رغد السهيل.. «الفيروس» شخصية تروي الأحداث/ د. حاتم الصكر

 

من صفحة الصديقة الروائية رغد السهيل.مقالي عن روايتها (محنة كورو)

في مقال نوعي وثري يتناول الناقد البارع أستاذنا الدكتور حاتم الصكر ( محنة كورو) بالتحليل في مجلة الشارقة الثقافية، له كل الشكر والتقدير لجهوده المميزة..
قراءة في رواية «محنة كورو»
العدد الثاني والتسعون-مجلة الشارقة الثقافية-يونيو-حزيران 2024
Jun, 01 2024
لن يحتاج قارئ رواية الكاتبة العراقية (رغد السهيل)، لكثير عناء كي يفهم أن المقصود بكورو هو (فايروس كورونا)، الذي كان وقت كتابة الرواية (2023م)، ولم يمضِ أكثر من عام على انحسار خطره الأكبر، مع بقاء متحولاته ماثلة من حين لحين. فالرواية تتخذ من (كورو) الفايروس، شخصية تروي الحدث وتدير خط سيره وتحولاته ومصائره.
لعل الجديد في الموضوع، هو التغريب في الأحداث والتناول، فالراوي كلي العلم، ومصمم الوقائع وسلسلة الأفعال السردية، (كورو) يتحدث ويتنقل في الأمكنة، مذكراً بالسرد الخيالي، حيث تنطق المخلوقات وتتصرف كالبشر.
عالم فانتازي إذاً بانتظار القارئ، وعليه أن يغير موقع تلقيه وأفق قراءته، ليتحمل مزاج (كورو) الظريف والمتقاطع مع البشر، وكأنه يقول إنه يرحمهم إذ ينتهون على يديه، بل يعدُّ بعضهم أحبته وأنه أرأف بهم من واقعهم. وتصل المفارقة شدتها حين يرى (كورو) العالم الذي انتقل إليه، (عالم الحقراء) كما يسميهم. فإلى أين تقودنا النزعة الإنسانية المفرطة في الرواية؟
لقد استخدمت الكاتبة مهاراتها العلمية في بث جوانب من حياة الفايروس وحضانته وجيناته، وطرق انتشاره، وأعراض الإصابة على المصابين به، فهي كما تنص خلاصة سيرتها في الكتاب؛ دكتورة في علم المناعة، والأحياء المجهرية، وتعمل أستاذة في كلية العلوم، وسجلّها السردي يضم مجاميع قصصية وروايات، لكن حصيلتها العلمية لم تكن بؤرة عملها، ولم تستعرض تلك الخبرة لإيصال المزيد من المعلومات، بل اكتفت بما يناسب القارئ غير المتخصص، كي لا تثقل الرواية بما هو علمي جاف غير سردي. واكتفت بالعالم الخيالي وطواف (كورو) الفايروس في الأرض، وولادته وانفصاله عن أنف هورشو، أو الخفاش الذي يعتقد أنه مسبب الوباء.
لقد كان ذلك الفراق بسبب حريق شب في الغابة، صدمة لكورو جعلته يطير لمكان بعيد كي لا يحترق، وستكون لنجاته نتيجة عكسية، فقد أودى بأرواح الملايين وأجسادهم. لكن التعاطف معه سردياً، سيظل حتى وهو يروي مصائر ضحاياه، ويحكي عن تفرده بين أفراد جنسه، لذا امتلك قدرة الفهم وقراءة ما يكتبه البشر وسماع ما يقولون. وهو ليس تعاطفاً بالمعنى المضاد للبشر والضحايا، إنما هو وسيلة لكشف الشر الكامن في النفوس.
وتجنبت الكاتبة اندراج عملها في الأدب البيئي. فما عرضته ليس في مجال الوعي بالمحنة، أو عرض ما تسببه الجائحة. وإن وردت مشاهد موت بعض الشخصيات، فهي مشاهد سردية ينتجها الخيال، وإن التقطت من الواقع كأمر ممكن الحدوث، فلم يرد في البرنامج السردي للرواية التركيز على تفاصيل ومفردات ذات صلة بالبيئة، كمكان يحتفي به الكتاب البيئيون، ويبذلون وقتهم وسردهم للذبِّ عن جمالياته، والتذكير بالأخطار التي تدهمه.
