ( الإنسانية وفي ظروف عدوانية تسحق الجميع) ولكن يظل ثمة هامش لتميز المرأة وخصوصيتها  بما انها ذات مشاعر خاصة وعواطف و تأثرات تقوي حضورها خصوصيتها البايولوجية والنفسية أيضا.
ومن هنا يمكن الاحتكاك بالنصوص الشعرية التي ضمها عمل بشرى البستاني الذي يبدأ من جرح الوطن الذي كرّت عليه الارزاء من الطغاة والغزاة والغلاة متعاقبين ومشتركين في هدم روحه وحضارته وإنسانه وثروته.أندلسيات لجرح العراق هو الملامسة النسوية لموضوع إنساني او قضية تحرض على الإبداع الحقيقي كما تقول في ختام مقدمتها.
وما العنوان (أندلسيات) إلا انبثاق من تلك الخصوصية، فالتعامل مع التحدي والمقاومة والقضية التي تخص الوطن وحريته يذهب بالمضمون إلى أندلسيات تحف بها الرقة بما عرف عن الاندلس من شجن وعذوبة وكذلك بما تحمله من رنين عاطفي وذاكرة بالنسبة للعربي ، وما تجدد فيها من فن وكتابة وعلوم.تلك الاندلسيات تؤطر موضوعات القصائد ، وتحيل إلى معاينتها بخصوصية المراة التي سنرى أن الثنائيات هي اكثر المهيمنات السيميولوجية عليها. إنها تبث إشارات قابلة للتعين والإيحاء بما لدى الشاعرة من معاناة وروح كفاحية تؤكدها زوايا التقائها بموضوعاتها.
وحتى بالعودة إلى أشعار قديمة زمنيا عن تاريخ إصدار هذا العمل  سنجد تلك الثنائيات حاضرة بوضوح ، ومنها عنوان ديوانها الأول:الاغنية والسكين.فالإشارة القوية على مستوى الدلالة هي للأغنية بما أنها إعلاء للشعور الإنساني والفرح والبهجة الذاتية ، بينما تقابلها السكين بما تعنيه من عنف وموت محتمل وقسوة.
وفي ثنايا ديوانها سنجد تشكلا لتلك الثنائيات بتنويعات مختلفة سأشير إلى بعضها مثل: الوردة والجرح، والذبح والسكين، النجم والهاوية أو الذئب والهاوية في صياغة اخرى .
اللافت في تلك التمثيلات هو الشعور بالعنف المسلط على المرأة وترحيله رمزيا إلى موجودات ومخلوقات اخرى كالوردة مثلا وهي مؤنثة  كذلك،
ولكن ثنائية الذئب والهاوية أشد الإشارات دلالة؛  لما تعنيه الهاوية من نهاية مأساوية يذهب إلى قرارتها ذلك الذئب الذي يتربص بأحلام الشاعرة وآمالها.هو ذكر، لكن ما ينتظره من مصير تهيؤه له أنثى: الهاوية.رغم ذلك
تصبح الهاوية في واحد من النصوص القصيرة للشاعرة خطرا يحدق بالأنثى أيضا، لا يقل عن الذئب خطرا وهو يعيد إلى الذاكرة التناصية ما حذر طارق بن زياد جنده: العدو من أمامكم والبحر من وراءكم:
لا تتلفتي
وراءك ذئب
لا تتقدمي امامك هاوية
كيف ستفصح الوردة عن جرحها إذن؟
سنعود إلى افتراضاتنا السابقة: الوردة أنثى ، والإفصاح غاية الكتابة النسوية، ولكن في شروط قاهرة كالإحاطة بها من الجانبين: بذئب وهاوية ، بموت  وافتراس، لذا فهي  لن تجد سبيلها إلى ذلك الإفصاح الذي اكدته مقدمة الشاعرة.
بين الذئب في الوراء والهاوية في المقدمة تتحدد خيارات المرأة ،ولا تجد سبيلا للانعتاق إلا بتقليب محنتها وتسميتها بأسماء أخرى  ، فالمراة لا تكف عن الكفاح رغم أن الهاوية حاضرة أيضا :
 
كلما طرقتُ الباب على نجم
انفتحتْ امامي هاوية
الهاوية إذن مفتوحة مسلطة على محاولاتها للانعتاق ، وهو ما يضعها في صلب معاناة وطنها ايضا ،لا سيما وهي من جيل لم يكن لذاته انفكاك عن ذات الجماعة وقضاياها ، وهذا توسيع لما هو ذاتي كي يشمل الجماعي وليدل الخاص على العام.
وبالعودة إلى الصمت المرفوض في برنامج الشاعرة نقرأ إشارات مبكرة في ديوانها الأول تترمز فيه المراة بصورة حلم يضمه القلب ،وغزلان تتربع  على العرش لكنها –الاحلام والغزلان – يتعبها الصمت ، بل ستتسرب عدوى التعب إلى الصمت نفسه :
تعبت غزلان العرش من الصمت
تعبت احلام القلب من الصمت
من حولي تعب الصمت
تستوقف القارئ  أيضا في البحث عن دلالات الخطاب الخاص المعبر عن ثنائية الذئب والهاوية  نصوص عمل الشاعرة المعنون (مخاطبات حواء) الذي يقترح علينا كمقابة قرائية له أن نبدأ من العنوان ، فالمخاطبات هي عملية تناص مع النفري، والقسم المخصص للمخاطبات في كتابه المؤثر في ملفوظات الحداثة الشعرية ، والمتكررفي معالجات نصية وفيرة، لكن إسناد المخاطبات لحواء تحديدا يوسع مساحة التناص من كونه حياة نص قديم في كتلة نصية جديدة وامتصاصه وتمثيله والدخول معه في علاقة او وشيجة بنائية ، ويجعل الخطاب النسوي مهيمنا على المخاطبات رغم استعارتها الجانب الإشراقي والفيض الوجداني من المتصوفة، ومن صياغات النفري تحديدا.
استهلال المخاطبات بحرف الواو يعد تقنية سردية لافتة لانها تحيل لمسكوت عنه قبل الواو:
وكنت تفتح بأصابع اللهب صدري..
وتلقي فيه بالكلمة
 
وهو استهلال افتتاحي ستنسحب بعده الساردة  لتسمعنا عبر روايتها هي ما قال الرجل فيها:
قلتَ
يا رهينة المحبسين
خذيني إلى ملكوت محبسيك
ليصيرا اربعة
ونصير داخل الأربعة واحدا
الوجد
وانا
والاغنية
وانتِ
مشيرة بالرمز المختزل إلى سجونها او محابسها المتوسعة عن عمى المعري وعيشه بين الناس ، ووصولا إلى وجد رابعة   العدوية وتماهها بالمحبوب ، وصيرورة الاربعة واحدا في نص البستاني أضاف للتناص بعدا نسويا حيث يشارك الرجل امرأته محابسها .
تستمر المخاطبات بما يقول الرجل مكررة الفعل( وقلتَ) لتنتهي النصوص الصغيرة او المخاطبات بالفعل( وقلتَ) لكنه متبوع بنقاط تشير لاستمراره وانقطاعه معا: استمراره بدلالة التتابع في النقاط التالية له ، وانقطاعه بالصمت وانتهاء النص  بناء دون نهايته دلاليا.
حواء في المخاطبات تسجل للرجل ما يعنيه لوجودها ، لكنها تاخذ دور شهرزاد، فتروي ثم تصمت انتظارا لمصير تهيؤه الهاوية ،ويحف به ذئب مترصد بصمتها؛ فتتحداه ببوحها وإفصاحها الذي حملته النصوص لكنني  سأدع القارئ يكتشف بنفسه ما انطوى عليه من حداثة في الرؤية والفن معا ، والحرية التي تنشدها الشاعرة لذاتها ووطنها ، وتجسده في اختيار الأشكال الشعرية دون حرج ،فتجد الشعر الحر وقصيدة النثر معا. . فتتنوع المعالجات تبعا لذلك ولا تتكرر المحمولات الرمزية بل تتعدد صياغاتها ودلالاتها وزوايا النظر فيها . وهو ما يحسب للشاعرة جزءا من تميزتها ومثابرتها الشع
 
 
 
 
 
 
 
دنيا ميخائيل: الليالي العراقية
تذهب الشاعرة العراقية المغتربة دنيا ميخائيل إلى ألف ليلة وليلة أو (الليالي العربية) كما عرفها الغرب؛ لتحوّلها إلى الليالي العراقية، ليس لسمة اللذة أو المتعة، ولكن لغرائبية الأحداث وقوة الدلالة المتأتية من عجائبية ما يحدث ولا يستطيع سوى منطق الخيال السردي الحر أن يقتنع بإمكان حصوله
ولكن قصائد الليالي العراقية تحيل إلى ذاكرة متون أخرى أيضاً كمراجع بجانب الليالي المهيمنة على لافتة العنوان هي الألواح السومرية والتراث العراقي القديم: أساطيره وحكاياته وشخوصه وأمكنته. واستدعاء ذلك كله بجانب المعاناة الشاخصة أو المعاصرة يهب نصوص دنيا ميخائيل الأخيرة تنوعا لم تعرفه قصائد ديوانها (الحرب تعمل بجدّ).. المكرس لفجائعية الحرب وتفاصيلها وتداعياتها. هنا حياة مترامية الأطراف تشد حبال أرجوحتها أخيلة ممتدة من أميركا، حيث تقيم وتعيش، لبغداد حيث حياتها المستمرة منذ ولادتها .. وبالعكس! تسافر حرة من الأمكنة الحاضرة إلى البائدة.. ومن زمن تحجر في اللقى والجدران إلى  وقت تعلّب في ماكنة الألم اليومي! ولا يفعل الحنين فعله الشعوري المبسط فيثير النوستالجيا المرضية، بل يصنع متحفا للذاكرة وتفاصيلها؛ فتشارك الشاعرة زملاءها الشعراء المغتربين في الاستنجاد بالتراث العراقي ومدوناته المؤثرة ذات النفوذ المستمر، وتلك سمة موضوعية وفنية تستحق الدراسة، فقد حضر المرجع الرافديني بأساطيره وملاحمه وفنونه، كما لم يكن في شعر الهجرات الأولى؛ حين كان شعراء المنافي والمهاجر والمغتربات بشتى أحوالهم وسبل اتصالهم بوطنهم، مأخوذين بما يحدث من صراع تدبره السياسة غالبا، ويضع القصيدة في موقف الآن والحاضر المحتدم بالعنف والطغيان والخسائر التي تمس الذات والوطن، ولكن معاناة جيل الهجرة في الألفية الثالثة تغدو مصهرا لمؤثرات ومثيرات شتى في مقدمتها حضور الوطن كوجود  حضاري وإنساني تستهدفه دكتاتورية الحكام وشهوات المحتل ووحشية المتطرفين، فيجتمع الطغاة والغزاة والغلاة على مأدبة الدم ومهرجان الألم الذي يلوح بين ضحاياه كل ما ترك العراقي من إرث، ولكن بغداد تلتمع لا كبقعة بعيدة بل كضوء علوي، فتخاطب الشاعرة طفلتها لارسا عن حبها في نص يحمل اسمها: (وأحبك أكبر من كوكب الأرض/ من هنا إلى بغداد/ ذهابا وإيابا/وأحبك أقوى من أصوات الانفجارات/وأحبك أعمق من جرح) ولا يحجب جرح الوطن معاناة الذات، تكتب الشاعرة متمثلة جريان المألوف في جسد الحب بين رجل وامرأة فيصبح المشهد:(هو يشاهد التلفزيون/ وهي تمسك رواية/ على غلاف الرواية/ رجل يشاهد التلفزيون /وامرأة تمسك رواية).
فنياً تعتمد الشاعرة قصيدة النثر؛ مستفيدة مما تتيحه من السرد وتداعيات المونتاج؛ فتتدرج القصائد من لحظةٍ ما لتتطور لاحقا وتكتمل زمنيتها، كقصيدتها عن دورة حياة سيدة سومرية وعن لارسا المرتقية سلالم الحياة وعن الحياة ذاتها في عادياتها واحتمال استبدالها بأخرى، ومن كوكب الأرض إلى كوكب آخر مثل يوتوبيا بشرية، متسائلة عما سيحدث لعشتار بعد الليلة الألف لعل في القصائد ما يعين على معرفة الجواب.
 
 
 

انزياحات شعرية في احتدام الوقائع

يقيم الشاعر عبد الرزاق الربيعي ((بغداد 1961)) تجربته الشعرية على استثمار توترات المفردة وإيحاءاتها الدلالية انطلاقاً من محرق صرفي خالص، فكأنما تعمل لغته داخل وجودها اللفظي، أو ما يعرف باللغة الشارحة التي تتحدث عن نفسها كدوال أكثر من إحالتها إلى مدلولات خارجية، وتعكس وعيها كذات بالنسق الذي تشكله. وهذا أمر شارك فيه أصدقاء من جيله الثمانيني ((بحسب الأجندة الشعرية وتحقيب الأجيال في الشعر العراقي)) لعل أبرزهم عدنان الصائغ وعلي الشلاه في هذا المجال اللغوي.

وقد اخذ شغل اللغة على نفسها أو ما يعرف ب”الميتا – لغة” جزءاً مهماً من كيفيات التعبير في قصائد الربيعي… وأظنه استراح لهذا الوعي الذاتي للغة بالأنساق التي تتشكل عنها، فراح يؤكدها بطريقتين: الإلحاح على الانزياحات اللغوية والصورية، و الإتيان بما يخالف توقيع القارئ للعبارة المتناظرة، مثلما سمي ديوانه الماثل للقراءة “موجز الأخطاء” فهو ينزاح عن المتوقع المألوف “موجز الأخبار” وكقوله في عنوان إحدى قصائده “تأبط منفى” انزياحاً عن “تأبط شراً المعروف في تراثنا الشعري.هو انزياح بالإضافة، بينما كانت “الأخطاء” انزياحاً  حروفياَ يتلاعب بالحروف الأخيرة من الكلمة.واستثمار طاقة التناص لخلق انزياح أكبر.. فهو يكمل الأبيات المضمنة بما ينحرف بدلالتها.. فيقول: بيوم كريهة  وسداد… قلبي بدلا عن قول الشاعر: ذهب الذين أحبهم../ وفاطمة ولقد تأكدت حماسة الربيعي لإقامة شعرية قصائده على الانزياحات بشتى أنواعها في هذا الديون الثالث في إصدارته بعد: إلحاقاً بالموت السابق 1986 وحداداً على ما تبقى 1993 وسوف ترينا عناوين دواوينه ارتياحه لهذا الأسلوب الانزياحي واستثمار المفارقة الحاصلة بين المتوقع و المتحقق.. بل انه يعلن في خاتمة ديوانه الثالث عن ديوان رابع مخطوط بعنوان “جنائز معلقة” وهي إشارة واضحة للجنائن المعلقة ” ببابل حيث خلق الانزياح الحروفي في نقلة دلالية هائلة متحصلة من المقابلة بين جنائن و جنائز بما تحمله كل منهما من إحالة مغايرة.. ولعل هذا الصنيع الخاص بالشاعر سيقدمه لنا ساخراً فكها يلاطف قارئه ويمازح اللغة نفسها ، بينما ينطوي شعره على مرارات وخسائر تبدأ بمفارقة الوطن ولا تنتهي بفقدان الحبيبات و الأصدقاء و الطفولة ،

و يكون على قارئه إذن أن يغير موقع قراءته، فاللغة  هنا لا تصف الوقائع المحتدمة في القصائد لتشرح عملها وتتأمل نفسها متجاوزه الصلة الغنائية الساذجة بموضوعها. إنها لغة  في حالة عمل تراقب ذاتها كموسيقى ودلالة و تركيب.

فاستشهاد يحيى العياش مثلاً سيثير في الشاعر ما لم يستخدمه سواه وهي دلالة الفعل يحيى فيبدأ قصيدة ((صمود يحيى عياش)) بالقول سمته الضفة يحيى /كي تحيى الوردة

وينساق لهذا الوعي اللغوي بالمفردة كذات وموضوع  فيلاعب اللغة:

يا يحيى/ إنا بشرناك / ببيت ملموم كالضمة/  في الليل يعتّونك مثل حروف الجر

ثم يصل بالتداعي النسقي هذا إلى لقب يحيى  ((المهندس)) ليفجر منه دلالات مشابهة:     ومضى يرسم جسراً / متوازي الساقين / ليعبر للرئة الأخرى/ يشتق الجذر التربيعي   لدهشته / يضرب أطراف الظل تمام الخيمة

وأحسب أن المقطع الأخير يرينا عمل الانزياح كنسق داخل  وقائع محتدمة ، فالشهيد الذي اغتالته أجهزة الدولة الصهيونية لا يهندس زوايا  وضلالاً ودوائر .إنه يهندس حسابات الروح المشردة كي تعبر للرئة الأخرى ((لا الضفة)) ويكون الجذر التربيعي مشتقاً لدهشته… و يتوقف الظل بتمام خيمته كلاجئ مشرد عن أرضة

((موجز الأخطاء)) الذي يقدمه الربيعي طويل وشائك لأنه موجز لأخطاء القصيدة التي تزيد شقاء وعيه بالوطن والزمن والأحداث… وليست الأخطاء إلا القصائد ذاتها، ولكي يؤكد ذلك يسرد في آخر صفحات ديوانه عناوين إصدارته السابقة مصدراً إياها بعبارة ((ارتكب عدة أخطاء أهمها…)).

تلك أذن أخطاء لا خطايا.إنها حاصل تعامل الشاعر المرهف مع عالم قاسٍ حسب أن مواجهاته كافية ليهزمه.. فكانت النتيجة جراحاً وأخطاء نقرأ بعضها بهذا الديوان..

وفي ظني أن ((الرؤية)) التي تحرك شعرية الربيعي تضيق في حصرها بين أقواس الانزياح والتناقص, لأنها أكثر سعة وشمولية، فالشاعر لا يندرج تحت ايديلوجية معلبة أو يستدعي أشجانا طافية مسطحة ولا يقف((خارج)) موضوعة مناجياً ومستثاراً بهيجانات اللغة أو الصور وابتذالات العاطفة.. الشاعر زاهد بذلك كله، بمقابل رؤية مأساوية وجارحة للكون، زمناً ومكاناً وبشراً ووقائع.. ولا تخطئ علينا القارئ ((درامية)) حياة الشاعر ((داخل)) قصائده، كما هي((خارجها)).

الوطن حاضر في خلايا القصائد.. وهو مركز استمداد الرؤى الشعرية،وبؤرة تحولات النص الشعري..به تتأثث القصائد وتعمل الذاكرة.. بلا خيال صوري أو سرد متخيل.. والتعويل على الذاكرة واستحضارها في ألان القائم أكثر خطورة من الخيال المنمق بأسطورة مجتلبة.. ذلك إنما حدث وما يحدث هو في ذاته أسطوري: أقسى من أسطورة وأبلغ من رمز.. واستحضار مفردات الوطن تبدأ من أدق تفاصيله وصولاً إلى أشدها ضراوة:حكايات أتلام أيشجانها وأغانيها الدامعة،طريق العودة الى البيت بكائناته ومكوناته، المفردة ذات الدلالات السياقية المحلية، مفردات البيئة مأثورات الجنوب وذاكرته: محمل العرس وصورة ((ابن المعيدي)) كما صورها الرسامون الفطريون، الحلي الكاذبة، شارع المحيط على دجلة، المدرسة الطينية والكراريس وأقلام الرصاص، إضلاع البردئ والفانوس والموقد،حمام الجسر الطائر في كوى الذاكرة ن الخبز الحمض وماء الزهر والمقاهي.. والشاعر يواجه المدن الأخرى ويجول فيها ولكن((كما ولدته..مدينته)) في عمان والبحر الميت وصنعاء ومآرب..

يختزل محنته وجوهر غربته، وتمتد يد الذاكرة الى المخيال الشعبي الذي يصور مأساة((أولاد مسلم بن عقيل)) يطوفون الشوارع في يوم عاشورا مرددين((الدهر خان..))فيقول، مطابقاً بين الحالتين: ((الدهر خان)) ، غلقت موظفة السفارة.

