قصيدة النثر في اليمن-أجيال وأصوات- 2003

 

 

قصيدة النثر في اليمن

أجيال وأصوات
 

د . حاتم الصكر

 
ملاحظة: الكتاب منشور عام 2003.ومواده كتبت بحدود ذلك العام وماقبله .لذا فهو لم يشمل الأصوات التي ظهرت بعد ذلك ولها حضورها في المشهد الشعري.
 
 
أسم الكتاب : قصيدة النثر في اليمن – أجيال وأصوات
المؤلف : دكتور / حاتم الصكر
الطبعة : الأولى عام 2003م
الناشر : مركز الدراسات والبحوث اليمني
صنعاء – شارع بغداد ، ص . ب 1128
جميع الحقوق محفوظة
طباعة وصف وإخراج : عبد الله جبر عبدربه
 
 
 

المحتويات

  • بدلاً عن الإهداء

5-عتبة أولى
7-عتبة ثانية
9-مقدمة : قصيدة النثر – معضلات الكتابة وأسئلة القراءة
17-الاقتراب من نصوص المغايرة والتجاوز
65-الكتابة المغايرة : أسئلة مفتوحة على فضاء مجهول
71-التسعينيون : القطيعة والانفتاح
85-رؤى وتحليلات :

  • 1- علي المقري : ترميمات النسيان
  • 2- محمد حسين هيثم : استدراكات شعرية على حفلة الوهم
  • 3- محمد الشيباني : تكييف الخطأ بالشعر
  • 4- عبد الله القاضي : خريطة شعرية للكون
  • 5- محمد محمد اللوزي : المهمل كمفتاح على طاولة
  • المختارات :

119-عبد العزيز المقالح : كتاب القرية

121-عبد الرحمن فخري : ليلة بلا جفون

123-محمد المساح : إلى الإله القمر
126-ذو يزن : الثورة والموت والميلاد
128-حسن اللوزي : الرقص فوق حد الحروف
130-عبد الودود سيف : أسماء للموج وألقاب للزبد
137-عبد الكريم الرازحي : صنعاء
140-شوقي شائف : من ذكريات العشق في الزمن الجبلي
142-عبد اللطيف الربيع : ملاحظات عني
145-زين السقاف : همس الألوان
148-عبد الله القاضي : تعويذة للطفل ردمان
151-نبيل السروري : لوركا
152-جمال الرموش : حائط ضد ظلالنا
154-محمد حسين هيثم : حضرموت
159-شوقي شفيق : النقائض
164-عبد الناصر مجلي : منزلة القات
168-عمر بو قاسم : نوع آخر من البشر
170-نبيلة الزبير : أيام الاثنين الواحدة
173-علي المقري : كأنك وحدي
174-محمد الشيباني : تعز
176-هدى أبلان : غرباء
179-عبد الوكيل السروري : تجريد
181-أحمد الزراعي : أوابد العين
186-كريم الحنكي : ذات حذاء وشيك
188-ابتسام المتوكل : فراغ
190-محمد المنصور : مواقيت
195-مبارك سالمين : BAR
199-عادل أبو زينة : سفر في جبهة القيامة
201-محمد القعود : نشيد الندى
203-مختار الضبيري : هذا الفتى
205-نادية مرعي : حوذي
207-جميل حاجب : طراوة
209-أحمد السلامي : كسل
211-نبيل سبيع : اليوم الذي تعيشه ساعة يدك بدلاً عنك
218-محمد محمد اللوزي : قصيدتان
220-عمار النجار : الرجل الذي لا يجرؤ
224-إياد الحاج : رقائق بولستر شفافة
227-طه الجند : ماذا يمكن لغبي أن يعمل في هذا الليل المتأخر
 
 
 

بدلاً عن الإهداء

 

ماذا نعطي لصدر اليمن الذي آسى جراحنا

حين ضاقت بخيوط العيش إبرة الحياة
وضاع صوت الحرية في متاهة العسف ودوامة القهر ؟
أيكفي أن أؤرخ لأكثر نقاط التحول حرجاً في هذا البلد الجميل :

  • -كتابة المرأة : علامة على انفجار صمتها الطويل – في كتابي (انفجار الصمت) عن الكتابة النسوية في اليمن الذي صدر مؤخراً..
  • -وقصيدة النثر : إشارة لرفض الاجترار، والتحول صوب الحداثة – وملامسة أطيافها ورؤاها (في كتابي هذا)

.. ربما لن يكفي ذلك ، وأنا أستعيد عيون أصدقائي المتلهفة للغد
ووجوه طلابي في عدن وصنعاء ، في ربيع حياتي وخريفها
.. ولكن حسبي أنني أؤرخ لعرفاني وألاحق محبتي
وأسجل حلمي ووهمي وأملي البعيد
.. وأقدم ذلك كله إلى شعراء المستقبل وهم يعيشون
صفحات أبهى قادمة .. في كتاب الشعر المفتوح أبداً….

حاتم الصكر

           صنعاء
                تموز / 2003م
 
 
 
عتبة أولى
 
 
” إن قصيدة النثر المتجاوزة لما تواضع الناس على تسميته بالشعر المنظوم وبالنثر المشعور ، ستصبح عما قريب القصيدة الصورة ، أو القصيدة اللوحة أو التشكيل ، وهي قصيدة نابعة من عصرها ، ولها زمنها الخاص ، تستغني بلغتها المشرقة وإيقاعها الداخلي وبتركيبها الدرامي عن كل الفنون البلاغية الموروثة ، وهي حقاً قصيدة الشعر الحر ، لأنها تحررت نهائياً من عنصري الوزن والتقفية .. ورغم ذلك فقد بقيت شعراً ، وشعراً متجاوزاً ، وهي في اليمن علامة من علامات الجدة والمعاصرة في شعر اليمن الحديث .”
 
د. عبد العزيز المقالح
                                                 1976م
 
 
 
عتبة ثانية
 
وليكن ! إنني متعبٌ وأنا لا ريث ولا عجل
أدخل لأخرج . وأؤجج أباطيلي لأخمد شهوتي
.. وليكن ! إنني كامل وقابل للطلق أو للانكسار
لي أحلام بعدد ما صُفّ في مركبي من ألواح
… وأنا أعمى ، أستدل عليّ من لهبي . وأصعد
جامحاً في مرايا الدخان ..
أدخل بلسماً وأخرج طلسماً ، وأمشي بينهما كأسنان المشط
أغنية تهذي بين الصدى والصوت ..
وأنا الذي آتَّسعَ فآمتنع أن يقبض بعصا الفهم
.. قابل للتأويل ، وقابل للانفضاض أو الصدارة . لا فرق
كأنني عصا . أدفق في نبع وأفتق من حجر
 
 
عبد الودود سيف

  • زفاف الحجارة للبحر

 
 
قصيدة النثر : معضلات الكتابة .. وأسئلة القراءة
 
يعنينا كلما دار الحديث – أو عاد – حول قصيدة النثر أن نستعيد الأسئلة أكثر من تقديم المقترحات ، أو التصويت بالقبول المطلق أو الرفض التام في مجال الأنواع – والأشكال – الشعرية .
إن مقترح (قصيدة النثر) ، رغم الالتباس الواضح في تسميتها ووصفها واشتراطاتها واستسهال كتابتها واختلاطها بالمنظور الفني والجمالي للنثر ، كان مناسبة لسؤال الحداثة المتجدد في الشعر العربي خاصة ، وهو يستند إلى موروث هائل وتراكم نوعي يجعل قوة الشعرية العربية التقليدية غير قابلة للاختراق ،
لا كما حصل في تراث العالم الشعري وفي تجارب لغات – وآداب – الأمم الأخرى ، التي واجهت المقترح ذاته .. ولكنها قبلته بيسر وسرعة .
إضافة إلى قوة الشعرية العربية الموروثة ، تقف أسباب أخرى دون قبول أو حتى فحص مقترح قصيدة النثر ، ليس من قبل الجمهور المتلقي فهو محكوم بأعراف وتقاليد شعرية تغيرها قراءة النصوص ، ولكن من الشعراء أنفسهم والقراء الخاصين والمهتمين ، أعني النقاد والباحثين والدارسين .
وذلك آت من غياب (المراجعة) المطلوبة في أفق قراءة ديمقراطي وذي أطياف متنوعة وموضوعية ، لا تمثل السائد وتحافظ بتعصب على أنساق الميراث ، قدر إخلاصها للشعر وتجربة كتابته أولاً .
وذلك يستدعي السؤال عن مفهوم الشعر نفسه ، وما يمسه من تحديث وتحول عن المفاهيم السابقة ، والتي سلكها النقاد والدارسون احتكاماً إلى شعرية قائمة في زمنهم ، نالها – لغةً وإيقاعاً وتصويراً وأغراضاً – الكثير من التحول والتبدل ، إلى جانب ما أستجد في الحياة ذاتها ، والبيئة الشعرية ، من متغيرات تمس وسائل العيش والاتصال والتعبير ، كما تمس الفنون المجاورة للشعر ، وذلك يترك – دون شك – أعمق الأثر سواء في تكوين الشاعر نفسه ، أو القارئ المتلقي للشعر.
ولا شك في أن تجارب الشعر المترجم إلى العربية أو المقروء بلغاته الأصلية سيترك ظلالاً من المماثلة والتأثير في تغير الفهم الفني والجمالي للقصيدة ، وهو ما حصل بحدود ومقادير في تجربة كتابة الشعر الحر (شعر التفعيلة) إذ ليس مصادفة أن يكون رواده من المطلعين على تجارب الشعر الغربي في عصوره المختلفة .. وذلك المحرك نفسه صار لافتة اعتراض من رافضي المراجعة والتحديث ، فالمرجع (الغربي) وإن كان شكلياً لا يفرض مضمون الغرب أو موضوعه ، سيكون في قراءتهم كافياً للتشكيك في دوافع التحديثيين ومنطلقاتهم ، وصولاً إلى حد التخوين والاتهام بالتبعية والعمالة للأجنبي ! .
ورافق ذلك عدد من الجنايات التي ارتكبها الخطاب النقدي نفسه ، فهو لم يعتنِ بالنظرية النقدية قدر عنايته بمفردات تتصل عموماً بالأدب شعراً ونثراً كالالتزام ، ولغة الشعر ، وواقعية القصة والرواية ، والإيقاع ، والصلة بالتراث ، وسواها ، بينما أغفل النقاد مستويات المتلقي وتغيير أفق القراءة ، فضلاً عن صلة الشعر بالعلوم الإنسانية والمعارف وقنوات التوصيل ، والأثر أو المحرك النفسي .
ومن الجنايات النقدية كذلك ما أسميه المقايسة النموذجية ، أي اصطناع نموذج شكلي أو نوعي (شعر الجواهري مثلاً أو شوقي) ثم الاحتكام إليه لقبول أو رفض النماذج اللاحقة ، وذلك ما سوف تكرسه المدرسة العربية والمناهج الدراسية حتى في مراحل الدراسة الجامعية الأولية والعليا ، وما سادها من شروح مضمونية وتعريفات وتحليلات غير نصية ، لا تساهم إلا بتحويل الأدب إلى تاريخ أدبي أو مسلسل محفوظات وتفسيرات سياسية واجتماعية .
وسنصل في تقليب أسباب سوء الفهم للنوع الجديد إلى جنايات الرواد أو الجيل الأول ، من كتاب قصيدة النثر ، سواء في طريقتهم في بحث الجوانب المعرفية المتصلة بالتراث والواقع والغرب ، أو في الحماسة التبشيرية التي تشطب الأنواع الأخرى وتعادي الموروث عموماً ولو بمغالطة المحاججة ، إذ كان أدونيس مثلاً يعمل على ديوان الشعر العربي و يختار قصائد ومقاطع من التراث بينما يكتب بحماسة انفعالية كلاماً مثل (نحن بلا تراث ، الشاعر لا تراث له !) وكذلك القول بأن قصيدة النثر هي قصيدة المستقبل والخيار الوحيد في أفق الكتابة الشعرية ، ويرافق ذلك ما حصل من بلبلة اصطلاحية ومفهومية واختلاط الملفوظات الواصفة أو المعرّفة والمحدِّدة للأنواع مثل (الشعر الحر) و (قصيدة النثر) و(الإيقاع) و (العمود) وغيرها …
كما كان للاستلاف من الغرب ، والاستنجاد به دون تمحيص، أثر في جناية مريعة مثلتها مقدمة أنسي الحاج لديوانه (لن) والتي ظلت البيان النظري اليتيم عدة سنوات ، في محاولة لسكّ محددات وقيود لنوع شعري هارب من القيود والمحددات أصلاً ، وتلك هي المفارقة ! فما آقترحه الحاج نقلاً عن سوزان برنار أو تلخيصاً لاطروحتها لا يلزم جميع كتابها ، أو يمثل تجارب شعراء آخرين بالضرورة .
وساهم الخطاب النقدي (الآخر) أي المضاد والرافض للتجربة الجديدة في تهميش هذا النوع ، إذ أكتفى بالرفض والاتهام دون تحليل أو اقتراب نصي ، ولعل نازك الملائكة أفضل مثال لهذا النوع من الجدل القمعي المبكر ، حيث سفهت تجارب شعراء مجلة (شعر) وأخرجتها من وصف (القصيدة)  .
ومن الشعراء والقراء . تجيء الجناية التالية : إنهم يتصورون – بناء على الجانب النثري في قصيدة النثر – أنها سهلة الكتابة ، فراحوا يرونها في كل ما هو خارج الوزن ! وتطفلوا عليها بتجارب ناقصة وغير ناضجة أو مكتوبة بحس الخاطرة والنثر الفني بمؤثرات جبرانية (نسبة إلى نثر وحكم جبران) وبمخاطبات وهيجانات لغوية وصورية ليس فيها بؤرة إيقاعية أو لغة شعرية ..
بمقابل ذلك حاولت الدراسات النصية اللاحقة إظهار ما في قصيدة النثر من انتظام منطقي داخلي ، وما فيها من لغة وإيقاعات وصور ، بل راح بعض المنظرين يبحثون لها عن سلالة أو وراثة في الكتابة الفنية العربية (لدى المتصوفة والنفري والتوحيدي خاصة) .
كما أسهم المترجمون في العقود الأخيرة في إيصال تجارب شعرية بلغات مختلفة ، تؤكد إمكان وجود الشعر في القصيدة حتى بعد ترجمتها وتقديمها إلى القارئ بهيئة النثر (دون أي وزن أو تقفية) .
ومؤخراً أسهم السرد في إغناء القصيدة بالتعينات أو التثبيت المكاني والزماني والتسميات والقص والوصف والحوار ، وهي وسائل سردية اجتلبها الشعراء إلى قصيدة النثر لتعويض المحور الغنائي الغائب بغياب الموسيقى التقليدية المتولدة من التفعيلات والقوافي والتقسيم البيتي .. وهذا حاصل نقدي جنيناه من الدعوة إلى انفتاح الأجناس الأدبية والأنواع على بعضها والإفادة من وجودها في النصوص .
لقد أسهم الخطاب النقدي الجديد أي المستفيد من الوعي بمنجز التراث العميق ، والمتأثر بالثورة المنهجية في الغرب ، في خلق موجات من الكتابة تتدرج – مسهمةً في قبول النوع الجديد – من النزعة الفنية الممهدة أي التي تفحص التراث وتؤسس جماليات القراءة تأثراً بالنقد الجديد ، ثم النزعة النصية العامة أي التي تشمل اصطفافاً نقدياً واسعاً وعريضاً حول النص وكونه مرجع القراءة الأول ، وصولاً إلى نظريات القراءة والتقبل وإعادة النظر في جماليات التلقي وأفق القراءة ، وموقع الذات القارئة أو دورها في إعادة تشكيل النص وملاحقة دلالاته لا معانيه المباشرة ، والبحث عن إيقاعاته لا موسيقاه المعلنة ، ولغته الخاصة لا ما يكرره من أنساق لغوية أو تصويرية ، والاستعانة بالسرد كمفتاح لقراءة النصوص وتقصّي ما فيها من أحداث وتسميات وزمان وفضاء .. وتتم هنا الدعوة إلى معاينة المستوى الخطي سواء عبر الاهتمام بموجهات القراءة أو عتبات النصوص (كالعناوين والإهداءات والتواريخ ، والأمكنة ..) وكذلك تنضيد النصوص المكتوبة ومعاينة الهيئات التي تتكتل بها النصوص وتقسيمها أو ربطها ببعضها ..
وكذلك في ملاحقة التناص والإفادة من علاقة النص بسواه من خلال وجوده فيه . وسأختتم بالدعوة إلى عدم التوقف في (قبول أو رفض قصيدة النثر) عند التجارب الأولى ، فثمة أجيال متعاقبة على مدى خمسين عاماً ، تجدد هذه الكتابة وتسهم في تطويرها ، وهي أجدر بالفحص والقراءة والنقد لاكتشاف رؤاها وأساليبها وموضوعاتها كي لا تكرر ما حصل في قراءة تجارب شعر التفعيلة، حيث لم يتم الالتفات إلا للنماذج الأولى في مرحلة الريادة وما بعدها ، وظل منجز الشعر الحر منذ الستينات مهمشاً في الدراسات النقدية والبحوث الأكاديمية عامة .
وسيرى القارئ والباحث أن ثمة مناخات وتيارات وتجارب متنوعة في مجال كتابة قصيدة النثر تكرست على مدى الأعوام الخمسين من عمرها ، وهي جديرة بالقراءة والاهتمام ، كي لا يتم الكلام عن قصيدة النثر مثل كتلة واحدة أو صفقة أو وصفة عامة لا خصوصية فيها ولا تميز .
وأنبه هنا إلى أن قصيدة النثر سبق أن تمت قراءة نماذجها دون تمييز بين تجارب الماغوط وجبرا ويوسف الخال مثلاً ، وتجارب أدونيس أو أنسي الحاج ثم تجارب الجيل التالي في البلاد العربية ، مما جعل الحديث عن تجارب متباينة يتم من منطلق واحد وبلغة واحدة دون تلمس الفوارق بين مناخاتها وأجوائها التي لا يصعب التفريق بينها لاسيما في مجال الريادة الأولى ، وكذلك جدل المراجع أو المؤثرات في تجارب الأجيال اللاحقة .. مما أثمر رؤى وتجارب تستحق الإحاطة بها بالفحص والدراسة والنقد .
 
