دببة في مأتم-لصلاح فائق

يُحيي الشاعر صلاح فائق بديوانه(دببة في مأتم) تقاليد الشعر الستيني العراقي بملامحه الطليعية ،أو الشق المتقدم منه باتجاه قصيدة النثر مبكرا وأجوائها الخارقة للمالوف شكلا وموضوعاتٍ ولغةً وصورا.
صلاح فائق القادم من كركوك فبغداد ثم المقيم في الفلبين منذ عقود، قصيّاً في المكان وقريبا في الرؤية والفكر والقصيدة، يكتب مذكرا بأسلوب جماعة كركوك كما اصطلح النقد الشعري العراقي على تسميتهم:  وطريقتهم في تكوين بنية شعرية تتلازم جزئياتها وصورتها  لتحقق برنامجها الطليعي  باختراقات لغوية وصورية وفكر متجاوز لواقعه المدان والمرفوض.. والانفتاح على التجارب الشعرية الإنسانية واللحاق بالموجات الرافضة للسائد: كالسوريالية التي لا يمكن قراءة كثير من  شعر الجماعة (لاسيما سركون بولص وفاضل العزاوي  وجان دمو)دون استذكار مرجعياتها ومصادرها.ويصادف أن الجميع التاذوا بالمغترب مبكرا، وظلوا يزاوجون الرؤى المحلية المجسدة بحضارة وادي الرافدين ونصوصه القديمة ،وبين أحداث عاصفة تمزق الوطن وتشظي وجوده وكيانه ومستقبله ،مقرونا –أي ذلك الاستذكار- بمفردات ومشاهد الأرض الغريبة التي وجدوا أنفسهم عليها مرغمين ثم طائعين .
السوريالية هي الوصفة التي يقترحها (دببة في ماتم) بنصوصه الخمس التي –عدا الأخير- تورط الحيوانات في المسألة وتوجد لها توليفا تعمل المخيلة على إنشائه ، قصائد قصيرة مرقمة تتتابع لتؤلف المشهد: أحلام كالكوابيس تذكرنا برسوم السورياليين التي يختلط فيها الواقعي بالحلمي والمحسوس بالغيبي والمتخيل بالارضي.. وليس صدفة ان تكون الزرافة في محكمة  بشرية،والثيران المجنحة  تمر عبر نافذة غرفة الشاعر في الفلبين؛ فيراها وحده لانها حلمه الشخصي.
الدب الذي  يرقص باكيا –هو محورالنص من حيث صلته بعتبة العنوان- و تأكيد للتغريب الملائم –وتلك صدفة موضوعية أخرى- لما يجري على الأرض العراقية من أحداث لا تخضع لتفسير عقلي فتكون تلك الرؤى والكوابيس الاصدق تمثيلا لها.
حشد الحيوانات في النصوص يتطلب استحقاقا في القراءة.الشاعر نفسه يتخيل( أتلقى كل يوم رسائل تهديد من مدافعين عن الحيوانات/ – لكنني صديقهم.صرخت على احد اعضاء تلك المنظمة/- إذن أطلق سراحهم من قصائدك/- كيف افعل ذلك؟هذا ما يشغلني منذ فترة.).
تشتغل اللغة في الديوان باتجاهين: تأدية الوظيفىة التعبيرية لتوصيل الملفوظ الشعري، وعامل تغريب مضاعف لإحاطة الوجود بهذا الجو الكابوسي الذي ينقله الشاعر. كوابيس منها يبدو(غزال يزور الشاعر وحوت ينتظر ودلافين ترقص ودببة تبكي راقصة وأسد يرتجف قرب موقد، وذئاب ونمور وغراب وزرافة وسنجاب وعندليب وأفعى…)تتجاور بغرابة أو تحضر في حلم..أما تلك الثيران المجنحة القادمة من آشور طائرةً؛ فهي صورة مرمزة للوطن ولمدينة الشاعر التي يقول عنها ( كركوك ملكة المرتفعات / أصفادها من هواء).
إضافة للمخيلة  التي تعمل بطاقة هائلة لصنع التهاويل السوريالية ،ثمة الاستعانة بالسرد.فالقصيدة مناسَبَةٌ لاسترسال نثري يكسر فيه الشاعرغنائايات اللغة وزخرفها ليسلمها لخطاب حكائي يكون فيه هو الراوي دوما.واصفا عمله بالقول(بكلمات افتح ابواباً واغلق أخريات) وكسيزيف يدحرج صخرته من القمة مكتفيا بتأمل العالم.. وتأمل قصيدته أحيانا ليصنع ما يشبه القصيدة التي تتكلم عن نفسها فيتحدث في احدى فقرات قصيدة له عن تلك القصيدة التي لم يكتبها بعد .
 
 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*