فتحت الأفق التي انفجرت على شفق غريب حين لاحت خضرة السعفات في عشب((الجواز)) لقد غدا جوازه العراقي بلونه الأخضر مدعاة لكي تجعله الموظفة الأجنبية تحت طائلة الشك، وكذلك لتصوير حالة التشظي والانكسار تحت الشموس الغريبة حيث تتجسد حالة العراقي مغتربا في قصيدة((قلوبنا وصلت ..شكراً لساعي البريد)) حيث تعتمد القصيدة في عدة حركات على تكرار لازمة  افتتاحية هي :

قلوبنا التي وصلت / وصلت مبلله . ثم تصبح في مقطع تال:وصلت ممزقه/ ثم تالفة/ مفتوحة/ ملصقة بشريط شفاف.

مع الاعتماد على التقاطات من رسائل عراقيين متبادلة كضمادات جراح واللعب برقم صندوق البريد الذي يغدو بكل عدد فيه دلاله  متخيله،فالرقم ((7))فأس و((8)) قوسان يلعبان الكروباتيك و((1))نادي يتهجي العزف المنفرد و((3))دوده تتوجع.. إن الربيعي استغرق في تفاصيل الوطن لا كجغرافية ومكان خاص ، فحسب بل كحالة من الوجع الدائم المولد للشاعرية والحزن معا ً،ويستمر في إطار سخرياته الدامعة ليحدثنا عن مسافة تقاس بمائة تجربة مره، وعن توقيت الساعة تمام الأحزان، وعن أول أوكسيد النسيان. وتتكرس فاعلية اللغة وهي تتأمل ذاتها بقصيدة قصيرة هي فعل ناقص تبدأ بالسوائل:

لماذا أبقيت أصابعي وحدها  / تترنح في الهواء/ مثل مبتدأ بلا خبر/ وتنتهي بتقرير حقيقة/ وتمرين وحدك إذا تمرين/  مثل فعل ناقص.

فيستوي الشاعر والحبيبة في الحاجة لما يكمله،وكأنه قدر مشترك في فراغ العالم.

إن قصائد في ((موجز الأخطاء)) تعكس نهما  ثقافيا فريدا، فكل قصيدة تحيلك الى مرجع أو أكثر.. وعلى القارئ أن يشارك.. في حالة كهذه.. في استرجاع ذلك المرجع الثقافي وتمثله وربطه بالحاضر..ففي((ماركة مسجلة))يستحضر الوصفات الشعبية في التراث ليقول:

لكي تصنع صباحا جيدا /احضر/فتيت جناح صدفة/ظهيرة مقفلة الرنين /أضف نصف كوب صمت.

وإذا كان إيقاع قصائد الربيعي في الديوان محتدما وحادا، ليس في قصائده الموزونة فحسب بل في تلك المنتمية لقصائد النثر، فهو جارح النبرة يذهب إلى أعمق طيات الذاكرة، يحفر فيها، كآثاري مهووس بتراب اللقي والحفريات، ولا يوفر نادرة أو فكاهة أو سخرية، حتى وهو يستحضر أكثر الأحداث ألما وشجنا..

وكتابته القصيدة الموزونة((الحديثة))وقصيدة النثر ترينا جانبا آخر من رؤيته الشعرية التي لا تعد الشكل ضربا من التابو لا تقربه تعصبا لشكل آخر واندراجا قطيعيا ضمن حدوده.. فحرية الشاعر الأسلوبية كامنة في اختيار ما يراه مناسبا لحظة انبثاق قصيدته ،  وسيجد القارئ أن تجاربه النثرية تؤهله للاستمرار في هذا النوع الشعري الخصب ، لا سيما وهو ذو منحنى سردي بحكم امتثاله للذاكرة.

أستطيع في ختام قراءتي  لموجز أخطاء الربيعي الشعرية أن أرصد تحولا أسلوبيا وجماليا في كتابته، ترينا عناصره ومفرداته قراءتنا المستندة إلى آليات التقبل، حيث يتخذ القارئ موضعا قريبا من أفق القصائد.. هذا الأفق المتلون بأطياف الوطن وروح الإنسان ونبض المكان..

 

عباس السلامي :هذيانات على حدود العقل

أصبح اليوم  بمقدور الشاعر المفتون بالحداثة و إغراء دعاواها  أن يزاوج بين  المتنافرات ،عبر اصطناع ثنائيات متجاورة يقرّب بينها – رغم ضديتها-  التأليف والنَّظم   داخل السياق الشعري، والأنساق التي تتحكم في  القصيدة. تلك المتنافرات  يباعدها العقل اللاشعري المستند إلى الحقائق كما تظهر له في شكلها الخارجي المعتاد، و كما استقرت في الوعي الإنساني كحقائق ثابتة تكتسب قوتها من تواتر تداولها اللغوي والاجتماعي والثقافي.

من هنا علينا أن نقرأ عنوان الديوان الثالث للشاعر عباس السلامي( هذيانات عاقلة) بحسب  تجاور (الهذيانات ) بما يحف بها من دلالات التداعي الحر وغير الممتثل لمنطق خارجي ،  والوصف ب(العقل) الذي يتبعها مباشرة ليبعد تأويلها بأنها لا تخضع لمرجعية عقلية بالمعنى المتداول..

إذن فالسلامي لا يطلق هذياناته إلى مداها الأقصى، بل يكبحها بوصف العقل الذي يليها ، ليهادن القارئ الباحث عن كلام شعري يُطمئن أفق توقعه المتحصل من ذخيرة  قراءة( الشعر) بكونه مؤشرا في الثقافة العربية على الحكمة والمعرفة والعقل .

لكن (الإهداء ) وهو العتبة الثانية التي تقابلنا  ستكرس ميزة أخرى لم تتخفَّ هذه المرة وراء الوصف الإحترازي ، فالديوان مُهدى  إلى الغرباء الذين يعرفهم والذين لا يعرفهم ، وهذا عرف شعري معتاد ومألوف يمر به القارئ دون تساؤل، ولكن الفقرة الأخيرة في الإهداء تستوقف القراء بالضرورة  ، فدائرة الإهداء تضيق لتصل إلى الشاعر الذي يهدي الديوان كذلك  (له نفسه) مندرجا في غربة الغرباء ، من يعرف منهم ومن لا يعرف ، تعميقا لغربتهم وغربته أيضا. الغربة في الديوان ليست جسدية  ما دام الشاعر يضع نفسه ضمن دائرة  الواقعين تحتها، وعلينا أن نبحث عن مبرر فلسفي ومعاناة وجودية لتفسير تلك الغربة التي يحضر فيها  القرين كشخصية يراها الشاعر في مراياه ، أو يجده يمشي في خطاه متخذا سمته ووجهته،لكنه هنا قرين منشق على قرينه أو على نفسه ، فهو ينكر هيأته وصوته ووجهه كما في قصيدة (ملاذ):

ذات مساء /قررت أن أختبئ /في المرآة/وأعلقها في درب الغرباء

وحين يطلوّن منها علي ّ/أتلبس في وجهٍ/لا أعرفني فيه/ولا يعرفني فيه أحد

تتغلف  الغربة في هذا النص بأكثر من غلاف ، يصل انغلاقه وابتعاده عن الآخر والذات حدّ نفي معرفته بنفسه عبر الوجه الذي سيتلبس فيه  أو يتلبسه، وفي نص آخر يصل حدّ اختراع مسافة بين الشاعر وأناه يلزمه الأمل لكي يقطعها وصولا إلى نفسه التي يختار لها ضمير العائدية موصولا بالفعل:

بيني وأنا/مسافة/آمل أن أقطعها لأٍصلني

 وربما كان لهذا الانتحاء والاغتراب مشغّلات أخرى كالحال التي وصل إليها الوطن من التمزق ، فلا يجد  الشاعر لعجزه البشري إلا انتظار موته الذي هو مظهر آخر للنبذ والانتحاء ،  لكنه في النهاية مصير شخصي يختاره عن قصد ولا يتركه لترتيبات الأقدار كما يؤكد الفعل (أمسك) ثم  (خاط) وإن كانت القراءة ترجح دلالتين للفعل إذ قد يعود الكفن للوطن أو الشاعر:

حينما رأى وطنه ممزقاً/ أمسك بالإبرة والخيط/وخاط كفنه

لكن الشاعر يعزو ضياعه إلى هذه التلبسات القناعية والأحوال الملتبسة أصلا ،فيعلل ذلك الضياع في قصيدة مختزلة من بيتين بأنه ضائع لارتدائه وجها غير وجهه :

ارتديت غير وجهي / فضعتُ مني

على المستوى الفني تنشطر قصائد السلامي إلى شطرين : موزون ومنثور ، وكأنه بذلك يزيد تعميق القرين المغترب عن نفسه وقرينه ، ثمة أجزاء موزونة في الديوان بطريقة التفعيلة الحرة يضمها القسم الأول (نصوص-سيرة لوجع مستمر) ورغم اختلاط قليل من النثر بها  تحافظ على منطقة العقل المفترض في الهذيانات اللاحقة ، وتعطي استحقاقات الموسيقى الشعرية كما يراد لها في التلقي النسقي الموروث، وهي تستمد احتكاكها بموضوعها والتعبير عنه بمسميات تنزاح غالبا عن مأثور له موقع في نفس الشاعر(قابَ جرحين أو أدنى، أيّان مرساك، جرح المتنبي ، على قارعة الذكرى،على قارعة الذكرى، مثلث متساوي الأوجاع…) لكن تشظيها في قصائد متفرقة ودعوى انتسابها لسيرة وجع مستمر يأخذنا إلى مطلب لا نراه متحققا لا على مستوى السرد السيري الشعري ولا الترابط الحدثي لسيرة مفترضة،  بل لعل الوجع في الجزء الثاني من الديوان- وهو المكتوب بقصائد النثر باستثناءات قليلة جدا –  يعكس وجعا أكثر وضوحا وتأثيرا،ويبرز ملامح ذاتية قد تصلح لقراءة كسر متشظية من السيرة  ، و قصائد النثر  هذه إذ تكتفي بالإيقاعات اللغوية والصورية ،  وتبتعد عن الموسيقى الوزنية ذات الصدى والرنين، فإنما تعكس الاقتصاد اللغوي في قصيدة الحداثة وتشذيب الفضلات والتفاصيل التي تغري بها التداعيات والاندفاع الغنائي والتصوير البلاغي المتكرر والمعاد مما تجلبه الوزنية عادة لفضاء النص. .

ولعل ما أشرنا إليه من اختلاط نصوص الوزن بالنثر أحيانا ، ووجود مقاطع موزونة في  القسم المخصص لقصائد النثر، يؤكد ذلك الانشطار الذي شخصناه في المدخل، مع ملاحظة قِصر قصائد النثرفي الديوان وكثافتها  حدّ اقتصارها على بيتين أحيانا،وذلك يتطلب سيطرة على الملفوظ الشعري وتنقية الجملة الشعرية من الشوائب والترهلات اللفظية والصورية .

في ديوان السلامي نعثر على غربة غريبة وعالم منشطر إلى شعر ونثر، سيرة وهذيانات يكبحها العقل ، ولكن تلوح رغم ذلك تعارضاتها مع العالم القائم الذي تقوم شعرية القصيدة الحديثة على مساءلته ورفضه والاحتجاج عليه.ولا يخفى أن اختيار الشاعر(هذيانات عاقلة ) وهي عنوان الجزء المنثور عنوانا للديوان كله تصويت لانحيازه الشعوري لهذه المنطقة التي ترج  بالشعر ثوابت العقل في زمن لا يحكم أحداثه تفسير عقلي أو منطق.

 

نصير فليح :التجريب  الشعري في ضوء القراءة

 

تقترح علينا قصائد الشاعر نصير فليح في ديوانه( إشارات مقترحة وقصائد أخرى) بغداد   2007أن نقرأها بمقترب التجريب لأنها أصلاً تندرج تحت وصف المقترحات التي عدّها الدكتور مالك المطلبي في دراسته البنيوية المقدّمة للديوان قيداً وصفياً (أقرب إلى الاستدراك منه إلى التوضيح ) مستنداً إلى كون القصائد من شعر التفعيلة (الحر) فكأنها أرادت أي ـ أراد لها الشاعر- أن تبرر حداثتها أو تبرهن عليها، هنا سيدخل الناقد تحت إغراء التأويل إلى النيات التي تسبق الكتابة .ولا تقي البنيوية هنا  مستخدميها  كمنهج وإجراءات تحليلية من التأويل الذي يعدّ وصف الإشارات ب( مقترحة ) محاولةً لاندراجها في الحداثة وإعلاناً عن ذلك، وليس على سبيل المشاركة التي تتصف بها الحداثة ضمن طابعها الحواري المتخفف من هيمنة الكاتب على الخطاب وتوجيهه له، وأعني بالمشاركة ذلك النوع من توريط القارئ وزجّه في بنية  النص لا متسلماً سلبياً (أشبه بإناء فارغ يسقط فيع سائل ما )بتعبير المطلبي الدقيق .

يكون نصير فليح إذن قد استجاب  للتفكير بالقارئ الضمني المنتظر للعمل فأخبره أن ما يراه هنا ويحس من تجارب شعرية هو مقترح لا يفرض عليه أفقاً ما عليه أن ينخرط فيه  دون بديل أو تأويل أو فهم.من هنا فأنا لا أرى تعارضاً بين الوصفين أو نية ما وراء تجاورهما ، على العكس كان التذييل ( وقصائد أخرى ) هو الهبوط الإيقاعي والدلالي في العنونة ما كان له أن يعتلي نصوصاً حديثة الهوية ، وهو ما لم يتفحصه المطلبي ضمن سيميولوجية العنوان ، فالقصائد الأخرى هي نصوص تكوّن  قسمين إلى جانب القسم الأول الذي أخذ الديوان عنوانه( إشارات مقترحة) وهما(دائرة المزولة) و(قصائد نثر)، فإلحاق القصائد الأخرى بالعنوان تقنية تعود بنا إلى أجواء الخمسينيات في استراتيجية العنونة التي لم تدرس تطورياً في الشعر العراقي ..

يتكئ نصير فليح على خبرة تتيح له أن يلاعب الحداثة بأوجهها المختلفة فيكتب التفعيلة في قسمين ،ويفرد لقصائد النثر ديوانا أو مجموعة شعرية كما يسميها يتشكل منها القسم الثالث ..وهذا الإنشطار تشي به الحيرة التي يحسها الشاعر  أو التساؤل عما إذا كان ممكنا أن تمتلك قصيدة التفعيلة تلك السمات  التي شخصتها سوزان برنار  في المقتبس الذي نقله الشاعر عنها حول الطبيعة البلورية لقصيدة النثر المكثفة التي لا نستطيع أن نحذف منها كلمة واحدة دون أن يهدم النتاج برمّته؟

وأيا ما يكن الرأي حول تشخيص سوزان برنار وتعارضه مع المجانية التي أثبتتها لقصيدة النثر، فإن التساؤل يشي بإمكان اختيار الشاعر قصيدة النثر شكلاً وحيدا لصلته بالحداثة ، لا سيما وأن قصائده النثرية توفرت على رؤية ولغة وإيقاعات تؤهله لكتابتها بجدارة ، كما أنه  يؤكد ذلك على مستوى العنونة – وهو  يفرض علينا الاهتمام بهذا الموجّه من موجهات القراءة لما يحمله من رؤيته الحداثية ويوليه من عناية لافتة – فقصائد النثر غفل من التسمية ومكتفية بنقاط بين قوسين(……) عدا قصيدتين هما ( ميدوزا) و( نيجاتيف) ، كما يتخذ نمطاً غريباً عن مألوف العنونة حيث يضع عناوين  قسم إشارات مقترحة  كلها أسفل القصائد، بينما يحتل مساحة العنوان قوسان بينهما نقاط(…………)وتليهما نجمة تحيل إلى الهامش الذي تنتقل إليه عينا المتلقي ليقرأ العنوان المثبت في الاسفل متبوعاُ بعلامة سؤال، فكأنه دعوة للمشاركة مرة أخرى في لعبة التجريب التي يأخذنا إليها الشاعر. ولم أجد تفسيراً لإغفال المطلبي في تقديمه الديوان لظاهرة السؤال بعد كل عنوان مقصى إلى الهامش، رغم أنه بذل جهداً هائلاً في تعقب المسح البصري للعنوان لا خطياً من اليمين إلى اليسار بل  عمودياً من الأسفل إلى الأعلى وربما بالعكس من الأعلى حيث مكان العنوان الشاغر ، إلى الأسفل حيث تقترح اللعبة البصرية في الديوان.

السؤال في بنية العنوان الهامشي  يظل إشارة إلى المقترح الذي وعدنا به عنوان الديوان أو  غلافه، فلم يعد ذلك  التهميش من الموجّهات الخارجية كما رأى المطلبي ، بل من صلب عملية تلقي العمل نفسه ، والإستثمار البصري المتاح من السطح الكتابي لتأكيد بنية العمل، وهو جانب تجريبي آخر في ديوان نصير الذي تتعدد مناخاته بين شفافية الشعر اليومي المستمد التقاطاته من جزئيات متنضدة بشكل فني لتعطي إيحاءات وتخلق أجواء تتصاعد ذرويا لتنجز شكلها القريب من اللملمة الجزئية التي يتميز بها المونتاج بوجهيه التقطيعي أو المجزأ، والإنشائي=التركيبي  أو البنائي ، وهو منهج دأب على اصطناعه شعراء التفعيلة الذين ظلوا في إطارها دون الارتهان بغنائياتها وموسيقاها..وكانوا وسطاً في ألفة قصائدهم وحميميتها والتقاطاتها الشاعرية وبين  الاسترسال دون تقفيات  جهرية رنانة وموسيقى ضاجة ، بكلمة أخرى هم بين الوزنية والنثر ولكن من منطقة الإيقاع الداخلي لا الخارجي، وهو منهج تزعمه سعدي يوسف و البريكان  وأشاعاه في شعر التفعيلة المقاوم لقصيدة النثر مقاومة صامتة لا صادمة منا نتلمّس ذلك في قصيدة لنصير:

في الدونا /في شجر الدونا/في عينيه الزائغتين بلا خَفر/في السحب الفضة/والمدن (البضّات)..

سكان البحر الأبيض- من نافذة الطيارة- متصلاً../ مثل ذراع أبيض مرتعش منذ قرون :/ جزائره السحرية../ وعصاه.

هذا النص الكامل لإحدى القصائد ذات العنوان الهامشي بالإنجليزية (Europe)المتبوع بالاستفهام؟يتدرج ململمأ كِسَراً من منظر مرصود من الطائرة التي تحضر لتأكيد فضائية المشهد ورؤيته من الأعلى: النهر وشجر النهر ، وعينيه الزائغتين في السحب ، السحب والمدن الموصوفتين بالبياض –انتظاراً لما يتمنى  المسافر قبل الوصول إلى أوربا البيضاء  المشتهاة والمثبتة باسمها اللاتيني، و بوعد البياض: من أجساد بيض يعززها بياض اسم البحر الأبيض،  والذراع الأبيض..قصيدة بيضاء تتدرج بخفة وسلاسة ولكن بذكاء لتبني نياتها وبنيتها :بلا تقفية واحدة و بوزنية متخففة من ثقل التفعيلة المسترخية على بحر المتدارك وجوازاته..هنا وجدتُ الإيروتيكية التي ذهب التأويل –المفرط؟ بمفهوم أمبرتو إيكو –بتحليل مالك المطلبي إلى رؤيتها  مظهراً استمنائياً في قصيدة (كابوس ) ذات الجو الحلمي  الواضح..و كثير مما تريد قصائد نصير فليح أن تقوله يصل إليه القاريء بالمشاركة التي هي ملمح حداثي سيقرب الشاعر من الكتابة بلا وزن مستعيضاً عن ذلك بقدرته السردية ورصده المونتاجي الذي ستخف أرضيته – التقاطاته اليومية -في قصائد النثر لصالح سردية متزنة العناصر ومكثفة،  تمتلك إجابة كافية على سؤاله الاستدراكي المستطرد من ملاحظة سوزان برنار حول البنية المنضبطة المموهة لقصيدة النثر والمتخفية وراء فوضاها الظاهرية ومجافاتها للنظام و التراتب  النسقي.