الاقتراب من نصوص المغايرة والتجاوز
 
أولاً : توطئة نظرية :-
       يبدو لي أن (الحداثة) لا تزال هي المقياس الاختباري الأول لاندماج أفق ثقافتنا العربية بالعصر . أما تجليات هذه الحداثة ومظاهرها في الكتابة الشعرية . فلم تزل تعاني الرفض أو التردد أو القبول على استحياء . رغم الثلمة الكبرى التي ألحقها (الشعر الحر) بالمتن الشعري التقليدي منذ نصف قرن تقريباً .
إن هذا الجسم الصلب الذي تكيف قليلاً مع الدعوة إلى وزنية جديدة ، ونظام بيتي مستحدث ” لم يقبل الانفتاح على الحداثة كلياً ” وإنما أراد أن تمر كمية محدودة منها عبر الثلمات المتلاحقة في سد التقليدية المنيع .
وهكذا إذ نصل إلى مقترح قصيدة النثر ، نكاد نستعيد الخطاب النقدي المألوف الذي عرفناه في منتصف الأربعينيات ، وهو يواجه مقترح الرواد حول تجديد القصيدة العربية . فلا يزال الخوف من الحرية في الشعر ، والتشكك بقدرات الشعراء الجدد أو الشباب على وجه التحديد ، ونياتهم ، والصلة بالآخر عبر الفنون والآداب ، تحكم عناصر هذا الخطاب وتوجه رفضه لمعاينة التجارب الجديدة . رغم الزحزحة التدريجية التي تحدث عبر ما ينشر في الدوريات ووسائل النشر ، وفي مؤتمرات الأدب ومهرجات الشعر .. لكن وتائر هذه الزحزحة لا تناسب التراكم الكتابي الكمي الذي يعطي أحياناً الذرائع للمواقف المحافظة ، إذ ترى في ضعف بعض محاولات كتاب قصيدة النثر : أو فهمهم الخاطئ لإستراتيجياتها ودواعي كتابتها ، مبرراً لرفض النوع الشعري كله ، متجاهلة أن ذلك يحصل في أغلب التجارب الجديدة، لاسيما وأن عمر التجربة ذاتها قصير بالقياس إلى الأنواع الشعرية الأخرى .
من هذه النقطة ، يبدو الحديث عن (قصيدة النثر) دفاعياً ، ومسبوقاً بتكرار الذرائع النظرية على المستوى الفني – أي كتابة القصيدة – والجمالي – أي تقبلها وقراءتها – .
وقد عرضنا في دراسة سابقة(1) لما رأينا أنه خلفية تحرك الجدال والحجاج حول قصيدة النثر ، ووجدنا أن ثمة أخطاء ، وتصورات مغلوطة كانت وراء سوء فهم الجمهور لهذا النوع الحديث من الكتابة الشعرية ، وبعض هذه الأخطاء ارتكبه روادها أنفسهم بسبب حماستهم التبشيرية والأوهام التي أسرت نظرتهم إلى قصيدة النثر ، وصلتها بالشعرية العربية ، والأشكال الغربية ، بينما كان جزء من سوء الفهم متأتياً من غياب منظور القراءة المناسبة لهذا النوع .. إذ أن قراءة قصيدة النثر ونقدها وتداولها ظلت محكومة بآليات (وإجراءات) قراءة الأنواع الشعرية السابقة عليها .. وهذا أساس الخلل في قبولها وتحديد هويتها وشرعيتها ، احتكاماً إلى قوانينها ونظم كتابتها وإيقاعيتها الخاصة .
وباختصار ، فإن قارئ قصيدة النثر ، هو الطرف المطلوب وجوده ، بالقوة التي ظهرت فيها القصيدة وبالحساسية ذاتها .
لقد لاحظ النقاد ما تعاني قصيدة النثر من إشكالات ذاتية وموضوعية ، بدءاً بمصطلحها الداعي إلى البلبلة ، وغير المعبّر عن جوهرها(2) ، وتصورات بعض كتابها المنطلقة من نثريتها أو سهولة كتابتها ، أو مجافاتها للشعرية العربية بسبب نشأتها الغربية ، وهي تصورات قاصرة طبعاً ، أضرت كثيراً بقصيدة النثر ، وتسببت في مناكدة التراث الشعري واللغة ، في سنوات انطلاقتها العربية الأولى ، ثم إغراق منابر النشر بنماذج ركيكة تدرج نفسها تحت (قصيدة النثر) ، ومحاولة استعارة عناصر الخطاب الشعري الغربي وتقليد نماذجه ، وأخيراً الاستنساخ الصوتي الذي يوحي بأن قصيدة النثر نموذج واحد ، يكرر كتابته شعراء متعددون ، نظراً لتشابه زوايا الخطاب والموضوعات والصور والعبارات أحياناً .
إلا أن ذلك كله لم يكن ذريعة كافية لهدر دم قصيدة النثر ، والتغافل عن دراستها سواء في المدرسة العربية أو فعاليات النقد الأدبي ، ولا يبرر الاكتفاء بما يشبه التصويت بـ(نعم) أو (لا) و (مع) أو (ضد) دون الخوض في قوانينها الداخلية وإيقاعاتها ومزاياها الفنية . ولكن ذلك لا يعني طمس جهود نقاد عرب اقتربوا منها في السنوات الأخيرة بالدرس والتحليل ومحاولة تنميط نماذجها، ومقاربتها نصياً ، ومناقشة مشكلاتها سواء الفنية منها أو التوصيلية . وهو جهد أفلح في جذب القارئ إلى منطقتها ، والتأمل في ذرائعها ونماذجها ، ووصول ذلك إلى شرعية مناسبة تقبل وجود قصيدة النثر في المحافل والمنابر والنشر .
يستلزم فحص نصوص (قصيدة النثر) مفارقة الخطاب السائد ، سواء على مستوى كتابتها أو تلقيها نقدياً ، فقراءة نماذجها تتطلب معاينة خاصة ، نابعة من استعانتها الأساسية بالسرد وتأثيث القصيدة بعناصره ، على مستوى ضمائر السرد التي تساهم في العثور على مفاتيح قراءة تحدد انضباط السرد وجريانه ، وهو أمر يجب ملاحظته على مستوى الكتابة (من الشاعر نفسه) والقراءة أيضاً ، وعلى مستوى الدلالة التي هي توسيع وتمدد للمعنى ، وتعويض عن غياب عناصر الإيقاع التقليدية ، وعلى مستوى البناء حيث تقترن الفوضى الظاهرية بنظام دقيق ينبث في أجزائها ويتنامى عبر متنها ، وعلى مستوى الإيقاع حيث يغيب الوزن تماماً وتهمل التقفيه ، فتنوب أنواع من التوازيات والتقاطعات والتكرارات وغيرها من جوانب الإيقاع الداخلي ، وعلى المستوى الخطّي ، حيث يكون للهيئة الخطية التي تنكتب بها القصيدة أثر في قراءتها ، بدءاً من العتبات النصية كالعنوان وما يوحي به أو يثيره في القارئ ويوجه قراءاته من خلاله ، وكذا التناصات بأشكالها المختلفة تضميناً ومفارقة وإشارة وتوسيعاً وتعديلاً ، والانتباه إلى فراغاتها وأساليب القطع والوصل والبناء الجملي ، .. وأرى أن الانتباه إلى هذه المكونات بالدراسة والتحليل النصي ، سيرينا تنوعاً أسلوبياً واضحاً ، تغدو معه قصائد أدونيس النثرية ذات أسلوبية خاصة ، تختلف تماماً عن نصوص أنسي الحاج مثلاً ، ونصوص سركون بولص عن نصوص أمجد ناصر ، وعباس بيضون عن نصوص سيف الرحبي وهكذا ..
إن قصيدة النثر هي قصيدة رؤيا(3) في المقام الأول ، لكنها بتفجير طاقات النثر والاستعانات السردية ، تباين النموذج الجبراني – نسبة إلى جبران خليل جبران – الذي عرُف بمصطلح (الشعر العربي المنثور) ، أو (الشعر الحر) حسب اجتهاد جبرا إبراهيم جبرا وأطروحته المعروفة في تجمع (شعر) ، ولكن الإحساس لا يزال قائماً حول الشكل الإنشائي أو الخطابي لقصيدة النثر ، مما يفرز نصوصاً ذات كيانات لغوية موشاة بالصور الزاهية والتشبيهات المبتذلة (أي المستهلكة صورياً) والمتميزة بميوعتها العاطفية ، وانشدادها إلى بريق النثر ، في ظن أن قصيدة النثر نوع هجين ، يأخذ وجوده من خلايا حياتية متباينة لإنتاج نوع زائف لا هو بالشعر ولا النثر ، صحيح أن جبران خليل جبران في كتاباته النثرية الإشراقية يُعد أحد مراجع قصيدة النثر ، كما أن الكتابات الصوفية والإشراقية في التراث العربي هي مرجع آخر مهم لها . إلا أن الخلط بين النثر الفني والقصيدة الحديثة(4) يضر بهذه الأخيرة أيما ضرر ، ويؤكد نثريتها في ذاكرة القارئ العربي المتكون بخبرة قراءة متراكمة لنماذج شعرية عالية . تقف قسيماً رئيسياً لفرع الأدب الأصغر أي النثر ، وأية رؤيا ميتافيزيقية معبر عنها بنثر فني خالص ، ستظل أبعد عن مرمى قصيدة النثر ، المنطلقة أساساً من حاضنة الشعر ، وتلاوينه ..
كان على كاتب قصيدة النثر ، وقارئها معاً ، التعامل معها كتابة وتلقياً بكونها حالة جديدة أو أنها (الأجد) – بتعبير الدكتور المقالح –(5) وذلك يجعلها على مبعدة من النثر الشعري ، والشعر المنثور (وقصيدة التفعيلة بداهةً) فهي لا تخضع لقواعد جاهزة ، كالأنواع الأخرى ، وإنما لقوانين مستخلصة شيئاً فشيئاً من النصوص(6) وذلك جزء مهم من شعريتها ، فهي انعكاس للتمرد والخروج على المألوف ، فنياً وأيديولوجياً ومعرفياً وهذا من أوليات التعاضد بين الشكل والمضمون .. فالحداثة التي من سماتها الشمولية في الفكر وتمثيله معاً ، في النظر إلى الواقع وتوصيل هذا الموقف ، إنما حتمت أن يكون اختيار الأشكال مطابقاً للبنى الفكرية والمضمونية التي تصب فيها ، وهكذا كانت القصيدة الأجد انقطاعاً تاماً عن الشعر القائم على الإيقاع العروضي : قديمه وجديدة . ولهذا انطبعت قصيدة النثر بحس المشاكسة والتمرد ، سواء كُتبت ضمن مفهوم (الرؤيا)(7) الميتافيزيقية ، أو اقتربت من الواقع ولغته وموضوعاته (كما في النماذج التالية لرواد قصيدة النثر) وتجسّدَ ذلك في أبنيتها ولغتها وصورها .
مهمة قراءة قصيدة النثر إذن عسيرة دون شك ، لكنها ليست مستحيلة ، إن عسرها متأت من تناقض فوضاها ونظامها ، النثر والشعر ، رفض القاعدة وترسيخ القانون ، استبدال المعاني الجزئية بالدلالات ، والتبعثر البيتي بالكلية ، والغنائية المسطحة بالسرد والوصف ، والبلاغات المستهلكة بالسياق النصي ، والموسيقى الوزنية بالإيقاع ، والنموذج العام للشعر بخصوصية كل نص .. وعلى هذا الأساس تفارق قصيدة النثر الأشكال السابقة عليها ، فتغدو قصيدة المرحلة الراهنة ، لكنها ليست الشكل الوحيد الممكن للتعبير عن الراهن ، فزاوية النظر الخاصة تفرض التعبير المناسب ، ويكون ثمة مكان للتعبير بالأشكال المتاحة كلها تلبية وامتثالاً لدواعِ ذاتية ، أو ظرفية ، أو نصية .
لكن ذلك لم يمنع عدداً من النقاد العرب من الحديث عن مستقبل الشعر العربي وآفاق تطوره من خلال قصيدة النثر ذاتها ، دون أن يعني ذلك إلغاء أو نسخ الأشكال المجاورة ، مادامت زوايا النظر التعبيرية بحاجة إليها .. أي أن ثمة شعراء يتوحد إيقاعهم وخطابهم مع الوزن بأشكاله منتظماً أو حراً .. والقول بمستقبلية قصيدة النثر لا يعني ارتهان زمن المستقبل الشعري العربي بها ، بل مراقبة سيرورته من خلال انطلاقتها وأفق سيرها ، لكونها مقترحاً جديداً يتنوع على حداثة القصيدة العربية الحرة ، ويوغل في الطرق التي فتحتها .
ثانياً : تنميط الموجات في قصيدة النثر اليمنية :
في اليمن ، تهيأ لدورة حياة القصيدة ، ما تهيأ لمثيلاتها العربيات : تقليد إحيائي ونهضة رومانسية ، وفترة تجسير بين التقليد والتجديد ، ثم التجديد الخالص على وفق نموذج الرواد ، والتطويرات اللاحقة لجيل الستينيات على ذلك النموذج .
ولعلنا لسنا بحاجة إلى إعادة مزايا كل مرحلة من المراحل الشعرية الآنفة ، فقد درسها باحثون أدبيون وأكاديميون ونقاد أدب ومؤرخون أيضاً .
لكننا بحاجة أشد إلى التعرف – من خلال النصوص – على دخول القصيدة النثرية في اليمن إلى أفق الكتابة الشعرية وأطيافه المتعددة الألوان .
وسوف نضطر لأسباب تكتيكية ، تتعلق بالإحاطة بهذه الأصوات الشعرية التحديثية ، أن نتحدث أولاً لا عن النصوص ، بل عن أصحابها ، ونحاول تشكيلهم في موجات أو أنماط ، وفقاً لانحداراتهم الفنية ومنابتهم وطرق وصولهم إلى قصيدة النثر ، مما يؤثر لاحقاً في اصطفافهم الأسلوبي الواضح . إن ذلك لا ينفك طبعاً عن مكوناتهم ، وتخلق حساسياتهم الشعرية ، فثمة من جاء إلى قصيدة النثر من القصيدة التقليدية والقصيدة الجديدة ، وثمة من بدأ بقصيدة النثر ، كما أن بعضهم أنصرف تماماً إلى كتابة قصيدة النثر ، فيما ظل بعضهم الآخر يجمع بين القصيدة الجديدة وقصيدة النثر ، وربما جمع قسم ثالث قليل ، القصيدة التقليدية أيضاً إلى النوعين اللاحقين . ولابد من الإشارة إلى أن كتاب القصيدة النثرية في اليمن ، حصلوا على دعم نقدي جاد ومنهجي في وقت مناسب ، فقبلت نصوصهم للنشر إلى جانب الأنواع الأخرى ، وتهيأ لها مستند نظري واعٍ وحيوي ، يتمثل في كتابات الناقد والشاعر عبد العزيز المقالح الذي أظهر قبولاً مدروساً وحذراً ومشجعاً لتجاربهم ، مطلقاً على القصيدة اسم (القصيدة الأجد) بعد أن زال تحفظه تجاهها شيئاً فشيئاً(8) فساهم – كما يقول عصام محفوظ(9) – في التطوير الشعري انسجاماً مع نظرته الثورية ، فقد تنبه المقالح إلى القوانين الفنية لقصيدة النثر على المستوى النظري ، ونبه مبكراً إلى تحررها نهائياً ” من عنصري الوزن والقافية ” وبقائها رغم ذلك منتمية إلى الشعر المتجاوز ، مشيداً بالتجربة اليمنية الحديثة “(10) رابطاً ين تبدلاتها الإيقاعية والتعبيرية ، وبين مستجدات الظرف الحياتي الواقعي في الوطن العربي عامة ، واليمن خاصة ، ورافضاً في الوقت نفسه ، تلك النماذج السطحية المكتوبة باسم قصيدة النثر ” فليس كل من كتب هذا الشكل .. شاعراً جديداً “(11) .
وفي منتصف الثمانينيات ، وفي كتابه (أزمة القصيدة العربية – مشروع تساؤل) أوغل المقالح في تبنّي قصيدة النثر نقدياً ، والإشادة بالمجيدين من كتّابها من الأجيال المختلفة ، والشباب خاصة ، مطلقاً عليه مصطلحه البديل الذي شاع عربياً وهو (القصيدة الأجد) غالباً و (النص الشعري) أحياناً .. وفي كتابه نفسه ، أورد المقالح نماذج تراثية تؤكد وجود جذر للقصيدة الأجد ، مؤكداً أنها غير منقطعة عن التراث ، وأن لها طاقة شعرية تغني عن الوزن والموسيقى الخارجية ، وأن لها اتساعاً في الرؤيا يحقق التجديد في المضامين ، والبعد عن الغنائية لصالح نص درامي متعدد الأصوات ، يستفيد من الحوار والرمز والفنون الأخرى(12) .
لقد تهيأ المستند النظري لقصيدة النثر اليمنية مطلع عام 1976م حين كتب المقالح دراسته (ملامح التجربة المعاصرة لقصيدة النثر في اليمن) ، معترفاً بما كان لديه من تحفظ سابق عليها ، بادئاً دراسته بمراجعة نظرية للشعرية عموماً ، والشعرية العربية خاصة ، وعمل على تحقيب تجربة قصيدة النثر العربية في مراحل تبدأ بالنثر الشعري لدى جبران والريحاني ، ثم كتابات باكثير ولويس عوض ، وصولاً إلى حلقتين في مرحلة أخيرة مثلتها جماعة شعر (الماغوط وزملاؤه) ، ومرحلة سابقة تحاول فيها مسايرة (القصيدة الجديدة وتستند إليها)(13).
أما الجزء الآخر من الدراسة فهو اقتراب نصي دقيق من أبرز نماذج قصيدة النثر اليمنية للشعراء حسن اللوزي ، وذي يزن ، ومحمد المساح ، وعبد الرحمن فخري ، وعبد الودود سيف ، وشوقي شائف .. ولعل هذه الدراسة (التي أعاد نشرها في كتابه: قراءة في أدب اليمن المعاصر) ستظل وثيقة لكل دارس يتابع خط سير الحداثة في الشعر اليمني المعاصر .. ولا ننسى التنويه باحتراز المقالح ، وتحوّطه من كتابات سطحية تتسمى باسم قصيدة النثر (يكتبها الهواة أو المقلدون الذين تغريهم السهولة في قصيدة النثر)(14) .
لقد تنبأ المقالح في دراسته تلك إلى ما سيصيب الشعر اليمني المعاصر بتجريب قصيدة النثر من تغير لن يقف عند حد معين ، بل يرى أن هذه القصيدة ستصبح قصيدة لوحة . وهي بذلك تستحق تسمية (الشعر الحر) بجدارة وحق ” لأنها تحررت نهائياً من عنصري الوزن والقافية “(15) وسوف يتعضد ذلك التنبؤ ، بما يراه المقالح من مستقبل للشعراء اليمنيين الشبان الذين وصفهم في كتابه (البدايات الجنوبية) والمخصص لدراسة أشعارهم ، بأن هاجسهم المشترك ” يوشك أن يشكل تياراً قوياً ومتفرداً يحفر الآن مجراه عميقاً ، وعلى امتداد الوطن والزمن بحثاً عن صياغة شعرية تكون أكثر وعياً بالواقع ويستجلي أدوات أكثر جدة .. “(16) .
وبوصولنا إلى كتاب المقالح (أزمة القصيدة العربية – مشروع تساؤل) نكون قد تعرفنا – في هذا الكتاب خاصة – على مبررات نظرية وفنية ومعرفية كثيرة ، تعضد النماذج الجيدة – لا المدعية – من قصائد النثر اليمنية والعربية ، وتتركز أهم نقاط الحجاج والجدل في تنبيه المقالح على أنّ مرجع الاختلاف حول قصيدة النثر إنما هو لخلوها من الوزن لا من الشعر و إيقاعه ، وخلوها من الموسيقى لا من الفن الشعري(17) ولابد هنا من أن يتعرض المقالح إلى مرتكز القصيدة النثرية المتمثل بالموسيقى الداخلية التي لا يريد التقليديون الإقرار بوجودها ، لأنها خارج أقيستهم ومعاييرهم .
سيكون تحديد مشهد قصيدة النثر في الشعر اليمني المعاصر، أيسر للدارس استناداً إلى ما وفره له بحث المقالح النظري ، والنصي . لكن عليه أن يستكمل عناصر المشهد المستجدة ، أي ما برز من ظواهر بعد تلك الدراسات المهمة للمقالح ، ونحن هنا إزاء اختيارين :

  • التجييل أو التحقيب المرحلي ، حسب أعمار الشعراء أو ظهور أعمالهم وهو أمر نقبله في الدراسة النقدية اليوم ، منطلقين ، من كون الشعراء إنما يستجيبون لمؤثرات عامة . تتشكل على أساسها – كمهيمنات – أصواتهم وتجاربهم استناداً إلى تغيرات ثقافية ومرحلية ومعرفية .
  • ترتيب القصيدة النثرية المنجزة بحسب هويتها الفنية إذ لا يخفى أن ثمة تيارات رؤيوية ميتافيزيقية ، ورؤيوية واقعية ، ولغوية دلالية ، تتشكل عبر تلك النماذج المتوفرة . هنا ، أيضاً ، سيقدم لنا المقالح مستنداً دراسياً آخر ، تمثله حلقتان من دراسة له عام 1993م ، حول قصيدة النثر ، بعنوان (من الجديد إلى الأجد) وهي كذلك ، قراءة في تجربة الشعر الشبان(18) ويلاحظ المقالح هنا عدة ملاحظات فنية وأسلوبية نلخصها كالآتي:-
  • 1- إن شعراء قصيدة النثر (الأجد) لا ينتمون إلى جيل واحد .. وإنما هم خليط من شعراء العقود الثلاثة : السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات .
  • 2- إنهم يختلفون في المراوحة بين كتابة قصيدة التفعيلة وكتابة النص الأجد ، أي أنهم لم يحسموا الاختيار بآتجاه تكريس الكتابة الجديدة .
  • 3- أنهم – والمقصود هو المبدع الحقيقي منهم – لا يهربون من الوزن ومن القافية ، جهلاً بهما ، لكنهم يهربون من التقليد ، وبحثاً عن فضاء رحب خال من القواعد التي تفرضها الذاكرة والمسايرة والمحاكاة ، لا الحياة واللغة والشعر .
  • 4- وإن كتاباتهم لا تصدر عن انفعال ذاتي أو رغبة في المخالفة ، وإنما تصدر عن موقف إبداعي ، وليد نظرة شاملة للحياة ، والإنسان والعصر ، والكتابة نفسها .
  • 5- إن ما يجمع هؤلاء الشعراء – شأن الشبان من شعراء الأقطار العربية – هو المشروع الحداثي الشعري بأكمله لا الشكل وحده(19)‑.

