النقد السيري عند حاتم الصكر:قراءة في قصيدة السيرة- بقلم الدكتور خليل شكري

  الدكتور خليل شكري

لا شك أن لدراسات الناقد العراقي حاتم الصكر عبر تاريخه النقدي الحافل، وقعها وتأثيرها في الساحة النقدية العراقية والعربية، وأن عدداً غير قليل من الدارسين – وأنا منهم – تتلمذنا على كتبه ودراساته المنشورة في المجلات العراقية والعربية، وقد شاءت متطلبات دراستي للدكتوراه في موضوع القصيدة السيرذاتية، أن أقف عند محور قصيدة السيرة في كتابه مرايا نرسيس، وقفة قرائية متأنية ومتأملة في طبيعة الرؤى والأفكار النقدية المطروحة في هذا المحور والمجال التطبيقي الشيق والغني للناقد الذي أختار متناً شعرياً سيرذاتيا مهماً ومستوفياً لمرتكزات القصيدة السيرذاتية، تمثل بديوان (لماذا تركت الحصان وحيدا) للشاعر محمود درويش، وقتها دونت على الدراسة ملاحظات لم تستطع دراستي أن تستوعبها، فظلت مشروعاً لقراءة مستقبلية عانى الكثير من التأجيل، حتى حان حينه مع الرنامج النقدي المطروح من قبل القائمين على مهرجان المتنبي الثاني عشر، الذي تضمن محوراً عن نقد الناقد حاتم الصكر، فوجدت في ذلك فرصة مناسبة لكتابة هذا المشروع المؤجل.
ولما كان الجانب التطبيقي في أية دراسة جمالية نابعاً من رؤى صاحب الدراسة، والتي هي في مجملها وجهات نظر تحليلية متشكلة من طبيعة ثقافة الدارس وخزينه المعرفي، ولا يمكن أن تخضع للمسطرة القرائية الأحادية من جهة، ولأن هذا الجانب التطبيقي صادر من ناقد متمرس وضالع بهذا الجانب من جهة ثانية،  هذا فضلا عن قناعتنا أن النقد السيري في الدراسات العربية لا تزال بحاجة ماسة إلى التشكيل والبلورة، لذا فقد آثرنا أن نركز في ورقتنا القرائية على الجانب التنظيري للناقد في محوره هذا.
إن انفتاح الشعر بعدّته المعرفية المرنة والمنتجة وأدواته المنهجية الخصبة على مناطق الإبداع المختلفة، أسهم على نحو فاعل في خلق آفاق وفضاءات جديدة أمام المبدعين مكنتهم من توسيع آفاق الحقل الإبداعي الواحد من خلال اللقاحات الإبداعية المتبادلة، التي عملت وبشكل فعال في تخصيب النصوص وتعميق المعنى، وتعّدده ليكون أكثر توغلاً في طبقات المتن النصي ومفاصله وطيَّاته وأكثر كشفاً لأسرار التعبير على النحو الذي يمكن من خلاله إدراك لعبة المعنى، ومن ثم الخروج بثمرات دلالية وقرائية جديدة لا تدين بالولاء إلى القواعد والآليات المحددة لهذا الجنس أو ذاك.
القصيدة السيرذاتية واحدة من النتاجات المتمخضة عن هذا الإنفتاح، إذ تعد واحدة من الممارسات الإبداعية المهجنة من جنسين معروفين هما : الشعر والسيرة الذاتية، مشكلين بذلك نوعاً جديداً يقوم على السرد المكثف –على اعتبار أن القصيدة تقوم على الإيحاء، والإيماء، وتكثيف الصور، ولا تستطيع أن تجاري السرود النثرية في الإطالة والإسهاب– الذي يتقابل فيه السارد والشاعر، ويندرجان معا في تداخل مستمر،([i]).
كما تكرس أعرافا جديدة في قراءة النصوص الشعرية، تستلزم بالضرورة البحث عن شعرية خاصة بها، تتخذ من السردي في الشعري نمطاً للكتابة، لا تفترض كون السرد نتوءاً زائداً يبدو وكأنه ملصق على جسد النص الشعري، بل بوصفه مكوناً حيوياً من النص، لأن استخدامه في الشعر–على رأي أدونيس– مشروط ” بأن يتسامى ويعلو به لغاية شعرية خالصة “([ii]).هذا التلاقح بين الشعري والسردي يترتب عليه، منظور مغاير في قراءة القصيدة السيرذاتية – بوصفها قصيدة سرد بإمتياز– يكون فيها القارئ أمام شاعر قد أوجد لنصه إستراتيجية خاصة تقوم على تهجين الشعر بالسرد، وأقام علاقة متبادلة بين الذاكرة والتخييل، على اعتبار أن مادة القصيدة الخام هي الحياة الخاصة التي عاشها الشاعر، والتي سيقوم بسردها في النص، وفي هذا السياق سيكتسب أفق التوقع قيمة جمالية أعلى، بالمقارنة مع الموروث السائد لجنس الشعر من جهة، وجنس السيرة الذاتية من جهة أخرى.
إنطلاقاً من هذا التوجه القرائي سنحدد قراءتنا لنقد حاتم الصكر السيرذاتي وفقاً لمحورين هما: مفهوم القصيدة السيرذاتية، ومرتكزات القصيدة السيرذاتية.
مفهوم القصيدة السيرذاتية:
        قبل أن نتوغل في قراءة مفهوم حاتم الصكر لقصيدة السيرة الذاتية، لا بد أن نشير إلى صعوبة إيجاد مفهوم جامع مانع لهذا النوع الأدبي، نظراً لما يثيره من إشكاليات عديدة منها ما يتعلق بطبيعة التهجين بين الشعر الذي هو في الأساس عمل تخييلي ، والسيرة الذاتية التي تعتمد على الوقائع الحياتية مادة للسرد، ومنها ما يتعلق بطبيعة التداخلات بينها وبين الأنواع الأدبية السيرية الأخرى ذات العائلة الأجناسية الواحدة كالمذكرات والذكريات واليوميات، إذ تتشابه هذه الأنواع في بعض صفاتها وتتداخل، الأمر الذي يجعل التفريق بين نوع وآخر صعباً نوعاً ما.