حدائق  شعرية

 تقديم لديوان الشاعر يحيى البطاط: حديقة آدم

 

توسّع قصيدة الحداثة- بما أنها تمتثل لهاجس الإبتداع  – مديات  التناص وأشكاله وهيئاته اخل القصيدة.

هكذا تتوسع في عمل يحيى البطاط حديقة آدم أو جنته  مكانا ودلالة، وتخرج من رمزيتها ومكانتها في المعتقدات ، لكنها كلها مضافة لبشر من تلك السلالة ذات الخطيئة الأولى ،والتي لا تزال تشكل في الضمير الإنساني إحساساً بالندم والخسران.

فقدان الجنة  والهبوط إلى الأرض لم يمنع الحلم ، فكانت هذه الجنات التي يتشارك فيها الجميع ، وتتشكل في ديوان يحيى البطاط متخذة مسميات عديدة ، ثمة اثنتا عشرة حديقة تضاف لمسمى: حديقة الأشباح ، حديقة الوطن، حديقة الجلاد……تأتي بعد (عتبة) أو مدخل ذي وظيفتين: نصية تمهد للقراءة  وتعرف بهوية النصوص وخطتها ، ورمزية تولّد الدلالات التي يشتغل عليها النص وينشغل بها.

حدائقكم، هي أنتم،

هي أرواحكم،

و أنسامكم، وكسلكم،

وسياحتكم، وضجركم،

وفرائسكم، ومفترسوكم.

وهذه حدائقي..

حدائق الشاعر كما يصفها العنوان ( نصوص ) أراد لها أن تُبنى غريبة و مستوحدة وطليقة من كل قيد، فهي نصوص لا قصائد ، وهذا  توسيع تناصي آخر يلامس نوع الملفوظ ، ويجنسه ضمن فضاء أكثر رحابة من القصيدة ، و يعطي للنصوص-الحدائق فسحة التمدد خارج حدودها أيضاً فتستوعب الاسترسال اللغوي والصوري، والتداعي غير المقيد إلا بما تفرضه أعراف تشييد أو استعادة تشكيل تلك العمائر الشعرية الباذخة في زوايا الحدائق وأبهاء ظلالها الحارقة!!

هي حدائق ذات وجود غير متعين  مادامت تبدأ من حدائق بابل معلقة وغير معلقة ، وهي  ممتدة في الذاكرة: تستنزل من الجنة  بل هي أصلها كما تصرح إحدى الشذرات هنا  والمستفيدة من تقليب الجذر اللغوي للجنة وارتباطها بالحديقة مع ما بينهما من الاختلاف في الانتماء الدلالي: الجنة للميثولوجيا، والحديقة للأرض، لذا تأكد هذا الانتماء الأرضي  في عتبة الإهداء –العمل مُهدى لأسرة الشاعر:(حديقة ترافق حياته) فتضاف لتلك الحدائق المسماة وغير المسماة  في النصوص..

يتكئ العمل  أيضا على السرد، وتُستحضر فيه شخصيات الهامش التي يراها الشاعر أجدر بالجنة من سواها: الأعمى والمجنون والأنثى- ذات الحديقة الأكبر حجما وفضاء ما رشّحها لتكون عنوانا ممكنا للديوان – وتدير السرد دوما ذات الشاعر الحاضرة بشدة تصنع تلك الحدائق  الشعرية ، وتحاور ساكنيها ،وتستطلع بفضول تحركه المخيلة المشتغلة بحرية حتى وهي تصنع ( حديقة الجلاد) التي غدت بعد عدة أبيات حديقة الضحية وتوارى الجلاد بعد أن غدا الضحية جثة ولكن ببقاء الفكرة التي هزمت الجلاد .

تحتشد النصوص بوقائع لم تفت ذاكرة الشاعر التي آزرت مخيلته، فعاد يحيى البطاط إلى أسطورته المحببة والمتمثلة بملحمة جلجامش، وما قرأ فيها من رمز للسؤال الدائم والبحث عن حديقة خالدة لا تفنى.

تلك المزايا الموضوعية في النصوص عضدتها أبنيتها الممتثلة للحس الأسطوري والمعيدة تشكيل أسطورتها الخاصة، فهذه حدائق الشاعر بناها خياله وسورتها ذاكرته واحتشدت بالرغبات والخيبات والأمل في آن واحد .

لا غرابة أن تنغلق الحدائق بحديقة آدم التي تنغلق بدورها على أبيات موزونة مقفاة ،وكأنها إعلان عن انتهاء النشيد واستقراره ، بعد أن فاضت العبارة حرةً مرسلة في فضاء صوري ولغوي حر، يناسب مهمة تشكيل تلك الحدائق التي-كجنات الخيال –تختفي لتظهر مرة واحدة فيمتلئ قلب رائيها بالفرح الذي ظل وعدا في أفياء حدائق يحيى البطاط  المتسعة  حتى كان آخر توسيعاتها نسبتها لآدم –الإنسان، حيث يتجرع مرارة هزائمه وينتظر مصيره ولكن هانئا بحديقته التي منها انحدرت جنات الخيال وثمار الحياة.

صنعاء

        13-12-2009

جواد الحطاب في إكليل قصائده :

نص المساخَرة

لا يمكن قراءة أشعار جواد الحطاب بمعزل عن السياق الثقافي لجيل الثمانينيات العراقي رغم ان الحطاب وبتميز وكدٍّ شخصي تجاوز اهتمامات جيله واندمج في إطار الشعرية العراقية المتسارعة  جيليا ، والمختلطة لحد كبير، فأمكن مثلا تجييله سبعينيا-كما فعلت في كتابي عم تجربة السبعينيين: مواجهات الصوت القادم)بغداد 1986.

كما أن الحطاب يختط لنفسه نهجا شعريا خاصا أسلوبيا وموضوعيا يتجلى في لغة جارحة وخيال تصويري مفعم بالحيوية مع مزاج ساخر لا تخفى سوداويته على قارئه، بل ربما كانت سخريته الدامعة هي امتيازه بين الساخرين من شعراء الحداثة.وقد  أشرت إلى تلك الخصوصية  وأنا أقدم لديوانه (شتاء عاطل) عمان1997.

وإذا كانت الحداثة الشعرية قد أتاحت الكثير من فرص التبسط مع القارئ والتعبير بحرية عن مواقف لم تكن ممكنة في أطوار التجديد والتحديث النهضوية الأولى  فإن شاعراً كالحطاب يحول مفردات حياته وأهم وقائعها( الحرب في الثمانينيات ، والإحتلال والعنف في الألفية الثالثة) إلى حالات من المعايشة الشعرية التي تلازمها السخرية حتى من الموت نفسه وأدواته المعلنة في فضاء الحرب المفتوح للإحتمالات كلها والتي لم تغب عن وعي الحطاب.

اقتراب من شعبوية سائدة تحبب شعره لقطاعات  واسعة من القراء، وحفر في عمق العقل والفكرة، يجعل قراءة قصيدته محتاجة لجهاز معرفي وثقافي حيوي، أشير هنا إلى تناصاته واستعاراته من حيوات الكتاب والشعراء واشعارهم ومؤلفاتهم ومن وقائع تاريخية وعصرية  وتضمينه إشارات ثقافة عميقة يثقل بسببها أحياناً إطار قصيدته المستغنية عن الحذلقات والإستعراض اللغوي والهيجانات الصورية التي فتنت كثيرا من معاصريه ومجايليه في واحدة من أكثر حالات الوقوع في وهم الحداثة تجسيدا وتمثيلا.

تنتمي قصائد جواد الحطاب موزونةً ومنثورةً إلى ما أدعوه نص المساخَرة ، تمييزاً له عن المفارقة التي قامت عليها أسلوبية محمد الماغوط ومدرسته التي شايعه في موضوعاتها وأسلوبها كثير من شعراء الحداثة.

نص المساخرة الذي كتبه في العراق شعراء متقاربو الانتساب الجيلي إلى حد ما كجواد الحطاب وكاظم الحجاج وكزار حنتوش ، نص يقوم بناؤه على تقديم الموضوعات الواضحة في تناول ساخر ، يعلن النكتة بمستويين : لفظي يستلها من معناها القاموسي أو المتداول ليضعها في سياق جديد يولد السخرية، وتركيبي ينزاح من صورة أو عبارة ليصنع الموقف نفسه.

وديوان جواد الحطاب الأخير (إكليل  موسيقى على جثة بيانو)بيروت 2008 يؤكد هذا الاتجاه الفني الذي دأب عليه منذ بواكيره ، لكنني أرى في عمله الجديد تعميقا للمساخرة ، وتلويناً وتنويعا تستمد وجودها في النص من السياق الذي كتب فيه الشاعر جزئي العمل: المتنبي،واستغاثة الأعزل ، وما يضمه كل جزء من قصائد قصيرة ومتوسطة الطول، ويبدو لي أن  هذا النوع من النصوص لا يحتمل التطويل لأن حكمته في تبسيط المساخرة، وبسط الدعابة ، فلا يصبر معها الشاعر حتى يبني معمار قصيدته المتنازلة أصلا عن البنى الباذخة والفخامة، والسياق الحاف بالنصوص مرجعاً للتنوع والتلوين هو واقع العراق اليوم، وما تضرب أرضه وبشره من محن فريدة في تاريخه ،يصبح معها الإحتلال والعنف وتداعياتهما  مشهداً يوميا قائما يضغط على شعور –وإدراك وإحساس- شاعر كالحطاب يقيم في الداخل الملتهب ، وتنضج أشعاره على نيران المرارات والخسائر التي يراها في وجوه أصدقاء  وشعراء راحلين موتا ( الجواهري ، يوسف الصائغ ،أطوار بهجت..) أو غائبين بالهجرة من أقرانه( فضل خلف ، عبدالرزاق الربيعي، فاروق يوسف..) لكن المتنبي هو أول المخاطَبين في الديوان ، إن فاتك الذي فتك بالمتنبي يصبح مناسبة لتكرار السؤال عن  معنى الفتك و الفوْت أيضا:

( هل فاتكَ ..فاتك

أم أن الفتّاك جميعا

كمنوا فيه؟)

كما سيتحور النشيد الوطني إلى نشي..ج ،لكن أكثر مساخرات الحطاب تجري مع الحرب التي شكلت قدر جيله ،وصار شاهدا عليها، فكتب فيها نصوصا ذات ميزة فريدة هي الإحاطة بمفردات الحرب  ووقائعها المكروسكوبية، مما لا يتبينها مستمع لأخبارها أو مشاهد لمناظرها في الأفلام،تبدأ من قصعات الطعام وبريد الجنود ومواضعهم أو خنادقهم والأسلحة والموت المتربص في كل ثنية وثانية ، ولكن الإكليل الذي يعنيه الحطاب هو الكلمات، كما تقول قصيدته جثة البيانو ، والمرثي عبر المساخرات في النصوص هي تلك الكلمات التي يعني توقفها موت العالم، وهذا هو الجانب المأساوي الساكن في لب المساخرة :

(الشظايا تلبسنا

كي تستر عريها)

(جئنا..

نغسل أنفسنا

بالنسيان

فأصيب النسيان..

بداء الذكرى)

فلا خلاص يبقى بعد الطوفان ولا بشارة من حمامة ببر آمن  ترسو عليه السفينة ،لتبدأ الحياة ، فقد  تعاقب أبناء نوح من الحكام   ليواصلوا اصطياد الحمامات:

( يا نوح ..ما من يابسة

..تعاقب أولادك الجبليون

على صيد الحمامات).

وسيلاحظ قارئ الديوان جرأة الحطاب المسجلة له حتى في أحلك الظروف فهو لا يترفع عن أية مفردة أو تركيب  أو صورة يرى فيها ما يوصل دلالة يريد توصيلها:

وسيطالع القارئ أولى قصائد الديوان وهي المقطع الأول من عمله عن المتنبي وقد انبنى على تكرار ألقاب الخلفاء المقرونة بالله افتراء وتزل\فا ونفاقا لينتهي بعد تعدادهم إلى التساؤل عما إذا كانوا قد جعلوا  بألقابهم التي تضحكه من المضاف إليه شماعة  أخطاء!!

وفي نص آخر يضع بسخرية ذات مرجعية محلية عنوانا هو( ثوم على الأمة..جاجيك على الأيام)وسيحشد فيه أسماء مقاه وشوارع وأكلات وزملاء وأصدقاء لا يفهمها إلا من عاش سياق الحياة اليومية العراقية في العقود العجيبة الثلاثة من عنائها السرمدي.

فجأة تبدو أعماق قصيدة الحطاب وكأ،ه شخص آخر يكتب مساءلات وتأملات معمقة في الوجود والموت والحرية:

من قبل

كنت أربّت على كتف الأمواج

فتعيد المراكب الجانحة

 

الآن..

ما ذا أفعل للأمواج الجانحة على الساحل

كدلافين ميتة؟

بهذه الحرية الذاتية يتجول الحطاب من السخرية إلى الألم ومن الوزن إلى النثر ومن اليوميات العادية إلى التأمل المجرد، ليصنع هذا الكيان الخاص لقصائده ويواصل حفره الأسلوبي في تجديد دم قصائده ،وانتزاع مفرداتها من تلك الحياة الضاجة،  والواقفة على حافة الموت في وطن لا يغادره ، كما أنه لا يغادر وعيه وشعره.

الدمعة في الشفتين : بلادي

الضحكة في العينين:بلادي

الرجفة في الرئتين: بلادي

والشهقة في الكفين: بلادي

 
ألَمُ أضيقُ من بحر
                      تقديم لديوان طالب عبد العزيز :تاسوعاء
     يتقدم شعر طالب عبد العزيز إلى قارئه ، كصاحبه نفسه ، بحياء وعزلة فرضتهما معيشته في أطراف البصرة، ورغم أنه – جيليا – يعد من شعراء السبعينيات إلا أنه لم يبدأ النشر إلا في العقد التالي، كما أن ديوانه الأول الذي حظي بقراءات معمقة ولفت الانتباه احتكاما إلى أسلوبيته المبتكرة، لم يصور إلا مطلع التسعينيات.
شعر طالب عبد العزيز إذن يعز على التصنيف زمنيا، كما أنه يندرج خارج السمات المشتركة للكتابة الشعرية المقترنة بقصيدة النشر التي استراح لها الشاعر واتخذها شكلا وحيدا لتوصيل تجاربه.
خصوصية طالب عبد العزيز – مادمنا في واحدة من مقامات التعارف أعني: اصطناع إحدى عتبات القراءة، أعني: التقديم – تتخلص في نزوعه موضوعيا إلى العودة الدائمة للتاريخ كقطب زمني يعين هوية نصه ، والى – البصرة ونواحيها دائما كقطب- مكاني يثبت حدود السرد في نصه، وتأتي اللغة والصور والإيقاع من بعد لتلائم هذين القطبين: بل تدمجان الاثنين معا تحت مسمى واحد: هو تاريخ البصرة أو (تاريخ الأسى) كما يطلق على ديوانه الأول ، ويستمر في لعبة التسمية كتعارف آخر مع قارئه فيسمى ديوانه الماثل للتقديم (تاسوعاء) مذكرا بـ(عاشوراء) الاسم ذي الرنين التاريخي في ذاكرة العراق ، وطقوسه الاستعادية القريبة من التكفيرعن ذنب دائم وخطيئة ثانية في ذاكرة الإنسان المنزاحة أصلا عن خطيئة أولى لاتزال تلازم ذاكرته وتحدد مصيره.
(تاسوعاء) إذن اشتقاق يلاعب التناص العاشورائي ويزن نفسه على رنين كربلاء وأحداثها فيتفجر من ذلك شعر كثير ، يراوغ القارئ ويخادعه بإظهار الطمأنينة والألفة والهدوء، ولكنه عبر هيجانات صورية واسترسالات لغوية يحفل بها النص ، يحاول إخفاء الألم والندم ، فكأنه يصور حالته هو حين يقول في (سوق عثمان) راسماً الأبلة (اسم البصرة القديم)  :
كلمات بلغات أهل السواحل/  المعنى فيها قليل، فقد ولغ البحر في حروفها
((غير أنك تستبين الملل والسأم والبعد خلاله/هم يكتبون على ظاهر الألم باطن الغربة / لكأن قلوبهم مهاجع للأسى ..))
وهكذا تتشكل قصيدة طالب عبد العزيز واحدة من مظاهر طباق الظاهر والباطن، الألم والغربة، اللفظ والمعنى ، يهجع الأسى في مركزها، أو القلب منها تحديدا.
(تاسوعاء) أيضا اسم ذو دلالة رقمية، فالقصائد التي يضمنها الديوان هي تسع قصائد لكن هذا الوعد الرقمي يأتي إلى القارئ مشفوعا بسواد الذاكرة وقتامة الذكرى، استنادا إلى الاشتقاق الغريب في العنوان الذي هو عنوان القصيدة التاسعة كذلك.
لكن الشاعر إذ يؤخر القصيدة إلى نهاية مجموعته، يريد أن يجعلها لحظة الوداع لقارئه، كما كان عنوانها على الغلاف اسما للمجموعة بطاقة تعارف معه، وقد استوقفتني بدايتها السردية – وطالب عبد العزيز يؤكد نزعة قصيدة النثر نحو تعينات السرد:-
((- وكان قد آمتاح من ليلي ثلاثا
أطلعني في كل واحدة
على ثقب في بردته.
حتى أراني المشارق كلها.. .))
فالواو التي يبدأ بها النص (وكان…) يضع القارئ زمنيا في لحظة مضي الحدث واستمرارية وجوده معا عبر استرجاعه أي أنه ينهبه إلى محذوف قبل الواو, مر وانقضى، لكنه يغريه بسرد ما حصل فضلا عن الطقس السحري الذي يرتكز عليه النص، وهو يؤثث باللغة والمخيلة معاً أرثا صوفيا تحيل إليه (البردة) وإشراق النور منها ورؤية الأمكنة القصية من خلالها.
وهذا المقطع يختزل أسلوبية طالب عبد العزيز ويجسمها فهو يحاذي التاريخ غير الرسمي، تاريخ الإشراقيين والزهاد والثوار والصوفيين والغرباء، لكنه يضيف إلى شخصياتهم الغموض الذي يهبه الشعر بعداً جمالياً إضافياً..
وعلى مستوى السرد يتحكم الشاعر في ترتيب الأفعال وتسلسلها، كما يفلح في إبقاء كل شئ في لائحة الاحتمال أو الإمكان , مع انضباط سردي محكم لا تند فيه أشارة مقحمة أو نزعة أرغام لجر الماضي إلى ساحة الحاضر بحيث يفقد وجوده الأول..
تساعد الشاعر في خصوصية هذه، الانزياحات التي لا يخلو منها مقطع في النص، وهو أمر يوافق السحرية التي يريد إضفاءها على ما يحدث في النص..
فالمسرجة (وسيلة الضوء القديمة) تبدو في النص وقد (ظمئ فتيلها) أما الاستجابة لنورانية المريد فتبدو عبر الأنس به والفتة بعبارات كثيراً ما تكرر بعضها في أدبيات العشق الصوفي:
وما نجيته إلا وقد اشتملت
ببردة الحياة
وكنت أريه في كل يوم
أصبعاً قد قطعه الندم
ولما كان شعري يحجب نوره عنه
وقد شاكتني شوكة الرجاء
لبست له ثياباً لا يبلوها السرور
ولا يرتقها الدهر
هي النفس أذن : تواقة للقاء هاجرها في التاسع من ليالي الهجر (تاسوعاء) حيث تفيض المواجد والأشواق.
ولعل النص الوحيد الذي يخرج عن أجواء القصائد هو المفتتح المعنون (سجية) فإلى جانب كونه النص الوحيد المكتوب بوزن وقافية فانه أشبه بالبيان أو الإفصاح عما كان علية وما يجب أن يكون: هذا الشاعر الذي يشعر أنه يليق به أن (يقلم كرم الكهولة) ولا يدعه يطول, إلا أنه يغير مجرى النص تماماً بعد عبارة (غير أني ..) فهو راضى بما هو عليه ، وبما أحب وكما ألفته أهبتة وهيأتة: جدولا من روى , وملاكاً كسولاً. والى تمضي بنا القراءة إلى متون القصائد ستستوقفنا صورة الأب (عبد العزيز) دون مقدمات رثائية أو نبرات تأبين, لكنه واضح من سياق النص أنه مكتوب بعد رحيل الأب .. إلفه الموت وقبوله قانونا – رغم قسوة القاتلة – واضحة في النص بدءاً من العنوان المتواضع (عبد العزيز), وخلاف مراثي الشعراء لآبائهم – وهي كثيرة في ديوان الشعر العربي قديمة وحديثة – فان الشاعر يدمج شخصية الأب بالأرض التي عاش على ترابها مزارعاً وببيته المؤثث بجريد النخل وحدائق من فسائله, ويتذكر فقره وكفاحه وكدحه, فيرش عليه ثماراً وورداً وأسا ويلونه بالخضرة كصورة عزيزة لراحل عزيز يختمها بدعاء:
((لكأن العمر نخلة لا تنتهي إلى السماء
ليكن وقتك آساً
ليكن محياك مطرا))
وإذا كان الشاعر قد استراح لمزاوجة المكان البصري بزمان ماضاً عبر لغة تراثية شفيقة وأنزياحات تنتجها المخيلة فأنه بدا لي في نصوص أحرى مثل (أسفل الفنار) قد أقتربة من حداثة الواقعة الشعرية وعصيرتها متخففاً من حضور المكان والزمان العريقين . ودليل ذلك المدخل الهادئ الذي اتكأ فيه الشاعر  على الظرف (حيث) مستعيداً صورة الأرض والبلاد الفقيرة والبحر.. منتهياً بحكمة أو صرخة.
((ياه أضيق من بحر, هذا الألم))
وكلام مثل هذا تؤكده قصيدة أخرى هي (أمطار خضراء) تجعلني قراءتها مجددا أميل إلى رصد تحوا أسلوبي لدى الشاعر, هو في حقيقته إجابة على سؤال الثابت والتحول على مستوى الأسلوب أيضل الشاعر يمتاح من رؤى سالفة: لغة وشخصياته وأمكنته ؟
وأظن أن الرهان القادم هو على دخول الشاعر مناطق تعبير جديدة هي دون شك بانتظار شعوره بأن ما قاله قد أستنفد عبر دواوينه الثلاثة الصادرة حتى الآن. ولكن يضل طالب عبد العزيز بمنجزة هذا علامة مميزة وسط كتابة قصيدة النثر وأجوائها التي يشكو قراؤها وناقدوها ودارسوها من تماثل الأصوات والإجراءات والأداء والتنصل وتشابه التجارب والتعبير عنها إلى حد التطابق والتقليد في بعض الأحيان..
 