لقد أصبحت تلك السمات والملامح تعيّنات أعطت أصوات القصيدة النثرية في اليمن ملموسية وحدوداً يمكن قراءة تجاربهم على ضوئها ، يضاف إلى ذلك ما أنجزه الشعراء أنفسهم ، و ترافق ذلك مع بروز كتابات نظرية عربية ومترجمة (كتاب سوزان برنار في مقدمتها) تسمح بتعزيز السند النظري .. وفي دراسته تلك ، توقف المقالح بواسطة التحليل النصي عند شاعرين هما : عبد الكريم الرازحي وعادل أبو زينة ، رادّاً التهم التي يوجهها إلى هذه النصوص متعصبون (لا يفرقون بين الشعر والشعير)(20) ، ومادامت الكتابات قد استوت على هذا القدر من الوعي والنضج فهي في رأيه أحق بالدراسة والتحليل ، لرؤية ما أستقر منها وما تغير وأندثر ، وهذا هو دافعنا أيضاً لمراجعتنا النقدية الماثلة .
سنحاول – من طرفنا – أن نجمع بين معياري الجيل والفن ، أي أننا سنذهب باتجاه التسلسل الزمني والعمري في كتابة قصيدة النثر ، متفحصين الخصائص الفنية والمزايا ، أو القوانين الخاصة بكل نص .
وسوف نقوم بتقسيم النصوص المتوفرة إلى ثلاث موجات تتتابع متلامسة ومبتعدة ، كما يحدث لموجات البحر ذاته ، وهو يندفع باتجاه الساحل مرة ، ومبتعداً باتجاه نفسه أخرى ..
وسوف نبدأ بالمحاولات الأولى زمنياً ، وهي التي يمثلها في دفعتين متقاربتين كل من : عبد الرحمن فخري ومحمد المساح وحسن اللوزي وذو يزن ، ثم عبد الودود سيف وعبد الكريم الرازحي ومحمد حسين هيثم وشوقي شفيق .
إلا أننا ألحقنا بهم تجارب للشاعر الراحل عبد اللطيف الربيع وشوقي شائف تقترب منهم زمنياً ، فيما أخرنا تجارب أكثر قوة ومغامرة ، تتباعد منطلقاتها ومستوياتها ، ولكنها تلتم حول تطلعها إلى أفق أقرب زمنياً منا وذلك يشمل أجيال الثمانينيات والتسعينيات تحديداً .
ثالثاً : الموجات مبتعدة ومقتربة من بحرها :
يمكن أن نسمي نصوص الموجة الأولى : نصوص الإرهاص والتأسيس بفرعيها ، فالإرهاص (كما في نصوص عبد الرحمن فخري ، ومحمد المساح وحسن اللوزي وذو يزن) سيحمل لنا إشارات عن صلة بالنثر الشعري أو الشعر المنثور ، وتتركز فيها بنية القصيدة النثرية عبر استثمار طاقة النثر نفسه ، واستضافتها لموضوعات شعرية ، تتمدد في مساحتها العبارة ، وتتراسل الأفكار ، وتسترسل دون الانتباه إلى بلورة قوانين معينة أو مزايا وخصائص ذاتية ، وتلك إحدى مهمات البواكير أو البشارات السابقة للتبلور والتعين النصي .
ففي قصائد عبد الرحمن فخري كثير من المشاكسة والمفارقة والاختلاف على صعيد المحتوى الثوري والمشاكس الصادم ، والشكل الذي يمزج فيه بين القصائد الموزونة والنثرية .
في النص الذي اخترناه للدراسة (وهو مقطع من قصيدة طويلة بعنوان : رسالة زرقاء إلى العالم)(21) نجد فخري يبدأ بخطاب أو نداء واضح (أيها العالم..) وبذلك ينكشف مركز النص أو بؤرته .
والخطاب الموجه إلى العالم – رمز التسلط والحكم – متبوع بستة عشر سؤالاً ، مصدرة بأداة الاستفهام (متى) ، وفحوى الأسئلة يحمل جوابها أيضاً ، أو يشي على الأقل بالمحمول الأيديولوجي للسؤال المبيّت والمخبأ .. كالسؤال الآتي مثلاً :-

  • متى يصبح الفرق بين الأغنياء والفقراء كالفرق بيني – وبيني ؟

وهي أسئلة تنبئ عن بحث صاحبها المتخفي ، عما يجلب للعالم الفرح والمحبة والمساواة والخير .. لكن مضامين الأسئلة ، رغم قيامها أحياناً على المفارقة ، لا تتعدى الشطحات الشعرية ، في تركيب نثري جبراني المنزع ، أسلوباً ومحتوىً .
وقد لاحظ المقالح مثل هذه النثرية الصارخة التي يمكن انتزاعها من النص في تحليله لقصيدة أخرى لفخري(22) تقوم على النداء أيضاً عنوانها (بابلو نيرودا أيها الرفيق) . ويمكن إيراد ملاحظة أخرى على نصوص فخري كونها تعتمد على تشبيهات تقريرية مرتكزة إلى تقنية بلاغية شائعة هي التشبيه كقوله :-
 
ويسقط الثمر على الجسد
نقياً كآهات البحر
يافعاً كالنشوة
نابهاً ، كأنه الضمير
فهذه التشبيهات محلقة في خيال مكرور وتقليدي ، ومنضبطة في الإطار التقليدي للتشبيه في البلاغة العربية (مشبه / أداة تشبيه / مشبه به) ، كما أن الموقف العام في القصيدة يخلو من السرد ، لأنه ينطلق من زاوية غنائية ، فدائماً ثمة مخاطب (بفتح الطاء) ، يتوجه إليه الشاعر لتنثال المناجيات والمخاطبات بغنائية ، طرفاها : الشاعر المنادي ، والموضوع المنادى ، وهذه السمة ستطبع جل نتاج فخري في قصيدة النثر الخالصة ، أو المتراوحة مع قصيدة الوزن ، وإذا لاحظنا في نصنا المختار ، أن فخرى استبدل أنا الشاعر بأنا الجماعة ، فذلك لم يخفف حدة الغنائية التي اتخذت صوت الجماعة هذه المرة ، ولا نريد أن نغمط قصيدة فخري استفزازها الواضح والمقصود لأفق توقع القارئ بالمفارقات الصارخة المعبرة عن المسافة بين الواقع والحلم ، كقوله : متى نجد البيض في القنابل . والعرائس في الأحلام ؟ .
وشيء من ذلك نجده أيضاً في كتابات حسن اللوزي الذي عدّه المقالح (من ألمع كتاب القصيدة النثرية في جيله)(24) ، مما أهّله لامتلاك اللغة الشعرية .
وهذا المدخل (اللغوي) ضروري لقراءة نصوص اللوزي ، فهو متميز بثراء قاموسه وتنوع مفرداته وتلون صوره . رغم أن بعض موضوعاته واضح ومنكشف ومباشر ، سواء أكان وجدانياً أو اجتماعياً أو ثورياً . وتعاني قصيدته رغم مزاياه السابقة وجرأته، من الانسياق أو الامتثال للتفاصيل التي تترهل بسببها القصيدة ، وتقترب من أجواء الخواطر ، رغم منحاه الدرامي كما يوضحه نصه المختار الذي هو جزء من كتابه (تراتيل حالمة في معبد العشق والثورة) وفيه إفادة من بنية التراتيل أو المناجاة التعبدية ونداء المجهول .. فقد اختار العزف ليلاً على أوتار الحلم غير المرئية وأستوحى مفردات صوره وأخيلته ولغته منها. وبذلك تندرج قصيدته ضمن الرؤيا الميتافيزيقية ، ومشكلة الانفصال عن الذات ، والرغبة في التوحد مع النفس . والدرامية في هذا النص تتمثل في الأصوات التي تقتحم على الشاعر رؤياه ، فيحاورها ، لتصب أخيراً في نهر رؤيته :

  • وهاهي نفسي الآن أشد ما تكون رغبة في التفسخ .

والحلول في مداها الأول
أما نص الشاعر ذي يزن الذي هو توقيع لشاعر تخفّى وراء هذا الرمز التراثي اليمني – فهو يؤكد خط الرؤيا ، ولكن انطلاقاً من الحلم بالثورة ، ومتغيراتها على الأرض ، ويحمل نصه ما رأيناه في نص فخري من طغيان المضمون الغنائي – ولو بضمير الجماعة – وتراجع اللغة لصالح هذا المضمون الذي ينطوي على إعادةٍ (أو اجترار) لشعارات ولافتات ، شغلت الخطاب السياسي السائد ، وذلك واضح في مفردات مثل (الشغيلة) و (الأمل الأخضر) أو (شمس الحرية) وغيرها ، ويعكس النص بذلك هيمنة السياسي على الشعري بوضوح .
وينفرد محمد المساح بين الشعراء المصنفين في الموجة الأولى ، بكونه ” لا يكتب إلا شعراً منثوراً “(25) وقصيدته رغم انطلاقها من الخطاب المباشر والنداء تحاول احتواء موضوعها بصفاء اللغة . ولكن دون تفاصيل أو إسهاب : كما توضح ذلك الأدعية والتراتيل التي كتبها تباعاً ، ومنها نصه المختار في ملحق هذه الدراسة ، وهو نص إبتهالي يستعيد فيه الشاعر تقنية الرقى والتعاويذ والأدعية القديمة على لسان راعٍ مأربي ، يخاطب الإله القمر أو (المقه العظيم) الذي عبده اليمنيون القدامى . وفيها استعانة بالسرد ، من خلال الحوار الداخلي وشكوى الراعي مما يصيب أرضه وغنمه ، لكن صوت الشاعر يعلو في النهاية ، كاشفاً نيات القصيدة وأمنياتها بتلوين الحياة عملاً وحياة ! .
وإذا كانت نصوص فخري واللوزي وذي يزن والمساح إرهاصاً مبكراً ، تحمل استباق النوع وخطاياه ، أو عثراته المتمثلة بالنثرية والمباشرة ، فإن الموجة التالية التي يمثلها شعراء من جيل السبعينيات ستحمل سمات التبلور والنضج ، بتأثير نضج قصيدة النثر العربية وتبلورها ، فكانت قصائد النثر التي يكتبها عبد الودود سيف ، وعبد الكريم الرازحي ، وعبد اللطيف الربيع ومحمد حسين هيثم وشوقي شفيق وشوقي شائف وعبد الله القاضي أكثر نضجاً واقتراباً من تقنيات قصيدة النثر ، وإظهاراً لمزاياها ومقوماتها الفنية التي تتجسد في نبذ الغنائية والمباشرة والنثرية ، وتأخير الموضوع أو المضمون لصالح الشكل الجديد ، رغم أن شعراء هذه الموجة جاءوا إلى قصيدة النثر من تجارب وزنية جيدة، وراوحوا بين كتابة قصيدة الوزن وقصيدة النثر ، بل جمعوا بينهما أحياناً ، فلقد بدا عبد الودود سيف بسيط العبارة أليف الموضوع ، ينصاع لجاذبية النثر نفسه ، كما في النص الذي أورده المقالح من بواكير الشاعر(26) وهو مزدحم بالشكوى واجترار العواطف ، مع غياب اللغة والتراكيب المناسبة لتجربة قصيدة النثر .
لكن عمل سيف المطول (زفاف الحجارة للبحر) أو ما نشر منه على الأقل في التسعينيات ، يعكس قدرة فائقة ومتقدمة لاستثمار طاقة قصيدة النثر ، والحرية المتاحة في فضائها ، ففي المقطع المختار في دراستنا ، نعثر على احتدام لغوي وتصويري ، يلزم القارئ الانتباه إلى أدق الألفاظ ، فهنا (أسماء) للموج لأنه الأصل ، و (ألقاب) للزبد لأنه سطح .. وثمة هياج لغوي عارم يوازي هيجانات العاطفة (أدخل بلسماً وأخرج طلسماً) (وأنا الذي آتسع فآمتنع ) (المدى تفاحة وأنا سكين) ولقد توسط الشاعر بضميره اللغوي وأناه ، بينه وبين ذاته ، بين أسمائه وألقابه ، موجه وزبده ، ليجد نفسه وسط دائرة تكبر إلى ما لا نهاية وراء الأفق ، ومنها تكون البداية . في حين أختتم الشاعر نصه المحتشد بتداعياته اللغوية والصورية ، وبنائه المقطعي المتنامي ، المازج بين السرد والوصف : والاسترجاع والحوار الداخلي ، مما يؤهله ليغدو أحد النصوص المميزة في قصيدة النثر العربية .
وينحو عبد الكريم الرازحي منحىً ماغوطياً نسبة إلى محمد الماغوط في بداياته ، رغم أن تجربته تمثل – بعبارات الدكتور المقالح – خصوصية في سياق تأسيس هذا المنحى الشعري وتكوين مناخ جديد ، يليق بقصيدة السنوات الأخيرة من القرن العشرين(27).
ورغم أن الرازحي مثل شعراء الموجة الثانية يكتب الموزون والمنثور ، نجده منطلقاً من أرضية ثابتة ، وخلفية رافضة متمردة ، حيث وجدت نفسها دون انحباس في إطار الشكل ، بل أنني لأزعم أن الرازحي يهب الشكل مشاكسته واستفزازه حتى لو كان عموداً صحفياً .
وفي قصائد ضمها ديوانه (نساء وغبار) نكتشف الأثر الماغوطي العابر كما في قصيدة (وحدة) التي قد يجد لها القارئ وزناً محتملاً من الكامل بزيادة حرفين لا أرى الشاعر قصدها حين جعل توزيع الكلمات بالشكل الذي ظهرت عليه :
 