من هنا يقع الناقد في لبس قرائي حين يعنون دراسته لديوان محمود درويش (لماذا تركت الحصان وحيداً) المنتمي على نحو لا شك فيه إلى حقل القصيدة السيرذاتية،  بــــ (قصيدة السيرة)، وبالقراءة التعالقية بين العنوان والمتن النقدي نجد إن الذات الناقدة توظف هذا المفهوم على أنه (القصيدة السيرذاتية) إذ يقول: ((لكننا سنقترح هنا، قصيدة السيرة، أي تلك النصوص الشعرية المتجهة إلى الماضي الشخصي، لاستثماره في انتاج سيرة شعرية، يسودها السرد))([iii])، و يرى أن توتر قصيدة السيرة ومنحاها الدرامي سينشأ من لحظات تصادم أساسية بين (( أنا الشاعر والراوي، وأنا السارد والكائن السيري( كبطل وسارد).))،([iv]) ونحسب أن اللبس في هذا التوظيف  يتأتى من مفردة السيرة التي غدت اليوم جنساً أدبيا مستقلاً يندرج تحته أكثر من أربعين نوعاً سيرياً –حسب المعجم الإصطلاحي للسيرة الذي تناوله الدكتور محمد صابر عبيد_ ([v]) وكل نوع من هذه الأنواع ممكن أن يتلاقح مع الشعر، ليُكَوِّن نوعاً جديداً، فيتشكل عندنا مثلاً   (قصيدة السيرة الذاتية)،  و (قصيدة السيرة الغيرية)، و(قصيدة التجربة الذاتية)، و(قصيدة التجربة الغيرية)، و(قصيدة المذكرات)، و(قصيدة الذكريات)، و(القصيدة الإعترافية)، لذا كان الأدق– كما نرى- أن يعنون دراسته بــ ( قصيدة السيرة الذاتية )، لأن عمله في هذا الفصل يدور تنظيراً وتطبيقاً في منطقة القصيدة السيرذاتية حصراً.
        وبدخولنا إلى المتن النقدي للناقد نجد توظيفاً آخر لمصطلح القصيدة السيرذاتية، يتمثل بــــ ( السيرة الشعرية)، وهذا المفهوم أيضا لا يخلو من اللبس القرائي، فثمة فروق أنواعية بين السيرة الشعرية، وبين القصيدة السيرذاتية، التي تعد أكثر تمثيلاً لما يريده الناقد من المفهوم الأول التي يريد بها الناقد السيرة المكتوبة شعراً ، لأن السيرة الشعرية، يفهم منها أن كتابة سيرة شعر لشاعر ما، وهذا الأمر يفتح باب  التساؤل القرائي على إي نوع سير-شعري يريده الكاتب؟ ذاتي يكتب من خلاله شاعر ما سيرة تجاربه الشعرية؟ ويعرف بـــ ( السيرة الذاتية الشعرية)، وهي (( سرد نثري يتولّى فيه الشاعر تدوين سيرته الشعرية فقط ـ تاريخا ومكانا وحادثة ـ، لا يخرج فيها إلى تناول جوانب أخرى غير شعرية من سيرته إلاّ على النحو الذي له صلة ما يدعم قضيته الشعرية في السيرة))([vi]).أم غيري يكتب مؤلف قريب من الذات الشاعرة سيرة تجارب الشاعر مع الشعر؟ ويعرف بـــ (السيرة الغيرية الشعرية)، وهي ((  سرد نثري يتولّى فيه الكاتب تدوين السيرة الشعرية لشاعر منتخب، يقتصر فيها على سرد الحياة الشعرية بكلّ متعلّقاتها التاريخية والحدثية والمكانية، مع إغفال التطرّق إلى الجوانب السيرية الأخرى في حياته إلاّ بالقدر الذي يسهم في إغناء سيرته الشعرية وإيضاحها ))([vii])، وهذا كله – كما سنرى- يختلف تماماً عن مفهوم القصيدة السيرذاتية الذي قصده الناقد على الصعيدين، التنظيري والإجرائي.
        وبانتقالنا إلى الكشف التعريفي للمفهوم الذي يرتئه الناقد لمفهوم القصيدة السيرذاتية، نجده يعرفها على أنها: (( تقديم رواية الحياة منظومة شعرا بناءً على تشغيل الذاكرة بأقصى طاقتها ))([viii])، وهذا المفهوم لا يعطي لهذا النوع الأدبي خصوصيته وسماته وقواعد كتابته ولا يحل إشكاليات التداخل مع غيره من الأنواع الأدبية سوى أن القصيدة السيرذاتية تكتب شعراً، كما أنه لا يشير على نحو صريح إلى انتمائه زمنياً إلى الماضي بوصفه قصة استعادية، والإشارة إلى الذاكرة في التعريف لا يعني بالضرورة الماضي لأن الذاكرة ” تعني انسياب حركة الزمن من الماضي إلى الحاضر الذي سيتوغل مع المستقبل عبر جدلية التطور وديناميكية التفاعل على صعيد الحياة والأدب”([ix]) لأن التخلص من الحاضر لحظة كتابة السيرة ليس إلا وهماً والكاتب السيري مهما فعل لا يستطيع التخلص من الحاضر الذي يكتب فيه ليلتحم بالماضي الذي يرويه([x])، وكأن فن السيرة لا يقوم إلا “على هذه الاستعادة الزمنية من منطلق الحاضر وليس من سبيل لتلقيها، كفن مستقل إلا عبر فهمها كاستعادة بوساطة الذاكرة التي تعني بداهة أن فعل التذكر يتم من الحاضر ذهابا إلى الماضي بطريقة الانتقاء والاختيار”.([xi])
كما أن هذا المفهوم يغفل أيضا مسألة مهمة لابد من توافرها في أي نص سيرذاتي هو التطابق المفترض بين أنا المؤلف، وأنا السارد، وأنا الشخصية المركزية، الذي أكد عليه لوجون في تعريفه للسيرة الذاتية بأنها “قصة استعادية نثرية يروي فيها شخص حقيقي (قصة) وجوده الخاص، مركزاً حديثه على حياته الفردية، وعلى تكوين شخصيته بالخصوص”.([xii]) وهذا التعريف أيضا لم يسلم من النقد، إذ إنه يقتصر على الإبداع النثري ويقصي الإبداع الشعري بقوله: ” قصة استعادية نثرية ” وهذا الحكم يستدركه لوجون نفسه، فيعترف بأن هذا التحديد غير عادل، وأن إيجاد تعريف للشعري والنثري، في السيرةالذاتية صعب من الناحية النظرية([xiii]).
ومهما يكن من مؤاخذات على هذا التعريف، إلا أننا يمكن أن نفيد من الشبكة التي وضعها – لوجون- لتسييج النص السيرذاتي، شريطة عدها نقطة انطلاق للبحث عن تعريف لهذا النوع الذي تدرسه، وليس نقطة وصول، لأن أي تعريف في هذا النوع المهجن لا يمكن أن يكون موضوعيا مستوفيا لكل الأبعاد، فتعريف لوجون إذا ما استبعدنا منه لفظة الرواية النثرية، نجده يؤكد على معايير يمكن تواجدها في النص السيرذاتي الشعري والنثري معا،على النحو الآتي:

  1. شكل الكلام : قصة حياة مستعادة وهذا يتطلب حضوراً فعالاً للذاكرة .