 
 
 
 
      
 
 
        خريف المنافي وعقارب تنهش ساعة القشلة
بعد ديوانيه: أشد الهديل وخريف المآذن، يطل الشاعر باسم فرات بديوان صغير جديد هو: (أنا ثانيةً) ولا ندري غرض التسمية إذا ما تأملنا العنوان، فالمرة ليست الثانية بالتأكيد تلك التي يصدر فيها باسم ديواناً، وسنكتشف عند المضي في القراءة أن العنوان مستعار من قصيدة بالاسم نفسه تلي قصيدةً بعنوان: أنا، فهل يكرر باسم مركزية الأنا المتضخمة في شعر المتنبي: سلفه وابن أقرب المدن إلي مدينته، المسكون بالأسفار والعذابات والشكوي التي حوّلها إلي قصائد لا تتكرر في تاريخ الشعرية العربية؟
لكن حالة باسم الشعرية والحياتية تثير مزيداً الأسئلة بدءاً من اسمه المحيّر: باسم، في زمن كئيب يقول هو عنه: إنه سحقَ ذاكرته بسرفات الدبابات في نثار الحروب و هيجاناتها الوحشية، مما أودي حتي بثري بابل فصار حلماً عصياً، باسم ؟ في زمن يقول عنه في مفتتح الديوان: إنه جاء إليه من أبٍ هو حزن عتيق، وأمٍ هي كتاب الحزن الذي خرج منه الشاعر…
قد نفهم اختيار الشاعر للفراتَ نسباً و اسماً بعد هجرته كاحتجاج علي (هول المسافة بينه وبين العراق) كما صرّح في آخر الديوان، ونحس هذه الرغبة في مؤاخاة التاريخ بالحاضر أو بكلمات الشاعر سركون بولص علي غلاف الديوان: تطعيم الحاضر بماضي الشاعر، و إغناء ما مضي بما يأتي من وقائع جديدة. ولكن مثل ذلك لا يتضح علي مستوي الرؤية، فالشاعر يشكو الفقد في الزمنين، ويلخص ذلك في أكثر من موضع في الديوان كقوله:
ماضيك تقرعه بكل فطنة /بينما أيامك المقبلات/ تتسربل بمدلهمّات الثياب
لم يقايض الشاعر إذاً حاضره بماضيه، وهي صفقة خاسرة في كل الأحوال، لا يخفف من خساراتها الإعلان عن النفس ــ علي خطي المتنبي، فها هو الشاعر يقرر:   أقايض الحرب بالمنفى/ وبابل لا تواسيني
و سنجد كذلك أن لا جدوي ولا تعويضاً في كل تلك العتبات الكثيرة في الديوان، والتي تؤكد المناكدة والتمرد و تستعرض الإحساس بالاختلاف ومنها:
ــ تسمية عبارات الإهداء في صدر الديوان: (ما يغني عن الإهداء)
ــ تسمية فهرست القصائد: (هل هذا هو الفهرست)
ــ تسمية الإيضاحات الهامشية آخر الديوان (ما يشبه الهوامش)
ــ التعريف بالشاعر في نهاية الديوان جاء بأكثر ثلاث صفحات تحت عنوان:
(باسم فرات). ولكن اللافت هو أن الشاعر يسرد سيرته بطريقة تجعل الاحتجاجات لافتةً لأحداث السيرة الحياتيةــ الثقافية، تنتسب إليها مفردات حياة الشاعر مثل: ــ 1967أطلقت احتجاجي الأول في مدينة كربلاء
وإذا كان الميلاد قد تحول صرخة احتجاج، فكيف سيؤرخ الشاعر اليتم المبكر والمحرقة الادمية في الحرب وموت الأصدقاء، وكيف سيؤرشف غربته وطوافه الذي أوصل خطاه إلي هيروشيما في محطة قد لا تكون الأخيرة؟
لكن باسم إذ يصنع ذلك كله تحت فتنة الحداثة وإغواءاتها المشاكسة، يثبت أنه مثل شعراء جيله تمكن من تحويل أشد الواقعات سوداويةً إلي وقائع شعرية، حتي لو ظلت تذكّرنا بمراجعها ومصادرها، كالعمل المضني الذي أكل طفولة الشاعر، والفقد علي المستوي العاطفي ــ الأبويــ والخدمة العسكرية والتشرد حتي مرفأ الغربة. وستحضر الوقائع حضوراً ميتاــ نصيّاً، أعني بثقلها ووجودها تراقب حضورها في النص، وتذكّرنا بأنها مجتلَبة إلي القصيدة بحرارتها كما صنعتها الحياة، وستجد لها في نصوص باسم ذلك الوجع المتسلسل ــ من السلالة ــ عبر أوجاع جلجامش واللافتات السود التي تؤطر مدينة الشاعر والأمكنة الأولي التي صنعت ذاكرته، فكيف سيُغني أو يُثري هذا الماضي المأساوي بوقائع الحاضر ــ كما تقترح قراءة الشاعر سركون بولص؟
الحاضر يلهم كلاماً شعرياً يخفف إطار الغربة، علي مستوي اللسان والشعولر والذاكرة، ولكنه لا يُنسي الشاعر ما يجره معه من ذكريات تمركزت في عمق ذاته الإنسانية والشعرية، والتي سيساعد علي استرجاعها بحرية وتلقائية حميمة، اختيار الشاعر الكتابة بقصيدة النثر، المستوعبة لأشكال من السرد،متخففةٍ من مرجعياتها السردية التقليدية واشتراطات الحكي، فتجيء قصائد باسم خفيفةَ الوقع لا تحفر بعيداً في الدلالات، بل تكتفي بالإشارة إليها كما في قصيدته عن صديق المنفي ــ الذي تناثرت أحرف اسمه عناوين للمقاطع الصغيرة في القصيدةــ، هل هو الهايكو كمرجع؟ هل بدأت المؤثرات اليابانية تأخذ وجهةً فنية بعد أن امتص الشاعر المكان وأشياءه وتقاليده وثقافته ومفرداته الغرائبية؟ كما في قصائد عن (الساموراي) مثلا، وكما استوعب المكان النيوزلندي قبلها بعدة قصائد تتمثله وتعيد صياغته شعرياً ــ قصائد مثل: (جبل تَرناكي، هنا حماقات هناك..، شيء ما عنك.. شيء ما عني).
ولعلاقة الشاعر بالمكان دلالات مهمة عند القراءة، فالحياة معروضة للألم عبر المدن: التي ذكرنا منها مدن نيوزلنده، فهناك بغداد في أكثر من قصيدة، لعل أكثرها أسيً تلك التي تبدأ بساعة القشلة التاريخية في قلب بغداد، لكن الشاعر يري العقارب تنهش تلك الساعة، كما يسمع حوافر خيل المغول والمحتلين القدامي تُركاً وبريطانيين قبل أن تستمر أيام الاحتلال الراهنة التي تبدد ما ترك الماضي علي فخذي بغداد من مسرات تتداعي:
أوهام جلجامش   /   قوانين حمورابي  –  وسذاجة ديموزي – هوايات اشور بانيبال /قسوة نبوخذنصّر   –  انخذال الحسن  –   دم الحسين   –  سيف الحجاج
وصرامة المنصور /   تبغدد زبيدة  –  وكأس أبي نواس…
المناخ الذي تأخذنا إليه قصائد باسم فرات لا تثير فحسب: روائح الماضي وخسائره، ولا تعلّات المنفي وكمائنه، بل تستقدم الشعر من مناطق قصيّة في الذاكرة، يمسّها الشعر فتغدو عذبة كلفح عذابها ومرارةِ عنائها القائم المستمر.
 
 
 
حوار النقطة والحرف
استراح الشاعر أديب كمال الدين (بابل ــ 1953) للحروفية الشعرية واتخذها هوية فنية وأسلوبية له، على مدى تجربته الشعرية التي تبدأ بديوانه تفاصيل (1976) وتترسخ في إصداراته اللاحقة مثل: (ديوان عربي) ثم (جيم) و(نون) و(حاء) و(النقطة) حتى ديوانه الأخير(ما قبل الحرف ..ما بعد النقطة) 2006 ــ الذي أرى فيه مراجعةً من الشاعر لتجربته الحروفية التي تدرجت وتطورت من البدايات حيث الانبهار بفكرة استضافة القيم الحروفية وإنشاء ما يشبه الميتانص الأبجدي الذي يراقب فيه الشاعر وجود الحروف وهيئاتها التركيبية في الكلمات والجمل منشغلاً بذلك عن معانيها ودلالاتها وما يمكن أن توصله أو تحمله من صور وأخيلة، ليستطيع من بَعد تفجير طاقاتها الجمالية الصورية والتعبيرية، مع اقتراض فرضيات صوفية ـــ إشراقية غالباً ـــ حول وجود الحرف في القصيدة والروحانية التي نظر بها الصوفيون للحرف والنقطة، لاسيما في المفاهيم الحلولية حيث يشبّه الصوفيون المخلوقات بالنقط الممتدة من ـــ أو المنبثقة عن ــ النقطة الأولى أي الخالق الذي فاضت عنه وامتدت في خط الوجود الذي هو عبارة عن مجموعة نقاط، إذا فصلت أياً منها فلا يعني ذلك انقطاعها عن النقطة الأولى، بل هي لا تمتلك وجوداً منفصلاً خارج هذا الوجود الخطي الذي تظل تهفو للعودة إليه والاتحاد به كما تحن القطرة لبحرها الذي تبخرت من مائه .
ولا تخفى بالدرجة الثانية أو كعامل ودافع إضافي تلك المؤثرات البصرية في تجربة أديب كمال الدين التي أجد لها مظاهر تشكيلية نمت في الرسم العراقي لدي جميل حمودي، ثم بانتباه للبعد الفلسفي المعمّق لدى شاكر حسن وتلامذته والتجارب العربية في هذا المجال أيضا مثل رسوم فريد بلكاهية و رشيد القريشي واللبّاد وغيرهم. ولكن أشدّ المؤثرات وضوحا هي التجربة الإشراقية للتوحيدي وتحليله المتقشف والنوراني للحروف لاسيما في الإشارات الإلهية.. وحفرياته الجمالية والفلسفية في دلالات الحروف ووجودها الجَفري والروحي.
الإضافة التي كان أديب يبرر بها انغماسه في حروفياته الشعرية والتي بدت لنا مستساغة وغير مقحمة، هي وجوده كشخص داخل هذه الحدوس والمحاورات والملاطفات الحروفية التي يقلّبها ويتأملها وينهمك في استجلاء جمالياتها، وما يرى من طاقة تعبيرية كامنة فيها.
في حواره الطويل مع الحروف يستعير أديب لسان متقشف يتأمل مادته ولا ينصرف عنها إلى ما تعنيه خارج وجودها الكولغرافي المجرد.
إنها كحياته ذاتها وُهبت له، لكنه بدل تسييرها وعيشها يمددها أمامه على أرض القصيدة ليدقق في مغزاها، ويوقفها ليتساءل عن جدواها ومعناها، فينصرف الزمن ويمضي وهو يناجي حياته مفرداتٍ ودلالات. هكذا كان أديب يصنع بمادة قصائده، يفتتها كطفل منبهر بلعبة، ثم يحاورها ويسائلها ويُسقِط عليها حياته كلها. واليوم وبعد حواريات كثيرة يغيب الشاعر منسحباً تكتيكياً وبمناورة فنية من المشهد الحروفي التأملي ليترك مفرداته الحروفية تحاوِر بعضها: فالنقطة والحرف كوجود لازم مثل وجود التوأم في الرحم، يتخاصمان ويتراسلان في جدل معرفي وجودي وجمالي:
وسألت النقطةُ ثالثة: هل من الشؤمِ أن أرتبط بك/ارتباط الأرض بالسماء/وارتباط الحلمِ بمخيلةِ الشاعرِ/ الطفل وارتباط الجيمِ بالجثةِ والجنون؟/هل من الحقِّ أن تضيع معي/بحثاً عني/وأنا بعض منك؟
والحرف يعاني كذلك في متاهة الوجود والسؤال ومعاناة الانفصال عن ذاته:
لم أعد من نفسي بعد /ضعتُ في نقطتها القاسية وتضاريسها المليئة بصور الموت.
أحياناً يتهادن الحرف والنقطة كأنما تجمعهما المصائر والنهايات المتوقعة  أو المنتظَرة، وكما يفعل البشر يتناجيان نادبين ما يحصل لهما:
وسألت النقطة ثانيةً : ما الذي أتى بنا من الشرق إلى الغرب /من الحزن إلى الكآبة؟ فأجاب الحرف: هل كُتبت علينا اللوعة في اللوحِ المسطور/أم كُتِب علينا الحرمان إلى أبد الآبدين.
قارىء الديوان يحس أن ابتعاد الشاعر عن حروفه ليس إلا تسمية أخرى لوجوده وراءها أو فيها، فهو يقوِّلها ما يريد كعراقي في قلب اللهب، في مركز دائرة الموت المتعدد الأسماء والأسباب والموحَّد النهاية، حزنه وجوده منفصلاً عن حاضنته وطفولته وصباه ولنلاحظ أنه في ختام معركة حروفية بين الحرف والنقطة يستبدل صهيل الكلمات بصهيل الناس(قصيدة: ضجة في آخر الليل).
هكذا تعود للحرف والنقطة رمزيتهما التي دأب الشاعر على استثمارها مما يجعلنا نتساءل: كيف ومتى سيخرج أديب كمال الدين من شرنقة حروفه؟ وكيف ومتى سيطلق وجودها المرتَهَن في النص المتعالي الذي يقيمه فوق هيئتهما البنائية مؤجّلاً تشكيلات المعاني وتوسيع الدلالات، إلا ما اتصل منها بالوجود الخطي لتلك الحروف والنقاط خارج ما تنتجه من معان أو تتنضد في تراكيب جملية نفعية.
ولنستعن الآن بتفوهات الشاعر نفسه خارج نصوصه وبالذات في مقابلة أٌجريت معه  ويبدو أن لها موقعاً خاصاً في نفسه إذ ألحقها بالديوان ، وعنوانها: قصيدتي رسالة حب حروفية، يؤكد فيها أنه (أراد استكناه سر الحرف وإطلاق مسراته العميقة أو حرمانه العظيم في لعبة المأساة لخلق أساطيري الخاصة. الحرف كما أرى شبكة لصيد البهجة، والحلم، والشمس، والفجر، والألم العظيم)
رضي بدور الصياد الذي تنوب عنه طريدته ـ الحروف ـ وتقول عنه ما لا يقوله

تذكار العصفور

( عصفور الفم ) هو عنوان ديوان الشاعر العراقي المقيم في أسبانيا عبدالهادي سعدون  الذي يضيف له الغلاف الداخلي عبارة ( وقصائد أخرى) التي سندقق لاحقا في جدواها وما تشير إليه من  ستراتيجيات ورؤى وخطط نصية.

ستأخذنا عتبة العنوان حتما إلى مغزى أو- للدقة- دلالة  أن يكون العصفور في الفم ..عصفور في فم شاعر ستعني في مرمى التفسير القريب الذي تصله كل يد أنه يطلق غناءه العصفوري جميلا مبتهجا سعيدا..هذا  هو التفسير الساذج الذي أستبطن به قراءة قارئ عابر في طريق القصيدة وليس حفارا في طبقاتها ، مقيما فيها بالضرورة ، معاودا الكر على بنياتها ، ملتذا بتأويل ملفوظاتها، تلك السعادات والملاذ المتوهمة التي يهبها الشعر عبر نص لغوي صوري لا تقل حقا عن الإنصات لزقزقة عصفور، لكن هذا الافتراض سيهدمه وجود العصفور داخل الفم حيث سيفقد الاثنان وظيفتهما الرمزية : العصفور منغمرا بمساحة الفم –مختنقا؟- ، والفم الممتنع عن البوح محشوا بجسد العصفور-جثته؟-.

ها قد افترقت طرق القراءة : هنا نتلمس فضاء حزينا لا بهجة فيه لأن العصفور لا يصدر صوتا والفم منشغل بجسد العصفور، ولكننا سنتعقب الوجود العصفوري في الفم الشعري ، ولا سبيل لذلك سوى  اقتناص العصفور في القصيدة التي تحمل العنوان ذاته( عصفور الفم) وهي التي تسيدت الديوان وصار عنوانها عنوانا له ، القصيدة قصيرة لكن موقعها  الدلالي ينتشر على صفحات الديوان ، بينما تتقازم القصائد  الخمس والعشرون الباقية مكتفية بوصفها الذيلي ، فهي قصائد ( أخرى )  تنزوي بحرف  صغير أسفل العنوان الرئيس ، وهي لسانيا تقبع في ظل حرف العطف الذي يلحق وجودها ب( عصفور الفم) …

العنونة ذات بعد فني ورؤيوي أيضا كما تتفق الدراسات الحديثة بصدد العتبات ، والنسق الذي يطالعنا في رصف وسبك عنوان عبدالهادي سعدون يعيد للذاكرة عناوين الخمسينيات القصصية والشعرية (…وقصص أخرى ) وسنفترض الموقع الخاص لقصيدة (عصفور الفم) من هذا التقديم والهيمنة.

لكن القراءة التأويلية استنادا إلى تلفظات القصيدة ستدخلنا في اتساعات جنسية ، لأن ثمة امرأة صامتة كالعصفور نفسه مكتفية بابتسامة ثم ضحكة

ولا عصفور يأتي في النهاية ، بل هو( تذكار قديم لليلة مرت) كما يقول البيت الأخير القادم بعد فاصل من البياض، لعله الزمن المستغرق في معاشرة تنتهي بمحاولة تقبيل شراشف السرير، فيحال كل شئ إلى الاستيهام  والتوهم ، فكما سنعلم أنه لا عصفور يأتي  سنقيس مخمنين أن ليس ثمة امرأة ، بل ليس سوى ريح كما ينقل النص عن جلجامش الذي لا يحضر هو أيضا باسمه بل بوصفه الكنائي صاحب عشبة الخلود التي لم يحظ بها بعد بحثه المضني الذي أوصله إلى جده في أعماق المحيط:

(ليس سوى ريح )سأقول

مكررا كلمات صاحب عشبة الخلود

و أنطرح بثقلي محاولا تقبيل شراشف السرير!