يتقاتلون
وأنت تبكي
يتصالحون
وأنت تضحك
يتقاربون
وأنت تنأى
يتوحدون
وأنت وحدك(28)
والحس الماغوطي ، واضح في قيام النص كله على ثنائيه حادة (أنت) و (هم) المعبر عنهم بالفعل المقترن بواو الجماعة ، فثمة تقابل ومفارقة بين الذات والجماعة أختار لها الشاعر صور المطابقة (قتال / بكاء – تصالح / ضحك – اقتراب / تنائي – توحد / وحدة) ولكن انضباط القصيدة بنائياً ونموها المتدرج يؤكد مقدرة الرازحي على إدارة حدث القصيدة وتناميها ، باتجاه ذروة أو ضربة مخبأة في نهايتها غالباً مما يجعلها جملة شعرية موجزة وبليغة ، مع وضوح روح السخرية الحزينة .. سخرية عابثة بألم ويأس . وذلك واضح في نصه المختار هنا (صنعاء) حيث القبائل (قبائل حب) الشاعر ، والوباء هو وباء العشق وطاعونه الصعب ، وأعتقد جازماً أن ذكاء الرازحي ودقة ملاحظته وجرأته معاً ، هي التي تصنع نصوصه الأخاذة بمجال موضوعاتها ومداخلها وتناميها، ولعل الموتيفات التي جمعها لمدينة (صنعاء) تؤكد هذا التشخيص .. وإمكانية خلق مشاهد سردية مفصلة ، وإيقاعات تقوم على المفارقة والثنائيات الحادة ، وإيهام القارئ بالفوضى ، بينما تنتظم القصيدة بنائياً ، باتجاه هدف تريد – وتفلح في – توصيله .
وفي نص الشاعر الراحل عبد اللطيف الربيع (ملاحظات عني) نحس استباق الموت وملاحقة الكوابيس بهذياناتها المنطلقة من لا وعي الشاعر ، لكنها تخفف من فوضاها في وعي القصيدة ونظامها المتقن ، فثمة مشاكسة للزمن والأشياء والآخرين ، وثمة تسلسل زمني واضح – هو من سمات سردية القصيدة النثرية – بدءاً من النوم المبكر والصباح والخروج (إلى المعاش) باستسلام ، وأجواء المكاتب .. حتى ملاحظة الطريق وعلاماته .. ومن أبرزها (المقبرة) التي يتسع قربها الجسد وتكثر الحركة ، ولكن دائماً هناك شرطي ينظم السير إلى المقبرة ! وكأنه يفرض على الأموات قواني الأحياء وسطوتهم .
إن في تجربة المرحوم الربيع في الرسم والكتابة امتزاجاً مدهشاً ، نحسه ، ونحن نقرأ ملاحظاته وخاتمتها التي اتكأت على التكرار ، كإيقاع بديل لوزنها الغائب :
سبع عجاف
سبع سمان
سبع سماوات
سبعة أيام
وكأنه بذلك يلخص ببلاغة ودقة مأساة الخلق والتعب اليومي وشظف الحياة.
ويتحدث نص شوقي شائف عن الوحدة والتوحد أيضاً ، ويبدأ بعبارة (وحدي) ممهداً بالدلالة المتسعة (رغم انقطاع العبارة نحوياً عما بعدها) لمواجده وأشواقه إلى امرأة ” يحتضن وجهها بالتنهد ” ولعلها رمز أوسع من امرأة ، أو كما قال عنها الدكتور المقالح ” إنها الثورة تتبرعم أقماراً عاشقة .. كالظل الوارف”(29)
ولكن نص شوقي شائف يستجيب للانثيال النثري وانكشاف الرمز ، فيستعين بلغة شاعرية ذات مرجع رومانتيكي (مساكب الشمس) (أنجماً تتعرى) (يباس الشفاه) وهو لا يستطيع شأن زملاء الموجة الثانية ، أن يتوفر على اللغة الشعرية المناسبة لنثرية القصيدة النثرية ، وشعرها معاً .. ولعلّي بمحاكمة هذا النموذج دون سواه قد وقعت في محدودية الحكم على تجربته في هذا المجال بالذات .. وأرجو أن أكون كذلك ، رغم أن شائف لم يواصل نشر تجاربه تلك .
ولا يخصص شوقي شفيق لتجارب قصيدة النثر إلا حيزاً من نشاطه في الكتابة الشعرية ، فيما يأخذ الوزن جانباً أكبر فيها ، لكنه متوفر أكثر من سواه على أسس اللعبة في قصيدة النثر ، وذلك واضح في نصه – (خلاصة الأوركسترا) فهو يتماهى مع ضميره الشخصي حتى يقول :
سأفجرني من دون ندم عليّ
كما أن نصه يسمح بأكثر من مدخل للقراءة حسب الدلالة المستقاة ، فهو نص جسدي يضج بالعشق والشهوة ، لكنه ينحل من أوريتيكاه ليصبح نصاً في التوحد مع الذات ، لأن ما نقرأه ليس إلا هذياناً بغزاله ، تستقر في الأحلام والهذيانات ، لكن الانقسام والخروج على الذات واضحان في مطلع قصيدته حين يقول :
.. وبأي مساء
أشعل نبيذ الطبيعة ، كي اطردني من مرمى التردد ؟
وهو مشتاق ليغدو آخر العابرين .. داعياً العالم لقراءته بعد رحيله .
وفي نص آخر لشوقي شفيق هو (الثعلب في الحديقة الفاخرة)(30) نرى جرأة شكلية ومغامرات أو مجازفات لغوية ، تنقل تجربته إلى أطر شكلية مشاكسة كإدخال اسم الشاعر محمد عفيفي مطر في النص ، أو تضمين أصوات منها برقم (3) وبتوقيع (حديقة الجنرال) ، وتمتلئ القصيدة بالتناصات والإحالات إلى الحلاج و سقراط و لوركا و شابلن .. لكن مصهر النص وبؤرته هو وحدة الشاعر (ليس سوى وحدك تكلم وحدك) ، وهذا الانزعاج الواضح من العالم ، والاهتمامات العادية التي يراد للشاعر أن يحياها ، ويريد هو مفارقتها ومجافاتها .
ولعل قارئ شوقي في شعره الموزون يجد الثيمات نفسها ، لأنها ذات موقع مركزي في خطاب الشاعر ، المتوفر على اشتراطات قصيدة النثر ، رغم انصرافه الجزئي إلى كتابتها . وسوف ننتظر دواوين شوقي شفيق اللاحقة لنتأكد من ترسخ صوته في مجال قصيدة النثر التي حفل بها ديوانه الأخير .
لكن محمد حسين هيثم يتقدم زملاءه كلهم في تكريس صوت متميز ضمن تجربة كتابة (قصيدة النثر) نوعاً وكماً ، فقد ضم ديوانه مطلع الثمانينيات تجارب ناضجة في قصيدة النثر إلى جانب القصيدة الموزونة الجديدة(31) . وهي تقوم على التكثيف والقصر ، واستضافة آليات السرد ، كالحوار ، والتسميات ، وتثبيت الأمكنة ، ورسم الشخصيات . ففي قصيدة (متوازيات)(32) نجد انشطاراً بين ما تريده المرأة وما يريد الشاعر :-
تريدين قصيدة
وأريد لرأسي صخرة يحط عليها
تريدين قصيدة
وأريد لرأسي مظاهرة لا تحدها العصا
وعلى أساس هذا الانشطار ، والحضور الحاد لأنا الشاعر تتوفر قصيدة هيثم على قوانينها الداخلية ، متحررة من أية قواعد مسبقة ، أو امتثالات لنماذج متصورة .
ولخبرة هيثم الوزنية أثر واضح في ابتكار إيقاعات تقوم على بناء الجملة الشعرية ، لا نجدها لدى زملائه ، وهو بناء ينهض على انتقاء مفردة عامية أحياناً ، أو أجنبية ، أو يومية ، لكنها تصبح في النص ذات دلالة إيحائية ، واستيعاب للمكان خاصة .. وألاحظ أن هيثم يراقب المدن والأمكنة ، ليصنع منها قصائده – وعنها أحياناً – وأنا هنا أشير إلى قصائده (المنصورة) و (صنعاء) واستذكاراته العدنية ، ونصه المطول (حضرموت) .
ولكنه يحلق حراً في ملامسة المكان ، وبشهية ظاهرانية ، تُسقط على المكان وعي الشاعر وشعوره ، ليشكل منهما – وبهما – أبعاداً أخرى للمكان المصوّر في النص .
هذا ما شعرت به إزاء قصائد المدن والأمكنة في شعره ، ولذا نجد نصه (صنعاء) ، يستند إلى جملة مفتاحية تتكرر في النص هي (أقترح بحراً) مع جملة شارحة تطور الحدث وتعطي للاقتراح سبباً .
وعلى مستوى الهيئة الخطية نجد الشاعر يوسع مساحة الجملة الشارحة (التالية للتكرار) شيئاً فشيئاً ، مذكراً بموجات الماء حين نلقي فيه حجراً .. لكن هذه الدوائر تتلاشى في النهاية .. وتغدو الجملة الشارحة مبعثرة كلمة كلمة :
وامرأة
تخلع
خلخالها
وترن
داخلي
ولقد تآزرت الدلالة هنا – التشظي والتلاشي كنهاية للموجة – مع الهيئة الخطية (الكتابية) للنص ، فتناثرت الجملة الواحدة كلمات خمساً .
وقد يسأل القارئ : أين (صنعاء) من هذا كله ، وهي عنوان النص ؟ سيشير النص إلى مكان كتابته وزمانها : (صنعاء – سبتمبر 1987م) ، ولكن بين العنوان الذي يعلو النص ، وهامش المكان في آخره ، ليس من صنعاء ، سوى اقتراح البحر الغائب عنها (لا بحر في صنعاء كما نعلم جميعاً) ، فلا يجد الشاعر لأمنيته (اقتراحه) من سبيل إلا أن ينهض جبلاً في الأزقة .. بديلاً للبحر الغائب ، وإمساكاً بامرأة ، تترك خلخالها يرن داخل الشاعر .. إن كثيراً من قصائد هيثم جديرة بالتأمل والتحليل ، تلك التي تقرأ أرجاء التاريخ اليمني ، أو تشم روائح الأمكنة ، أو تتعقب أحداث العصر المحتدمة على أرض اليمن .. ولكننا لن نفيها حقها هنا ، مكتفين بالإشارة إلى إيغال هيثم في اشتراطات قصيدة النثر ، واستثماره لأفق الحرية ، وفضاء النثر فيها .. إلى أبعد مدى ممكن، ولعل ديوانه المخطوط (صيد النبيذ) رغم مراوحته بين الموزون وقصيدة النثر ، سيكرس صوته الخالص المتميز بلغته الثرية ، وإيقاعاته ، وصوره ، وإفادته من إمكانات السرد بذكاء وحيوية ومهارة . وهذا ما تأكد لاحقاً في ديوانه المنشور (استدراكات الحفلة) صنعاء 2003م ومنه اخترنا قصيدته (حضرموت) ذات المعالجة المكانية أيضاً ولكن بوعي أشد بالصورة وباللغة .
ويمكن أن نطلق على نصوص الموجة الثالثة : نصوص المغامرة ، والانعطاف عقائدياً إلى قصيدة النثر ، وهجر الأشكال المجاورة (باستثناء قليل) .
ولعل تلك أبرز سمات نصوص هذه الموجة ، فهي تصل إلى سواحل الكتابة دون أن تحملها سابقة بالوزن . كما أنها تتكون في فضاء أكثر احتداماً واتصالاً بالتجارب العربية الشابة في مجال قصيدة النثر .
وسوف نضع كاتباً قصصياً ، قليل النتاج شعرياً ، في بداية القائمة ، وهو عبد الناصر مجلي الذي يتضح في نصوصه لمعان الشعر وسط فوضى ظاهرة وخارجية تقوم على جمع موتيفات متناثرة يربط بينها بخبرة قاص ، وحساسية سينمائية عالية . فكأنه يجمع بمونتاج متقن ، هذه القطع المتناثرة ، ليؤلف بينها ، ويعطيها ترابطها السردي والشعري والدلالي معاً ، وذلك واضح في عمله الأخير الموحد (سيرة القبيلة) الذي اخترنا منه (منزلة القات) .
هنا يتقن مجلي آلية التكرار ، وينجح في تحويل حرف الجر (في) الذي يتصدر النص ، إلى مركز توليدي لدلالات وأبنية ثرية ، انطلاقاً من ظرفيته إلى اختيار الموتيفات المعبرة كالشظايا المتناثرة وبوعي وقصدية ، تبدأ من ساعات القات اليومية وإيحاءاته وما يتبعه :
في الخضرة البهية المتقدة في الذاكرة
في الأغصان الطوال ، وشربة الماء المالحة
في ضوضاء الأصدقاء ، وغيبة العقل ..
لكن مجلي يريد أن يوسع دائرة المشهد ليقص فيه جراح الوطن ، ونُذُر الحرب ، ليصل إلى نفسه هو :
فيّ أنا
القادم من توحش الماء
إلى بركة تقتتل فيها الضفادع
وتنتحر الحيتان
وإذا كان سياق (منزلة القات) يلزم الرجوع إلى منازل الديوان الأخرى ، فإن وحدة هذا النص متكاملة على مستوى البنية والدلالة معاً ، بل لعله يختصر أحزانه وآلامه في عبارات وتقنيات مستحدثة ، يغمرني الاعتقاد بأن الشاعر سيطورها لقصيدة نثر أكثر عمقاً وإيغالاً في جوانب السرد وإيقاعاته الممكنة .
وفي نص شاعر آخر ، هو عادل أبو زينة ، نحسّ أن انصرافه الكلي إلى قصيدة النثر قد جعل له امتيازاً واضحاً بين كثير من كتابها .
فقد أصبح إيقاعه متوحداً بها ، وتكيف صوته ليندمج بخطابها المميز ، وطاقاتها النثرية ، مما حدا بالدكتور المقالح أن يخصه بوقفة دراسية مركزاً على إيقاعاته وصوره وتداعياته ، عاقداً الأمل على أن يكون أبو زينة أحد نزلاء (مدينة الشعر بصوته المتميز)(33) .
ولكن نصه المختار (قصيدة البعيد) المكتوب عام 1994م ، يلفت نظرنا إلى مكمن خطورة في تجربته ، فهو يراكم الصور بشكل أفقي ، تحس معه أن الشاعر لن يتوقف ، ليمد خط سير النص عمودياً إلى أفق دلالة وبناء أو إيقاع مختلف . كما أن التفاصيل تحكمها إضافات لغوية وهيجانات وتراكمات صورية ، يعوم بعضها ويتسطح ، ولا يترك ملموسية على مستوى التخيل الصوري لدى القارئ .. ومن ذلك التداعي السريع كالطلقات :
خمر الروح – ما ء الجسد – مجد الأصابع – محرابي الهوى – أخصري الوجع – مترب الأماني – سوسني المقل .
وإنني لمقدر لما يتطلبه السياق الخاص بالقصيدة ، وإثراء جوها الرومانسي بغنائية لغوية وصورية ، لكن العمق الغائب في النص – مع قدرات الشاعر الواضحة قاموسياً وبنائياً – تجعلنا نطالبه بالاقتصاد ، وكبح هذه الانثيالات النثرية ، وأحسب أن قراءة تجربته مجتمعة في ديوان ، ستؤكد ما عُقد عليه من رهان ؛ لأن تقنيات قصيدة النثر متوفرة في نصوصه ، لاسيما مداخلها السردية الحادة ، وجملها الشعرية المؤثرة .
ومحمد الشيباني شاعر شاب آخر منصرف إلى قصيدة النثر تماماً وبآختيار قصدي واعِ ، تستهويه التأملات الظاهراتية حول المكان ، فيشم روائحه ويراه ويسمعه بحواس شبقة ويسكب على عجينته مياه الذاكرة ، فتحضر أناه وسط مدنه (صنعاء – عدن – تعز) كما يعتني بأسماء أصدقائه والمهمشين من حوله فيرسم لهم بورتريتات شعرية مقربة تلتقط أبرز ملامحهم كما تتراءى له ، فتطفو هذه المدن والأسماء والوجوه إلى السطح ، فنراها معه عبر (كيس الذاكرة) المعبأ بماضيه صغيراً ، ووعيه شاعراً ، وفتوة المدينة ذاتها ، وذبول شعاراتها ، ومشاهد البؤس واللذة والجمال فيها ، وفتوة الشخصيات وجراحهم معاً ، ويجدر بنا عند القراءة ، أن نلاحظ ضمير السرد ، وهو المخاطب الذي جعل النص يستدير إلى نفسه ، إلى الشاعر ، منتجه وقارئه معاً .. فهذه هي عدنه التي تأتيه ملفوفة بالبحر والبخور ، وقوارب الصيادين ، وزوايا قلعة صيرة وروائح المندل والفل ، وأصوات الغربان ، والباصات العتيقة ، والمدارس ، والمراقص والمقاهي الشعبية .
حشد من المرئيات والمسموعات والمشمومات ، يفلح الشيباني في لمّ أجزائها وكسرها المتناثرة ليصنع منها مدينة متخيلة.
وإذا ما استثنينا النهاية التقليدية المكررة في قصائد النثر عبر ثنائية الشرطي والشاعر ، فهناك منظور متقدم ، بلغة عادية وأليفة، لصنع قصيدة نثر خالصة .. وسنرى في دراسة منفصلة عن ديوانه (تكييف الخطأ) ما أنجزه في هذا المجال .
وكذلك يقودنا نص عمر بو قاسم المخطوط (أناقة العبث) إلى احتدام الذاكرة ولكن بسيطرة لغوية وصورية أكثر مهارة من زملاء الموجة الآخرين ، حيث يبدي لنا النص امتعاضاً من العالم ، واستظرافاً لجزئياته ، مما يجعل العبث (أنيقاً) .. لكنه عبث منظم ، فوراء فوضاه تكمن رؤية محددة يطغى عليها اليأس والتشاؤم والعبث (وهي قواسم مشتركة مع الحرية في نصوص هذا الجيل) لكنها تستنير بوجودها الشعري وتستضيء به ، إنه نص يلاعب اللغة مقلّباً ومحوراً معانيها ودلالاتها :
نهار
أستحضره في غموضي
وأغيّبه في وضوحي
مجازاً .. مجازاً
وفي القصائد القصيرة المختارة من عمله الطويل ، سنرى الإفادة من الحوار والاستبطان ، ولكن بعضها مثل (سهواً) تطفو بنيته لصالح الإفصاح العاطفي ، ولا تترك دلالاتها أثراً خاصاً في قارئها ، وأحسب أن طريق( عمر ) شائك بسبب التدفق الصوري الذي عانته نصوص أبو زينة أيضاً ، ولكن على مستوى الإضافات اللغوية والعبارات الجاهزة .
وهذه القصائد القصيرة أو ما أدعوه قصائد الومضة أو الجملة الشعرية المقتصدة إلى حد الاختزال البرقي ، تستهوي شعراء آخرين مثل محمد القعود الذي حدد صلته بقصيدة النثر من خلال أبنيتها البلاغية القائمة على المطابقة والتنافر :-
مررت من شارع البطولة
لم أجد سوى الشهداء
وفي قصائد الجملة الواحدة مثل (يقنصه نفسه) ، يحتاج القارئ إلى استنفار طاقات التأويل واللغة ، ليجني دلالة منتجة في الكلمتين اللتين يتكون منهما النص ، والإيجاز المفرط الذي يصل حد بناء القصيدة كلها ببيت واحد . ولكن سبيل هذه الجمل الشعرية المختزلة ، والتي يصر القعود على أن يعقب عناوينها بعبارة (نصوص حرة) ربما هرباً من نوع قصيدة النثر الصريحة ، إنما هو سبيل جديد غير مطروق ، ولعله أحد فتوح هذا الجيل ومقترحاته الجريئة ، وموطن بعض إيقاعاته المتلونة بين قصيدة نثر متدفقة سرداً وإيقاعات وأبنية ومتوناً كتابية مغامرة ، وبين هذا الاقتصاد الشديد القريب من تقنية (الحكمة) وبنائها البليغ القائم على الحذف .
ويتجه شعراء هذه الموجة الجديدة جداً ، إلى أنفسهم ، وهكذا يبدأ نص علي المقري المعنون (بعد الموت) الذي يعاين فيه موته هو ، ويستبق تصوره ليقول في المطلع :
بعد ساعات قليلة من إعلان موتي
سأحسني مكفناً بالبياض
أو مطفأ في حفرة
ولعل الدارس ذا المنظور اللغوي ، سيلفت انتباهه ، هذا الاستخدام الشائع الآن بإسناد الضمير إلى الذات (مثل : أحسني أو أكتبني) وهو أكثر التصاقاً بالأنا العائدة إلى الشاعر كأسلوب يتعدى الإضافة الإسمية الواضحة في قول القعود مثلاً :
لا بيت لي / غيري
ويعمل المقري- شأن زملائه في الموجة الثالثة – على بناء النص مقطعياً ، فقصيدته مكونة من ثلاثة مقاطع ، يتشابه مطلع الثاني والثالث منها بتكرار جملة الاستهلال وهي (حين أكون قد مُت) ثم الجواب في الجملة التالية بادئاً بسين الاستقبال ، واستوقفني في نص المقري وما قرأت له مثل (مسافة طعنة) و (في الأصابع) تنوع أسلوبه ، فهو يكتب القصائد القصيرة جداً .. وتلك متوسطة الطول ، ولكنه واضح الدلالات لا يتخفى وراء أعماق لغوية أو صورية .. مما طبع إيقاعاته أيضاً بالوضوح والألفة .
ويمكن أن نجد البناء الجملي المتسلسل بمنطق وعقلانية ، ودون مغامرات صورية في نصوص أحمد الزراعي الذي تطورت تجربته الشعرية بشكل لافت في الأعوام الأخيرة ، ونصه(هل تتسع الجهات للدم) يؤكد وعيه الخاص بنثرية قصيدة النثر .. فهي عنده مجلى أو تمظهر لعناء الفكر وأسئلة الروح والعقل ، ومراقبة الطبيعة ومظاهرها بمنظور إنساني ، وأقترح البدء بملاحظة العنوان فإنه سؤال منطقي ، لا يكتفي الشاعر بوضعه لافتة على نصه ، بل يعيده في خاتمته ، ثم يبعثر حروف كلمة (الدم) لاستخراج مطابقة قرائية (ذات أثر) بين الصوت والمعنى ، أو بين الهيئة الخطية للمكتوب ودلالته .
إن هذا النص لا يكثر من الأسئلة ، سواء بصيغ الاستفهام أو بدونها ، لكنه نص تساؤلي ، تأملي ، لذا وصفناه بالمنطقية ، وربما التجريد ، رغم التعينات السردية العابرة فيه ، مثل الفتاة تومئ ، والإصغاء إلى بكاء البشر (استطرادات نثرية كثيرة هنا) .
وأحسب أن قصيدة النثر بحاجة إلى لغة أكثر فوراناً واحتداماً ، رغم أن القارئ المتعقل سيرى في نص الزراعي بغيته ، فتتصاعد أسئلته عن الجدوى والإمكان عبر سديم خيالي وصوري، أكسبه الشاعر بلغته المتعقلة الهادئة ، شكلاً ونسقاً منطقياً متدرجاً(34) .
ويميلني الزراعي إلى تجربة شاعر قريب من أجوائه هو محمد المنصور الذي كان ديوانه ( سيرة الأشياء ) يشير إلى بلورة أسلوبيته القائمة على تنامي جزئيات مرئية ومتخيلة سرعان ما تنتظم في وحدة بنائية تعزز حداثة النص وتكرس طليعيته وبهاء مخيلة الشاعر ولغته وصوره :
من نهارها العالي
سقطت فاطمة
كثمرة لجرح
سال دمها بهئياً
تبكي الطين
الذي سقطت عليه
وتتشكر الملائكة
وثمة بين حشد الرجال شاعرة بدأت في كتابه قصيدة النثر مبكراً هي هدى أبلان التي لم يكن ديوانها الأول المطبوع ، عام 89م(35) يشي بما ستصل إليه من مستوى أدائي على صعيد اللغة والصورة حقاً . ففي نصها (نبوءة) إرهاص بتحولها الحذر  والخجول إلى فضاء قصيدة النثر ، لذا جاء نصها المحتدم عاطفياً ، مرتبكاً على صعيد السرد ، إذ نجد اضطراباً في (الضمائر) ، وتعدداً في أنماطها بسبب الانثيال الخطابي الجميل ، بحيث كانت الشاعرة تسرد خارجياً بالوصف في المطلع وبضمير الغائب ثم بالخطاب المباشر للمخاطب (يا امرأة) ثم بضمير الغائب (ستؤلمه)، ثم بضمير المتكلم (تؤلمني) بحيث لا نمسك أية دلالة عمن هو صاحب الوجه المتلون بصفعات الحمى .. لكن نصها المنشور في عدد (أصوات) الأول(36) يبدو أكثر تماسكاً على هذا المستوى ، ومشحوناً بلغة مؤثرة ، مندفعة بقوة صوب الدلالة ، فالمخاطب هو الواحد ، بينما جاء السؤال عن الوجه الآخر للشاعرة .. وحافظت هدى على هذا التوازي ، فليس من تعدد ، وليس من خروج عن ذلك ، إلا باستعارة صوت الجماعة في الخاتمة :
ليس لنا غير جدول الكلام
ومطر التعب
وسيكون لهدى حظ وافر في تجاربها الجديدة ، احتكاماً إلى ما أقرأ لها من شعر في القصيدة الحرة ، بمنظور حديث ، وأداء متماسك ، لابد أن يعكس نفسه وعياً وفناً على تجاربها في قصيدة النثر ، وقد أستمرت في مغامرة قصيدة النثر في دواوينها اللاحقة وسيتأكد ذلك عند قراءة نصها المختار في ملحق الدراسة .
وسوف تنضم شاعرة مهمة ذات تجربة طيبة وإصدارات عديدة هي نبيلة الزبير إلى أصوات قصيدة النثر بوعي وقصدية ، يرشحها لذلك ما كانت قد بدأته في شعرها الموزون نفسه ، فهي في تجاربها الوزنية تركز على مهيمنة اللغة وتكسر الإيقاع الوزني عامدة دون احتفاء بالتقفية ، كما أنها تعامل اللغة كمادة أساسية في الكتابة لا مجرد واسطة لنقل الصور أو الأفكار . وقد بدأت رويداً في كتابة القصيدة النثرية حتى استقرت أسلوبيتها ضمن هذا اللون في دواوينها الأخيرة.
لكنها لم تتخلص من ميزتين وجدناهما في شعرها الموزون هما : المفارقة الصورية المستمدة تقنيتها من السرد ومصير الحكي أو نهاياته الممكنة ، والتأمل في لغة النص خلال الكتابة ومراقبة صوتها ، ومحاولة رصد المفردات بوعي و اللعب بإيحاءاتها وصيغها وتراكيبها .
وفي نصها المختار (أيام الاثنين الواحدة) تعرض وعياً حاداً بالزمن ، يؤازره ويقويه استثمارها لطاقة اللغة التي تفجر فيها الشاعرة إمكانية الانزياح والمفارقة ، بدءاً من العنوان الذي يقترح ليوم واحد هو (الاثنين) أياماً سرعان ما تصفها بأنها واحدة ، ويقيم التكرار إيقاعاً خاصاً في النص ، فيتكرر ( الاثنين ) لازمة موسيقية توحي بالندب والخسارة ، ويعلو كل صفحة من صفحات النص وأجزائه الصغيرة .
بدل (يتيمم) نطالع (يترمم) وبمقابل (امرأة) نجد (مرآة) ولا نستلم إلا رؤى غامضة مغلفة بمفردات ، تتعمد الشاعرة أن تقطع أنساقها المتركبة في أبيات (تستخدم أداة التشبيه كأن : وتأتي بالمشبه ثم لا تذكر ماذا يشبه من بعد) :
 