2.الموضوع : سيرة حياة المؤلف وتاريخ تكوين شخصيته (أي الأنا موضوعا للسرد ) .
3.موقف الكاتب:
أ.التطابق بين أنا المؤلف – أنا السارد- وأنا الشخصية المركزية .
ب . النظرة الخلفية في السرد أي التشبث بالمنظور الاستعادي في القصة .
وإستناداً إلى ذلك، يمكن أن نعطي تعريفا لقصيدة السيرة الذاتية مع التنويه بأن هذا التعريف قد أفاد من التعريفين السابقين للوجون وحاتم الصكر، فنقول: إن قصيدة  السيرة الذاتية ما هي إلا سرد استرجاعي لحياة منظومة شعرا، يروي فيها شخص حقيقي جوانباً سيرية عن حياته ووجوده الخاص، مركزا حديثه على الحياة الفردية، وعلى تكوين شخصيته بالخصوص، مستنداً في كل ذلك إلى آليات المنظومة الذاكراتية .
وبهذا يكون التعريف قد حافظ على أهم مرتكزات النص السيرذاتي الذي حدده لوجون في تعريفه للسيرة الذاتية التي تكمن في أن تكون الـ (أنا) نفسها موضوعاً للسرد، ويكون إنتماؤها زمنيا إلى الماضي، وهذا يعني اعتمادها على الذاكرة في استرجاع أحداث ذات مرجعية واقعية معيشة فعلاً، كما أن التطابق بين المؤلف– السارد– الشخصية المركزية المفترض تواجده في النص السيرذاتي النثري يمكن وجوده أيضاً في النص السيرذاتي الشعري، وحتى الميثاق السيرذاتي يمكن وجوده أيضاً في القصيدة السيرذاتية .([xiv])
وفي الوقت نفسه يحتفظ بخصوصية القصيدة السيرذاتية ولا يلغي كلياً الفروق النوعية  بين السيرة الذاتية النثرية وقصيدة السيرة الذاتية، ومن أولى هذه الفروق أن القصيدة السيرذاتية لا تستطيع أن تجاري النص السيرذاتي النثري في سرد الأحداث من حيث التفصيل، وعلى الرغم من أن الانتقائية في سرد الأحداث، هي القاسم المشترك بين الاثنين، إلا أن الانتقائية في القصيدة تكون على أشدها، لأنها مهما كانت معبرة عن حياة صاحبها، لا تعطي صورة كاملة عن حياته مثلما هي الحال في النص النثري، بل تكتفي بالتلميح والإشارة، وهذا ليس ” نقصاً ولا خللاً سردياً أو محدودية في العلم لكونه يعلم بقدر ما يعرض من أحداث بالتزامن، ولكن لأن إطار السيرة الشعرية هو الذي ينقل عالم الشاعر إلى هذا السديم من الأشياء غير المتجانسة 0وذلك جزء من خطاب السيرة الشعرية، فهي لا تحفل بالتفاصيل أمانة للذاكرة، بل تقتبس منها لتضيء مناطق الشعر، وتسرق فضاءها لتصنع فضاء القصيدة الممتلئ بالتماعات الصور والمعادلات الرمزية غير المباشرة للحالات المتمثلة”.([xv])
وما قلناه في الانتقاء على مستوى الحدث ينطبق في الانتقاء على مستوى الزمن. إذ إن القصيدة السيرذاتية لا تستطيع أن تلتزم ” بخطية الرواية التاريخية وزمنها المتدرج من المولد حتى النضج على نحو ما نراه في النص النثري، وذلك لأنها تقوم على لغة خاصة وعلاقات تركيبية ودلالية وإيقاعية”([xvi])، ولأنها أكثر تخصصاً منها وتمحوراً حول الذات، فتبتعد بذلك عن التشتت والاستغراق في موضوعات متعددة يمكن أن تقع فيها السيرة الذاتية النثرية، لتتمركز في بؤرة محددة تمثل خلاصة التجربة الذاتية وما يتصل بها من رؤى وأفكار وقيم أسهمت زمنياً في تشكيلها([xvii]).
مرتكزات القصيدة السيرذاتية:
على الصعيد المرتكزاتي، يقدم الناقد قراءة واعية لطبيعة النوع الأدبي التي يتعامل معها، فيقف عند أهم المرتكزات والعناصر التي تقوم عليه هذا النص المهجن من الشعر والسيرة الذاتية، مقدماً ومناقشاً لها، مسفيداً من خبرته وباعه الطويل في مجال العمل النقدي الشعري والسردي، ويمكن رصد أهم المحطات المرتكزاتية التي وقف عنده بالآتي:
الذاكرة السيرذاتية: واقعية السرد وأفق انتظار القارئ
           يراهن الناقد في تقديمه لمفهوم القصيدة السيرذاتية الذي يسميه بالسيرة الشعرية، – أي تقديم للحياة عبر الشعر المسردن- على تشغيل الذاكرة بمدياتها القصوى، وأن أية صعوبة في تدوين الحياة الماضية الخاضعة لوعي الحاضر الذي يشكله،تتكفل السيرة الذاتية بتذليلها عبر استنفار أليات الذاكرة،([xviii]) وهذا يعني مركزية الذاكرة في أي عمل سيرذاتي شعري كان أم سردي، فهي (( المنجم الذي يقدم للسيرة مادتها الأولية))([xix]) إذ تشتغل عبرها الذات المتذكرة في النص السيرذاتي على استدعاء الحدث أو الموقف بزمكانه لتدخله في عمليات شديدة التعقيد والتركيب، وتماشياً مع هذا التوجه يرى الناقد أن الماضي ليس من السهل إستعادته، وإذا ما أجهدنا أنفسنا على إستعادته فإننا نعرضه إلى التغيير والتعديل والحذف والإضافة، بسبب النسيان أو التناسي، أو يمكن النظر إليه من زاوية رؤية جديدة، تهدم وتبني حسبما يلائم تجدد الظروف وتغيرها فضلا عن التعليل والمعاذير لأشياء سابقة، لأنها في عملية كشف دائم([xx])، وهو فيما يذهب إليه إنما يستعين برأي ناقدين مهمين هما، أندريه موروا، وإحسان عباس الذي يذكره في الهامش([xxi])، بينما يهمل ذكر الأول ،([xxii]وهذه العملية برمتها إنما تفلسف (ما كان)، على مستوى الواقع الماضوي ، إلى ما يرغب أن يكون ،على مستوى الكون النصي، فما أن نستدعي التجربة الذاتية من رحم الذاكرة لتدخل طور الصياغة الفنية عبر مشغل التخييل، حتى نرى أن المادة المستحضرة لا تستطيع أن تحتفظ بحقيقتها   كما جرت في الواقع المعيش  بل تظهر عبر السرد بكيفية