مقالي :بين الشاعر ومترجمِه: ما يبقى من النص الشعري
وتتصادى في الغرب أيضاً مقولات تعضد رأي الجاحظ، كرأي الشاعر الإنكليزي شيللي حول استحالة ترجمة الشعر، وتصريح الشاعر الأمريكي روبرت فروست بأن الشعر هو ما يضيع عند ترجمته. وبالمقابل نجد الكثير مما قيل خلاف ذلك، واستفاض في إمكان ترجمة الشعر وجدواها، وأن ما يبقى من النص الشعري المنقول إلى لغة أخرى هو الشعر الذي يصل إلى قرائه ليكتشفوا الشاعرية فيه. وبذا عرفت الأمم بألسنتها المتعددة شاعرية شعراء أمم أخرى، واستدلوا على ما فيها من دون خرائط معقدة، ومن دون التقيد بنظم النص المترجم وفق أعراف اللغة المترجم إليها كالوزن والقافية. وظلت تلك النصوص المنقولة تُقرأ بكونها شعراً.
قد يذهب جهد المترجم هباء حين تنقصه العدّة اللازمة. ويغترب النص على يديه لجهله السياقي غالباً. وقد يلجأ لإثقال ما يترجمه بالهوامش والإيضاحات البينية، أي تلك التي تقع بعد قراءته للنص الأول، وقبل أن يهم بعرضه في صورته اللغوية الجديدة.
تصبح غربة القصيدة هنا مضاعفةً، من موطنها اللساني الأول إلى حاضنتها الجديدة. ويحس القارئ معاناة المترجم وتلعثمه، فثمة غربة نصية عاشها النص الأول شعرياً بافتراق القول الشعري عن سواه مما يدرج في النثر، وأضيفت لها غربته في الأرض التي ولد عليها لسانياً وعاش حياته الجديدة. وتتعزز تلك الغربة بما تنطوي عليه القصيدة ذاتها في تكوينها، من اختلاف عن السياق المتداول أو الذي كُتبت فيه، بتراكيبه وإيقاعاته وصوره وأخيلته. ذلك ما حدا بمفكر مثل عبد الفتاح كيليطو إلى القول متسائلاً: «أليست القصيدة أرضاً أجنبية؟ وأن المنفى من موضوعات الشعر المفضلة». وكان يهدف إلى التذكير بحالة كتّابها، والانسلاخ عما هو عادي، والتحليق بجناحين من خيال وصور تتمثله، فيطأ أرض القصيدة كما لو يلامس كوكباً بعيداً، ويقول بلسان آخر. ومثله يذهب الشاعر الغجري سيرج بي في قصيدته عن مترجم شعره للعربية بنعيسى بو حمالة إلى التوقع، فيقول: «لعل القصيدة ترجمةٌ لا نهائية للّانهائي». فهي بذاتها كما نفهم من عبارته، تقوم بعمل النقل أو التحويل لكل ما لا يُحَد بلغة لا نهائية، منفتحة وقابلة للتحول أيضاً.
لقد تصور العرب في ذروة عصر فصاحتهم وعافيتهم اللغوية عسر مهمة فهم الشعر واستيعاب تمثيلاته اللغوية والصورية، فأسندوا التهم لشعراء زينوا الشعرية العربية بقصائدهم، وطوروا خطاب الشعر وحداثته، كأبي تمام الذي لم يسلم من القول عن شعره بأنه مما لا يُفهم. وأنه أراد الاستعارة فذهب إلى الاستحالة.
إن غربة الشعر جزء من طبيعته التي جعلته فناً لا يجذب إلا العقول المفكرة والمتأملة، ولا يحظى بمتلقين مكافئين لما تلقاه الخطابة أو المسرودات النثرية التي لا تخرج لغموض الاستعارة وتعقيد المعاني.