كأن زخة
كأن خطيئة
ولكن الزبير بعملها هذا تستثمر جوهر النثر في الشعر وتهدم الأنساق القائمة كلها لصالح نص جديد ، مقلق ونافذ في طبقات وعي قارئها .
أما ابتسام المتوكل فهي إلى جانب نادية مرعي تنضم مؤخراً لشاعرات تجربة قصيدة النثر التي أرى أنها تغري الخطاب الشعري النسوي الحامل لآلام المرأة المهمشة وأحلامها بالخروج والحرية ، وأجد أن شكل قصيدة النثر يوافق التعبير عن تلك الآلام والأحلام النسوية ، ولا تتخلص ابتسام تماماً في نماذجها القليلة من إيقاعات القصيدة الحرة ، رغم تقسيمها النص إلى قطع صغيرة ذات عناوين ، فالذات هي الفاعل الدلالي في النص ، وهي التي توجه النص وتصنع تقابلاته وتعارضاته ، ولا تقمع شهيتها لصنع مفارقة حاسمة في نهايات النصوص ، هي انعكاس لشعورها بالحاجة لبيت قصيد – بحسب النقد القديم – أو ضربة ، أو خروج بلغة الموسيقى  يظل له صدى ورنين في (سمع) قارئها الذي لا تكاتبه بل تشافهه  رغم أن نصها (فراغ) ، يعكس زاوية نظر متقدمة ، ويشجع على تشخيص استرسال سردي يطرد (أو يقلل من) كمية الغنائية في شعرها .. ويهدئ اندفاعها البلاغي واللغوي .
وسيجد القارئ في نص (نادية مرعي) اختياراً مقصوداً للموضوع الذي تحتفي به ، ولا تتنازل عنه ليبرز فوق مستويات نصها الأخرى ، ويصبح لباقي المستويات دور ثانوي إزاء تعينات الموضوع والاهتمام بإبراز طرافة زواياه ومفرداته ، فالنزعة النسوية في النص والمعمّاة بالرمز (الحوذي: قائد العربة الذكر) تجعل تفسير النص على أساس تلك النزعة مباشراً وسهلاً ، فيما كان لها في نصوص أخرى (مثل : رفقة) محاولة استئناس ما حولها من كائنات ، وإسقاط شظايا الموضوع عليها لخلق شعرية القصيدة .
 
ماذا يتحصل لنا إذن من المعاينة التاريخية لقصيدة النثر في اليمن ، وجدلها مع المرجعية العربية لهذه الكتابة الشعرية الجديدة ، إذا ما اعتبرنا المرجعية (الغربية) شبه غائبة كمؤثر في تجارب الشعراء موضوع هذا الكتاب ؟ سنجد كمحصلة أن البدايات لا تختلف كثيراً عما هي عليه في بلدان عربية أخرى (العراق ومصر والشام مثلاً) فثمة رضات أولى ومحاولات تخلط بين النثر الشعري والشعر المنثور بأثر من جبران خليل جبران وأمين الريحاني . وعلى مستوى الأجناس الأدبية تأخذ هذه المحاولات شكلها من (الخاطرة) الفنية وأسلوب التداعي التصويري الذي أعني به هيمنة الفكرة في النص ، وتشكل الخطاب اللغوي للنص على أساسها ، وهذا واضح في الطبيعة التصويرية للنص ، ومحاولة خلق حالات مُعادلة للشعور والتعبير عن الفكرة ، اعتماداً على المناداة أو خطاب القارئ مباشرة ، أو انتزاع (ثيمة) أساسية ووضعها في مركز النص (وهذا ما تؤكده نصوص المساح وفخري ، وذي يزن ، وحسن اللوزي) حيث نلاحظ التشبيهات التقليدية ، وحضور المخاطب ، واستخدام بعض الشعارات والمقولات اليومية السائدة ، وهي سمات تهبها لنا على التوالي نصوص فخري ، والمساح ، وذي يزن ، وتشترك في إيقاعها وزوايا نظرها .. لكن الاندفاعة القوية وتفجير طاقة اللغة (مفردات وتراكيب وجماليات تعبيرية) ستأتينا مع عمل عبد الودود سيف الطويل (زفاف الحجارة للبحر) الذي يقول عند إصداره مكتملاً عام 1999م أن فكرته ” بدأت في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات . وفي المقطع المختار (أسماء للموج .. وألقاب للزبد) تتضح خطة النص وخطابه ، فهو يروي بضمير المتكلم ، مما يقرب الشاعر من نصه ويجعله متعالياً عليه وموجهاً له ، وهذا يفسر القوسين المحيطين بالعمل الطويل أعني افتتاحه وختامه بنصوص موزونة ، فالفاصل بين النثر والشعر هنا غير بعيد ، وذلك يعني فيما يعنيه سخونة العبارة ، وانثيالها اللغوي الثري وتلاحق – أو تداعي – صورها ، وأرى أن (زفاف الحجارة للبحر) عمل ملفت سواء بعمارته وبنائه المعقدين ، أو بإشاراته ورموزه وتناصاته ، أو بلغته ذات الفاعلية المؤثرة .. وبتصميم هيكل نصه في وحدة بنائية متكاملة بشكل عمارة شعرية متلازمة .. وامتداداً من هذا العمل وتجربة عبد الودود سيف ، نسمي إلى جانبه زميلين له استمرا في مغامرة قصيدة النثر هما محمد حسين هيثم وشوقي شفيق ، اللذان تدرجت قصيدتهما نضجاً وتنوعاً ، وإن لم يهجرا الوزنية تماماً ، وتفاعلا مع تجربة قصيدة النثر العربية بشكل أوسع من أقرانهما .
ويمكن تجييل تجربة زين السقاف وشوقي شائف وجمال الرموش حتى في قصائدهم الأخيرة ضمن الجيل الأول المحتفي بالفكرة وتجلياتها الصورية دون عناية لغوية يعدها كتاب قصيدة النثر محور تجربتهم .. والاكتفاء باسترسال لغوي وصوري وإنشاء يقرب من النثر ..
ويتسلم بعض الشعراء راية الرفض والمشاكسة بأثر من محمد الماغوط خاصة لينتجوا نصوصاً ذات طابع متمرد ، ولكنها متوفرة على ما في قصيدة النثر من طاقات سردية ، ونسمي هنا تجارب عبد الكريم الرازحي وعبد اللطيف الربيع وعبد الله القاضي ونبيل السروري وعمر بو قاسم وعبد الناصر مجلي ، وأحسب أن انكفاء بعضهم بالصمت أو بالموت أو الهجرة ، قد جعل تجربتهم بعيدة عن الفحص والتشخيص ، لاسيما وأن من أستمر منهم لم يواصل كتابة قصيدة النثر لحساب أنواع شعرية وأشكال نصية أخرى ..
ثم تبدأ لحظة أخرى في حداثة قصيدة النثر في اليمن عبر تجارب علي المقري ومحمد الشيباني وكريم الحنكي ثم  لحق بهم عبد الوكيل السروري ونبيلة الزبير وهدى أبلان ومبارك سالمين ، فينصرف هؤلاء لكتابة قصيدة نثر ذات جماليات جديدة لا تهمل
( الفكرة) كمركز نصي ولكن بتلاوين تعبيرية والتقاطات صورية مميزة ، سوف تترسخ عبر تجارب لاحقة وتتضح في نصوص  أحمد الزراعي ومحمد المنصور ، ومؤخراً في كتابات ابتسام المتوكل القادمة من الوزنية المنضبطة في ديوانها الأول.
ولا يعني ذلك استمرار خط التحديث بتصاعد ، حيث سنجد في تجارب شابة لاحقة نكوصاً لمناخ الجيل الشعري الأول من كتاب قصيدة النثر ، فالعبارات المتوترة المكثفة ، والاعتماد على المفارقة ، واستغلال طاقة النثر في التداعي الحر ، والاسترسال (وليس التعيّنات السردية) هي أبرز خصائص ما يكتبه عادل أبو زينة ومحمد القعود ومختار الضبيري (في نص واحد منثور في ديوانه الأول) حيث يعتمد هؤلاء على التركيز والتكثيف بشكل واضح مما يصادر امتداد أبنية قصيدة النثر واسترسالها السردي آتساع وحدتها الدلالية .
وتقف نادية مرعي مترددة بين السرد واستخدامه كمنظور للرؤية والتعبير في قصائدها النثرية ، وبين الاتجاه لإعلاء الفكرة وتأخير ما سميته ( العناية اللغوية ) ، وتركيز وجود اللغة لا كوسيلة تعبير ناقلة للأفكار .. بل كجزء من بنية النص الأساسية .. ويشاركها في ذلك أحمد السلامي الأقرب إلى مناخات الكتابة الجديدة رغم التشدد في تقييد جملته الشعرية وتحفظاته الواضحة على إطلاق حرية الأسلوب في كتابة قصيدة النثر ، وفي منطقة ليست بعيدة عن السلامي ، تقف تجربة جميل حاجب في ديوانه الأول الذي لم يخل من توجهات وتوق للانطلاق إلى آفاق أوسع في كتابة قصيدة النثر ، لم تجد تحققها التام في الديوان ، وإن أشارت إلى تجربة طيبة في استثمار تقنيات قصيدة النثر وجمالياتها.
ومع نصوص نبيل سبيع المتابع والمتأثر بقصيدة النثر العربية في آخر حلقاتها وأحدث موجاتها ، وانهماكه في كتابة نص حديث لا يمتثل لمعايير مسبقة أو مستقرة لغوياً وصورياً وهو ينقوق على نفسه في متوالية نصوصه وحداثتها القائمة على مركز لغوي يمنح كتابته جدة وتميزاً ، وبذا نجد أن قصيدة النثر في اليمن تدشن اتجاهاً يتكتل صوب التحديث دون حدود ، وهذا ما نراه في قصائد عمار النجار خاصة ، وإياد الحاج وطه الجند في النصوص القليلة المنشورة لهما ، وتستوقفنا تجارب هؤلاء الشعراء في مطبوعتهم الطليعية ( طيارة ورقية ) وما ينشرون من نصوص تمتثل لتقاليد قصيدة النثر في أحدث موجاتها من حيث تصميم النص وضبط إيقاعاته الداخلية وحرية المخيلة ، والعناية باللغة ، وحضور الذات في النص بوعي ، وإنجاز جمالية خالصة متحصلة من ذلك كله.
وإذا كنا قد أخرنا الحديث عن أول نصوصنا المختارة (للمقالح) فإنما لنشير إلى موقف معتدل وواعٍ من قصيدة النثر . فالمقالح رغم تجربته الشعرية الطويلة والراسخة كإحدى التجارب المبكرة في القصيدة الحرة العربية وأولى التجارب الحديثة في اليمن ، لم يتحفظ على قصيدة النثر شكلاً شعرياً أو نوعاً كتابياً كما أشرنا من قبل ، بل تجاوز موقف التحفظ كما يصرح في كتابه (قراءة في أدب اليمن المعاصر)(37) مرجعاً ذلك إلى ما أنجزه كتاب القصيدة النثرية في اليمن من نماذج (أكثر تجاوزاً وشعرية) وإذا علمنا أن موقفه هذا مسجل ومنشور منذ منتصف السبعينيات ، أيقنا أنه أضاف دعماً نظرياً هائلاً لكتابة قصيدة النثر ، بل أخذ يقترب من تجارب كتابها ، مؤرخاً لسيرورتها العربية ومراحلها التي مرت بها منذ مطلع القرن العشرين ، معرفاً بتجارب الريحاني ومي زيادة وباكثير ولويس عوض وغيرهم ، وصولاً إلى تجارب الماغوط ، كما يناقش المقالح على مستوى نظرية الأدب قضايا وإشكالات مهمة كصلة قصيدة النثر بالتراث وموقفها من اللغة ، كما يعرف بكتابها في اليمن ويقترب نصياً محللاً تجاربهم .. فلا غرابة إذن أن يكتب المقالح بعد سنين نصوصاً نثرية في أعماله التي تشكل سلسلة أو متوالية ، وهي (كتاب صنعاء) و (كتاب القرية) وهذه النصوص في الكتابين تلي المقاطع الموزونة ، وتشكل معها ثنائية تشبه تماثل أو تناظر الضوء والظل في اللوحة ، فهي ذات وجود أساسي لا هامشي ، وإن جاءت تالية للنصوص الموزونة ، مميزة عنها بلون الحرف المغاير، وموضوعة بين أقواس ، ومفصولة عنها بنقاط حاجزة أو مسيجة لحدود النصين ، كي ينبه القارئ إلى تغير الإيقاع وما يتطلبه من تغير أفق قراءته .
المقالح مدرك إذن لوظيفة قصيدة النثر ، ومستثمر لجانبها السردي خاصة ، فبعد أن تهدأ الوزنية المسيطرة على الأجزاء الأولى من النصوص ، تتقدم قصائد النثر بهدوء ، لتوازي الأجزاء الأولى ، كما يستثمر المفارقة أو التقابل الضدي ، ففي نصنا المختار (من اللوحة الخامسة والسبعين من كتاب القرية) يتوازى أمس القرية ويومها وغدها، وتقف براءتها (أرضها وتلالها ومنحدراتها وألوانها وأطيافها) بمقابل هجوم العصر الجديد الذي جاء بالمبيدات والقنابل وأكياس البلاستيك ، خالقاً (مستنقع الموت الصناعي) الذي تنفر منه الطيور خوفاً ورعباً .
وأحسب أن نثريات الكتابين تعزز رؤية المقالح للأشكال الشعرية ، فهو يدعو لاستثمارها دون احتراز ، حيثما يجد و يرى الشاعر ذلك مناسباً ، باعتبار أن الشعر يوجد في الأشكال كلها ، ويؤكد ذلك انتباهه (في المقتطف الذي وضعناه في مفتتح كتابنا) إلى لغة قصيدة النثر التي يصفها بالإشراق ، وإلى إيقاعها الداخلي البديل للموسيقى الوزنية ، وإلى تركيبها الدرامي أيضاً .
 