العصفور تذكار قديم لليلةٍ مرت

قصائد الديوان بقسميها الزمنيين بحسب أعوام كتابتها تعتني خاصة بالنهايات ، ترميزا لبكائيات على أشياء ناقصة : وطن مهجور منذ عقود ، وعائلة انفرط زمنها، ونساء يسبحن في ظلمة  بلا وجوه –كما في اللوحات القاتمة – ، وطيور وحيوانات تستقدمها الذاكرة من الطفولة والأحلام: نسر ونمر وحمامة –كحمامة بيكاسو المستنسخة عن أسطورة الكون بعد الطوفان: في فمها غصن أخضر صار رمزا لسلام فكاهي لا يأتي إلا في الأحلام والاستيهامات  ، فتستقر في عنف الغرنيكا وخرائبها –  المقتلة التي خلدها بيكاسو هنا في أسبانيا حيث يقيم الشاعر ( جافة لا تطير/ كجثة فرعونية / ريشها  الذي يلون  الحزن) ..

التداعيات التي تمثل الترابط الوحيد بين بنيات النصوص  تهب القارئ شعورا بأن كل شيء منقطع هنا ، في دورة حياة غريبة تسجلها قصيدة أشبه بسيرة ذاتية ناقصة ، ذات عنوان غريب في تفككه اللغوي والدلالي(إحصاء التحول فالميتات بينة)؟:

منذ العام ألف وتسعمائة وثمانية وستين

وأنا أمارس التحول

أعني أداور الجهات في غرفتي

قالوا إن الوالدة أنجبتني مقلوبا

فأبادرهم بالتحول من جهة إلى أخرى

خيط آخر يربط النصوص بالوجود التذكاري هو استعادة المكان( الأول= العراق) بأشكال متعددة : بالمقتبس الافتتاحي  الذي يسبق القصائد والمأخوذ من قصيدة شعبية  مغناة لمظفر النواب ( جفنك جفن فراشة غض، وحجارة جفني وما غمض) والإشارة في الهامش إلى أن قصائد القسم الثاني (تتخذ من العامية العراقية والألفاظ الأسبانية مرتكزا لها ) وهي استرجاعات تقرضها النوستالجيا بأسنان الرغبة المحمومة للقاء المكان الماضي وموجوداته،  فالذكرى تهيمن عبر اختزال الماضي إلى هذه المرائي اللغوية المترسبة في قاع الذاكرة. وحضورها بلا تفسيرات أو شروح -كما جرت العادة- تأكيد على هذا الحضور الرمزي ، فهي أشبه بحروف في لوحة تشكيلية لا تؤدي معنى ، بل تكتفي بأن  تزين السطح وتسمه بالروح التفشفية للحرف ذاته..

ولعل أبرز ما يلفت في قصائد عبدالهادي سعدون اتساقها الإيقاعي، فهي فضلا عن انتمائها كلها لشكل واحد هو قصيدة النثر، فإن لغتها تتميز بالمحافظة على انسياب وهدوء ظاهري ، فيما تحتدم  داخلها صور شتى للانفعالات ..كما يشجع تباعد مقاطعها القصيرة على البحث عما يربطها عضويا، ولكن أبرز المظاهر الجمالية في الديوان هي النهايات التي تأتي منقطعة لغويا أو دلاليا عن المتون :

الخيميائيون / يا لهيئتهم ! كالمعلم /الثقوب /لماذا يا إلهي؟/ النهر/   هذه المفردة الجامدة

العائلة /شص سمكة هذه القصيدة/المرأة / هذا الحضور المربك.

لا تستجيب هذه النهايات المنتقاة من قصائد شتى لإنتاج دلالات معتادة في النصوص ذات الهيئات المترابطة ، أعني تلك التي تتسلسل سرديا ،فقصيدة عبدالهادي سعدون تنبني على  تداعيات يعوزها الارتباط الحدثي الذي تتميز به قصيدة السرد.

هنا تعريفات وخلاصات لأشياء: تقف منفردة في سطر شعري ليتبعها ما يفسرها أو يعرفها..وهي محاولة تثبيت الاستعادات وتعيينها بالأمكنة والأزمنة والشخوص ،  لكن ذلك يخدم اتجاه القصيدة صوب بناء عالم متخيل وحلمي(كابوسي؟) عن زمن مضى  ، وكأن كائنا آخر يقيم في ذاكرته كما يقيم عصفور التذكار المجتلب من ليلة مرت ..وانقضت يؤطرها العجز عن الإمساك بالزمن أو استرجاع المكان..والذي توجزه هذه الأمنية المستحيلة:

لماذا يا إلهي / لا تخلق عالما خاليا من المطارات/ والطائرات /والسفر/والمسافرين/فنجلس عند عتبات دورنا/ولا نتحسر ونحن نرقب الطيور

 

 

أرخبيل الحدائق

كانت الطبيعة أبرز مشغّلات الخطاب الشعري  في فترات صعود الرومانسية فاحتشدت القصائد بمفردات الطبيعة وصار وجود بعضها تقليدا لا تبرره حاجة فنية أو تعبيرية واجترارا لا يفي بحاجة للترميز أو التعبير الخاص قدر اندراج  الطبيعة موضوعيا في مجازات مستهلكة وابتذال عاطفي  ، سرعان ما أدى كرد فعل إلى بروز الدعوة للرجوع إلى الواقع والاستمداد منه  موضوعا وتعبيرا.

ولكن الطبيعة تعود في شعر الحداثة لا لتؤثث القصيدة بأجواء أو ديكورات تزيينية بل لتعكس ما أدعوه النزعة الخليقية التي تفيض عن شعور الإنسان بما حوله ،  ومحاولته ملامسة حضور الموجودات التي لا يمر بها دون تأمل وإسقاط أحاسيسه عليها ، ربما كانت تلك إحدى سمات الخطاب الرومانسي في حاضنته الفكرية الأولى قبل أن يناله التقليد والتسطيح ، ولكن المعاناة الخليقية في شعر الحداثة- وفي التشكيل أيضا- تصنع عالما مركبا مما هو إنساني وما هو حي بجواره أو بين طيات حياته ، ويهب الشعر لهذه الكائنات الخليقية حضورا خاصا حين يضيف إليها بالطاقة الترميزية التي يسلطها عليها دلالات تجعل وجودها شعريا موظفا لتقوية ملفوظات النص الشعري وتوسيع دلالاته ..

هذه المقدمة تمهد لقراءة ديوان الشاعر العراقي المقيم في هولندا كريم ناصر

( أرخبيل الحدائق) الذي كنت في تقديمي لكتاب ضم قصائد لعشرة عراقيين مقيمين في هولندا قد لاحظت  ما تحتشد به قصيدته بأسماء الطير والحيوان والشجر وأنواعها ووجدت أن حضورها يغير أو يحدد مصائر ونهايات القصائد ويعوض عن الصور المكررة كالإشارة للخراب مثلا لا بتهديم أور أو بابل أو خيبة جلجامش كما في المألوف الحداثي  بل بالتامل في ما حلّ بالغابة :

لا غزلان في الغابات

لا زهرة في الحديقة

كما يشير إلى ( وحش محنّط يخدش العذارى) و( محنة الحمام) ويلوذ بالغابات وصمتها ، ويحاول نقل ما يختفي بين أشجارها من ظلال ووعود .

وفي ديوانه الذي نقدمه في هذه القراءة يكرس كريم ناصر ذلك الاتجاه ، ونحس بالتميز الذي نطلبه في شعر الحداثة بعد أن شكّل التكرار والتناظر التعبيري واللغوي والصوري مشكلة رؤيوية  ومأزقا أسلوبيا  تأمله  المهتمون بالقصيدة الحديثة ونبهوا إليه، بعد أن صارت كثير من النصوص متشابهة في مستويات عدة.

لقد اندرجت الموجودات الخليقية ذات الفاعلية في الفكر الإنساني والمتشكلة في الحس الأسطوري والفولكلوري قبل ذلك ، في طيات القصيدة وصارت جزءا من بنيتها وتوغل الشاعر هذه المرة في ما تراءى له عبر العنوان ( أرخبيلا ) من حدائق شعرية يجوس في ممراتها ويتحسس نبض كائناتها ، ولكن الحدائق ليست مناظر صامتة تدعو للمعاينة والنظر الجمالي الخالص ، بل هي ذات وجود فاعل ، يتعايش ويتصارع على تربتها  بكيفيات لافتة. هذا الأرخبيل المولّد لرؤى لا تنتهي ورموز ثرية فرض على الشاعر تشظيا في رؤيته  ، فهو يتأمل الأرخبيل بسعته وامتداده وبما يبعث من تهيؤات وتصورات ،  فيقتطع منه ما يشبه الصور المنفصلة  التي تلتقطها آلة التصوير ثم يلصقها بين دفتي كتاب شعري ، فتبدو مقطّعة ومرتّبة بمونتاج تركيبي ذكي، يؤكد هذا التقطيع تقسيم الديوان إلى أربعة أقسام يندرج تحت كل منها عدد من القصائد التي تنقسم كل واحدة منها إلى مقاطع قصيرة ذات عناوين مستقلة ، فيتسلم القارئ شظايا عليه أن يلملم كِسَرها ويؤلّف بينها، وهذا مصدر الإحساس أحيانا بصعوبات ومعوقات في تلقي القصيدة الحديثة –وقصيدة النثر خاصة- .وقد لا نجد في كثير من الحالات ما يبرر التقسيم المقطعي أو الأبواب في الديوان ، بل يمكن نقل نص من قسم في الديوان إلى آخر دون أن يتغير شيء على مستوى البناء العضوي للنصوص ، تماما كما يجري إذ تنتقل أبيات في القصيدة الكلاسيكية من مكانها متقدمة أو متأخرة دون أن يختل بناء النص أو تظهر فجوات في تسلسله ونموه وترابط أجزائه، كما أن من التقنيات الاعتباطية في الديوان وضع بعض العبارات بين قوسين  ، جعلت القراءة مضطربة ، فالمقوس من الكلام ليس طارئا أو مستدركا أو تفسيريا مما يبرر تقويسه وعزله دلاليا عن الجملة الشعرية ، بل هو استمرار للأداء أو التركيب الجملي مثل:

( فأفأ الرضيع)بوجهه النمشي 

وترتفع أمواج البحر( مرغية مزبدة)

                وتنشق الكوّات من الداخل ( بمنتهى اليسر)

                 كما أن العناكب(تمر بمحنة)

هذه الملاحظات إضافة إلى انقطاع القصائد أحيانا فجأة وبشعور بنقص في خواتمها   لا تمنع من رؤية النظرة الخليقية الخاصة بالشاعر حيث يقيم  كريم ناصر عالما تمثيليا يبث فيه الحياة التي يراها أو يحن إليها ، فالجزار (ينحر البطوط حنقا) في آخر قصائد الديوان لكن النهاية التي تنتظره ذات بُعد رمزي غني:

لكن اليد التي عبثت بالبطوط

على البرج العالي

قطعتها الحدأة

بهذا تثأر الخلائق في البرية التي تخيلها الشاعر من قتلة لا يستطيع أن يهزمهم خارج النص،وسنلاحظ في ضوء القراءة وجود الحدأة بدلالتين متناقضتين ، فهي كما في المقتطف السابق تننقضّ ثأرا لنحر البطّات( أو البطوط كما يكرر الشاعر تأصيلا لدلالة الكلمة العامية) بينما هي في نص آخر تنقر عيني البطل الذي سقط مغشيا عليه ، وتقطع أصابع الضيف في نص ثالث ، ولعل تبرير ذلك وتأويله يكمن في إسباغ تناقضات البشر ذاتها على الكائنات الخليقية .

لقد أفلح الشاعر في أن يعقد ألفة بين تلك الموجودات بعد أن ألفها خياله الشعري، وأعاد للذاكرة وجود الحيوان والطير في الملفوظ الأسطوري والسردي والشعري العربي القديم ولكن برؤية جديدة تربط الذات الشاعرة بالموجودات، فنرى الشاعر متألما لأن الثعابين تستوطن الغدران، وتؤذيه البلطة التي تذبح الوردة ، كما تنبهه حروب وطنه ومجازره وخسائره إلى ما حل ّ بالنخل:

قل: يا نخل ألم يجرفك دم القتلى؟

           في كل حرب ترثي تلال فجرك، مسافرا في ثمالة الجثث..

هكذا سيجد القارئ حشدا من عظايا وتماسيح وأرانب وغربان ولقالق وعناكب وقنافذ وأبقارا وأفاعي وخرافا وذئابا  وأيائل وكل ما يمكن أن تضمه فهارس الطير والحيوان من مخلوقات .. لكن وسط هذا الحشد لا تفقد الروح وحشتها ، ففي شارع يضج بالسكارى-في منفى غير مذكور في القصيدة- يتحدث الشاعر الذي نفد صبره كما يقول في الإهداء عن أوطان نهجرها ولا نحسن العودة إليها، وعن مدن احترقت في شمس لاهبة  ،وحفاري قبور لم يتهيئوا لدفن موتاهم…

ثمة عراقي يركض في قبره

اللحظة العراقية الدامية –بأرق الأوصاف لا أدقها –لم تكمم أفواه الشعراء ولم تقطع ألسنتهم أو تكسر أقلامهم بالمعنى المجازي للقلم اليوم ، بل كانت مبعث غزارة في الكتابة لا تباري طبعا غزارة الدم المسفوح على الشاشات فضلا عن القلوب والساحات والبيوت والشوارع وكل الأمكنة الممكنة للقتل والدمار.

ها إن عدوى اللحظة الدموية تتسلل إلى قراءتنا ، فيأتيك ديوان صديق شاعر ممن تناثروا تحت النجوم البعيدة والقريبة ، ليغذي ذاكرتك بالمشهد الدموي ومفرداته التي صارت إشارات لقاموس القصيدة العراقية وأحد أهم مفاتيح قراءتها.

أكتب هذا وأمامي ديوان الشاعر العراقي مؤيد الشيباني المقيم في الإمارات منذ سنوات عديدة.

وقد جاء عنوانه عتبة أولى لهذا التشظي العراقي الفريد . ف( أغاني العابر ) ليست بعد القراءة إلا نوعاً من تناص المفارقة مع دلالة الأغنية، فما يعد به  العنوان قارئه ليس الا وهماً، فالمفردات الشعرية على مستوى الموضوع والصور والتراكيب وبنى القصائد كلها ليست إلا بكاء ومراثي لمن غاب أو ينتظر أن يغيب بقدر طائش غير محسوب.

الأغاني تفترض بهجة وصفاء ونشوة لا وجود لها في الديوان و موضوعاته ، من هنا تكون المفارقة التي أدخلنا فيها الشيباني الذي يمكن تجييله في موجات الشعرية العراقية المتعاقبة بالثمانيني ، رغم أن ظهوره في ديوانه الأول ( اختيارات ابن الورد) يمثل تماسه الأول بالتحديث الشعري بين زملاء من مدينته –النجف-مثلوا جزءا من استباق التحديث الشعري في وسط ثقافي مستقر الأعراف والتقاليد الشعرية الصارمة بقوة الموروث الشعري وتاريخيته البعيدة.

الصلة الأولى الواضحة لأغاني العابر بالغناء هي اختيار الشاعر للتفعيلة والوزنية المجسمة في الأشطر الشعرية  ، والاحتدام أو الهيجان اللغوي وتتابع الصور والانفعالات المختفية وراءها ،والتي تناسب المرارة الطافحة من القصائد المكتوبة في مناسبات وأوقات مختلفة ، لكن مايوحد بينها ويجمعها هو هذا الأنين المقترب من الصراخ والذي صار سمة فنية وموضوعية تتوافق إيقاعياً مع المشهد الدموي وتشظي الحياة وتهشمها كما لو كانت تعاد مثلما صورتها الملحمة الخالدة: جلجامش وهي تصور الطوفان وتكسر الأرض الفسيحة كالجرة أو قِطع الخزف المتهشم –وهذا النص الأخير استعاره الشيباني ليضمنه قصيدته الأولىالتي تبدا بما سماه إيقاع أول:

                       في طرقات الريح أفتش عن قدمي،هل كانت هذي الخطوة

                       لي؟لا ألمح شيئا غير الرمل الفائض يصعد فوق جدار العمر

                        ترى أين مشيت ؟وكيف أواصل سيري؟

                             وأنا غيري!

وتتوسط هذه البكائية أبيات الشاعر السومري لتخفف الإندفاع الوزني ولكن لتؤكد الخسارة التي يشعر بها العابر وقد مضى عمره دون أن يرى عراقاً جميلا أو وثيرا، تلك الأبيات تتحدث عن مدينة:

هدمت أسوارها وناح الناس

ناحوا عند البوابات  العالية حيث كانوا يتنزهون

وفي الشوارع حيث أقاموا الأعياد، نثرت أجسادهم

وفي ساحاتها حيث احتفلوا تراكمت أكوام القتلى

تصل الأزمة بالشاعر حد أن يناجي القصيدة ويسألها ويبحث كما تبقى منه فيها لكن النهاية تكون هكذا:

لاشيء الليلة أكتبه

ثمة أفكار جائعة

أكلت كل ثمار الروح ولم تشبع….

كثيرة هي الثيمات الدالة على الخراب والخسارة حيث لا ذكريات ولا أرض ولا مدينة ، ولكنني سأتوقف عند قصيدة النثر الوحيدة في الديوان( ثمة عراقي يركض في قبره) زوالتي تتداعى فيها أسماء مولفة من تاريخ العراق القريب والبعيد :

تحت كل نجمة ، عراقي يجمع في دفتره الخاص

أسماء عراقية، لكي لا يتذكرها ثانية

ولكنه ينسى، ثم يكتبها! هل هي مزحة؟ أم لعنة:

أور نمو ، لبت عشتار، سنحاريب، القائد الضرورة،

جرمو، أشنونه ،  الوركاء ،أبو عثمان الجاحظ، أريدو،

جمدت نصر، تل  العبيد، سامراء، آشور، كيش،

الكوفة، البصرة، بشار بن برد، واصل بن عطاء ، الرشيد…..

وتظل الأسماء تتوارد متداعية متتابعة في تناقض وتوافق محسوب بين غابر ومعاصر ، ينتهي بالعجز عن التسمية  ، والاستعاضة عنها بعلامة من نقاط  عديدة ……. وكلمة: والبقية.