يسمي غونتر غراس مترجميه (أسرتي الكبيرة). كان يعد لهم بنفسه خلال لقائه الدوري بهم حساء سمكة موسى ويحدثهم عن أسطورتها. بل يخلط المطيبات متنوعة المصدر، وكأنها تمثيل للغات عديدة مختلفة تتكلم بها روايته «سمكة موسى» عبر الترجمة. وصار هذا عنوان كتاب عن لقاء مترجميه به ومطالعاتهم حول تحديات رواياته لألسنته (حرره هلموت فريلنغهاس، وترجمه إلى العربية الدكتور علي يحيى منصور بعنوان «سمكة موسى تتحدث بلغات عديدة – مترجمو غونتر غراس يروون»).
يناقش غراس روايته «سمكة موسى» مع مترجميه. ويكشفون له عن الصعوبات التي تتحداهم وهم ينقلون ما يفعله باللغة في رواياته وأشعاره إلى لغاتهم التي تفتقر أحياناً لما يحيط بعمله. يهاجر النص بحمولته الأولى ليحط في حاضنة لغوية جديدة ومختلفة حتماً. كثير من مترجميه يوحون له بما يتحداهم. وهو مستمتع بذلك ومصرٌّ على مواصلة إشغالهم بالبحث عن مرادفات مناسبة. إحدى مترجماته تقول له إنها لن ترضى بدور قابلةِ أطفال كتبِه. تخرجه من رحمه اللغوي، وتطلقه لفضاء لغوي جديد كما تفعل القابلة في عملية الولادة. إن المترجمة تذهب إلى حوار مع النصوص التي أقرت أنها تعلمت منها (الطريق إلى فن حياة وفلسفة مثمرة).
وسأتوقف عند كلمة مترجم قصائد غراس إلى الإسبانية الذي رد على قناعة خاطئة سائدة، وصورة نمطية متداولة، مفادها أن المرء لابد له أن يكون شاعراً، كي يترجم القصائد. فهو يرى أن على المرء أن يكون مترجماً في المقام الأول. وهذا الزعم يرفعه المترجم إلى درجة عليا من المعرفة بالنص المطلوب زراعته في غير تربته التي تم بذره فيها أولاً. وهذه المقاربة النباتية تتردد في غير موضع من النقاش حول الإمكان وعدمه في الترجمة الأدبية، والشعر خاصة. فكأن الغريزة النباتية وصعوبة الانتقال بالكائنات إلى حقل أو فضاء آخر لا قدرة لها على التعايش مع مفرداته، تشبه نقل لغة النص إلى لغة أخرى. ويمثل ذلك إهمالاً للمقدرة البشرية على تكييف اللغة وتغافلاً عن الكد المقارني بين الدلالات والتراكيب، والسياقات المتصلة بالنصوص المراد ترجمتها.
كان المترجم العربي الوحيد على مائدة غراس وسمكته هو الروائي العراقي الراحل حسين الموزاني. لقد اعترف َ بصعوبة النصوص، وعصيان بعض جُمل غراس على النقل للعربية، لأن ظلال معانيها تتلاشى وتشطّ بعيداً. ويضرب أمثلة ميدانية لذلك، لكنه يتابع الرأي القائل بأنْ لا شيءَ عصيٌّ على الترجمة. ثم يستدرك بذكر وصف لم أجده منصفاً للمترجمين، وله هو شخصياً. فقد لخَّص العمل على ترجمة غراس بإعلان الشكوك، فرأى «أن ترجمة أعمال غراس لا تعني سوى شيء واحد، وهو تحويل حشيش مزدهر إلى تبن يابس»، مستعيداً الأمثولة النباتية وتبدل التربة.
تلك عبارة تعوزها الدقة حتماً، فالاقتراب من روح النص تتضمن في عملية الترجمة كثيراً من التفسير والفهم. وهما خطوتان على طريق التأويل، إذ يستبطن المترجم عمق الدلالة ليقرِّبها لقراء لغته، ويظل النص وكاتبه بعيدين خطوتين: عن اللغة التي يُحكى بها الشعر، والتي تُنطقه بها الترجمة. وهنا تبرز قوة المترجم أو قدرته التأويلية. فعليه أن يتخذ عند هذه الخطوة مكانةَ المؤوِّل والقارئ الأدبي للنص، قبل أن يتخذ سمت المترجم، ليبحث عن الدلالات الممكنة، والأفق التأويلي الذي يمنحه النص لقارئه.