تعثر القراءة النقدية على منحى سردي آخر في الرواية، تتنازعه رغبتان لدى (رغد السهيل)، تريد إنجازهما في عملها: ربط ماحلَّ بالجائحة من موت ودمار بما يحصل في العراق بعد التحولات التي شهدها عام (2003م)، والتركيز على تظاهرات تشرين التي شهدتها شوارع المدن العراقية، احتجاجاً على تردي الأوضاع السياسية والاجتماعية والخدمات وفرص العمل وسواها، من جهة، وبيان ما يعتري الطبائع البشرية من انحراف في الأزمات والنكبات والكوارث، وتبدل الطبيعة البشرية بطريقة جعلت السارد يصنف درجات الهبوط الأخلاقي والنفسي والوطني، ويضع لكل شخصية بشرية يلتقيها اسم العملاق مع رقم مصاحب له. فالفايروس كورو يرى البشر الذين يلتقيهم عمالقة في الحجم والهيئة، فكان وصف الشخصيات البشرية بالعمالقة مثلاً، ضرورة تناسب وضع الشخصية ووصفها وأبعادها.
ولتجسيد النزعة الإنسانية وإظهار العيوب السلوكية، تذهب الكاتبة إلى رصد الظواهر التي ينكرها (كورو). ويقول مثلاً إنه يتأثر بالجمال برغم أنه بلا قلب، ويتوقف عند حبه لمريضته (غزلان 2006م)، ويضيق بالقيود فيسمي المستشفى (المعتقل)، ويراه مكاناً مفزعاً ومخيفاً. ويشم فيه رائحة (أشد من الموت ومن رماد الغابة)، التي جاء منها. مجسداً ازدحامه وفوضاه وإهمال المرضى لكثرتهم.
لقد أصبح (كورو) راوياً مفارقاً لمرويه. فإذ يكون التوقع هو إبراز الكارثة وتفاصيلها ومفرداتها، يكون السارد بعيداً عن ذلك، منشغلاً بفضح الطبيعة البشرية. إن (كورو) يصوِّب الآن أخطاء البشر وعثراتهم ويفضح زيفهم. حتى ليتسلل إلى وعي القارئ ما يجعله يرى فيه مخلّصاً ومحرراً للنفس البشرية، ولا يبقى من الجائحة أثر لفاعل، وامحت هوية الضحايا، وكان (كورو) أرأف بهم من محبيهم، المصنفين حسب وجهة نظر (كورو) خونة وغدارين وحقراء وكذابين ومنافقين، بينما يحب (كورو) من يستضيفه، ولا يقوى أحياناً على فراقه، ولا يرضى بالزيف والخداع.
فكيف يكون تلقي القارئ، وكيف يرصد نمو الروية وتطور أحداثها؟
في حبكة موازية لظهور (كورو) بعد حريق الغابة، واضطراره للطيران ومغادرة أنف هور شو الخفاش، يحدث أن متظاهري تشرين يبلغون ذروة تظاهراتهم. وتقترب نهاية التظاهرات. قتل بعض منهم واعتقل أو جرح آخرون. وفي الرواية مكان لرصد هذا الحدث موازياً لوصول الفايروس من الصين إلى بغداد، فقد عاد المريض مازن وفي أنفه استوطن كورو المندهش من كل شيء يراه، ويصفه كما يفعل البدائيون حن يدخلون المدن، فيرعبه حجم الطائرة وطيرانها، فهي كبسولة مجنحة كما يقول، ويرصد الكثير من مرائي بغداد التي ستكون محل عناية السرد بوجوهها المعتددة: جميلة وضاجة، وجريحة وجارحة.
وسيكون للتظاهرات التشرينية وقع في وعي كورو، ومناسبة أخرى لتجسيد خذلانه بأفعال البشر، حين يرى ما يحصل للمتظاهرين في الساحات.