تحتفظ بالجوهر، وتبتعد عن المطابقة الحرفية المباشرة بين الوقائع التاريخية المتصلة بسيرة المؤلف الذاتية والوقائع الفنية المتصلة بسيرة الشخصية المركزية في النص([xxiii]). لأن التطابق الحرفي المفترض بين الأحداث كما وقعت في الواقع، وطريقة عرضها في النص، غير ممكن لأسباب تتعلق بآلية عمل الذاكرة التي لا تستطيع التخلص من سطوة وعي الحاضر  وهي تستدعي الحدث  لتلتحم بالماضي الذي ترويهِ([xxiv])، ويرى الناقد أن السيرة الذاتية في إنتمائها زمنياً إلى الماضي وهي تستعيد الوقائع والأحداث، وتعيد تمثيلها في النص،عبر الأشكال الفنية التي تتخذها السيرة في شكلها الغني المقدم للقارئ، إنما تجعل إمكانية الشعر فيها واردة،([xxv]) فالسيرة الذاتية من ميزاتها الأجناسية أنها مفتوحة على كل الأنواع الأدبية في طريقة الكتابة، إذ نجد سيراً ذاتية مكتوبة بقالب روائي، وآخر قصصي، وآخر مقالي، ومنها الشعري مع التذكير بطبيعته ووظيفته، التي تتمثل في كيفية عرض الأحداث والأفكار بعد نقلها من حيزها الماضوي إلى حيز الحاضر لحظة الكتابة ومن ثم القيام بمعالجتها على وفق الوعي الآني بها، وعلى وفق المساحة التي تسمح للنص الشعري أن تتحرك فيها الذاكرة، التي حتماً تكون أضيق من مساحتها في النص النثري، أي إنها لا تستطيع أن تستحضر الحدث بكل تفاصيله وجزئياته كما تفعل في السرود النثرية، ولا تستحضره بشكل آلي مجرد، لأن فعل التذكر يتم في الحاضر ذهاباً إلى الماضي، بطريقة الانتقاء والاختيار المكثف، القائمة على الحذف والتقطيع، على وفق اللحظة الراهنة للحالة التي يقتضيها الراهن الشعري، كما أن استدعاءات الذاكرة بوصفها مولداً حدثياً للسيرة تأتي بمشاركة المخيلة وبشكل يحد من تلك الاستدعاءات والتذكرات على خلاف وجودها في النص النثر، إذ تكون مساحة حركتها  أي المخيلة  أقل بفعل طغيان السرد التفصيلي، لأن القصيدة السيرذاتية على رأي حاتم الصكر، هي شعر أولاً، ومعنى شعريتها توافرها على لغة خاصة قائمة على الاختزال والتكثيف، وعلاقات تركيبية ودلالية وإيقاعية كذلك([xxvi])، وهنا يجد الناقد نفسه أمام موضوع شائك في السيرة يتعلق بالصدق والواقعية في السرد، وأفق التلقي المتشكل لدى المتلقي مما ينتظره من صاحب السيرة.
فالناقد يرى أن البحث عن الصدق في النص السيرذاتي، أمر يصطدم بقضية فنية مفادها أن ((التطابق المفترض بين الوقائع وعرضها غير ممكن، لأسباب تتعلق بآلية عمل الذاكرة، وما يشوبها- وعياً أو لا وعياً- من حذف أو نسيان، أو إضافات أو تعديلات، لبعد الزمن مثلاً، أو لأسباب تتعلق بالشخصية ووضعها الحاضر. وهذا يؤكد إنتساب السيرة للحاضر لا للماضي، فالحاضر يشكل وعي كاتبها، ويفرض عليه أعرافاً لا تستطيع تجاوزها، تتدخل في صياغته، وقبل ذلك في إنتقاء نقاط العرض ومرتكزات الحياة التي عاشها، فالصدق الخالص أمر مستحيل))([xxvii]) لذا نجد الناقد يساير إحسان عباس في أن الصدق في السيرة ظل ((مجرد محاولة))([xxviii])، ويتفق مع ميري ورنوك أن هذه المحاولة يحبطها ويحد منها الزمن- زمن الكتابة- وآليات الذاكرة اللاواعية، والغرائز الإنسانية فضلا عما يسميه رنوك بخلق الماضي([xxix])، وهذا يلغي كل إمكانية للحديث عن المطابقة الحرفية المباشرة بين الوقائع التاريخية المتصلة بسيرة المؤلف الذاتية، والوقائع الفنية المتصلة بسيرة السارد ومن ثَمَّ الشخصية المركزية – بوصف السارد والشخصية المركزية يمثلان شخصاً واحداً في النص السيرذاتي – فهناك تداخلات كثيرة، منها ما له صلة بالذاكرة بوصفها الركيزة المهمة التي  يستند عليها المؤلف في تشكيل رؤيته، التي تتعمد أحياناً “إتلاف معلومات معينة، وتسليط إضاءة غير اعتيادية على معلومات أخرى، بما يتوافق مع الغايات المخطط لها من كتابة السيرة “([xxx]ليس هذا حسب فهي أيضاً ” تفلسف الأشياء الماضية وتنظر إليها من زوايا جديدة وتهدم وتبني حسبما يلائم تجدد الظروف وتغيرها “([xxxi]) وبهذا يتحقق القول الفصل لوعي المؤلف بكيفية التذكر. كما أن منها ما له صلة بشروط زمن الإستعادة، ووعي المستعيد ووجهة نظره، ومستلزمات التعبير عن ذلك أكثر مما تخضع لشروط المسار التاريخي الحقيقي لتلك الحياة([xxxii]). ذلك أننا “في الأدب لا نكون بأزاء أحداث أو وقائع خام، وإنما أزاء أحداث تقدم على نحو معين، فرؤيتان مختلفتان لواقعة واحدة تجعلان منها واقعتين متمايزتين، ويتحدد كل مظهر من مظاهر موضوع واحد بحسب الرؤية التي تقدمه لنا “([xxxiii])، من هنا يغدو الصدق والحقيقة أمرين إفتراضيين لا مجال للتثبت منهما في أي نص سيرذاتي سردي بشكل عام وشعري بشكل خاص ، لأن مقياس الصدق ودرجته أقل أثراً في مثل هذا النوع، لخضوعه لخطاب بلاغي يقوم أصلاً على علاقات لغوية، وتراكيب بنائية خاصة، تشظي مكونات التجربة، ويتماهى فيها الواقع بالخيال إلى الحد الذي لا يمكن التمييز بينهما. هذا النوع من التداخل يخلق أفق انتظار متحول وغير مستقر لدى القارئ، جاعلاً بينه وبين العمل السيري نوعاً من التوتر، لا يسمح له بأن ينظر إلى السيرة بمنظار التطابق الحرفي بين ما هو مسرود في النص، وبين ما هو معيش على أرض الواقع([xxxiv]) .