يغادر مترجم النص الشعري وفق فرضية (المترجم هو قارئ مؤوِّل) موقف الناقل اللساني المحايد غير المتدخل في النص، ليغدو ذا رأي في الملفوظ الذي يريد نقله. فحيادية المترجم تمنعه من التقاط الظلال المعنوية والدلالية التي يشير إليها النص ولا يتوسع في تفصيلها احتكاماً للطبيعة الفنية في القصيدة. وهنا لا يكون من معنى للاجتهاد الترجمي في كلمة ما أو مرادفاتها، لاسيما مع المزايا اللغوية الخاصة لكل لغة. ففي العربية مثلاً هناك ثراء في باب الترادف. فنجد للأشياء مسميات عدة نسبة إلى تدرجها الدلالي؛ كالغبطة والحسد، والسماع والإنصات، والنظر والرؤية، والمرادفات العديدة للحب بتدرجاته كالعشق والهيام، بينما هي لفظ واحد في لغات أخرى. وقد يعمل المترجم على تجاوز المحظورات في البيئات المغلقة والمحافظة، فيستعيض بمفردة بعيدة المعنى عن أخرى واضحة الدلالة قد يقمعها الرقباء الرسميون في السلطة، أو المتطوعون التقليديون في المجتمع. وذلك حصل مثلاً في ترجمة رواية ماركيز «ذاكرة عاهراتي الحزينات» التي اضطر مترجمها الراحل صالح علماني إلى أن يستبدل بها مفردة «غانياتي» لتخفيف وقعها، مع أن بعض المترجمين استخدموا «الغانيات» للدلالة ذاتها في مناسبات مماثلة بدافع أخلاقي.
وقد تصاب الترجمة بالارتباك حين يكرر الشاعر مثلاً أكثر من مفردتين مترادفتين أو أزواج؛ مثل الحزن والأسى، والسحب والغيوم التي لم يفلح المترجم في نقلها بالدقة التي توخاها الشاعر، وفي ذاكرته لون الغيمة وما تحمل من مطر، وما لا تحمله السحابة البيضاء بالضرورة، وهي من المهارت المفقودة في عربية عصرنا. وقد تقع بين الشاعر ومترجمه مفارقات سياقية، فلا يدرك مغزى وصفٍ ما قد ينتسب إلى الطبيعة المختلفة بين بلديْ النص والمترجِم. وقد تخلص الدكتور عبد الواحد لؤلؤة بالهامش ليوضح المقصود بالصيف، وهو يتوقف عند مطلع السونيت الثامنة عشرة من سونيتات شكسبير، حيث يتساءل عن مقارنة جمال حبيبته بيوم صيفي، موضحاً أن شكسبير لا يقصد صيف (آب اللهّاب) شديد الحرارة في طقس العراق، بل صيف لندن المعتدل.
وبالمناسبة نذكر مثالاً على التأويل في الترجمة، فقدم الدكتور لؤلؤة مؤخراً ترجمة للسونيتات بكونها (الغنائيات)، محتكماً إلى موضوعها وما يقترب من العربية في الاصطلاح. فيما يرى المترجمون الذين تصدوا لنقل السونيتات كجبرا إبراهيم جبرا وكمال أبوديب وبدر توفيق أن السونيتات هي المرادف للشكل الذي تنعقد عليه السونيت، لتفترق عن القصيدة. لكن حجة الدكتور لؤلؤة تذهب إلى أصل السونيت، الذي يرجع إلى اللغة الإيطالية، بمعنى (الأغنية الصغيرة أو القصيدة القصيرة التي وُضعت للغناء).
إن الترجمة الشعرية ضرورة لا تنالها تهمة الخيانة التي خلقتها الرغبة بالتوافقات البلاغية والسجع كما في اللغة الإيطالية التي جاء منها القول الشائع: الترجمة خيانة. فلم تعد تلك المقولة ذات جدوى في زمن تطور الثقافة الشعرية بين الأمم وآدابها، ورسوخ الترجمة سبيلاً لمعرفة الآخر. فصارت للمترجم علاقة بينية جديدة مع ثقافة الآخر، بجانب الثنائية القائمة مع المؤلف عبر نصه.