الكتابة المغايرة : أسئلة مفتوحة على فضاء مجهول
 
إن أي تعريف بالكتابة الشعرية الجديدة سوف يصطدم بإشكالية الوصف ، أي نعت الموصوف (الذي هو الشعر دائماً) بأحب الأسماء إلى قلب كتّابه .. فهو الحر والمنثور والمنظوم والعمودي والطلق ، لا باعتبار هوية كاتبه ، ولا بالرجوع إلى (مزايا) قارّة في الشعر نفسه ، بل بالمقايسة إلى ما سبقه .. وما أستقر في ذخيرة القارئ أيضاً من خبرة بالنوع الشعري السائد .
هكذا تبدو صفة (المغايرة) ظرفية تنتسب إلى (الآن) الذي اجترحها الوصّافون فيه ، وتتهيأ في اللحظة ذاتها لتقابل ما يغايرها الذي  ينتظر– وهو في رحم ميلاده – ما سوف يغايره هو الآخر .
يتضح لنا إذن أن تاريخ الشعرية يمكن تلخيصه بالمغايرة . صحيح أن ثمة (شعراً) يراكم خطياً ما سبقه في جنسه ، وهذا لا يدخل في مناسبة المراجعة الشعرية التي تفرضها مناسبة الألفية التي نحن بصددها الآن ، ولكننا نعني ذلك الشعر (الانشقاقي) الذي يهز أفق متلقيه ، ويقدم له إمكان وجود الشعر في غير ما ترسخ في ذخيرته القرائية ، أو ما ورثه من أعراف وقيم شعرية .
تلك اللحظة الانشقاقية هي التي تنتج الهزات الكبرى والتحولات الأساسية في الكتابة الشعرية .. وهي التي تمنح صفة (المغايرة) بعدها المنطقي ، حتى لتغدو هذه المهمة جمعية لا فردية ، في بعض مفاصل التحولات الجذرية (مثال ذلك : شعر التفعيلة الأربعيني في العراق ، وقصيدة النثر في موجتها الريادية الأولى في بيروت أواخر الخمسينيات) . ولكن مهمة المغايرة تلك ، ستظل في المقام الأول : ذاتية ، ينجزها الشاعر بنفسه ، ووفق برنامجه النصّي الذي أنطلق من الاقتناع بجدواه .. وفي تلك اللحظة التي تغدو فيها المغايرة (وظيفة) شعرية شائعة ، فهي تهيئ أسباب اندثارها ، وتبرز جدوى ظهور ما يغايرها .
تلك الأسطر التمهيدية تريد القول اختصاراً أن المغايرة ليست ميزة شعر لحظتنا الراهنة فقط ، فإن التجاوز والمغايرة والانشقاق حاصلة (نسبياً) في عصور الكتابة الشعرية كلها ، أمرؤ القيس مغاير لمن سبقه ، وعمر بن أبي ربيعة لتراثه ، وأبو نواس لعادات معاصريه ، وأبو تمام للغة عصره وصوره ، والمتنبي للكتابة كلها ، والمعري لعصره … وهكذا تتلازم سلسلة المغايرين والمنشقين والمتجاوزين حتى تصل إلى شعر الإحياء والنهضة الحديثة ، عبر شوقي والشابي ، وأبو شبكة وجبران ، حتى جيل التجديد الأول (السياب ومعاصريه) الذين تؤكد نصوصهم التجديدية  ما كان عليه أفق رؤيتهم للشعر ومقترحهم التحديثي المحدود بوعيهم ولحظة انبثاق حداثتهم .
وفي انتقال أفق الكتابة الشعرية إلى ما هي عليه ، لابد من ملاحظة ذلك المحصول الذي لا يظهر إلا ضمن خلايا القصيدة الجديدة وحجيرات دمها …
فهي لا تتـنكر بل تنسى ، في لحظة جدلية افتراضية ، لكي تستأنف القطعية ، وتعطي دفقاً أخر لما آلت إليه القصيدة العربية .. أي أن افتراقها في لحظة النسيان هو افتراق تكتيكي أو إجرائي .
سأتوقف كذلك عند مصطلح (الكتابة) الذي صار إشارة إلى عمل الشاعر ، وساعد على وجود متغير آخر في المفهوم ، فالشاعر لم يعد عمله (نظماً) ولا (إنشاداً) أو (قولاً) . إنه (كتابة) بما يحمله ذلك المصطلح من أعراف لازمة ، على القارئ أن يستعد لها وهو يعاين المقروء المعروض عليه – بمعنى أن هذه (الكتابة المغايرة) تستدعي (قراءة مغايرة) ، ترى في الشعر أعرافاً جديدة ، وتقنيات لابد من مراعاتها ، سواء تلك التي تتبدل على مستوى الخطاب كله (لغة وصوراً وإيقاعاً) أو تلك التي تتعلق باستدعاء (والاستعانة بـ) المتاح من لوازم الكتابة ، كعودة علامات الترقيم ، واستثمار فضاء الورقة ، وتغيير المفهوم البلاغي للشعر ، بتعزيز كناياته ، والتركيز على الانزياحات ، إلى جانب تحول مهم لابد من مراعاته عند القراءة ، وهو الظهور السردي للنثر في القصيدة ، فأغلب ما نقرأ من كتابات مغايرة تستند إلى (وتنطلق من) تعينات سردية ، لا أود أن يفهم البعض أنها بذاتها التي تعمل في القصة أو الرواية وسواها من المتون السردية ، فتلك سذاجة دون شك ، لأن استضافة القصيدة لعناصر القص كالتسميات وتحيين الأزمنة وتعيين الأمكنة ، والالتفات إلى الأحداث والربط المنطقي بينها ، لا تعني جعل القصيدة سرداً خالصاً ، بل إن لكل تلك العناصر المستلفة من السرد وجوداً جديداً في القصيدة .. فالسؤال اليوم كما تقول أحدث الدراسات حول قصيدة النثر هو ، لماذا كتب الشاعر نصه هذا نثراً ، وماذا أضافت إليه كتابته نثراً ؟
سنقترب الآن من مناسبة هذه الاستطرادات حول المغايرة ، فقد تحدثنا قبل أعوام عن موجة ثالثة (عربية ومحلية) في كتابة القصيدة الجديدة ، وقدمنا نماذج مختارة تعزز توصلاتنا النظرية ، لكننا بعد هذه السنوات نجد أن الكتابة الشعرية توغل في مغايرتها والابتعاد عن الأصل الذي تغايره .
وسأحيل القارئ إلى استفتاء (القدس العربي) الذي شارك فيه عدد من (الشعراء الشباب في اليمن) – 27 ، 28 ، 29 / 11/ 2000م – والذي كان له عنوان دال هو (تبدل النموذج المعرفي وتغير المرجعيات والمؤثرات) ففي هذا الاستجواب قاسم مشترك يؤكد الحنين إلى مرجعيات ثقافية أخرى ، والاستناد إلى نموذج معرفي مغاير ، ومؤثرات جديدة .
وإذا تركنا الإجابات إلى النصوص –  لأن الإجابات لا تخلو من نزق استعراضي أو إعلان عن الذات أحياناً – فسنجد أن الكتابات الجديدة لا تحيل ، كما لدى الستينيين مثلاً إلى أدونيس كمؤثر ، بل علينا أن نتعقبها لدى وديع سعادة مثلاً ! وهي لا تشير إلى سان جون بيرس أو بودلير كمرجعية غربية كما كانت لدى أدونيس وجيله ، بل إلى جاك بريفير وهنري ميشو ، وهي على مستوى الخطاب لا تعتمد التشبيهات واللغة الناصعة أو الإيقاعات الواضحة ، بل تحتمي بالسرد وظهور الأنا الشعرية ، والخلخلة أو البلبلة اليقينية في كل ما حولها من أشياء العالم ، وهي تهرب إلى البصر كثقافة وصور ولغة ، هجرانا للوصف والتقرير والغنائية .. وتكريساً للمقروء المتجه إلى الاستيعاب والتمثل أو الإدراك البصري للنص ، وما يسمح به من تقنيات مصاحبة باتت متداولة ومعروفة .
ذلك بالطبع سيؤكد حسم الهوية الفنية والأسلوبية لهذه الكتابة، فهي تختار النثر شكلاً نهائياً ، ولا تتردد في ذلك أو ترتد عنه .. وهي تشكك في أي ميراث سابق أو مؤثر ، وذلك واضح في الفقرة الخاصة – في الاستفتاء – بالنقد ، وما يقدم من خدمات لهذه الكتابة التي تتكون وتتخلق في هذه اللحظة .
ولعلّي هنا بحاجة إلى (مغايرة) ما قرأت من إجابات حول النقد ودوره ، فالخطأ نفسه يتكرر مع الأجيال الشعرية الأخيرة ، إنهم يريدون خدمات مباشرة من النقد لنصوصهم ، متناسين ما يقدمه النقد من مهاد نظري وتحولات أساسية ، وأنه ما كان يمكن لكتابتهم كلها أن تظهر لولا الكد النقدي والحرث الصعب لهذا البذار الذي سيؤتي ثماره في الأيام الشعرية اللاحقة .
الأسماء التي تتقدم الآن إذن باسم الكتابة المغايرة ، ستكون بحاجة إلى وعي مقابل من القارئ ليدرك أن :-

  • -النصوص التي يعاينها هي (كتابة) شعرية ، فيها من الكتابة رسومها وبصرياتها وسردها ، وليست (قولاً) أو (عملاً شعرياً) أو نشيداً ؛ لكي يتلقاه بسمعه ، ويحيله إلى ما درج عليه في قراءاته السابقة .
  • -وأنها (مُغايِرة) بمعنى الانشقاق والرغبة في التحول .. سواء أكان ذلك قد تم إنجازه أم ظل وعداً بعيداً .
  • -وأن المؤثرات والمرجعيات والمعارف المسلّطة أو (المتسلطة) على النصوص الجديدة ، جديدة هي الأخرى .
  • -وأن تراثها المُقصى أو المنفي هو الآخر مندرج في نهر حداثي لا يكف عن الجريان .
  • -وأن هذه الموجة أو (ما سيصل منها إلى الشاطئ) سترينا إمكان ديمومة التحديث الشعري ، تلك المهمة التي تغدو في لحظة من لحظات وجود (العربية) ، لغة وكياناً ، من ضرورات وجودنا وهويتنا ، كياناً ولغة .. وإبداعاً .

 
التسعينيون : القطيعة والانفتاح
 
يؤشر القاص اليمني الشاب (أحمد زين) في مقالة له حول (قصيدة النثر التسعينية في اليمن)(38) مرحلة جيلية يرى تجلياتها
– من ضمن مبررات تأشيره لها – في صدور بعض الدواوين وإنجاز العديد من التجارب كما يقول .
ولأحمد زين أسبابه التي تبرر حماسته لهذا الجيل الذي يرى أن قصيدته (تحاول طرح قيم جمالية أكثر اقتراباً ، مع المحافظة على خصوصيتها وهويتها) .
إننا نلمح في هذا التشخيص محاولة لعزل تجارب قصائد النثر اليمنية عما أسماه زين (النماذج العليا) ، ويقصد بها التجارب العربية في هذا النوع ، وذلك ما نخالفه فيه ، انطلاقاً من اعتقادنا بأن مشروع الحداثة – وقصيدة النثر إحدى تجلياته وأبرز مظاهره – هو مشروع موحد ، لا تفصله حدود ، لأنه ثقافي وفكري في المقام الأول ، لكننا نوافق الكاتب على ما شخّصه فنياً وجمالياً في تجارب قصيدة النثر التسعينية ، لاسيما في وصفه زاوية النظر واللغة ورصد موقع الأنا والصلة بالموضوع ، فهو يشيد باقترابها من الحياة اليومية وتفاصيلها ، أمكنة وأشياء وشخصيات ، ولعله بذلك يؤكد النزوع السردي لقصيدة النثر التسعينية ، بمقابل النزعة الإنشائية أو الوصفية في تجارب الجيل الأول من كتابها .
وثاني التفاتات الزين التي أشّرتها بدوري في معالجات نقدية سابقة : انطلاق شعراء قصيدة النثر من تجربة كتابتها أولاً ، وحصر جهدهم فيها دون سواها من الأشكال الشعرية الأخرى ، فكأنها تُجسد اختيارهم الواعي والقصدي ، بل ذلك – في ظني – جزء من استراتيجيات فكرهم الشعري وثقافتهم ، وليس تكتيكياً فنياً أو انسياقاً للحظة الكتابة السائدة أو ( الموضة ) الفنية .
اختيار قصيدة النثر لدى التسعينيين إذن تعبيرعن موقف ثقافي أولاً يعلنون فيه – وأنا هنا أتوسع من ملاحظات أحمد زين الذكية والدقيقة – قطيعتهم مع الكتابة الشعرية السابقة عليهم ، وتردد شعرائها في اختيار قصيدة النثر . لكن تلك القطيعة تتسع لتشمل (انقطاعاً) يتوجس منه مراقبو الكتابة الشعرية من النقاد، والقراء المهتمون ، أعني الانقطاع عن المحيط الفني والفكري للكتابة الجديدة . فكثيراً ما نلاحظ ضعف الصلة بالنتاج المماثل في الأقطار العربية تواصلاً وتداولاً ، وهنا تلعب عدة عوامل دوراً بارزاً في ذلك الانقطاع ، ومنها ضعف الاتصال الثقافي ، والتداول المحدود للنشر ، إضافة إلى كسل بعض الشعراء وعدم المحاولة  الجادة بالقراءة والمتابعة لتوسيع أفق قراءاتهم وخبراتهم ومعارفهم.. هنا تصبح المطالبة بالانفتاح على جديد الشعر العربي (كما يسميه أحمد زين) ضرورية وقائمة ، بل تصبح المقابل الضروري لتلك القطيعة التي تتأسس وتتسع إزاء آليات الكتابة الشعرية السائدة .
وسيلاحظ قارئ كتابنا أن الموجة الأخيرة – وهم التسعينيون تحديداً كالمقري والشيباني والزراعي وعبد الوكيل السروري وهدى أبلان والسلامي وحاجب ومحمد المنصور وبو قاسم وأبو زينة وأقرانهم – يتمثلون كل بطريقته ودرجة كفاءته وخزينه اللغوي والثقافي ، وحدود رؤيته ، منجزات قصيدة النثر العربية – والعالمية إلى حد ما وعبر الترجمة غالباً – ويجربون إمكاناتها والمتاح من آلياتها لرصد ما حولهم ، وهو في رأيي أبعد من حدود آستثمار مفردات حياتهم اليومية كالشخصيات والأحداث والأشياء والأزمنة والأمكنة ، لأنهم يحتكون بما حولهم كونياً أي بالنظر إلى عمق الأشياء ودلالاتها، وإلى ظواهر الحياة والموت والحب وتنويعاتها ، وإن ظهر لنا أحياناً احتفاء حاد منهم بالمسميات أو الموجودات المهمشة والمقصاة ( لدى الشيباني خاصة والمقري في بعض قصائده) لكن تجارب أخرى تميل إلى تجريد التصادم مع الواقع ورفضه ، واشتقاق مواقف (وجودية) بالمعنى الانطولوجي تصالح الإنسان مع الطبيعة، كما يحصل في قصائد أحمد الزراعي بشكل واضح .. وبين الإنسان وتاريخه وذاكرته كما في تجربة محمد المنصور .
وذلك الاختلاف سيجعل أسلوبيات الكتابة مختلفة أيضاً  وليست متناظرة أو متشابهة لحد التطابق ، كما يساق الاتهام ضدهم في العادة .. فثمة قصائد تميل للتركيز والتكثيف في إطار الحكمة وفي أنساق عقلانية مجردة ، بينما ترتكز قصائد أخرى على السرد والأبيات الطويلة ذات الطابع السطري والجمل الشعرية المتلازمة في تدوير جديد ، لا يعتمد الموسيقى رابطاً عضوياً كما في التدوير الشعري الحر ، وإنما في تلازم العبارات وتسلسلها الإيقاعي وتأديتها لدلالة مشتركة أو واحدة ، فضلاً عن اللغة الأليفة ذات المفردات المموهة التي تخفي دلالات عميقة حادة التعارض ، بينما هي تقدم نفسها ببراءة ، وبساطة . وسوف يتأكد هذا المنحى في قصائد لشعراء أكثر فتوة في هذا الاصطفاف التسعيني مثل نبيل سبيع وعمار النجار وإياد الحاج ومحمد محمد اللوزي . فإضافة إلى السرد في قصائدهم والتركيز اللغوي ثمة هاجس بالضدية و الإنشقاق ، يشكل بؤرة الشعر في تجاربهم ويؤطرها بما يجعلهم مميزين عن سابقيهم .
ولعل الكتاب النقدي الأول المعبر عن فكر هذه المجموعة التسعينية أعني (الكتابة الجديدة – هوامش على المشهد الإبداعي في اليمن) لشاعر من المجموعة نفسها هو أحمد السلامي ، يؤكد توصلاتنا الآنفة .
فالسلامي في أحد مقالات الكتاب يؤكد المسؤولية الذاتية في إنجاز مشروع الحداثة عبر قصيدة النثر التي لم تعد ” إطاراً عاماً للاشتغال الشعري ” يجمع المنضوين تحته ، فنحن الآن – يقول السلامي – ” بإزاء تجارب فردية مهما برزت الأطر الفردية التي نتوهم أنها تجمعنا “(39) ولذلك يرفض السلامي في مقالته تلك أن تكون كتابة قصيدة النثر – أو الكتابة الجديدة بتسميته – ” نابعة من الاستجابة لمحفزات من خارج الكتابة نفسها ” ويضرب لذلك مثلاً بالكتابة الجاهزة ، ويعني بها المتمثلة لأنماط شائعة أو الممتثلة إلى موجهات خارجية .
لكن السلامي نفسه يتحدث عن صفقة تسعينية واحدة حين يتحدث في مكان آخر من كتابه عن جيلهم الذي يرى أنه بلا آباء ، مما سيدفعهم إلى الانتماء لأسرة غريبة الجغرافية من جيل أسبق، يسمّي منهم العراقي سركون بولص والأردني أمجد ناصر واللبناني عباس بيضون واللبناني المهاجر وديع سعادة ، وبالمقابل ينفي استفادة جيله من تجارب الموجة الأولى من شعراء قصيدة النثر اليمنية كالفخري والمساح واللوزي (حسن) والربيع والرازحي .
ويثير السلامي هنا مسألة تبدل المرجعيات والمؤثرات . وهو أمر بديهي أشرنا إليه كثيراً ، بل هو أبرز العلامات الفارقة لجيل قصيدة النثر العربية التسعيني كله ، فإذا كان أدونيس وأنسي الحاج والماغوط وسواهم قد أثروا في الجيل التالي من شعراء قصيدة النثر ، فإن من الطبيعي أن تتبدل الأسماء والمراجع لدى الجيل الثالث . وهذا ما أعلنه السلامي وما رصدناه في دراسات سابقة .. وهو أمر مشترك ينفي التميز التام والعزلة في تجارب التسعينيين ، لكنه لا يعني تشابههم لحد الاستنساخ ، كما يوحي بعض ناقديهم .
وإذا كنت أخالف السلامي اتهامه للمشهد التسعيني (بالارتباك) وبالتردد ، وعدم حسم اختيار الشكل الجديد (قصيدة النثر) نهائياً بدليل النصوص المتقدمة في هذا المجال وتطوير التجارب عبر الكتابة الشعرية المستمرة خلال السنين الأخيرة .. فإنني سأوافقه على أن من أسباب ذلك (الارتباك) – كما يقول – هو غياب فاعلية النقد وعدم إسهامه جدياً في رصد التحولات الأسلوبية ودراستها نصياً ، ورتابة الذائقة التي تتلقى النصوص الجديدة بمعايير النظم السابق فترفضها وتعاديها وتحرّم كتابتها.. لكنني أرى أن اختيار الشاعر لأسلوب كتابته تقليداً أو تجديداً أو تحديثاً هو أمر تفرضه طبيعة التجربة ، وحدود الوعي بالشعر نفسه ، ورؤية الشاعر وإيقاعه الذي يعكس فكره وموقفه .
وبهذه المعاينات والمقاربات ستتبلور هوية خاصة لشعراء التسعينيات ، تظل مسؤوليتهم الأولى – قبل قرائهم ونقادهم – في عملية ترسيخها عبر النصوص ، ومواصلة مشروع التحديث إلى أقصى مدى ممكن .
وستكون تجربة (طيارة ورقية) التي أصدر عدديها – حتى الآن – شعراء وقاصون وكتاب وفنانون تسعينيون ، إحدى ملامح المشروع الجديد ومظاهر بلورة الشخصية الأسلوبية المميزة للكتابة الجديدة .
 
خاتمة
عن البدايات والوعود
 
بذرائع المستقبل ، وعبور مرارات الحاضر وخسائر الماضي ، نهضت قصيدة النثر . لذا فقد كسبت شباب الكتابة ، دون قياس الأجيال والأعمار . وهكذا استمدت شرعيتها من بداهة التطور وحتمية التحول والتجاوز . ولا أشك في أن ثمانية وثلاثين صوتاً ونصاً جردها البحث ، تمثل ظاهرة جديرة بالتأمل والتحليل .
لقد لمسنا بدايات ، ووقفنا عند تحولات ، وأشرنا إلى بشارات ، لكن الأهم من ذلك هو التعرف على ما يهبه خطاب قصيدة النثر من ملموسية على مستوى البناء والدلالة والإيقاع واللغة والهيئة الكتابية .
إن ديوان (قصيدة النثر) العربي سوف يثرى بجملة من هذه الأصوات .. بإضافات عبد الودود سيف والرازحي وهيثم وشفيق .. وبمستقبل الشيباني والمقري والزراعي والمنصور و وعود سبيع والنجار واللوزي .. ولا أشك في أن النقد الأدبي المتسلح بالمنهجية والرؤية معاً : سيكون مجحفاً إن لم يتوقف عند هذا النسغ الحي في شجرة الشعر الوارفة ..
ولهذا سأجعل الخاتمة مفتوحة لأية إضافة أو تعديل أو تغيير .. ففي الشعر لا ندري من أين يطلع الزلزال ولا كيف يخمد البركان أو تمطر السحب (40) لكننا متيقنون أن رحم الشعر ولود .. وكونك شاعراً يعني أنك حديث الصوت واليد واللسان .. وأنك لا تكف _ كالنمر الحبيس _ من الوثوب متطلعاً إلى الأعلى.. وإلى سماوات لم تسكنها بعد نجوم ..
 