ومن هنا تتأتى حرية الكاتب السيرذاتي الشعري في تدوين ما يريد تدوينه في سيرته، لأن طبيعة النوع تفسح له المجال –إلى حد ما– للمراوغة وتضييع دم الحقيقة في الجملة المسؤولة– بين القبائل التي هي هنا، مزيج من الشعر والتهويمات والإحالات على الآخر، الذي هو شخص متكون من امتزاج الواقع بالخيال([xxxv]) .
ويضيف الناقد سبباً آخر -لكنه هذه المرة خاص بالسيرة الذاتية العربية- يضعف من إمكانية البحث عن الصدق في السيرة الذاتية يتعلق بوعي الكاتب وأفق تلقي القارئ اللذين لا يسمحان بتصور درجة صدق كاملة فيها، مما (( يجعل أفق انتظار السيرة الذاتية، لدى القارئ متحولاً غير مستقر، كأن لا ينتظر القارئ العربي، مثلاً (كشفاً) أو (بوحاً) فضائحياً، كما في السير الذاتية الغربية (إعترافات روسو) مثلاً))([xxxvi])،ولعل سبب ذلك يعود إلى أن (( مُناخ الحرية، والممارسة الديموقراطية في مجتمعاتنا العربية، لا يسمحان لكتّابنا بأن يطوروا هذا الشكل الأدبي إلى المستويات التي وصل إليها غيرنا في الآداب العالمية ، إذ يستمد هذا الشكل قيمته وأهميته في تقديمه لمستويات عالية من الصدق فيما يتصل بحياة الكاتب الخاصة والعامة، وخبراته الشخصية في مختلف المجالات، مهما اصطدم هذا الصدق بما هو سائد في المجتمع من قيم أو نظم أو تيارات))،([xxxvii])  وعلى العكس من ذلك تماماً نراه يفض بكارة المسكوت عنه أو التابو في النص الشعري، أو السردي، لأن كلاً من النص الشعري والسردي هو نص موارب تتوارى فيه شخصية المؤلف خلف شخصيات النص وليس بمقدور القارئ أن يوجه إصبع الاتهام له، على عكس النصوص السيرذاتية الصريحة التي يكون فيها مناخ الحرية مقيداً، لأنه يدرك أنه في السيرة الذاتية أشبه ما يكون في قاعة محاكمه حكّامه قرَّاءه، لذلك كثيراً ما يلجأ إلى الرقابة الطبيعية للعقل، على كل ما هو كريه وسمج،أو يجلب له العار، أو يغير من نظرة المجتمع له([xxxviii]).
 
الضمير الإحالي:
يعد الضمير بوصفه ((لفظاً موضوعاً ليعين مسماه)) ([xxxix]) من الركائز المهمة في بناء النص السيرذاتي، فهو علامة لغوية تستدعي مبدئيا مفهوم الشخص بمعنييه النحوي والواقعي في النص، لأنه يحيل بمقتضى   كونه ضميراً سيرذاتياً على خارج النص بقدر إحالته على الشخص النحوي في النص([xl]).   هذه الإزدواجية في الوظيفة التي يحققها الضمير بوصفه وحدة لسانية مرجعية هي التي تخلق الذاتية في اللغة / النص، والذاتية التي نقصدها هي مقدرة المتكلم – بغض النظر عن نوعية الضمير المستخدم – على طرح نفسه بوصفه (ذاتا) لا تتحدد عبر الإحساس الذي يشعر به كل فرد عندما يحس بذاته، بل بوصفه الوحدة النفسية التي تتعالى على كل التجارب المعيشة التي تتضمنها والتي تؤمن باستمرارية الوعي، وبهذا فالذاتية ليست إلا ذلك الانتشار في كينونة خاصية جوهرية اللغة، ولا تتحدد إلا من خلال القانون اللساني للضمير([xli]).
من هذا المنطلق يرى حاتم الصكر أن (( هيمنة ضمير المتكلم في سرد السيرة الذاتية، وعائدية الأحداث وأفعال السرد إلى المؤلف، تجعل إمكان الشعر فيه وارداً بشكل قوي، لأن (الأنا) الشعرية تجد قناعها في (الأنا) السيرية، وعلى مقربة من كاتبها نفسه، فيتطابق التعبير بأنا الشاعر وأنا الكائن السيري بشكل تام))([xlii]).
يوجز المقولة النقدية قيد الرصد أكثر من قضية نقدية سيرذاتية، أولها موضوع الضمير السردي، فيرى أن الضمير المهيمن في هذا النوع من السرد هو ضمير المتكلم، وهذا الأمر صحيح لكنه لا يلغي إمكانية توظيف الضمائر الأخرى ( المخاطب) و( الغائب) في النص السيرذاتي، إذ لا تختلف السيرة الذاتية – سواء أكانت نثراً أم شعراً، بوصفها نصا حكائياً – عن غيرها من الأنواع الأدبية في تعددية استعمال الضمائر في السرد (أنا، هو، أنت). غير أن الأول أكثر هيمنة في السرد السيرذاتي، لكونه يحيل على الذات مباشرة ويقلل المسافة الفاصلة بين السارد والشخصية المركزية ، ويسمح للسارد من النوع السيرذاتي. أن يتحدث بإسمه الخاص أكثر مما يسمح للسرد المحكي بضمير الغائب وذلك بسبب تماهي السارد مع الشخصية المركزية([xliii]). من هنا يرى حاتم إمكانية تحقق الشعر في السيرة الذاتية وارداً على نحو قوي – وهي القضية الجوهرية الثانية في مقولته- (لأن (الأنا) الشعرية تجد قناعها في (الأنا) السيرية، وعلى مقربة من كاتبها نفسه، فيتطابق التعبير بأنا الشاعر وأنا الكائن السيري بشكل تام) على حد قوله، وهو تماماً يتفق مع رأي سعيد الغانمي الذي يرى أن (أنا) الشعر هي (أنا) الشاعر الموجودة في القصيدة، والمنشطرة إلى ذاتين، ذات ورقية مكانها في الشعر، وذات واقعية تحاول الذات الشاعرة إثباتها في الشعر، لتغدو في النهاية (أنا) الشعر مطابقة على نحو ما ﻠ (أنا) المعرفية للشاعر([xliv]).ومن هنا تتشكل خصوصية الأنا الشعرية السيرذاتية، والـ(أنا) الشعرية التي نقصدها هي البؤرة الذاتية والمتحولة إلى بؤرة ذاتية مرتبطة بشبكات التجربة ومنظوماتها المتنوعة، التي تعمل آلياتها في الخلق على تفعيل التجربة الخاصة، والتحرك على مساحة المكان والزمان أفقيا وعموديا على النحو الذي لا يستجيب فيه تعبيريا لشخصية الشاعر بوصفه ذاتا اجتماعية حسب، لترفعها إلى مستوى الخيال الشعري الحر”([xlv]).وهذا يعني أن لا نقرأ الشعر في ظل الواقع- حسب- بل نقرأ الواقع في ظل الشعر أيضاً.([xlvi])
هذا فضلا على أن الـ(أنا) الشعرية عند كثير من شعراء العرب، لا تستطيع أن تغادر منطقة الذات، وكثيرا ما تتوحد ذات الشاعر الإنسانية بذاته الشعرية ولا يحتاج القارئ إلى عناء كبير، في الكشف عن مواطن التشابه أو التطابق بين (أنا) الشاعر، و(أنا) الكائن الشعري الكامن في النص.