لكن المهم هو ما يأتي بعدها:

تحت كل نجمة

ثمة عراقي يركض في قبره

حاملاً جحيمه الأبدي

وعلى كتفه عباءة التعب مثل درويش هائم في نقطة ضالة…

تحت كل نجمة

ثمة عراقي أضعف من خيط أنين

يرتب على طاولة الفقد أغانيه ويبكي

ماذا يفعل باللغة؟

ماذا يفعل بالتاريخ؟

ماذا يفعل بدوران الشمس والقمر؟

ماذا يفعل باحتياطي النفط في جزر مجنون؟

في صحرائه الممتدة يمضغ فمه على رائحة

شواء الحضارات …ويحلم

في المشهد الختامي للقصيدة التي تعيد إيقاع التكرار : تحت كل نجمة ، نلتقي بالعراقي نفسه بعد :

ذهاب كل شيء

البلاد والطقوس والعائلة

المدينة والذاكرة والأسماء

المائدة والأحلام وأشياء أخرى…

ثمة عراقي يفتش في نشرات الأخبار

عن غده

هكذا صغر المصير وضاقت الحياة حتى صار الغد مخبوءا في نشرات الأخبار، وليس للشاعر أن يعلل ويبحث في الأسباب والمصائر المنتظرة والحسابات المحتملة ، فهو مسكون بهذا الخراب، عابراً كما تريده القصيد ة، بل هو مفردة في جملة شعرية طويلة يسميها الشيباني ببلاغة في قصيدته(شعراء عراقيون) التي يأخذ فيها أبياتاً من أسلافه:

منذ فيم التعلل لا الكأسٌ

لا الأهل ،لا الوطنُ…

منذ أستودع الله لي قمراً ًبين بغداد والأندلس

منذ يا دجلة الخير ومن شراعات أبلامها كفنُ

منذ قبر مشى ناحلاً ليجاور ابن عربي

منذ ذاك الغريب الذي صاح محترقاً بالخليج

منذ رجع الصدى كالنشيج

وتختلط عناوين وإشارات من العلاق و الربيعي وسعدي ونازك والصائغ وحسب ، ثم تنتهي التداعيات بتقرير حقيقة  تلخص المسألة:

منذ ألف وألف من السنوات

لم يزل حزننا واحداً

وجميع القصائد قافية واحدة

فكأن الشاعر العراقي يقول كل شيء بفم واحد متغير النبرات ، وذلك ما لا نوافقه عليه كقارئين للشعرية العراقية ومناخاتها المتعددة التي هي سر حيويتها وديمومتها وتجددها، لكننا نفهم الدلالة التي أراد الشاعر توصيلها ليقول إننا ننتج حزناً واحداً، جمعت بين شعرائه لازمة : منذ التي كررها الشعر لتكون مبتدأ في جملة شعرية طويلة خشينا ألا تنتهي مادام الشاعر يستذكر أسلافه ومعاصريه، لكنه ختمها بالخبر الذي اقتطفناه ( منذ ألف وألف) والذي يحيل لألف ليلة وليلة ، ووجودها السردي الذي يقوم على استمرار الحكي لتستمر الحياة .

قد تعيدنا أجواء الديوان إلى غنائيات الستينيات وجملها الشعرية المحتفية بالوزن والمثقلة بالتكرار والإيقاعات العالية ، وربما أعادت بعض المطالع أجواء ما عرف بالقصيدة اليومية أو الأليفة التي ابتدعها وكرّس سعدي يوسف  شعريتها القائمة على المونتاج الذكي واصطفاف اليومي كمفردات تبدلا من أقرب الأشياء وأكثرها ألفة، وقد أعادت ذلك إلى ذاكرتي بعض بدايات قصائد  الشيباني مثل :

في أثينا

في الشهر الأول من سنة اليونان

حين أغادر تلك الغرفة في زوغرافو

أترك بعض علامات حيث أعود..

ومثل هذا الاستهلال:

في هذا اليوم الصيفي

أفتش عن لحظة نسيان

قبل ثلاثين رميت الوردة فوق العتبة

وتخاصمنا

ومثل:

قبل ثلاثة أيام هيأت النية والوقت

وسجلت ملاحظةً

أن يجمعنا حفل يبدو تلقائياً فكأن الصدفة قادتنا

أجّلتُ الوردة حتى الساعة كي تبقى يانعةً

ولعل قيمة ديوان الشيباني (أغاني العابر)  أنه أثار مثل هذه الملاحظات حول انشغالات الشعر العراقي في الآن المحتدم  ،  والكيفيات الفنية التي تتمثل تلك الانفعالات والأحزان والآلام التي يبدو أنها ستطول ،  بانتظار قصائد وملاحم لا تنفد كالدم العراقي الذي يسيل بلا توقف..

                       إسكندر البرابرة لمحمد مظلوم:
التباسات اللحظة العراقية الحارقة
 
 
الحالة العراقية شديدة التعقيد والمأساوية والسوداوية والانفتاح على المجهول، تسمح برؤية الخسارات والفقدانات المتحققة والقادمة، وتأخذ دور العنصر المهيمن في النصوص التي كتبت -شعريا- في وصف الحالة، أو رصد الشعور أو الانفعال والإدراك المتصل بها.
وهي حالة تعطي للمتأمل في دلالتها اللحظية -الآنية- المزيد من الإحساس بالألم الجارح لمصير وطن جميل معتصر بين أكثر من نار وسيف ونية وقصد..
في هذه اللحظة عاد الشعراء إلى الوطن -المكان- فعادوا بمزيد من الأسى وتعمق اغترابهم فهرعوا إلى خزّان الذاكرة وخزائنها ليوقدوا جذوة الحنين لوطن تمنوه على غير ما وجدوه ..
وفي احتدام هذا الشعور  تطفو ثنائيات حادة تتنوع على التباسات اللحظة العراقية مثل تقابلات: الغزاة والطغاة، الدكتاتور والمحتل، الحرية والموت، وما يتفرع عنها من استدعاءات الذاكرة الشخصية – حياة الشاعر في صباه وشبابه على أرض السواد بين النهرين في وادي الرافدين والذاكرة الجمعية التي تستنجد بتاريخها -تاريخ المكان وجغرافيته وطبيعته وحضاراته وثقافته… بهذا التوقع المسبق قرأت ديوان الشاعر محمد مظلوم بقصائده الثلاث الطويلة بدءاً من عنوانه (إسكندر البرابرة) مستذكراً استراحة محمد مظلوم لنداءات التاريخ التي ركزها عمله الموحد الطويل (أندلس لبغداد) الذي كان يؤاخي بين حالتين ويطابق رؤيتين في جغرافيتين تتباعدان مشرقاً ومغرباً وتلتقيان في الدلالة ..
هنا في (اسكندر البرابرة) كان اللجوء إلى التاريخ محيراً فلا شك عندي أن البؤرة المولدة للنص جاءت عبر شعر كافافي وبرابرته الذين يصبحون جزءاً من الحل المنتظر:
ورأيت كافافي وحيداً / بانتظار قدومهم/ ليخيط في المنفى / سماءَ برابرة
هذا الانتظار المتمدد عن برابرة كافافي -وكثيراً ما استعاره الشعراء العرب من قبل- هو ترميز للتنويع الممكن على التباس اللحظة العراقية: فحين يضيق أفق الحرية ويتسيد الطغاة يبدأ الناس بالأمل منتظرين قدوم برابرة ضروريين سرعان ما يصبحون جزءاً من المشكلة أو كما يعبر محمد مظلوم:
جاء الغزاة مضى الطغاة،
ترى المرايا ما ترى
فلأيّ بهلولٍ سيتسع المضيق؟
وإمعاناً في الالتباسات المحرجة والاختيارات القاتلة يصل محمد مظلوم إلى جرح مفتوح في الجسد العراقي:
يأتي الحريق
وتختفي روما
ويلمَعُ من جديد في الظلام خرابها
حرّيةً وبرابرة.
الغزاة والطغاة، الحرية والبرابرة هي التنويعات التي تحدثنا عنها مضافاً إليها ما سماه محمد (قلاع المحتل وإرث الدكتاتور) أو (طوائف أزمنة عمياء وجيوش تسبقها الغربان) وهو بذلك يختزل دلالات الراهن العراقي حين يتوجب الاختيار ولكن (كلهم سيتساءلون متى يأتي البرابرة؟) … وحين يتأمل الشاعر وطنه الممزق والجريح (بين الغزاة والطغاة) يصرخ :
لا . لست الغريب
وهذه ليست بلادي
أو يقول :
( تأتي البلادُ فلا بلاد!)
هنا ترتقي أحاسيس الإلتباس حدّ تمويه الذات والسؤال عن انتمائها، فهو في لحظة التحقق عراقي بالقوة أي بما أنها بلاده فهو ليس غريباً، مؤكداً ذلك بالنفي المضاعف (لا. لست.) لكنه في البيت التالي يرى الوجه المضاد للحالة: فهذه ليست بلاده التي أراد … وهذا اقتراب بالحالة المنقسمة والملتبسة من الذات.
الأقسام الثلاثة في الديوان تتصدرها مقتطفات من مصادر تاريخية: القرآن، ابن خلدون، تاريخ الأمم والملوك، الكامل …. ولكن المرجع الأقوى هو المرجع الإغريقي الذي هيمن على العنوان والقسم الثاني (الموجز الإغريقي). لذا كان الاستنجاد ببرابرة كافافي لترميز الحالة العراقية مبرراً، بسبب انتمائه إلى الثقافة الهيلنية التي يتحدث عنها الشاعر ويستمد منها الكثير.
ولكن لوحة الغلاف المختارة بوعي الشاعر ( أو بموافقته على افتراض أدنى) ذات دلالة محايثة … فهي من أعمال سلفادور دالي وتصور بحسب العنوان (الصيدلي الذي لا يبحث عن شيء على الإطلاق) حيث يقف الصيدلي متأملاً الصخور في مقدمة يسار اللوحة، فيما تمتد الأشياء بعيداً عنه وكأنه لا يجد دواءً لما يجري فهل كان ذلك تعبيرا عن الإحساس باللاجدوى .. واستعصاء الحالة التي جعلت الصيدلي- ولنلاحظ دلالة المهنة وارتباطها بالبرية وأعشابها_ لا يبحث عن شيء على الإطلاق فيما هو جزء من الحل الافتراضي.
التاريخ والذاكرة يتآزران ليطلا في عمل محمد مظلوم على المأساة ذات الأبعاد المحيرة .. حرية هي حرب أو حربة كما توحي تداعيات اللغة التي يستثمرها محمد مظلوم حتى في مستويات المفارقة حيث تصبح (بلا بوش) وهي شتيمة جنوبية ذات دلالة على أنها (بلاء بوش)! كما تتوسع المفارقة لتصور دماء العراقيين المهدورة
فالعراقيون في الأرض / قطيع الله / لا قَّود ولا عَمْد، ولا ديةَ /لا ذئب ولا ذنبَ
فلا تمسح يديك / إنهم آخر لونٍ لهنود اللهِ/في هذا السواد.
فالذئب المتهم البريء يتقابل مع ( الذنب) في استبدالات اللغة واللعب بها، وكذلك البلاد فهي (مُسَلَّحة ومَسْلخة) معاً. هذا الاندفاع والهيجان اللغوي يتممه على مستوى البنية اختيار محمد مظلوم لأكثر من شكل، فثمة قصيدة نثر ناضجة ومكتملة (أين كلكامش يا كولومبس) مثالاً، ومزيج بين النثر والوزن في مرثية رائعة مهداه إلى جبار صخي (دعوا الشرفة مفتوحة) . وقصائد تفعيلة عالية الإيقاع تتكرر قوافيها لتزيد موسيقاها علواً (دائماً ثمة برابرة، زاد الرحلة ….) وهذا انشطار آخر وتقابل ضدي يتمدد من ثنائيات تحدثنا عنها. وهنا سأتوقف عند المقتبسات التي أستهل بها محمد مظلوم قصائد الديوان، وهي موجّهات قراءة كما نعلم، تضع النصوص في الطرق التي أرادها لها قصد الشاعر… ولكن بعض هذه المقتبسات تبتعد قليلاً عن ذلك … فالاقتباس الأول من مقدمة ابن خلدون يفاضل بين (السيف والقلم) واستخدام (صاحب الدولة) لهما كآلة له ومدى الحاجة لكل منهما … والثاني: يتحدث عن المغلوب المولع بالإقتداء بالغالب في سائر أحواله وهو عنوان فصل في المقدمة، يضع له ابن خلدون سبباً في المتن، ولعل الشاعر أراد بهذا المقتبس – الذي يورد ابن خلدون في المقدمة أمثلة من الأندلس تؤيد فكرته- أن ينعى على الناس (المغلوبين) وظنهم الخاطئ طبعاً في أن الغالب مكتمل أو كامل. لذا استطاع أن يغلبهم وليس لضعف فيهم. ولا أدري إذا كان للناس من ذنب في مجيء البرابرة الذين صاروا (غزاةً) لأن ما فعله (الطغاة) بالناس جعلهم جزءاً من الحل على طريقة كافافي.. وأياً ما كان فثمة انشطار أيضاً بين الاعتقاد بوجود برابرة أتوا (من شتات الجحيم) وبين الاعتقاد بحتمية انهزامهم .. ولكن من سيهزمهم إذا كان المقتبس من مقدمة ابن خلدون يسجل التهمة على (المغلوبين) أو (المهزومين) من الناس قبل أن يردوا غالبيهم؟.
ينتهي ديوان الشاعر محمد مظلوم (اسكندر البرابرة) بإعلان مباشر عن الخسارة:
لو كان معي بستان من ريح /   لدخلتُ الأرض/ بعاصفة خضراء / ومحوت من التاريخ / سلاسل تُروى أحَداً عن بلدٍ / ثقةً عن سُوقَهْ / عملاء عن علماءٍ أو بالعكس / وذبحت الماضي بسكاكين اليأس / لكنّ مجازي أُقفلَ/ والأرض فُتات سماء !
هكذا يعلن الشاعر عجز اللغة لسعة الفاجعة وهولها .. ولم تعد الأرض جديرة بأحلامنا فهي (فُتات سماء) ليس إلاّ …
ولكن نص محمد مظلوم في دواوينه الأخيرة، وهذا الديوان خاصة، يشفّ عن احتدام وحرقة لا يخفيها المجاز نفسه حتى وهو منفتح … بل لعلنا واجدون في مصهر نصه كل ذاكراتنا وقراءتنا وآلامنا معاً في حضور مكثف كان لابد له أن يجيء معه بإيقاعات عالية وصرخات .
 
 
 
 
 
 
 
 

حميد حسن جعفر: ارتباك الجثث

يمكن بحسب التجييل في النقد الشعري العراقي أن نعد حميد حسن جعفر من شعراء السبعينيات وإن كانت ثقافته الشعرية ستينية بجدارة عبر احتفائه بالموضوع في قصائده الأولى بهدي المشغّل السياسي والفكري السائد ، وبالإيقاع التفعيلي  الحر ثم انتقاله إلى قصيدة النثر في دواوينه اللاحقة مع مواظبة على انتقاء نقاط الاحتكاك بالموضوع ، وتغييبه في إطار لغة تنتمي في مفرداتها وتراكيبها وصورها إلى حداثة قائمة في قلب العصر، ومتفاعلة مع مستجداته على مستوى التلقي.

لكن الواسطي المقيم بلا مغادرة لمدينته والمنغمس في هموم التحديث الشعري والكتابة عن حداثة  الشعر  وأساليبه لاحقا ، سيكون من أكثر زملائه رصدا للّحظة الشعرية الحرجة في سيرورة القصيدة العراقية الحديثة ، تبعا لحرج الحياة العراقية ذاتها وتقلباتها السياسية التي ستنعكس مصيريا على المزاج الشعري كتابة وتلقيا، كما انه سيواصل ترويض الموضوع والمشغّلات الفكرية ؛  ليغدو شعره تأملا معمقا لما تحمله الوقائع  والأحداث من دلالات.

وأبرز ما تناوله حميد في أشعاره التي وصلتنا وأمكن قراءة دلالاتها وما تؤشر له هو الحرج الذي أصاب الحياة نفسها وصبغ قصائد حميد بسمة الحزن واليأس فضلا عن تصوير العنف والألم بما يوازيهما من لغة لا تخلو من عنف ودلالات مقنعة تشير كلها للألم.

ومن بين تلك الدواوين التي أصدرها في السنوات الأخيرة اخترت ديوانه(ارتباك الجثث) -2005 ولاحظت أن القصيدة لديه غدت أشبه بالنزف المتواصل ، فالقصائد كلها مؤرخة بتواريخ متقاربة فهو يكتب باستمرار ويثبت التاريخ أسفل القصائد كأنما لينبه القارئ إلى أن هذه القصائد الخمس والثلاثين كتبت في مناخ واحد وفي سياق نفسي واحد وتلك التواريخ تمتد من الشهر السادس حتى الثاني عشر من عام 2003وهي أشبه بيوميات متسلسلة قاسمها المشترك كما يهيئنا العنوان هو الموت الذي تتنوع مفرداته مع توحد دلالته فثمة استهلالات وتداعيات تليها لا تخرج عن متن الحروب وهوامشها المرعبة: فثمة الحرب والجند والقتلى والقنابل ،  تعززها الأسئلة التي لا يخلو منها نص في الديوان حتى ليبدو السؤال هو مشغّل القصيدة أسلوبيا .

في تقديم حميد لديوانه(من ذا أورثه قلقي وقال ليديه انطلقا)-2008 يؤكد على دور القارئ في اكتشاف النص بشجاعة متخليا عن تهم الغموض المسبقة للنص الحديث، ومؤكدا على السياق المحيط بالنصوص وظرف إنتاجها ، ونستعين بذلك لإضاءة نصوص (ارتباك الجثث )التي تبدأ بنص (زمن) الذي يقدم تعريفا لزمن القصائد ذاتها :إنه زمن كالأسلاك الشائكة أو المأتم لكنه رغم ذلك وبلغة الشاعر:

(كنا نصطحبه أينما نريد/نتوسده كأي عزيز/..ورغم هذا وذاك / كان جميلا/رغم الموت / ورغم القتلة).

ولا تخرج القصائد عن تلك الموتيفات المنتزعة من سياق الموت نفسه وزمن كتابتها –أشهر ستة من عام 2003باستثناء القصيدة الأخيرة التي تعود إلى زمن آخر هو 1995، وهي تنشز لا زمنيا فحسب بل بإيقاعها الموزون الحر بينما كانت النصوص  الباقية كلها قصائد نثر.

لكن القصيدة  رغم أنها ترثي مدينة تدخل في إطار المراثي ذاتها والمكتوبة لمناسبات شخصية أي تتعلق بشخصيات راحلة مثل حميد  ناصر الجلاوي وجواد ظاهر نادر ومحمود البريكان ورعد عبدالقادر وإدوارد سعيد، وهي متوالية مراث مقصودة لتتويج الجو السوداوي في الديوان.

موتى ينسحبون من البياض وغابة أيقظت الحرب ، وحروب لم تستطع المغادرة، وضحايا وجند في مؤخرة المعارك أو مقدمتها لكنهم جميعا ذاهبون إلى ذاكرة الشاعر التي ستعيد تمثيلهم وعرضهم.

عند حافة الحرب

 ألقمت ذاكرتي آخر ما لدي من البنادق

فالصحراء استهلكت ارتباكاتنا

في المراثي خاصة تبدو لغة حميد متسعة في تراكيبها ودلالاتها ، والاتساع يعني هنا شمول الدلالة لحالات مشابهة يسكت عنها النص وتوحي بها التراكيب ودوران اللغة خارج عملها النحوي  النسقي والمعنوي المباشر كقوله في مرثية إدوارد سعديد:

ما كانت قدسك غير اللغم المهذب الواقف

عند نوافذ نيويورك

تقتات سلالمك على شظايا مخيماته/ فغدا / بالجليل سلحفاتك المؤهلة للتسابق

 

طيور النجاة من المذبحة

إذا بقي ظل واحد

وإذا تخرب ما حولك

وتخرب ما حولي

فآخر طير ينجو من المذبحة

سيردد  أغنيتنا

عيسى الياسري

ديوان الشاعر العراقي المغترب  في كندا عيسى حسن الياسري( أناديكِ من مكان بعيد)   يؤكد ما عرف عنه في الشعرية الحديثة في العراق من اهتمام بالتفاصيل والميل لتأكيد معالجته الموضوعية بأسلوبية لا غموض يكتنفها ولا تعقيد ،حتى أنه وُصف ذات مناسبة نقدية بأن شعره يصلح أن يكون تمثيلا لاشتغال الرعوية او القروية كنزعة لا انتماء جغرافي أو ديموغرافي  ويتجسد في شعره استحضار الريف كبنية بشرية وطبيعية واجتماعية تشترك في تشكيلها طبائع البشر ومرائي الطبيعة وثقافة الجماعة   فكان الياسري من أكثر الشعراء العراقيين تمجيداً  الطبيعة وجمالها وبساطتها  . ولكنه في هذا الديوان يخفف من تلك الغنائية التي أوجبتها  سعادته بالطبيعة وابتهاجه بمظاهرها  ، وفي قصيدة قصيرة من بيتين  بعنوان (شاهدة) سنلتقي ببعض هذا الشجن :

أيتها الطيور المبتردة / هنا يرقد مشتاك الدافئ

لقد حاكى عيسى الياسري هنا ما تخطه الأيدي عادة على القبور من شواهد تؤرخ وتوجز للتعريف بمن تضم رفاتهم لكنه يوجه الخطاب على الشاهدة المقترحة لأولئك الذين يهمهم أن يزوروه كما تهمه زيارتهم وهم جمع  الطيور التي رافقته في دواوينه الأولى التي تلبس فيها  قناع طائر جنوبي يسكن الماء وفضاء القرى لكنه أي الطائر كسواه  من الطيور يعاني البرد في المنفى فلا يقدم له الشاعر إلا مشتى دافئا في هذا القبر الذي يسكنه.