خامساً : الهوامش :-
 

  • قصيدة النثر والشعر العربي الجديد : حاتم الصكر، مجلة فصول ، القاهرة – العدد الثالث خريف 1996م ، ص 74 وما بعدها .
  • لاحظ الغربيون أنفسهم ما في مصطلح قصيدة النثر من تناقض وبلبلة ، تنظر : سوزان برنار : قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا ، ترجمة د. زهير مغامس ، بغداد 1993م ، ص 19 . وجان كوهين : بنية اللغة الشعرية ، ترجمة محمد الولي ومحمد العمري ، الدار البيضاء 1986م ، ص 11 . ويقترح كوهين تسميتها (قصيدة دلالية) . وعربيا –ً يشير – أدونيس إلى تناقض مصطلح قصيدة النثر ، رغم أنه هو الذي أستخدمه أول مرة ، ويقترح مصطلح (كتابة الشعر نثراً) . يراجع : أدونيس : مقدمة الطبعة الرابعة لأعمال الشعرية الكاملة ، بيروت 1985 ص 5 وينظر : محمد لطفي اليوسفي : أسئلة الشعر ومغالطات الحداثة  ، مجلة نزوى ، مسقط ، العدد الخامس يناير 1996م ، ص 71 . والدكتور عبد العزيز المقالح يشير إلى ما في التسمية من ضدية وتنافر وتناقض في دراسته (من الجديد إلى الاجد) ،  مجلة أصوات ، صنعاء – العدد الأول، خريف 1993م ، ص 16. وسبق له أن أعترض على المطلح في كتابه أزمة القصيدة العربية – مشروع تساؤل ) بيروت 1985م ، ص 73 . وينظر : حاتم الصكر : مالا تؤديه الصفة ، بيروت 1993م ، ص 33 لملاحظة تناقضات المصطلح والمفهوم والإجراء في هذا المجال . ويسميها محمد جمال باروت : (القصيدة النثرية) في دراسته الأولى .(الشعر يكتب أسمه)، دمشق 1981م، ص 49 .
  • يؤكد جبرا إبراهيم جبرا والتموزيون عامة ، أهمية (الرؤيا) في القصيدة ( الجديدة الحرة والنثرية) يراجع : محمد جمال باروت ، ص 16 و 53.
  • يشير الدكتور المقالح إلى الخلط بين النثر الشعري وقصيدة النثر في مراحلها الأولى ، يراجع : المقالح : قراءة في أدب اليمن المعاصر ، بيروت د. ت ، ص 6 وما بعدها .
  • مصطلح (القصيدة الأجد) للمقالح يرد في كتابه (أزمة القصيدة العربية) ً 71 –78 ويستمر في استخدامه لاحقاً . تنظر : دراسته في عدد (أصوات) الأول ، مصدر سابق ص 11 وما بعدها ، وحول مصطلح المقالح تراجع دراسة د.علوي الهاشمي : النص الشعري الجديد في أبعاده التواصلية العامة ، مجلة البحرين – المنامة ، العدد 11 يناير 1997م ص 30 . ودراسة د. عباس توفيق رضا (قصيدة النثر في نقد عبد العزيز المقالح) ضمن كتاب (الحداثة المتوازنة) تحرير : د. إبراهيم الجرادي ، دمشق 1995م ، ص 161 .
  • سوزان برنار ، ص 18 ، 142 ، و د.عبد العزيز المقالح : من الجديد إلى الأجد ، ص 13.
  • برنار ، ص 161 وباروت ، ص 53.
  • ينظر في (الحداثة المتوازنة) مقال د. ثابت محمد بداري : عبد العزيز المقالح وتأصيل النقد الأدبي الحديث في اليمن ، ص 122 . ويشير المقالح إلى زوال تحفظه الأول على قصيدة النثر ، في كتابه (قراءة..) ص 22 وحول مبرراته التحفظية الأولى ، يراجع عباس توفيق : قصيدة النثر في نقد عبد العزيز المقالح ، ص 156في (الحداثة المتوازنة) .
  • عصام محفوظ : المقالح بالنثر والشعر إلى بهو العصر ، في كتاب الحداثة المتوازنة : ص 87-88 .
  • المقالح : قراءة – ، ص 73 .
  • مقابلة جهاد فاضل مع عبد العزيز المقالح ، نقلاً عن دراسة د.عباس توفيق في الحداثة المتوازنة ص 159.
  • أزمة القصيدة ، 103.
  • قراءة ، ص 26-28.
  • نفسه ، ص 33.
  • عبد العزيز المقالح ، قراءة ، ص 73 .
  • المقالح : البدايات الجنوبية – قراءة في كتابات الشعر الشبان ، بيروت 1986، ص 137.
  • أزمة القصيدة : 74 .
  • مجلة أصوات – العدد الأول – والثاني .
  • أصوات – العدد الثاني ، ص 16.
  • أصوات – العدد الثاني ، ص 16.
  • توثيق مصادر النصوص المختارة : في القسم الخاص من دراستنا هذه ، وسأكتفي فقط بتوثيقها في الملحق النصي ..
  • قراءة : ص 51 .
  • نفسه : ص 30.
  • نفسه : ص 67.
  • نفسه : ص 42.
  • نفسه : ص 54.
  • أصوات – العدد الثاني K ص 17.
  • نساء وغبار ، عبد الكريم الرازحي ، بيروت 1991م ، ص 103.
  • قراءة ، ص 60.
  • في ملحق (الثورة) الثقافي ، صنعاء . 18/9/1992م .
  • محمد حسين هيثم : اكتمالات سين ، عدن 1983م و قصيدته : متوازيات ، ص 125. وتراجع في الديوان نفسه : مساءات ثمود ، وهل يتسلق البحر ضفيرتها .. كأمثلة لكتاباته المبكرة .
  • نفسه ، ص 125.
  • أصوات ، العدد الثاني ، 21.
  • يراجع نصه في (أصوات) ، العدد الأول . ص 235.
  • ديوان هدى أبلان : ورود شقية الملامح ، دمشق 1989.
  • قصيدتها (الأخرى) في أصوات ، العدد الثالث ، ص 218.
  • د . عبد العزيز المقالح : قراءة في أدب اليمن المعاصر ، دار العودة ، بيروت 1977م ، ص 22 وما بعدها .
  • أحمد زين : قصيدة النثر التسعينية في اليمن ، تشوف القطيعة مع الداخل وحلم الانفتاح على جديد الشعر العربي ، جريدة القدس العربي 14 / 1 2001م .
  • أحمد السلامي : الكتابة الجديدة ، هوامش على المشهد الإبداعي التسعيني في اليمن ، مركز عبادي للنشر ، صنعاء 2003م ، صـ121.
  • يدرس علوي الهاشمي في مقالته المشار إليها في الهامش (5) ، الجوانب التواصلية في قصيدة النثر قراءة وإنشاداً . ويشير إلى ارتباط مستقبل الشعر العربي بها ، صـ24 ، وهو ما أعلنه ناقد كالدكتور إحسان عباس الذي يرى أن لا مفر من أن يقود مستقبل القصيدة العربية إلى مستقبل قصيدة النثر يراجع الهامش 16 في دراسة الهاشمي . فيما يعتبر المقالح في دراسته (من الجديد إلى الأجد) أن المرحلة الراهنة هي مرحلة الشعر الأجد . مجلة أصوات ، العدد الأول – صـ13 .

وأرى أن الكتابة والتقبل معاً لقصيدة النثر المتوفرة على قوانين هذا النوع ولما فيه من شعرية مغايرة ، أخذت تترسخ عبر النماذج المكتوبة خلال السنوات الأخيرة ، مما يلزم النقد بالاقتراب من هذه النماذج تحليلاً وتنظيراً دون تخوفات مسبقة ، مع مراعاة توفر النماذج على حدود الفن المطلوبة .
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
رؤى وتحليلات
 

  • 1- علي المقري : ترميمات النسيان :

في قصيدة (إلى أين يمضي هؤلاء ؟) يتساءل الشاعر علي المقري بتصاعد ذروي محسوب عن وجهة الولد التي يمضي إليها ثم وجهة البنت ، حتى يصل للسؤال عن وجهتنا (إلى أين نمضي ؟) لينتهي بعد سلسلة من الأسئلة مواجهاً نفسه بالسؤال (إلى أين يمضي علي المقري ؟) . وهذا التبسط مع القارئ ومع النفس هو بعض مناخات الكتابة الشعرية الجديدة التي لا تنطبق عليها حد الاختناق صدفة الوزن والقافية مما يسمح بهذه الهواجس والأسئلة التي تعكس ما يسكن الشاعر من قلق يحل محل الموضوع التقليدي أو المضمون في الشعر السائد ، وذلك يعني أن نقطة انبثاق القصيدة تكمن في أي مكان دون اعتبارات السمو أو القيمة البطولية .. وهذا ما سيجده القارئ في (ترميمات) الديوان الثاني للمقري الذي يضم قصائد مكتوبة بين عامي 1988 و 1996م .
قصائد الديوان مهداة إلى هاشم علي (أيضاً) : حيث البهجة مازالت ممكنة – كما يقول الشاعر  –. إنه ينتج شخصاً آخر للرسام هاشم علي مسكوناً بالبهجة التي تنبعث في الحقيقة من ذات الشاعر لا الرسام ، وما هي إلا انعكاس تلقيه لألوان هاشم علي وأشكاله وشخوصه كما يراها في رسومه وأعماله الفنية … وهذا ما تؤكده قصيدته القصيرة (هاشم علي) التي لا تقترب من محترف هاشم علي أو شغله الفني بقدر قراءتها الحدسية لعوالم جماعية يزج فيها الشاعر نفسه ضمن (جماعة) مقموعة :-
هكذا جاءوا
قطعونا من شجرة أبن رشد
ونفونا إلى جبل الدخان
لم يتركونا نقرأ عاداتنا
أو نتحاور في الزحام
إن هذا الرسام المؤسس – وهو موضوع عدة قصائد لشعراء يمنيين معاصرين – قد استحال رمزاً تطفو في دلالاته هموم وهواجس ومخاوف ومطامح وأحلام مشتركة ، بعيدة وعصية .
وهكذا يتأمل علي المقري البياض في قصيدته (بياض لا يكفي) فلا يجده في اليد ولا الذاكرة ، فينحني مثل زهرة عباد الشمس ليدور حول الورقة ، فيجدها هي الأخرى ناقصة :
(في الورق بياض لا يكفي الخط إذا سال منسكباً في الوحشة أو أصغر من غيمة موت تخطف الوقت وتمضي إلى ست جهات . في الورق بياض لا يكفي لست جهات) .
إن قصيدة علي المقري المكتفية بألفتها ولغتها البسيطة تخبئ شراكاً وفخاخاً لقارئها ، فهي لا تعطيه (معنى) محدداً بل تغرقه في (دلالات) متباينة للدال الشعري الواحد ، وإذ تتجه إلى السرد كاستعانة تقنية في توصيل الشعري وتجسيده نجدها تتوقف عائدة إلى أوصاف وأسئلة واختزالات وتكثيف يضيع فيها القارئ الممتثل للتعبيرية أو المباشرة الغنائية .
ولعل منجز المقري في (ترميمات) هو الجهد الجاد والبحث الأسلوبي لجعل قصيدة النثر ممكنة في زحام الأشكال وعقدة النكوص إلى النظم ، والامتثال لضغط المناسبة أو المضمون أو موضوع القصيدة ، حتى حين يكتب المقري نصاً أليفاً مثل (بعد الموت) ليتأمل ما سوف يصير إليه ميتاً ، فإنه لا يكف عن المشاكسة وصدم القارئ ، حيث سيكتشف أن الموت الذي حلم به موحش إلى حد بعيد ، وأنه مصير لا ينقذه منه الأصدقاء الذين سينصرفون بعد موته .
إلى أين يمضي علي المقري بعد ديوانه الصغير هذا ؟ أحسب أنه سيوغل في مغامرة القصيدة النثرية ذات الروح المستفزة والأسلوبية الصادمة ، مستفيداً من تأملاته التي تميزه وتحدد أبعاد قصيدته المكتنزة بالأسئلة ، المسكونة بالقلق و الاحتمالات .
وفي ديوانه التالي (يحدث في النسيان) تتأكد نزعة المقري الأسلوبية ، ويتجه داخلياً إلى الجملة الشعرية التي تفيد من عاملين متناقضين : السخرية المرة ، والتقشف اللغوي الذي ينكفئ بالجملة إلى التباسات ضمائر النحو ، والتلاعب بالزمن والفكرة ، وذلك واضح في عناوين بعض القصائد ( كأنكِ وحدي) و (صرت أشبه الذي هو أنا في المرآة) وفي عبارات مثل (حدث ما حدث / لأن هناك من تذكر ما لم يحدث / ما لم يحدث كان يحدث في النسيان) فالشاعر مشغول برصد حالة مستعصية على الوصف ، لذا يختار ما يناسبها من المستعصي والمعقّد من العبارات لتجسيد تلك الحالة التي تضعه على حافة الإمكان ، وتجر القراءة أيضاً إلى هذه المنطقة الاحتمالية .. أما السخرية فتتضح في قصائد مثل (طريقة في العد) و (دروس خصوصية في الحرية) بل في الإهداء الموجه لأصدقاء لم يكونوا كذلك ، ولأعداء لم يكونوا أعداءً أيضاً ! .
ولا تخفى على القارئ أحاسيس الخيبة والانكسار التي تؤطر تجربة المقري ، وتجعله يختار أسلوب السخرية والعبث اللغوي والفكري كأساليب ملائمة لما يريد تصويره .
وظلت جملة المقري الشعرية محتفظة بألفتها وبساطتها وانبثاقها من السرد دائماً ، مع إطار سردي مهم هو حضور القارئ كمخاطب يتبسط معه الشاعر ويسحبه إلى كمائن قصائده ليقاسمه معاناته وأزماته وخيباته وأحزانه .. كما يشاركه اعتراضاته على عالمٍ قاسٍ ، لا يحصل فيه إلا ما هو آيل للنسيان ، وحادث فيه .
 

  • 2- محمد حسين هيثم : استدراكات شعرية على حفلة الوهم

في آخر دواوينه المكرس لقصيدة النثر (استدراكات الحفلة) يتأكد الخط الأسلوبي للشاعر محمد حسين هيثم الذي عرف بتنوع كتابته : شعراًُ موزوناً وقصائد نثر ..
لكنه في ديوانه الجديد يؤكد ذلك الخط المعتمد على الانطلاق دائماً من (فكرة) هي تنوع لمضمون أو موضوع شعري .. فهيثم لا يبدأ من اللغة وكمائنها وحيلها وبلاغاتها .. اللغة عنده تلي فكرة أو ثيمة موضوعية مغيّبة باستعانات تصويرية غير منفصلة عن خطط النصوص المعتمدة على التكرار غالباً ، وبناء نسق شعري متصاعد بمعقولية ، وتناميات مدروسة ليس فيها مجانية أو ارتجال .
في قصيدة (تمويه) يعاين الشاعر بضمير المتكلم بلوغه الأربعين من العمر ، وهي قصيدة تصلح للتعرف على آليات عمل هيثم شعرياً ، فهو يكرر جملة (إنها الأربعون) ليبدأ بها مقطعاً شعرياً قصيراً :-
إنها الأربعون
أولى الكبوات
إنها الأربعون
كيف أمرّ ؟.
ويخلق إيقاعاً يوحي بالانتظام عبر هذا التكرار المقصود ، لكنه يخدم بواسطته نمو النص بدءاً من زمنية اكتشاف (أربعينه) حيث يحددها في مفتتح نصه بالبارحة حين يكتشف أنه (سقط) في الأربعين ولم ينهض بعد .. كما تخدم اللازمة المكررة اختتام القصيدة أيضاً إذ ينهي الشاعر نصه بالقول :
سأموّهني
وسأردم
الأربعين :
بطيش قليل
وبحذاقة فتية
ولن أعدّ أبداً
إنه يقترح حلاً طريفاً ، فللاختباء من زحف السنوات وهي تقرض العمر المفترض ، لا حل سوى أن نتوقف عن العد تماماً ويتضح في الديوان منظور الشاعر للأشياء العابرة في حياته اليومية ، فهو  – وعبر تجربته الطويلة نسبياً في الشعر بين أقرانه – لا يزال يرى في الحياة اليومية وما يتراءى من عادياتها مادة خاماً للشعر ، فيكتب – مثلاً – عدة قصائد قصيرة تحت عنوان موحد هو (ملاذات كنعانية) يلتقط أجزاءها من وجوه وأمكنة وأشياء أبصرها ورصدها في رحلة إلى الأردن ، كما تشير تواريخ وأمكنة كتابة النصوص .. وهي أشبه بصور مقربة أو بورتريهات مرسومة بالكلمات ، مقتربة من موضوعاتها أو شخصياتها .
وفي صلة الشاعر بالتراث تاريخاً وإرثاً أو ماضياً نتعرف على قراءة ناضجة ، تنبش في كسر وأجزاء من تاريخ اليمن ، يحاول التقاطها ، وإسقاط وعيه الحاضر عليها كما في نصه (عراء المكاربة) فهؤلاء مكاربة مصنوعون (من مرايانا وظلالنا ..) (أرجوان وقيافات ..) (بمدائح فولاذية ..) (يدخلون إلى نومنا) (مكاربة من رسوّ يقظتنا ..) وهي كما نرى اسقاطات وعي معاصر على وجود المكاربة في التاريخ اليمني القديم ..
هنا أيضاً نطالع التكرار الإيقاعي لكلمة (مكاربة) بعد أن جعلها الشاعر نكرة ليليها ما يشاء من انزياحات واستعارات وأوصاف ..
وفي سلسلة قصائد أخرى يتخذ (الموضوع) الشعري المغيّب شكل أمكنة يمنية شهيرة تتوزعها جغرافيا اليمن الشاسعة ، وهي قصائد تحمل أسماء تلك المدن : صنعاء ، حضرموت ، وهي مرسومة بجغرافية جديدة يبتكرها الشاعر من وعيه وشعوره المسقطين عليها .
أيضاً يمكن أن نصنّف الاهتمامات الحياتية ، كالحفلة التي استدرك عليها الديوان ، والمدن الأجنبية التي زارها الشاعر ، وقراءاته المترجمة ، وتفلسفه إزاء الزمن المرمز (بأحد الأيام) – عنوان إحدى القصائد – فتلك الاهتمامات (الموضوعية) في ظاهرها، تدل على دقة إحساس الشاعر والتقاطاته الذكية .
وهو بأناة ودون مخاطرات لغوية أو صورية يقدم مقاطع أو شرائح منتزعة من تصادمه مع الخارج بكل مفرداته ، واقعاً أو فكراً أو قوانين أو ثوابت ، وذلك ما أضمرته – لكنه أتضح – آخر قصائد الديوان ، وربما أعزها على قلب الشاعر الذي جعلها عنواناً للديوان كله ، وهي (استدراكات الحفلة) ..
ثمة حفلة إذن ، ليكن ! ولنفترض أن الحفلة حدثت فعلاً ، وتمثل منها الشاعر ما أراد من (وقائع) ، فذلك لن يلغي قراءتنا الرمزية التي تكون فيها الحفلة وهمية كالحياة نفسها ، لا شيء مما يحصل فيها أكيد أو ممكن أو نهائي ، حفلة تبدأ بالموسيقى وعطر امرأة وأشربة وبروتوكول ، ستنتهي بزنزانة وعصا معدّة (لتنقية الجلد من غبار الكحول) .
لكأنما ثمن الحفلة (وهمية أو حاصلة فعلاً) هو هذا العقاب ، فالحفلة – حفلة السفارة – موصولة بزنزانة .. وهذا هو عقاب الوجود – في – الحياة ..
محمد حسين هيثم لا يستغني عن الموضوع وإن أعطاه وجوداً شعرياً ، وخلق له مجازات وصفات وانزياحات يصنفها بخبرته الشعرية التي تتأكد من خلال لغته التي يطوعها لإيصال أفكاره ورؤاه وتصوراته .. وبهذا يحافظ هيثم على مناخ خاص به – يشاركه فيه بعض شعراء جيله مثل شوقي شفيق ومبارك سالمين ونبيلة الزبير – وهو مناخ يجلب بعض تقنيات القصيدة الحرة ، كالتكرار الإيقاعي الذي لا تخلو منه أي من قصائد (استدراكات الحفلة) ، كما أنه يستحضر الصور القائمة على التمثيل والتشبيه في إطار انزياحات أسلوبية ، تعطي لجملته الشعرية سمات الحداثة التي ارتضاها منذ ديوانه الأول ، وراح يعمقها في تجاربه اللاحقة والتي تشهد له بفاعلية وحيوية ، نفتقدها في تجارب كثيرين من زملائه وأقرانه .
 