ثم يطرح الناقد في هذا الصدد رأياً آخر مفاده، أن رواية السرد بضمير المتكلم يجعل السارد ذاتياً بشكل مطرد، مما يجعل من التبئير على الذات السيرذاتية المركزية شيئاً مفروضاً في هذا النوع من السرد مستعيناً في ذلك برأي جيرار جينيت الذي يضيف في الموضوع نفسه أن السارد السيرذاتي غير ملزم بأي تحفظ بإزاء ذاته، والتحدث باسمه الخاص، منتهياً إلى ما يثيره جينيت من أن التبئير من وجهة نظر السارد السيرذاتي يتحدد بالعلاقة مع معلوماته الحالية بوصفه سارداً، وليس بالعلاقة مع معلوماته الماضية،([xlvii]) وهذا يعني أن السرد في السيرة الذاتية لا يسير بشكل خطي تصاعدي، كما في الحياة التي عاشها، بل الحياة التي يرويها الآن بوصفها جزءا من الماضي.([xlviii])
إن إمعان النظر فيما يطرحه الناقد بالإستعانة بآراء جينيت في هذا المجال يكشف عن الفخ الذي يرسمه ضمير المتكلم للقارئ حين يوهمه بالتطابق الحاصل بين السارد والشخصية المركزية في الصوت والرؤية، مما يجعل من التبئير على الذات السيرذاتية أمراً مفروضاً في هذا النوع من السرد، في حين أنهما منفصلان، ولكل واحد منهما ملامح تميزه، ووظائف يضطلع بها، الأول يتحدث والثاني يعيش، أحدهما يسكن نسيج النص، والآخر قائم في الخبر يعرضه علينا النص. فنحن نعلم أن الذي يتذكر هو الشاعر ، والسارد ينقل عن الشاعر لا عن الصبي، وما ذاك الوقف الزمني المشخص في النص إلا من باب التعليق، تعليق الشاعر على جزء من سيرة صباه. وبهذا تتضح لنا طبيعة اللعبة التي حاول الضمير من خلالها زج القارئ فيها، إنها لعبة التجليوالإخفاء– كما يسميها شكري المبخوت- فالتجلي تبرزه ألوان الإتصال بين الشخصية المركزية والساردة وهو اتصال منبته الواقع بما أنه شخص واحد عاش حياة ثم شرع يتذكرها ثم طفق يرويها، أما الإخفاء فتبرزه ألوان الانفصال بين نوعي السرد، وهو انفصال يتأتى من تأسيس النص على التخييل والفن، فالسارد بقدر ما له من ملامح الوجه الحقيقي فإن له وجهاً نصياً يستقل به. ومرد هذه الإستقلالية أن الشخصية المركزية لا يمكنها أن تضطلع بجل الوظائف التي يضطلع بها السارد في السرد([xlix]).لأن السارد – حسب رأي جينيت – يكاد في الغالب يعلم أكثر من الشخصية المركزية حتى ولو كان هو الشخصية نفسها([l])،
       أضف إلى ذلك أن السارد السيرذاتي، الذي هو نفسه الذات المؤلفة، إنما يخضع للرؤية الآنية في السرد، فيسقط على السارد مايراه آنياً لحظة الكتابة، لا ما كان يراه لحظة العيش في الحدث، وذلك بسبب الفارق المعرفي بين من يسرد الحدث – لحظة الكتابة- وبين من يعيش الحدث – لحظة وقوعه- لأن ” في الحكي ذي الشكل السيرذاتي نجد فاصلاً زمنياً بين (الأنا) الساردة، و(الأنا) المسرودة، يسمح للأول بأن يتناول الثاني بنوع من التفوق أو النظرة الفوقية…، فالسارد – هنا – لا يعلم فقط أكثر مما تعلمه الشخصية المركزية، إنه يعلم مطلق العلم عن هذه الشخصية “([li]). إذ إن فعل التذكر لا يأتي إلى الشخصية بل إلى السارد، بعد أن يمليه عليه المؤلف، فنحن نعلم أن الذي يتذكر هو المؤلف، والسارد ينقل عن المؤلف لا عن الشخصية.
وهذا يعني أن التطابق التام بين السارد والشخصية المركزية، أمر غير وارد حتى في النص السيرذاتي المكتوب بضمير المتكلم، فالسارد حتما يعلم أكثر مما تعلمه الشخصية المركزية، وبهذا يكون الضمير النحوي ” ليس ملكا لأي شخص، وإنما هو ملك مشاع يحيل باستمرار على المتلفظ في لحظة ما، أي على أشخاص مختلفين بحسب سياق الكلام ومستعمل اللغة. فمرجع الضمير هو الخطاب “([lii]) وهو بذلك لفظ لا يمكن أن يحدد إلا بتحقق الخطاب ، ذلك لأن الضمير النحوي – حسب قول بنفست، سواء أكان متكلما، أم مخاطبا، أم غائبا ليس له من مفهوم خارج وظيفته الاحالية ، وأنه بالنتيجة لا يمكن أن يقوم بوصفه معيارا للتمييز بين مبنى أدبي و آخر([liii]). لأن أي ضمير شخصي لا يحيل على مفهوم معين، ولأنه يؤدي وظيفة ترتكز على الإحالة إلى اسم أو إلى ذات قابلة لأن يشار إليها باسم([liv]) .