اعتمدت الكاتبة سبلاً فنية تخفف من خطِّية السرد ورتابته، فأدخلت عدداً من تطبيقات التواصل الاجتماعي مصورةً في ثنايا العمل، ومنها الرسائل النصّية في الهواتف، ورسائل البريد الإلكتروني، ومنشورات الفيسبوك وتعليقات القراء عليها، وبعض الجداول البيانية حول الإصابات، وإحصاء الموتى والمصابين، وصور للأخبار المتلفزة عن تنبيهات الصحة العالمية، وبعض الأخبار، لا سيما ما يخص التظاهرات أو ملاحقة بعض الفاسدين، مثل حاكم جمال الشخصية المتخيلة، والمتهم ببيع قناني الأوكسجين المخصصة للمرضى، والذي سيفر خارج البلاد من بعد.
لقد حضرت يوميات الجائحة بمفرداتها ومشاهدها، وما دخل الحياة من تقاليد وعادات بسببها، كالعزلة المنزلية وتبديد الوقت، وتوقف العمل والدراسة، والتباعد المفروض والهلع الشديد. ورصد ما يحصل في الإصابة وتطورها في جسد المريض، وحالات الموت العنيفة والمؤثرة، وأدوات التعقيم والأقنعة والأجهزة والأدوية بسبب تفاقم الحالات وكثرتها، لكنها كلها موظفة لبيان هشاشة البشر في حال الفقد والألم، وحاجة الناس للتعاضد، بدل ما طفا على السطح من أنانية البشر واستئثارهم بالدواء واللقاح. ولا عجب في ذلك، مادامت الدول الكبرى ذاتها قامت بقرصنة شحنات الجرعات الواقية من الفايروس، والمتاجرة بالأجهزة والمضادات والمستلزمات، التي بينت الرواية تهافت الناس عليها هلعين مما يرون.
وقد لفتني في القراءة استفادة (رغد السهيل)، من تقسيم الرواية إلى مقاطع قصيرة ذات عناوين مستقلة، في التقاط المزيد من القصص والدخول في أجواء متغيرة: في البيوت وخارجها، وبين البشر نساءً ورجالاً، فترصد بذلك خريطة الجائحة وانعكاساتها على النفوس القلقة والخائفة. وبين هذا وذاك، تُواصل بث رسالتها الإنسانية المفرطة، وبيان عيوب البشر الذين لا ترقّ قلوبهم أحياناً إزاء ما يحصل لسواهم.
أخيراً؛ جاءت النهاية مناسِبة لسير خط سرد الأحداث، فلا يمكن لكورو أن يبقى في عالم لا يختلف عن الغابة التي جاء منها، فيقرر أن ينزل ضيفاً على الحاكم الذي يستعد للهروب بالطائرة، فيرحل معه عائداً إلى غابته. لقد اختار النهاية بعد أن رأى نفسه في المرآة وتعرف إلى ذاته: في صورة (كائن غير مدور، سميك ككرة من لفائف متعددة الطبقات، لكل طبقة لون، تسبح الكرة في المرآة وحدها، يا إلهي أهذا أنا؟).
كان التعرف إلى كنه ذاته إيذاناً بنهاية وجوده على أرض البشر. فكانت تلك حيلة سردية طريفة وموفقة لينسحب (كورو) ويعود إلى حيث مكانه الأول.
وسوف يسجل للكاتبة أنها لم تلتزم بسردية واحدة شائعة حول الفايروس، بل بحثت عن وجود سردي تتحقق فيه للخيال فضاءاته، وللشخصيات حريتها، وللقراءة متعتها دون شك.
رغد السهيل.. «الفيروس» شخصية تروي الأحداث
ALSHARIQA-ALTHAQAFIYA.AE
رغد السهيل.. «الفيروس» شخصية تروي الأحداث
لن يحتاج قارئ رواية الكاتبة العراقية (رغد السهيل)، لكثير عناء كي يفهم أن المقصود بكورو هو (فايروس كورونا)، الذي كان وقت كتابة الرواية (2023م)، ولم يمضِ أكثر من عام على ان…
كل التفاعلات:

أناهيد الركابي، وRaghad Alsuhail و٤٩ شخصًا آخر

٢٤
أعجبني

 

تعليق
مشاركة

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*