في المدن التي ارتحل لها الياسري مُكرهاٌ  ثمة عصافير لكنها مقيدة  ككل عصافير المدن  لا سيما المتخذة كملجأ اضطراري لا يمكن ان يكون بديلا لفضاء الوطن و لا ترشحه الدوافع النفسية  والضغوط النوستالجية  لذلك الاستبدال  فالعصافير لا كما عهدنا صورتها القريبة من الرومانسية بل هي   في قصائد الغربة المكتوبة ( من البعيد) تبدو بهذه الهيئة:

بالريش المتسخ / وبالمناقير الملوثة بالماء الآسن/ تستيقظ عصافير المدن / كسلى مجهدة

وكما يؤرقه مصير العصافير والطيور يفكر الياسري بعصافير أخرى لها ضعفها وجمالها أيضا  وهم أطفال العراق و لغز مصائرهم المثيرة للأسى فيكتب لهم:

لقد انطفأت أفراحكم / كشواطئ هجرتها الزوارق / وما عادت تتجول فوق رمالها /طيور الغاق

ولايزال الشاعر يؤاخي كل شيء بطيور ظلت تطير في فضاء الذاكرة هذه المرة  فالخواء يجد له الياسري معادلا صوريا من الذاكرة الطيرية فالافراح المنطفئة = صوريا ولتقريب انطفائها في المخيلة  شواطئ هجرتها الزوارق ثم لم تعد فوق رمالها آثار لطيور الغاق ، لكن الغربة  في إحدى وجوهها تحرك الشاعر كي  يتنقل بحرية بين أشكال شعرية متباينة ،  فإلى جانب قصيدة النثر وقصائد الوزن الحرة  سيكتب بغنائية  عالية تناسب الشجن الذي يؤطر موضوعها  فهي مناجاة لأم عيسى-الشاعر وقد كتبها بلوعة لا تخفى على القراءة المتفحصة فيقول:

يا أم عيسى لقد أودى بك السهرُ

سهرتِ

أم نمتِ

لن يأتي لك ِالقمرُ

لقد مضى عن بلاد ليس يعبرها

غيمٌ

يسافر في أثوابه المطرٌ

لقد عمد الشاعر إلى تقطيع الأبيات الموزونة بهذا الشكل المتجاوب مع معاني النص ودلالاته ولم يبق من وزنها الظاهر وموسيقاها سوى القيد النغمي المتمثل بالقافية وكأنها صدى لندب وبكاء يستدعي أيضا الطبيعة ولوازمها دليلا على ما أصاب الحياة من عطب واختلال و تغير.

.تحولات الريح

في ختام ديوانه ( تحولات الريح) يثبت الشاعر والأكاديمي العراقي رعد رحمة السيفي دراسة  نقدية مطولة كتبها الشاعر خالد علي مصطفى عن الديوان، وصف فيها عمل الشاعر بأنه( عزف منفرد خارج الجوقة )مرمزاً بذلك ومشيرا بإيجاز  إلى عدم إمكان فهرسة شعر السيفي ضمن مناخ محدد في الشعرية العراقية والنتاج الحداثي العربي ،  فخالد يصنف تيارات الشعر العراقي في ثلاثة:المتن التقليدي الذي يمثله الجواهري، ومتن الشعر الحرالسيابي  ، والمتن الذي تمثله قصيدة النثر.

وإذا كان شعر السيفي يقع من الناحية الإيقاعية في المتن الحر-السيابي، كما يقرر خالد فإن الفحص من الناحية التصورية –التخييلية- يموضع شعر السيفي خارج المتون الثلاثة، معززا بذلك ماكن بدأه من ملاحظات سياقية على شعر السيفي حيث يلاحظ خالد ا، السيفي نائياً بنفسه عن التجمعات الأدبية والمقاهي والنوادي والشوارع ، وحتى النشر الذي تأخر عنه السيفي زمنا حتى أصدر ديوانه الأول هذا0 السيفي مولود في البصرة عام 1963) ثم يطرح  خالد فرضيات قراءة تناصية  ترشحها الذاكرة كالنسب الممكن بين شعر السيفي ومحمود البريكان –ابن مدينته وأحد رواد القصيدة التفعيلية المطوّرة- أو الصلة( الواهية ) بينه والمتن الأدونيسي، فالسيفي –يقول خالد –يحاول في شعره( أن يكون نفسه ،بعيدا عن غيره بقدر ما يستطيع طموحه  وقدرته أن يبتعدا).

ولكن ذلك طموح أي شاعر ومشروع يسخر له قدرته الفنية وخياله وذاكرته وشاعريته كلها.

وهذا ما تحاول القراءة أن تتلمسه في شعر السيفي الذي تتوافق إيقاعيته الوزنية الحرة مع خطابه الشعري المعتمد أساسا على الموز ورسم مشاهد تمثيلية للانفعال والشعور والإحساس، وهكذا تبدأ استهلالات قصائده التي لا تقدم تعينات ملموسة بل حالات شعورية مرمزة:

الشوارع في قامة الليل /تسجد../ والقبرات.. لدمع الرياح /الرياح ..تفتش عن كوة

تحت هذا المدار!/ من على شرفة الليل .. يساقط  الفجر مكتئبا./ الشفاه..

تتناثر كالثلج في/غرفٍ مظلمة!

إذا ابتعدنا عن المؤثرات المولدة لهذا الاستهلال وهو تقنية شعرية شائعة ترتب الالتقاطات اليومية والمكانية لتدمجها في مشهد بصري أشبه بالسيناريو الفلمي، فسنجد الرمزية واضحة في هذا الاستهلال والتعبير عن الإحساس بهذه الموتيفات(شوارع-قامة الليل- القبّرات –الرياح-الفجر-الشفاه..) وهي منصهرة في عملية تجميع صوري حر يقترب من التداعي الحر.

وثمة في شعر السيفي تعينات بديلة لهذا التهويم يسببها عائديتها إلى مدن وذكريات0 البصرة-حيفا- وإلى أصدقاء: محسن اطيمش –فيصل جاسم-كـأمثلة، ولكن الحنين من أكثر المشغّلات الشعرية فالسيفي البعيد عن العراق لا يفتأ يستعيد رؤاه ومشاهده صريحة مرة أو مرمزة مرات حتى لو كانت مغلفة بذكريات الموت:

الليلة تكتظ برائحة الموت خالية من ظل الفتنة في الأصداء.. الريح..

تؤجج في الروح مكامن رغبتها وأنا .. لصق هواء الشارع

أفتح للآتين نوافذ روحي!

لعل هذا التعيين النسبي في المشهد الشعري المصور يعود إلى نفور السيفي من المباشرة التي يعاني منها الخطاب الشعري التقليدي ، ولكن ذلك يضع قصائد السيفي ضمن الرمزية العالية التي تزدحم أحياناً في حمى التداعيات التي تأخذ برقاب بعضها لغوياً وصورياً ما يجعل القراءة لاهثة خلف تلك التداعيات التي يصنعها الترميز وتعززها الموسيقى الوزنية،

واحسب أن ذلك كله جزء من شعرية قصائد  السيفي وأسلوبه الذي جعل خالد علي مصطفى يضعه ضمن نفسه لا يشبه أحدا ولا يمكن تنميط قصيدته ضمن تيار أو جيل أو مناخ.

خلاف على دمنا

الكتابة في المأساة العراقية بالشعر ستوقع كاتبها حتما في إغراءات الندب والعويل تطابقا مع طقس  صار حكرا على سكان هذه الأرض  التي اصطبغت طويلا بالدم ، لكنها مع ذلك حملت بامتياز وصف أرض السواد في مماهاة فذة بين جمال نخيلها واسوداد أفقها بكثافته، ولربما  بمرجعية  أو بتداولية الألوان لدى العرب  ، مما يجعل الأخضر الغامق والأسود في صف تلقٍ واحد  عندهم . هكذا صارت خضرة الأرض والأفق مساوية للسواد في التلقي البصري  ، وهو ما يرد منعكسا أو مقلوبا في الموروث الشعبي العراقي حين يوصف السواد بالخضرة  والأسود تلطفا بالأخضر.

سنتذكر في مجال الندب والبكائيات المزمنة  وانعكاسها حتى في أفراح العراقيين ما كتبته الشاعرة الراحلة نازك الملائكة حول الحزن في الأغنية العراقية وتغلغله في نسيجها عفويا حتى صار أي الحزن  مظهرا للازمة التي تتردد فيها كالآه والآخ  والويل والأوف وغيرها من ألفاظ التوجع والتفجع والشكوى حتى في المناسبات التي يفترض أن الفرح يهيمن عليها .

الشاعر علي حداد أصدر ديوانا مؤحرا مكرسا للواقع القريب والماثل في وطن الدم والسواد.. لكن العنوان الذي اختاره الدكتور علي حداد  وهو(وقت مستقطع من الخلاف الستراتيجي على دمنا)  بطوله اللافت يعكس لا شعوريا طول المأساة العراقية القائمة منذ بدء الاحتلال ونزف الدم على ثرى بلاد الرافدين التي يدفع أهلها ثمن امتدادهم الحضاري والمدني وأصالة وطنهم المستباح .

قصائد الديوان العشر تؤكد المعاناة وترصد مفرداتها الدامية ولكنها لا تستسلم لليأس فالاحتلال إلى زوال والموت الي يعربد في الطرقات مجانيا ومجنونا سوف توقفه إرادة العراقيين التي أوقفت قبله موجات المغول وكابوسهم الذي ظل قرونا.

تحتشد في الديوان ذاكرة حية لشاعر عراقي يحمل الوطن معه في اغترابه المؤقت والاضطراري عنه ، ويعزز رؤاه بالتضمينات والاستشهادات الشعرية التي يفتتح بها الديوان ويعلوها بوح الأعشى بشوقه الذي أسنده لرواحله المتشوّقات ( وهمّهنّ العراقُ)  والاقتباس عن محمود  درويش 0 الشعر يولد في العراق) ولعل هذا أحد أبرز أسباب الخلاف على دمنا المهدور بما تكتنزه الروح العنقائية للعراقيين في مسلسل الدمار والعسف والموت المتكرر على أرضهم.

الوزنية التي لازمت القصائد بحدة تعكس جانبا من توتر الملفوظ الشعري نفسه والضغط الهائل الذي تركته المعاناة العراقية القائمة تحت نير احتلال أمريكي ، وعنف أعمى  متولد عنه ينال أرواح الأبرياء بلا رحمة:

دعونا : وهذا الغريب الذي جاء يحتلنا بمقدار ما يحتسي من كؤوس رعونته

ويبصر ميراث أجدادنا الفقراء: (فالاتهمفي حنايا الذي أتوا قبله..

ومدافع أسلافه قضمتها الحشائش /والوحشة الباردة.

لقد جاء ديوان علي حداد ثالثا في سلسلة دواوينه فضلا عن دراساته النقدية وأبحاثه ، ويُلاحظ أن العراق وأوضاعه المأساوية القائمة كانت تشغله فيها جميعا ، وسنلاحظ أن العنوان  المطول لديوانه هو تأكيد لما سبق في عناوين سابقة، فثمة إحساس داخلي ينعكس في العنونة  يريد أن يوصل طول تلك المعاناة العراقية وملحميتها والزمن الذي تستغرقه في الواقع والوجدان معا.

يسبق المقتطفات الشعرية عن العراق أبيات منفردة كمدخل يقول فيها السياب:

فيا ألق النهار/اغمر بعسجدك العراق/ فإن من طين العراق/جسدي ومن ماء العراق

فالصلة بالعراق إذن شعرية في المقام الأول لا بالانتماء الدموي ، وربما كان هذا ما جعل الديوان كصرخات فيوجه الدمار الذي يلحق بالوطن، وكما بدأ الديوان بالعراق فقد انتهى به في آخر أبياته ولكن برهان  متفائل يخفف من عتمة  الكابوس ، ويفتح كوة من أمل بشفاء الجسد العراقي الطعين:

ولو بعد حين من الصبر/ وحين من الجمر/ وحين من الصبر والجمر والإحتراق لسوف يجيء….على شفتيه مرايا من الإئتلاق/ لسوف يجيء العراق

هذا التفاؤل ليس تمنيات عابرة بل يقين يحتكم إلى ما يحيط به الديوان من عمق حضاري ومعرفي في هذا الوطن ومن وطنية أبنائه الذين تجاوزوا محنا أشد وأزاحوا غزاة وطغاة كثرا عبر التاريخ ،

 

 

 

دم القمر

هذا العنوان المحيل إلى أجواء الرومانسية بدلالة مفردة (القمر) لا يضعنا في العاطفيات المبتذلة  والمبالغة التهويمية التي رافقت الخطاب الرومانسي وأدت إلى استهلاك الصور والدلالات وخلقت منظورا مقابلا ومماثلا لدى المتلقي أيضا ، فصارت تلك المفردات جزءا من بنية فكرية لها مراجع تصويرية ولسانية  أخذت ثباتها من نصوص تداولها المتلقون مدرسيا وذوقيا ونقديا.

(الدم )المضاف إلى القمر في الديوان الثالث  للشاعر العراقي ذياب شاهين يحيل إلى مقتلة ربما كانت جزءا حيويا  من خطاب حديث يحيل إلى شعر المأساة وعواقب الحروب والمجازر والاحتلال والعنف  ، كما تجسد في أشعار لوركا خاصة حيث الدم الأسباني المطلول ومراثي الناس العاديين الذين خلدتهم القصائد كمرثية مصارع الثيران والأصدقاء القتلى في الحرب الأهلية ..

في قصيدة قصبرة يستثمر ذياب شاهين السرد ليجسّم مصادرة الحرية وقسوة السجن كمكان لحجز أو حجر حرية الإنسان :

زنزانة

بالرغم من

فرحة السجين

ببقع الضوء

الهاربة

إلى زنزانته

إلا أن

عيون

الضوء

كانت تنزف

لؤلؤا ذهبيا

عندما وجدت

نفسها

نزيلة

في

غرفة السجين

لقد أوردت النص كاملا وبالهيئة الخطّية التي تنضد بها في الديوان لأوضح مطابقة الخطاب الشعري الحديث للحالات المراد توصيلها  ، وتوظيف الشكل البيتي إلى جانب النثر والسرد خاصة لإنجاز مهمة النص.

سيشعر المتلقي حتما بضيق الزنزانة عبر بعثرة الكلمات وقَطع الجمل المتصلة ، فالنص الحديث لا يقيم توازنا بين المعنى والبيت ، بل يعتمد الجملة الشعرية لا النحوية. فهذه الجمل التي تبدو مقطعة الأوصال لا تؤدي معنى تاما إذا قراناها مستقلة عن تكملتها فهي جمل شعرية  تنبني على وجودها الدلالي وليست نحوية  تأخذ هيأتها من تركيبها . وبذا حلت الحداثة تعارضات المعنى والوزن أو الإيقاع أو تقاطعات المبنى والمعنى عند تعامدهما على محور الإيقاع، فالتشظي المقصود في النص  يقوم بمهمة تصويرية  ودلالية –بافتراض أن الدلالة توسيع للمعنى وتجاوز لجزئيته المحددة بالسطر الشعري أو البيت من قبل.

إن العنوان في قصيدة النثر القصيرة هذه ، يتعالق بنائيا مع الملفوظ التالي ليصنع معمار النص حتى والشاعر يستبدل بالزنزانة مفردة (غرفة) ليؤلف مفارقة دلالية حيث لا مكان يؤوي السجين سوى الزنزانة، وحين تلوح لحظة فرح واحدة بهروب بقعة الضوء أي تسللها عكسيا من حريتها إلى قيد السجين وسجنه فإن الحرية لا تكتمل  ،وكذا الفرحة التي أرادها السجين لأن بقعة الضوء ذاتها نالها الإحباط  فنزفت دمعا ذهبيا على مصيرها في الغرفة –الزنزانة.

بعكس القصائد الموزونة ذات الإيقاع العالي والمباشرة  ، تتقدم القصائد النثرية في الديوان بهدوء خادع سرعان ما يشي  بالتوتر والألم ، وتنبني تلك النصوص بتصاعد شعوري يعضده تصاعد تعبيري على مستوى الجملة الشعرية .  وأحسب أن ذياب شاهين يستفيد هنا من تجربته الكتابية حيث له مؤلفات ودراسات  في نقد الشعر ، تمد تجربته الكتابية الشعرية بوعي مضاف، وجدته بالمقابل يشكل عبئا على القصيدة في التجارب الوزنية الحرة، فللشاعر توصلات عروضية قدّمها في كتب مؤلفة حول العروض برؤية علمية –هندسية تحديدا- لكن هذا التعمق في العروض وعلله وتجوزاته  وإيقاعيته وإمكان وجود الإيقاع البديل  خلقت لدى الشاعر حساسية خاصة ذهبت بالنصوص الموزونة إلى مناطق الخطابية والمباشرة من هذه التجارب قصيدة الديوان الأولى ( جنين) التي قرن  فيها باسم المدينة صرخة تقول ( اه أخيّة لو تسمعين!!!) وأحسب أن عنوانا كهذا لا يناسب قصيدة حديثة أو  يلائم الرؤية المتقدمة  للمجزرة التي حصلت  ، بل سيحيل هذا العنوان ومفردة ( أخيّة) تحديدا إلى خطاب مباشر ويومي يلاحق الحدث ولا يسبر دلالاته .فنقرأ كلاما  منظوما مثل:

جنين / أضاع الصباح إليك/ لقاء.. /فلا الريح تبكي .. / ضلوع البيوت النجية!!

في حومة العصف / الثقيل / رمته القنابل /والمدفعية!!

إن العصف أودى بالنص أيضا لغنائيات مكررة وقواف متكلفة وحشو يخلط القنابل بالمدفعية- وهما واحد – إكراما للقافية والإيقاع الخارجي.

سأتجاوز إذن في قراءتي هذه قصائد ذياب الموزونة لأتوقف عند نصوص العراق-الوصف مني- وهي نصوص تحكي عن زيارة الشاعر لوطنه بعد غربة مستمرة قطعها بالعودة التي أنتجت  قصائد مثل(والأموات أيضا)  حيث يوضح تعليق الشاعر أنه كتبها بعد ثلاث سنوات ونصف من الغربة ، وإذا كان عدد سنين ذياب قليلا في التقويم العراقي للغربة حيث تسجل الأرقام القياسية  للمنافي والمغتربات بالعقود! فإن المحرك الشعوري نجح في توليد صور ودلالات تلامس من جهة ضمير الشاعر وذكرياته، وتعكس من جهة أخرى حال الوطن مندفعا صوب هاوية.

لقد أتاحت قصيدة  أخرى عن العودة إلى  العراق (الأرض المجنونة) وقصيدة الديوان الرئيسة ( العصا ودم القمر) رؤية تلك المراثي التي صارت جزءا من خطاب النص الشعري العراقي الحديث حيث التقاط موتيفات من الواقع ودمجها بتدفق الصور الذاتية عن وطن يغرق بالدم:

صباح الخير /  أيتها الفضائيات/ أهلا../ يا عراق!!/ أشقر/ كان الجندي البولوني

بعينيه الزرقاوين/ مثل / خرزتي زجاج / قدماه الخاكيتان / تخوضان../ عميقا في / مستنقعات ( الحلة ).

 

 كمال سبتي وطبائعه الأربع:

 القصيدة في موقف الاحتجاج

ينصت الشاعر كمال سبتي إلى ما تقوله طبائع الجسد الأربع كما يشير عنوان ديوانه الأخير (الثامن في إصداراته منذ عام 1980), لكن القارئ سيجد مرجعاً آخر ينصت له الشاعر هو نداء قصيدته التي فرضت طبائعها, وسحبت عناصر الخطاب الشعري إلى بؤرتها, وهو ما سينصت له القارئ أيضاً وتمتثل له قراءته بالضرورة.