قانون التطابق بين الأنوات الثلاث:
يشكل التطابق بين (أنا) المؤلف، و(أنا) السارد، و(أنا) الكائن السيري، الذي قال به فيليب لوجون، مع الميثاق السيرذاتي أهم شرطين في النص السيرذاتي، لا يمكن الإخلال بهما أو حتى بأحدهما، إذا ما أردنا التمييز الدقيق بين السيرة الذاتية بتصنيفاتها العديدة وبين الأنواع الأدبية المقاربة لها أو الأنواع الأدبية الأخرى.([lv])
الناقد حاتم الصكر يدرك أهمية موضوع التطابق في النص السيرذاتي، حين يذهب إلى القول: بأن (( التدقيق في المتلفظ السيري تُرينا وجود ثلاثة أنواع من          ( الأنا) هي: أنا المؤلف الحقيقي، وأنا السارد، وأنا الكائن السيري. فالأول يقف وراء عمله، بحكم وصف السيرة بالذاتية، والثاني هو السارد المنبثق من الحاضر والقائم بفعل الاستذكار والإستعادة وترتيب عناصر خطاب السيرة، أما الأنا الثالثة فتعود إلى الكائن السيري، البطل الذي لا يطابق بالضرورة المؤلف والسارد، بما هو عليه كمخلوق أدبي في العمل نفسه، لأنه مجموع وعي السارد في الحاضر، وحياة المؤلف في الماض، وإطلالة الفرد على المستقبل. فهو كائن ثالث مستقل عن الذاتين المعروفتين. وستضاف باستخدام الشعر في السيرة، أنا رابعة هي أنا الشاعر الذي يرتب خطاب الشعر ويظهر فيه، تبعا لاشتراطاته التي تتنازع مع خطاب السيرة القائم أساساً على السرد، وتحاول المحافظة على شعرية القصيدة من جهة، واستثمار سردية السيرة من جهة أخرى)).([lvi])
إن القراءة النقدية لآراء الناقد في هذا المجال، لا بد لها من أن تقف عند مسائل ثلاث، أولها: أن الناقد في طرحه لهذه الركيزة السيرذاتية المهمة، يكشف عن وعي ودراية بطبيعة إشتغال الأنوات الثلاث في النص السيرذاتي، كاشفاً عن مهمة كل (أنا)، بدءاً بـــ (أنا المؤلف) العقل المدبر والمدير للعملية السردية السيرية، مروراً بــ (أنا) السارد المتماهي مع (أنا) المؤلف، والراسم لحدود وملامح وحركة الشخصية الرئيسة التي تتشكل من مجموع وعي السارد في الحاضر، وحياة المؤلف في الماض. وثانيها: إغفال الناقد عن رد هذا التطابق إلى الناقد الأول الذي قال بذلك وهو الناقد فيليب لوجون،([lvii] وثالثها: طرحه لـــ (أنا) رابعة في القصيدة السيرذاتية هي (أنا) الشاعر، ونحسب أن هذا الفصل والتمييز بين (أنا) المؤلف، و(أنا) الشاعر لا مبرر له، فالمؤلف صفة مشتركة لكل أنواع الكتاب في مجالات الإبداع وغيرها من جهة، ويمتلك خصوصية فردية تلتصق بالمُؤَّلف ولا تحيد عنه من جهة أخرى، وفي الحالة الثانية تكتسب صفة نوع الكتابة المؤَلفة، فالكتاب التاريخي يمنحه صفة المؤرخ، والكتاب الروائي يمنحه صفة الروائي، والكتاب الشعري يمنحه صفة الشاعر، والصفة الفردية/ النوعية هذه لا تنفي عنه صفة التأليف، وهما في النهاية تشكلان وجهين لعملة واحدة، فلا نجد مثلاً في القصيدة السيرذاتية غياباً لــ (أنا) المؤلف عند حضور (أنا) الشاعر، ولا غياباً لــ (أنا) الشاعر عند حضور (أنا) المؤلف. من هنا كان البحث عن التطابق في النص السيرذاتي لا يخلو من بعض الإشكالات، سواء أكان ذلك على المستوى النظري، كأن يعتقد البعض أن التأكيد على ضرورة تحقق التطابق يسهل إمكانية منح قاعدة نصية عامة للسيرة الذاتية، أو على مستوى التطبيق الذي يدور حول شكل الضمير النحوي الموظف داخل النص السيرذاتي.([lviii])
الميثاق السرذاتي:
نقصد بالميثاق السيرذاتي ذلك العقد الذي يبرمه المؤلف مع القارئ، بغية التأكيد على التطابق بين المؤلف والشخصية المركزية، والرجوع بكل شيء إلى الاسم الشخصي المكتوب على الغلاف،([lix]) وبهذا يكون الميثاق السيرذاتي هو الذي يحدد طبيعة النص وملامح القارئ الاحتمالي الذي سيوجه إليه الكاتب خطابه ، وهنا تكمن أهميته في كونه الوسيط الذي يتم بموجبه تحديد نوع القراءة وتوجيه القارئ إلى هدف محدد في أثناء عملية القراءة يتلخص في كون النص الموجه إلى القارئ ينتمي إلى نوع أدبي خاص هو السيرة الذاتية .
للناقد حاتم الصكر وقفة عجولة عند هذا الموضوع، لا ينسجم وأهميته القرائية في النص السيرذاتي، والذي من دونه لا يمكن الجزم بانتماء أي نص سردي كان أم شعري إلى منطقة السيرة الذاتية، إذ يشير إشارة سريعة إلى نوعين من الميثاق الأول صريح يرتبط بالسير الذاتية الصريحة، والثاني ضمني يرتبط بالسير الذاتية غير صريحة من مثل السير الذاتية المهربة في عباءات القصائد،([lx])ومثل هذا المرور  لا يسلط الضوء على طبيعة اشتغال الميثاق في النص السيرذاتي لا الصريح ولا الضمني، لأن موضوع الميثاق شائك ومتشعب، إذ يمكن أن نجد نصاً سيرذاتياً صريحاً نتوصل إلى ميثاقه السيري عن طريق القراءة التعالقية بين المتن السيرذاتي وكتابات المؤلف الأخرى، من تعليقات وتصريحات مبثوثة في ثنايا كتاباته الأخرى أو يمكن الإعلان عنه عن طريق العنوان، أو الإهداء، أو المقدمة، أو البيان الختامي عند اندريه جيد، أو حتى الأحاديث الصحفية أو الإعلامية التي تتم في وقت النشر أو بعده([lxi])، أما السير الذاتية الضمنية المهربة في عباءات القصائد، لا يمكن أن تشكل سيراً ذاتية شعرية إلا إذا كانت من الكم على نحو يمكن معها تغطية مرحلة عمرية معينة تتضح معها الخطوط العامة لسيرة الذات الشاعرة، ,وإلا تحولت إلى قصيدة التجربة الذاتية التي تكتفي بسرد تجربة واحدة معينة للذات السيرية، وهي نوع خاص من الأدب السيرذاتي يختلف عن القصيدة السيرذاتية.
 
هوامش واحالات
([i])السيرة الروائية :إشكالية النوع والتهجين السردي، عبد الله إبراهيم، مجلة نزوى، مؤسسة عمان للصحافة والنشر، العدد14، لسنة 1998: 17.
([ii]) نقلا عن: الشعر الحديث يستعير تقنيات السرد، ثائر زين الدين، مجلة المعرفة، وزارة الثقافة في الجمهورية العربية السورية، العدد 471، لسنة 2002 :173.
([iii]) مرايا نرسيس: الأنماط النوعية والتشكيلات البنائية لقصيدة السرد الحديثة، حاتم الصكر المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 1999: 148                                            
([iv]مرايا نرسيس: 147
([v]) ينظر نهاية كتاب تمظهرات التشكل السيرذاتي: قراءة في تجربة محمد القيسي السيرذاتية، محمد صابر عبيد، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، ط1،2005 .
([vi]) موسوعة المغامرة الجمالية للنص الأدبي، محمد صابر عبيد، كتاب مخطوط: 703.
([vii]موسوعة المغامرة الجمالية للنص الأدبي: 711
 (8) مرايا نرسيس: 140
[ix])) في الذاكرة الشعرية: قيس كاظم الجنابي ، مطبعة العاني ، بغداد ، 1988 :16-17
([x]) السيرة الذاتية، جورج ماي ، تعريب: محمد القاضي وعبد الله صولة، المؤسسة الوطنية للترجمة والتحقيق والدراسات (بيت الحكمة) ، تونس ، ط1، 1992 : 94.
[xi])) مرايا نرسيس :144 .
([xii]) السيرة الذاتية: الميثاق والتاريخ الادبي ، فيليب لوجون ، ترجمة وتقديم: عمر الحلي ، المركز الثقافي العربي ، بيروت ، ط1 ، 1994 : 22.
                                                                                                                                                                                        
([xiii]) أدب السيرة الذاتية في فرنسا : المفاهيم والتصورات ، فيليب لوجون ، ترجمة ضحى شبيحة ، مجلة الثقافة الأجنبية ، بغداد ، العدد الرابع لسنة 1984 : 31.
[xiv])) مرايا نرسيس : 143-144،162.
[xv])) م. ن : 167.
[xvi])) م. ن : 149 .
([xvii]) السيرة الذاتية الشعرية : قراءة في التجربة السيرية لشعراء الحداثة العربية،محمد صابر عبيد، دائرة الثقافة والأعلام، الشارقة، ط1، 1999: 9.
([xviii]) مرايا نرسيس: 142
([xix]) السيرة الذاتية الشعرية : 14.
([xx]) مرايا نرسيس: 141
([xxi]) فن السيرة ، إحسان عباس ، دار الشروق للنشر والتوزيع ، عمّانْ ، ط5 ، 1988: 114
 ([xxii])أوجه السيرة، أندريه موروا، ترجمة: ناجي الحديثي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1987: 110-119.
([xxiii]) السيرة الذاتية الروائية: إشكالية النوع والتهجين السردي:17 .
([xxiv]) السيرة الذاتية : 94 .
([xxv]) مرايا نرسيس: 143
([xxvi]) م. ن : 149 .
([xxvii]) م. ن: 144
([xxviii]) فن السيرة: 113
([xxix]) استكشاف الذات، ميري ورنوك: ٩٤
([xxx]) السيرة الذاتية الشعرية :14.
([xxxi]) فن السيرة، 1988: 105 .
([xxxii]) السيرة الروائية، إشكالية النوع والتهجين السردي : 18.
([xxxiii]) الشعرية،تزتيفان تودوروف ، ترجمة : شكري المبخوت ورجاء سلامة، سلسلة المعرفة الأدبية، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط1، 1987: 51.
([xxxiv]) مرايا نرسيس :145.
([xxxv]) أدب السيرة الذاتية المسكوت عنه عربياً: سيرة ذاتية بصيغة ضمير الغائب، خليل صويلح، مجلة الرافد، دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة، العدد 20، لسنة 1998 : 209 .
([xxxvi]) مرايا نرسيس: 145
([xxxvii]) البئر الأولى – فصول من سيرة ذاتية، أبو المعاطي أبو النجا، مجلة العربي،الكويت، العدد،352 لسنة 1988: 36.
([xxxviii]) م. ن: 36.
([xxxix]) الدلالة الإيحائية في الصيغة الافرادية، صفية مطهري، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، ط1 :2003 :204.
([xl]) سيرة الغائب سيرة الآتي: السيرة الذاتية في كتاب الأيام لطه حسين، شكري المبخوت، دار الجنوب للنشر، تونس، ط1، 1992:77-79.
([xli]) الذاتية في اللغة، أميل بنفنسيت، ترجمة: حميد سمير وعمر حلي، مجلة نوافذ، النادي الأدبي الثقافي بجدة، العدد 9، لسنة 1999 : 64.
([xlii]) مرايا نرسيس: 142
([xliii]) خطاب الحكاية : بحث في المنهج، جيرار جينيت، ترجمة: مجموعة من النقاد، المشروع القومي للترجمة، ط2 ،1997 :208 وينظر: نظرية السرد من وجهة النظر الى التبئير، مجموعة مؤلفين، ترجمة: ناجي مصطفى، منشورات الحوار الأكاديمي والجامعي، الدار البيضاء، ط1، 1989 :67.
([xliv]) أقنعة النص، سعيد الغانمي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط1،1991 :62.
(45) المغامرة الجمالية للنص الشعري، محمد صابر عبيد، دار الكتب الحديث، دار جدارا للكتاب العالمي، عمّان، ط1 ،2007 :20 .
([xlvi]) أقنعة النص: 63 .
([xlvii])  نظرية السرد من وجهة النظر إلى التبئير، ترجمة ناجي مصطفى، منشورات الحوار الأكاديمي والجامعي، الدرا البيضاء، ١٩٨٩
([xlviii]) مرايا نرسيس: 143
([xlix]) سيرة الغائب سيرة الآتي:91
([l]) م.ن :91.
([li]) خطاب الحكاية :262 .
([lii]) سيرة الغائب سيرة الآتي :13.
([liii]) أنساق الميثاق الأطوبيوغرافي : السيرة الذاتية بالمغرب نموذجاً، حسن بحراوي، مجلة آفاق المغربية ، العدد 3-4 ، لسنة 1984: 41.
([liv]) السيرة الذاتية : الميثاق والتاريخ الأدبي :32.
([lv]) سيرة الغائب سيرة الآتي : السيرة الذاتية في كتاب الأيام لطه حسين : 12 .
([lvi]) مرايا نرسيس: 146
([lvii]) ينظر: السيرة الذاتية: 22-23
([lviii]) مفهوم الرواية السيرية، عمر محمد الطالب، مجلة صوت، نينوى- العراق، العدد 1، لسنة 1991 :11.
([lix]) السيرة الذاتية : الميثاق والتاريخ الأدبي:42-43، وينظر: أنساق الميثاق الاطوبيوغرافي:42-46.
([lx]) مرايا نرسيس: 150
([lxi]) أدب السيرة الذاتية في فرنسا :29.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*