وإذا كان العنوان ( صبراً قالت الطبائع الأربع) يوحي بأن الجسد هو الذي يهدئ هيجان طبائع الشعر, فإن العكس هو ما سيتحصل من القراءة المزودة بذاكرة وخبرة سابقة عن عمل الشاعر الذي _ بوجود نادر بين شعراء جيله السبعيني_ لم يحتكم إلى الممثالة والاجترار الأسلوبي, بل ركن منذ تجاربه الأولى إلى ما في القصيدة الحديثة من انفتاح على السرد, وما في قصيدة النثر خاصة من إيقاعات بديلة..

لقد كانت انتقالة  كمال سبتي المبكرة إلى قصيدة النثر جزءاً من رؤية تنامت لديه وتبلورت عبر خسائره  واحتراقاته الشخصية وتجاربه في ظروف غير شعرية تماماً, كالجندية الإجبارية, والخروج الاضطراري من الوطن, والعيش في المنفى, وما يتولد عن ذلك من مفردات حياتية انعكست في شعره, وكرست منحى قصيدته السردي, والكتابة الشعرية المستفيدة من امتدادات النثر وتوسعات المخيلة وتنويعات الإيقاع .. فكان ديوانه السابق (آخرون قبل هذا الوقت) اشتغالاً على مؤاخاة الزمن بالبشر, والأيام بالأشياء وكأنه يقترح على قارئه موقفاً(ظاهراتياً) لا يغدو فيه للأشياء وجودها المستقل, فكل شيء هنا _في قصائد الديوان الأربع الطويلة وذات الهيئة السطرية لا البيتية_ متشكل بما يسقط عليه الشاعر من وعي وشعور فالغابة, والجسد, والشتاء والبحر, والقارب_ وهي الكلمات المفاتيح المواجهة للقارئ في مطلع القصائد الأربع ما هي إلا موجودات خاصة بالشاعر لا سواه, لذا فلا غرابة أن تبدأ قصيدة الديوان الرئيسية والتي اتخذ عنوانها عنواناً للديوان (آخرون قبل هذا الوقت) بعبارة (الشتاء قرب البحر) مزاوجة بين زمن شجي ومكان شاعري, يؤطرهما الشعور بالحزن الذي يُؤكده سطر القصيدة الأول حيث (دموع الساحل) والسطر الثاني ( النعش) و( العجوز التي ترسم عكازاً..).. فالبحر هنا دال مكيَف شعرياً أي أن وجوده الشعري مصنوع بمخيلة الشاعر ورؤيته الملونة بالسواد..

ومن انفرادات كمال سبتي بين شعراء جيله الخاضعين_ افتراضاً_ للمؤثرات والمرجعيات الثقافية ذاتها, تدعيمه لنصوصه باختيارات مما توفرت عليه ثقافته المتنوعة, إذ تتصدر قصائده اقتباسات متنوعة المصادر: الحلاج والجواهري وبيانات ثوار 1920, وتمتلئ الحواشي والهوامش التي يحرص على تثبيتها آخر القصائد بتفسير تلك الاقتباسات التي تتدرج لتصبح جزءاً من عملية (تناص) ضخمة

تصاحب قصائده وتحف بسياقاتها النصية, فيذكر مراجعه في تلك الحواشي ويتوسع في الإحالات ليؤكد حضور النص المستلف أو المجلوب إلى نصه.. ويؤازر ذلك إهداءات القصائد الملفتة للاهتمام والداخله كموجّه قوي لقراءة القارئ, وكذلك حرصه على تثبيت تواريخ قصائده وزمن الفراغ من كتابتها بدقة فائقة.. وفي قصائد ديوانه الأخير يتطور حضور النص الأول داخل قصيدته ويصبح جزءاً منها أي أن المقتبس لا يتصدر قصيدته أو يتراجع إلى حواشيها المستفيضة بل يدخل في نسيجها ولا يكتفي بدور العتبة أو الموجّه, فتكون الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والأشعار القديمة والأقوال المضمّنة جزءاً من بنية القصيدة ذاتها.. فنجد في قصائده مثلاً هذا اللون من التناص مع قولٍ لأبن رشد:

قال ابن رشد مرةً في خبر السماء /  إن السماءَ حَيَوان ٌ طائعٌ / وصاحب العقل / يقوده كما يشاء

فجملة( السماء حيوان طائع) من أقوال ابن رشد في (تهافت التهافت) كما يوضح هامش بسطرين أسفل الصفحة شارحاً( الإشارة إلى العقل الأول في الفلسفة الرشدية)… وكذلك تبدأ قصيدة أخرى عن جابر بن حيان:

جابر قال في كتاب الرحمة: الإكسير سرّ الله..

هذان مثلان من عديد المواضع التي كشف فيها الشاعر تناصاته وسمّى مراجعه وأفسد على القارئ متعة اكتشاف آلية التناص وعمله بالعودة إلى ما يسميه نقاد التلقي (ذخيرة القراءة).. وسنلاحظ أن بعض هوامش القصائد تفوق أبياتها أحياناً (بيتان من بحر الطويل يضع لهما الشاعر ثلاثة أسطر في الهامش ليشرح عمله في عروض البيتين)..

بالنسبة لي أمتلك شخصياً تفسيراً لذلك بحكم متابعتي لتجربة كمال سبتي نقدياً منذ ديوانه الأول (وردة البحر) فهو ذو وعي بلغة القصيدة يزيد عما يتطلبه نظمها وتأليفها (أو شعريتها في المصطلح النقدي الجديد) وبذلك يخلق ما يمكن تسميته (ميتا- قصيدة) أي أنه يسند لنصّه وظيفة مزدوجة: توصيل تجربته في النص بنيةً وإيقاعاً ودلالة, ومراقبة النص عند الكتابة. وهو ما ينتج عنه استطرادات وتبسط مع القارئ وإكراهات لغوية ودلالية توجّه القراءة, قسرياً, وهي جزء من (قلق) الشاعر الفائق وخوفه من فقدان التوصيل والتواصل مع المتلقي بحسب نياته ومقاصد قصيدته.. وأدلل على ذلك بالأسطر الخمسة التي همش بها على قصيدة( المأموم) والتي كرسها- أي الأسطر الهامشية- للتعليق على قاعدة نحوية خاصة باجتماع الزمن المستقبل وصيغة الاستفهام..

قارئ كمال سبتي سيقع في موقف استغراب ودهشة, إذ كيف يتمرد شاعر على نسق القصيدة التقليدية الموروثة, ويجترح إيقاعات بديلة وهيئة شكلية جديدة, ثم تستوقفه قاعدة نحوية تحتمل الجواز؟

هذا القلق المتأتي من حرص على الصياغة والتركيب وضمان وصول الدلالة وما يحف بها من إيقاعات تنعكس في مظهر آخر لمسته لدى الشاعر أيام إقامته ببغداد, إذ كان يحرص على تصحيح بروفات قصائده بنفسه قبل نشرها في المجلات والصحف وفي الدواوين أيضاً.. وهو قلق يصل إلى حالة ( الفوبيا) أي الرهاب المفضي إلى خوف مفرط من الخطأ وهو خوف وجدته لدى شاعر من جيل آخر هو محمود البريكان الذي وصل به الخوف  والقلق حدّ التوقف طويلاً عن النشر..

وثمة ما سيكشف طبائع القصائد في قراءة عمل كمال سبتي : إذ تتخفى حداثته الشعرية وراء صياغات تعتمد المفارقة كموقف ورؤية.. فهو يختار (الوزن) إطاراً لقصائد الديوان كلها.. وكأنه بتراجعه هذا إلى الوزنية – بعد تجارب طيبة وكثيرة في كتابة قصيدة النثر- يريد أن يطلق احتجاجاً ذا دوي على ما يحدث في اللحظة التي يصوغ فيها نصوصه.. وقد يتذكر القارئ( لمناسبة هذا الصراخ والأنين المناسب للوزن والتقفية في الديوان) أن (اللبوة الجريحة) وهي إحدى المنحوتات القديمة في  وطن الشاعر_العراق_ ومن أشهر أعمال ما بين النهرين الفنية, تفتح فمها صارخة بينما السهام تملأ جسدها الذي ظل جميلاً رشيقاً رغم الألم..

هنا سوف يتناظر صوت القصائد الصاخب والمدوي والمعبر عن الألم مع صراخ كائن المنحوتة القديمة.. وسيكون للعنوان وظيفة أخرى: إذ أن الجسد هذه المرة وعبر طبائعه الأربع أو عناصره المكونة هو الذي يقول للقصيدة: صبراً.. ويحاول تهدئة هيجانها اللغوي والتصويري.. واحتشادها المعرفي حيث عرض كمال سبتي أطرافاً متباعدة المصدر من ثقافة غنية يمتلكها وكان الديوان بقصائده المتفرقة مناسبة لظهورها.. وهذا يجعل النص غنياً بالإشارات والإحالات التي تشرك القارئ في عملية الاستذكار والتناص..

وسنلاحظ استفادة كمال سبتي  من خبرته المبكرة في إدخال السرد ضمن النسيج النصي وقد وجدت لهذا الحضور السردي في شعره ثلاثة مظاهر بارزة هي:

  1. التنضيد الخطي والتشكيل السطري للديوان بحسب الجملة الشعرية مهما امتدت وتوسعت وليس بحسب البيت الشعري المحدد بالدلالة القريبة والتركيب المستقل رغم تأطير الهيئة النصية بالوزن الحرفي في القصائد كلها, فنقرأ مثلاُ :

( صبر مضى صبر سيمضي وهي طعمٌ ما تمطّقه اللسان)

إذ تتنضد جملتان نحويتان وجملة ثالثة (اسمية) دون عطف أو وقف.. وهذه بعض الإشارات أو العلامات الهاربة من هيئة الديوان الوزنية تؤكد تبني الشاعر لحداثة أسلوبية أكيدة.

  1. عرض مفردات وكِسَر من السيرة اليومية لحياة الشاعر.. ورغم  شحة ما تبوح به السيرة الشعرية في العادة, إلا أنها, كمظهر سردي في قصيدة النثر العربية المعاصرة, تشي برغبة الشاعر في استحضار النثري بشتى كيفياته وهيئاته الممكنة.. فنقرأ في قصيدة ( تلك السعادة غائبة) جزءاً من يوميات رتيبة في المكان: اسبانيا (القريبة) و( أرياف البلاد الواطئة) و(البلاد البعيدة-العراق).

وفي الزمان (الأزل, الصباح, الليل..) وفي الأفعال والأحداث( الفطور, رحلة السوق اليومية, المشي في الطريق, جلسة الكأس) وكذلك في قصيدة تليها هي ( أيامي) التي تؤكد مقاطعها الأربعة تلك الرتابة المتمثلة بتشابه أيام الشاعر.

ولا يعني ذلك أن القصيدة هنا تريد أن تقوم بدور توثيقي لما هو حياتي حتى في مراثي من فقدهم الشاعر في وطنه البعيد من أخوة أو أصدقاء وظل لهم في الذاكرة صور تنقلها القصائد في هيئة بورتريهات مطولة ومقرّبة أيضاً لكنها مصاغة بفنية ترفع أصحابها إلى فضاءات شعرية فيكون لهم وجه شعري يتجاوز ملامحهم وهيئاتهم..

  1. الحوار الذي تشتغل من خلاله اللغة لأداء وظيفة سردية في الأساس فتنشغل اللغة عن الوصف أو أحداث السرد, وعن إنجاز الفضاء المجازي للقول الشعري, بتقمص أصوات القصيدة ورؤى الساردين أو المشاركين في الحدث عبر مونولوجات داخلية وحوارات خارجية بالإسناد المباشر القريب من النثر(قال- قلت..) أو بالاستبطان والتداعي أحياناً.. وهي حواريات تأخذ مساحة واضحة في بنية النص..والتاريخ عنصر معرفي ضاغط في تجربة كمال سبتي, ومعرفية هذا المصدر الواضح في الديوان تأتي من قراءة متفحصة للماضي, وتصل إلى درجة التماهي به خطاباً ولغة.. وهو ما رصدته قراءات متعددة لشعر كمال سبتي, لكن الذي يهمني هنا هو ( حضور) التاريخ كأحداث ووقائع وشخصيات ودلالات بكثافة تغطي القصائد وتجعلها مندرجة في (تاريخية) خاصة لا سبيل لقراءتها إلا خلالها..

في لغة كمال سبتي وتناصاته وفي العنونة وعتبات نصوصه الأخرى, وفي أنساقه وسياقات قصائده لا خيار لنا باستبدال الحضور التاريخي بمدلولات معاصرة مثلاً أو معاملة ذلك الحضور كترميز ساذج يعطينا ما يساويه في حياتنا أو عصرنا..

ويقوي ذلك الاستحضار الواعي والمكثف للتاريخي في إطار الشعري هنا, ما أسميته بالتماهي مع التاريخ كخطاب, فعنوان قصيدة مثل ( قال في البسيط) تنقل القارئ مباشرة إلى تقنية الدواوين القديمة التي تغفل عنونة القصائد وتدرجها في الغرض أو الوزن الشعري.. كما يأخذ هذا الاحتفاء بالتاريخ مظهراً آخر هو كثرة التناصات من الموروث الثقافي والشعري.. وكأن الشاعر بعودته العكسية إلى الماضي, يشاكسنا بمفارقة تتلخص بالعودة الوزنية  ويلزم نفسه بما لا يلزم سواه كما فعل المعري قديماً في لزومياته محتجاً على العالم ومعترضاً على تشكلاته ومؤسساته, وكما حاول بطريقة أكثر تشدداً وتقليدية الشاعر حسب الشيخ جعفر في تجارب السنوات الأخيرة.. ولكن كمال سبتي يجد في هيجان الأحداث نفسها ما يبرر كل احتدام شعري وهيجان لغوي وصوري ومشاكسة شكلية بالنقيض الذي هجره أسلوبياً في تجاربه الشعرية السابقة, ووجد له هنا مراجع أخرى وأسلافاً قدامى من الشعراء..

أما (بلاد) الشاعر التي كتب فيها احتراقاته وخسائره ودوّن ما تتعرض له فإن قراءة الديوان على اعتبار وجودها, سيقود إلى ملامسة المنفى والماضي عبر ما يحدث لهذه البلاد في الحاضر من خراب وموت يومي..

ولعل أبرز ما يمثل هذا الموضوع قصيدة(بلادي) ذات المعالجة المريرة والدامعة بدءاً من العنوان.. ومفتتح القصيدة الذي يلخص رؤية الشاعر لمحنة وطنه:

بلادي التي سوف تُذبح باسم الجميع /   بلادي التي أنجبتني فقالوا /  لقد جئتِ شيئاً فريا /   بلادي التي شردتني / ولم تكُ, قالوا, بغيّا ..

 

خاتمة

حسين عبداللطيف: نار الذكرى

التحية التي قدمها الزملاء والأصدقاء في ملحق  ( الثقافي) وسواه للشاعر حسين عبداللطيف ، ونصوصه الشعرية القصيرة التي كان نشرها بمثابة الدعوة بالشفاء ، أثارت وسط الأخبار عن مرضه ذكريات شعرية أيضا عن صديق يتشح بالمودة والدفء الذي تتعاضد مدينته  البصرة ونسيج القصيدة على صنعه، كما في أرواح البصريين من التواضع والألفة والمحبة التي تفيض في حالة حسين عبداللطيف لتصبغ شعره أيضاً.

مواطن آخر من بصرياثا يجسد عالمها اليوتوبي الذي  استدعاه ورسّخه محمد خضير سرديا ، وعمّقه شعريا حسين عبداللطيف الذي لم يكن النقد الشعري العراقي المفتون بالتجييل قادراً على ضمّه داخل موجة من بحر الشعرية الصاخب أو رهْنِه بمزاياها  ، فكان منفردا يعزّ شعره على المماثلة والتشبيه ، ذاهبا لصوره ولغته وإيقاعاته وحدها.

ألْفته نقلت قصيدته إلى عالم خليقي يناظر استدعاءات الرسامين الشبان للكون  البدئي البكر قبل أن تمتد يد الإنسان لتشوهه بالديكورية والمظهرية ،فتحاذي المخيلة وعيا طفلا وإحساسا مبرّأً يؤاخي القطرب والهدهد والجَمل ، والنارَ والدخان والسماء ، النار التي يقول عنها في هايكو مختصر وتوقيع بليغ:

تحتدم غيظا

لأن لهبها أكثر فتوة ً منها

الدخول الحيي والمثير معا إلى باطن الأشياء وروحها السرية واستبطان وجودها الصامت البعيد هي ميزة حسين عبداللطيف الذي يترجمها حياتيا بوجوده  في الذاكرة : إنساناً بسيطاً تألفه سريعا لتغريك سماته باكتشاف الشاعر داخله،  والكائن اللماح شديد الملاحظة.

كنت أرقب الحزن في  ذبول عينيه وسحنته السمراء وحدود جسده الذي يعطيه عمرا أكبر ، كأنما ليزيد التباسات حقيقته الستينية والحقبة المحتدمة فكريا وشعريا، حزن لا تموّهه سخريته التي يواجه بها الضنك والسنوات العجاف  التي يقول عنها في نص آخر نشره في نصف التسعينيات الأول:

سنوات ؟

أم تلك ضرائبْ

لمَطالبِها… ما من حد؟

..هل أملك نفسي الجمعة

لأبعثرها السبت؟

هل أختلق الذكرى

كي أضرب صفحا عن ذكر الغد؟

يتمدد إحساس حسين عبد اللطيف  بالزمن ليفيء على الأشياء نفسها ويرى ارتباكات الإنسان ومكائده ومصائده:

كلما وضعوا سمكة

فوق مائدتي

كان في الصحن

ما يشبه الشبكة

لذلك ينعى حياةً كان رأسه فيها  (شاشةً  أو مصيدة) كما يقول في إحدى قصائده المبكرة ، ورضيَ بسبب هذا الألم أن يكون في وضعٍ يلخصه عنوان ديوانه ( على الرصيف أرقب المارة ) مكملا دورة العزلة التي يلخصها كذلك مواطنه الراحل محمود البريكان بوضع  (حارس الفنار) المنعزل في الأعلى ولكن المطلّ على التفاصيل كلها.

هذا الموضع السردي في قصيدة حسين عبداللطيف وهبهُ التشكل في غمار الحياة اليومية بعيدا عن تشابكاتها وعُقدها أيضا ..لكن ذلك لم يمنع –للأسف- زحفَ الوهن على جسدٍ ناءَ بأعباء الروح…

المحتويات

2-تقديم :الألم العابر للقارات

4-التنوع والاختلاف: نقد لملف شعر ما بعد الستينات

22- قصائد في أفق الحداثة- صباحية بيت الشعر ببغداد

27-احتراقات المنفى وخسارات الماضي-  تقديم لقصائد عراقية في هولندا

38-أرواح الشعراء في عراء القصيدة- مختارات كردية

41-اتحاد المتناقضات-بيان الجنس الرابع

46- آدم وخليقته الشعرية-ديوان العلاق

49-الكتابة الشعرية النسوية في العراق-نماذج مختارة

57-انزياحات شعرية في احتدام الوقائع-عبدالرزاق الربيعي

61- عباس السلامي-هذيانات على حدود العقل

64-نصير فليح – التجريب في ضوء القراءة

67- حدائق شعرية- ديوان يحيى البطاط

70-جواد الحطاب في إكليل قصائده-نص المساخرة

74-ألم أضيق من بحر- طالب عبدالعزيز

77- خريف المنافي-باسم فرات

79- حوار النقطة والحرف- أديب كمال الدين

81-تذكار العصفور-عبدالهادي سعدون

84-أرخبيل الحدائق- كريم ناصر

87- ثمة عراقي يركض في قبره – مؤيد الشيباني

91-اسكندر البرابرة لمحمد مظلوم- التباسات اللحظة العراقية

94-ارتباك الجثث-حميد حسن جعفر

96- طيور النجاة من المذبحة-عيسى الياسري

98- تحولات الريح-رعد السيفي

100-خلاف على دمنا-علي حداد

102-دم القمر-ذياب شاهين

104-  الشاعر وطبائعه الأربعة- كمال سبتي

110 – خاتمة: حسين عبداللطيف-نار الذكرى

112-المحتويات

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*