  • 3- محمد الشيباني : تكييف الخطأ بالشعر

يطلق الشاعر محمد الشيباني عنواناً محيراً على ديوانه الأول : تكييف الخطأ ، ولكي يساعد قارئه على فك اللغز أو دفع الالتباس ، يختار على الغلاف الأخير أبياتاً تتحدث عن الخطأ وتكييفه الممكن :
أن تُقرأ خطأ
على الدوام
سببه قدرتك على تكييف سير الوهميين
كما تبتغي ضجة في الرأس
ولكن ذلك لن يزيد الأمر إلا غموضاً .. فأنت تحسب أن الشاعر هنا يقوم بتكييف أخطائه كما هو سائد في الخطاب الشعري الحديث ، لكنه يعدّ قراءة الآخر له خاطئة ، مما يسحبه إلى استنفار قدرته الكامنة على (تكييف) سير الوهميين ، لأنه كما يتبين من قراءة نص (مقايسات السيرة) أيسر من مرايا اللغة المقعرة وبلاغاتها الخادعة !
قصائد محمد الشيباني أو ( نصوصه ) كما يحب أن يصفها في ملاحظته الاستهلالية ، تعود إلى سنوات سابقة أقربها هو عام 1999م .
واحسب أن السنوات التالية شهدت نصوصاً أكثر نضجاً للشاعر ، لعل آخرها (رشيد حريبي أو مغن يحمل الأغاني مثل رفات الأسلاف) المكتوب في آذار (مارس) من العام (2002م) .
ولكن المنحنى الشعري لمحمد الشيباني يدل على تصاعد وتائر خطابه الشعري وتجلي ذلك في نصوصه – حتى المبكرة منها. – فالشيباني مستريح إلى إيقاع قصيدة النثر ، متوافق مع ما تمنحه من تخفف وانثيال ، لاسيما وأن تجربته في كتابتها لا تموه نفسها وراء باروكات لغوية أو تهويمات صورية خادعة ، بل هو يستقي دوماً من السرد بؤر انبثاق قصائده وخطوط سيرها .. وبمفاتيح السرد قرأنا (تكييف الخطأ) فوجدناه – رغم تكثيف قصائده وقصرها وتشظيتها غالباً إلى مقاطع صغيرة أو معنوية- يحاول استحضار الأشخاص والأمكنة في غالب قصائده ، راسماً لها ما يشبه البورتريهات ، ملتقطاً أدق تفاصيلها وأكثرها تعبيراً في الوقت نفسه عن أعماقها وما وراء سطوحها .
إنه يرسم صورة مقرّبة – وليست جانبية – لمدن مثل عدن وصنعاء وتعز ، تحضر فيها مشاعره ورؤاه ، وبهدي وعيه بها يرسم صورتها حتى تغدو (مدنه) هو ، لا مدن الخارج التي نمر بها جميعاً .. إنه يلتقط بذكاء أدق نبضاتها وما تخفيه شوارعها وأزقتها وتاريخها .
وفي رسم شخصيات قصائده في الجزء الذي سماه (ناس) يختار أدباء وأشخاصاً عاديين وأنماطاً بشرية بعض الأحيان (قصيدة متقاعد) ليسرد رؤاه عنهم وما اختزنه في ذاكرته . وما تضفيه ثقافته التي تتمثلها معدة قصيدته وتضخها مجدداً في خلاياها.
وربما بدت قصيدة الشيباني أحياناً لاهثة اللغة ، تجرف في جريانها مفردات عامية أو لمحات شعبية الدلالة ، وربما بدت مقطعة الأوصال بالأطر التي تحف بها كالعناوين الجانبية الكثيرة ، ولكن اللب الشعري المختفي وراء تلك القشور ينسيك تعب القراءة وما يعترض جريانها من تداعيات ذات سمة محلية .
ثمة تعريفات شعرية كثيرة واسقاطات شعورية على الأشياء في إطار شعري ذكي ، كتعريفه للوقت بكثافة وتركيز يحيلك فوراً إلى قصائد الهايكو المختزلة !
الوقت لا يُقتل بالكناية
الوقت عقرب ندهن جلده السميك
بمرهم الثلاثين
العارفة تماماً بمسالك الكتف
نصوص الشيباني تتقدم إلى قارئها أليفة وبسيطة ، مكثفة ومصفاة ، فيها رائحة الناس والأشياء والأمكنة ، وتفاصيل العادي بعد صياغته شعرياً ، دون بلاغات صاخبة أو هيجانات لغوية فارغة ، ولكن بكثير من الألم والخيبة والمرارة.
وفي ديوانه الجديد (أوسع من شارع – أضيق من جينز) الصادر صيف عام 2003م يضيف محمد الشيباني نصوصاً أخرى في بلورة تجربته التي قلنا في الحديث عن (تكييف الخطأ) إنها تتصل بالحياة اليومية اتصالاً شعرياً ، بما يعنيه ذلك من تمثل واقعة الحياة وإعادة تمثيلها فنياً .
والشيباني راض وغير متردد بشأن قصيدة النثر ، لذا فقد تبلور أسلوبه في هذا الديوان الذي جعله على ثلاثة أقسام تنبئ عنها عناوين فرعية دالة مفسرة أو متبوعة بعبارات بين أقواس :

  1. نساء (الرغبة مرسومة بحذر) .
  2. رجال (الدم يقطره الكحول) .
  3. أشياء أخرى (تصور ببهجة مفرطة) .

والعناوين تحمل اهتمامات الشاعر ، فثمة أنماط من النساء والرجال والأشياء معروضة بشفافية تمتزج فيها المرارة بالسخرية، وذلك واضح في عناوين القصائد ذات الطول الملفت ، وكأنها تفسر بطريقة تشبه السرد العربي القديم ، حين تتصدر الحكاية عبارة تنبئ عن محتواها مثل (حكاية في أن الإنسان إذا استعان بعدوٍ صار عدوه سيداً عليه) وغيرها من العناوين التراثية التي انتجتها مرحلة الشفاهية ولازمت بعض مراحل التدوين والكتابة السردية .
وسنقراً في الديوان عناوين قصائد مثل (ماذا قالت نورهان الحضرمية عن زوجها المجنون) و (وماذا قالت أخرى عن الوتر الأفريقي النائم بداخلها) و (شخص ما ندخره بداخلنا ليكذب ويصلي بثياب معطرة ..) وهي تقنية مقصودة ومطردة في الديوان ، يهدف الشيباني منها إلى خلق أثر محدد في قارئه ، هو إدماجه في غرائبية السرد الشعري الذي يقدمه له في الديوان .
بعض تلك العناوين صار من مأثور شعر الحداثة (وزناً ونثراً) مثل العطف على الاسم بأو (صالح الدحان أو الشيخ بدمه المغربل وقراطيسه) وبعضها يحيل إلى غائب أو إلى حبكة سردية ساخرة (حينما قرر تمام أكل لحمة مطبوخة) .. وهي جميعاً تؤكد الخط السردي لقصيدة النثر كما يفهمها – ويكتبها – الشيباني .
إنه – شأن هيثم – يجد موضوعه الشعري حيث يشاء ، لا يكلفه الأمر سوى الرصد والمراقبة واختيار نقطة التقائه بالقصيدة ، هي بالنسبة للقصيدة نقطة انبثاقها وخلقها ، وبالنسبة له نقطة الكتابة وإعادة الخلق .. وتقديم مخلوقاته ، وبالنسبة للقارئ نقطة التقاء أفق قراءته بأفق النص .
في الديوان تطوير لآلية الاستبطان ، فأشخاصه المعروضون (نساءً ورجالاً) وأشياء الحياة المستلة أيضاً ليست في وضع ساكن . إن أشخاصه لا يجلسون بسلام كما يجلسون أمام عدسة مصور ، بل بإحساس وحركة كما يتفاعلون مع ريشة رسام ..
هنا يكمن الفرق على مستوى الشعرية : فالمصور لا ينقل سوى اللحظة التي تحددها العدسة ، أما الرسام فيضيف انفعاله وتصوراته وهو ينقل صورة موديله .. وهذا يؤكد قول الرسام ماتيس : إن آلة التصوير جاءت نعمةً كبرى للرسامين . وأضيف : للشعراء أيضاً . وهكذا نجد لدى الشيباني أنّ النساء – مثلاً – لهن رغائب وزوايا نظر ، لذا تركهن الشاعر في ثلث الديوان الأول يجسدن تلك الرغبة المرسومة بحذر ، ولكن بضمير المتكلمة المؤنثة ، فهي التي تسرد وتوجه السرد وتحدد مصائره . وهذا يتم بعملية استبطان يوهمنا الشاعر خلالها أنه يقف بعيداً عن موديلاته المرسومة :
جسدي ليس لك
حتى لو اشتهيتك
وليس للصديقات الصغيرات
كما تظن الجارة والأصدقاء الموسوسون
وسيصبح للأمكنة والرجال والأشياء وجود خاص أيضاً : درجات السلالم وصولاً للدور السادس في مكتب التربية ، والشوارع التي يقطعها المغني الجوّال ودكان الجزار بضحاياه المعلقة .. كلها وسواها من خبرات البصر والبصيرة ستمر من هذا الديوان الجديد ، فثمة دوماً ثنائيات متناقضة في الحياه ، حتى ليبدو العنوان تلخيصاً ذكياً لذلك كله : عالمٌ أوسع من شارع ولكن أضيق من
جينز ………
 

  • 4- عبد الله القاضي : خريطة شعرية للكون

لم أكن قد التقيت الشاعر اليمني الشاب ذا الصوت السبعيني عبد الله القاضي أيام دراسته ببغداد المدينة التي ولدت فيها ونشأت ودرست في أمكنتها وأزمنتها . لكنني قرأت بعض أشعاره في الدوريات قبل لقائي به عام 1996م بصنعاء حين جئتها مدرساً وباحثاً عن جوهرها الكامن وراء غلافها ، فعرفت فيه شاعراً متميزاً في لغته ورؤاه ، وراح يذكرني بجيل شعري ناضج يمثله هو والمرحوم عبد اللطيف الربيع وعبد الودود سيف وشوقي شفيق ومحمد حسين هيثم وآخرون من الأصوات السبعينية التي يشهد لها بالمغامرة التجديدية وكتابة قصيدة الحداثة ، في واحدة من أهم متواليات تطورها، وصولاً إلى قصيدة النثر في مرحلتها الوسطى .
مؤخراً أطلعني الصديق الفنان التشكيلي حكيم العاقل على مسودات ديوان يجمع أشعار القاضي ، فتذكرت على الفور قصيدته عن الرسام الرائد هاشم علي التي أسرني فيها تمثله لعالم هذا الفنان المثابر في أدق مفرداته ، وأذكر أنني عبرت عن أعجابي بالقصيدة وإحاطتها بشخصية هاشم علي رساماً وإنساناً لكنني لم أستطع فهم دلالة الكاذي في عنوان القصيدة (قبوة كاذي للرسام هاشم علي) ولدهشتي فقد كان عبد الله القاضي يحمل لي (في مكان عملي بالجامعة القديمة) صباح اليوم التالي وردة كاذي ، ظل عطرها يفوح في غرفتي عدة أيام ، ويتوازى حضوره الفضائي في الغرفة مع جسد قصيدته على الورق . والآن يلوذ القاضي بالصمت وكذلك تهجع أشعاره القليلة في صمت قاس ربما سيكسره الأصدقاء بنشر ديوانه ، لكن أسمه سيظل مميزاً وخاصاً على لائحة القصيدة الحديثة في اليمن .
أولى القصائد تحمل عنواناً طويلاً (من دونك أرسم للكون خريطة ملونة بالدم) وهي مؤرخة في النصف الأول من عام 79م وتحمل في بنائها إيقاعات وتراكيب تميزت بها القصيدة السبعينية التي لم تحدد هويتها بعد في مجال اختيار الأسلوب الشعري المتأرجح بين الإبقاء على الوزنية كما في قصيدة الرواد ، والانطلاق في مغامرة الإيقاع الجديد البديل ، وكسر الشعرية السائدة بالصور المولدة والعلاقات التركيبية المشاكسة ، لكنها تحمل سمة (الرفض) والتمرد إلى الحد الذي يصبغ خريطة الكون المرسومة شعراً باللون الدموي ، حيث يجد الشاعر الخواء في كل مكان :
شفتاي ترتعشان من جدب الكون
أمطريني أمطريني قبلاً فالقبل روح المطر
تعالي .. أين تذهبين ؟
فالربع الخالي مملوء بالقيء
والبحر العربي يأكله سمك القرش
في قصائد المرحلة التالية سيحاول القاضي تهدئة الاندفاع الموسيقي ، لاجئاً إلى نثرية مباشرة ، تشير إليها مطالع قصائده التي يتكرر فيها النداء (يا ..) بشكل لافت ، فكأنه يستعير نثريات جبران وجيله في كتابة مناجيات شعرية ، مستريحة لانسياب النثر وتلقائيته وإيقاعاته القائمة على السرد ، وتوازي الأفكار ، وتقابل الصور كقوله عن هاشم علي :
أيها الطيب الذي لا يشبهه أحد
ويشبه كل الكائنات
.. حينئذ أنت أم الغابة
من منكما يصطاد الآخر
لقد كان إحساسه بالخسارة والخذلان مبكراً ، وهو ما يطبع قصائد الديوان بهذه السوداوية ذات السمة الاستفزازية في تراكيبه التي يغلب عليها الخطاب (النداء غالباً) والنفي والجمل الإخبارية المتوترة والمكثفة :
الحياة كذبة يا سيدي
ليس لنا في أرضنا مرقد نملة
والعالم عاقر
وبهذا الإحساس آنسحب القاضي إلى إنجاز خريطة وهمية للكون ، استغرقت تفاصيل حياته وأقصته عنا إلى الصمت ، لكنه يظل ذا مناخ خاص في شعر الحداثة يمنياً وعربياً ، وستكون إعادته إلى الذاكرة للشعرية عبر هذه القصائد مناسبة لتأكيد ذلك المناخ .
وأحسب أن قصيدته (كمين) تعبر عن مركز تعبيري مهم في الديوان ، وفي تجربة عبد الله القاضي كصوت ضائع بين أجيال قصيدة النثر اليمنية ، شأنه شأن الراحل العزيز نبيل السروري ، ففي هذه القصيدة يكون الزمن (الغد تحديداً) مناسبة للإعلان عن خذلان الشاعر وإحساسه بالخسارة ، وهي خسارة تتوالد وتتناسل كل يوم فيصبح الغد (أمساً) ولكن بطعم المرارة نفسها والخسارة ذاتها ، وهو ما طبع القصيدة نفسها بالعودة والتكرار :
غداً وغداً وغداً
كم من الوقت مر
وأنت تقول :
غداً وغداً وغداً
كم من غد مر وانطفأت شمسه
كم غد صار (أمس)
وأنت تقول : غداً وغداً وغداً
وبين غد ذاهب
وغد آيب
تظل تعد الكمائن
تجدل من خيط وهمك وعداً
ومن خيط حلمك وعداً
وقد وهن العظم
وأشتعل الرأس
والوحش محتفل
والرياح سموم
ومازلت تلقي بأوراق عمرك للريح
تحملها عنك وهي تنوح :
غداً وغداً وغداً
إن قراءة عبد الله القاضي تؤكد افتراضات كتابنا في كسل النقد وقصور القراءاة حيث لم يدرس القاضي وتجربته بما يستحق وتستحق ..
 
 

  • 5- محمد محمد اللوزي : المهمَل كمفتاح على طاولة :

هو عسكري في السادسة والعشرين ، كثيراً ما هرب من غبار الميدان وعرق التدريب وأرق الجندية ، أيام دراسته في الكلية العسكرية ببغداد ، ليلحق كتيبة شعراء ملعونين : سركون بولص ، جان دمو ، رعد عبد القادر ، عبد الزهرة زكي ، نصيف الناصري، حسين علي يونس ، وآخرين .. يَسفّ من أصواتهم وصورهم، ويختزن إلى جانب الخوذة والبدلة المرقطة والجعبة رؤى وقصائد وأفكاراً ظلت خامات كصور لم تكتمل ، سيعيد تظهيرها هنا بصنعاء ، حيث يجلس صامتاً تحت شجرة (الآداب) مكان تجمع الشعراء في الجامعة القديمة ، يخزهم بملاحظاته ، كما يفاجئ الجميع بقصائده القصيرة المستفزة .. التي شهدت أواخر عام 2001م ولادتها في ديوان .
ذلك هو محمد محمد اللوزي الذي أختار الهامش عن قصد وإصرار ، عن رؤية تؤدي إلى أن الشعر يمكن أن نلتقطه في ذلك العادي المقصى أو المنفي أو المهمل .. وأن الشاعر أكبر الخاسرين في حروب الحقائق ومعارك الجمال .. لقد أختار إذن سلالة شعرية هامشية أو شطارية ملعونة ، ليكون أحد أصواتها ، فيعيد إلينا أصداء من محمد الماغوط في التقاطاته الواخزة الذكية ، وجان دمو في تماهيه بالسكون والذهول والكسل ، وأختار عن قصد كذلك أن تكون القصيدة مثل شباك العنكبوت أو خيوطه التي كلما اهتزت ، بشرت العنكبوت – الشاعر بأنه حي ، فابتهج لذلك وبسببه معاً .. فعمل على الخروج منها : من الخيوط والقصيدة
معاً ..
هذا هو تفسيري لعنوان ديوانه الذي أفلح مخرج الديوان (محمد النصيري) في قراءته فجعل الفقرتين متوازيتين بالمقلوب أي أن الجملة الأولى على السطر والثانية مطبوعة بالمقلوب على السطر الثاني :
الشباك تهتز
العنكبوت يبتهج
ورسم آثار قدمٍ إنسانية تؤدي إلى جسد العنكبوت الذي يوشك أن يصل إلى حافة بيته الذي ارتضاه واهياً منعزلاً ، لكنه بعد كل شيء ظل بيته وسكنه وعزلته ، ومعبد وحدته الآهلة .
هل يصلح ذلك مدخلاً لقراءة ثماني وأربعين قصيدة قصيرة (يصل عدد أبيات إحداها إلى اثنين فقط ، وكثير منها إلى ثلاثة أبيات أو أربعة) ؟ أحسب أنني اخترت مدخلاً مناسباً لقراءة الديوان، الذي يهيئ القارئ لصدمات الهامش استناداً إلى :

  • 1- العنوان الصادم في دلالته : العنكبوت وشباكه بما توحيه من عزلة وحيرة .
  • 2- في التنضيد الخطي لجملتي العنوان : الأولى المكتوبة بشكل سطري ، والثانية الممتدة تحتها بالمقلوب ، مثل ظل صورة على الماء أو انعكاس كتابة في مرآة .. وما تحمله من دلالة على الموازاة الضدية المخالفة للمألوف .
  • 3- التعريف الاستفزازي الذي يقدم الشاعر نفسه من خلاله فيذكر مثلاً إنه لم يشارك في أي مهرجان ، ولم يحصل على أية جوائز .. فكأنه يؤكد هامشيته كرؤية وسلوك وموقف مضاد للشعر الرسمي أو الشاعر التقليدي .
  • 4- صفحة الإهداء الفارغة إلا من كلمة (الإهداء) و (إلى ..) المتبوعة بفراغ يمتد إلى أربعة سطور ، فكأن الشاعر زاهد (أو مستغن عن) المهدى إليه أو إليهم ، مكتفٍ بلمفوظة الشعري وحده ، تاركاً للقارئ مساحة افتراضات واحتمالات ترشحها قراءته .
  • 5- صفحة المقدمة التي تركها الشاعر فارغة بيضاء إلا من كلمة (مقدمة) وأسمه في أسفلها ، وبينهما عشرة أسطر فارغة منقوطة ، وفيها علامات ترقيم وبدايات ونهايات فارغة كلها .
  • 6- قصر القصائد وتكثيفها على مستوى أبنيتها الشكلية (السطرية) وكذلك في توتراتها الجملية أو النحوية .. فكأنها تطلق أبياتها أو عباراتها كالرصاص : مرة واحدة ، فهي مكتفية بهذا الاقتصاد اللغوي والخطّي دون ثرثرات أو تفاصيل .
  • 7- اختيار قصيدة النثر شكلاً شعرياً بما يعنيه من تنازل عن الموسيقى التقليدية المتولدة عن التفعيلات والقوافي ، وما يرتبه بالمقابل من بحث عن إيقاعات بديلة ، من أبرزها إيقاع التناظر الصوري أو المطابقة بالصورة : أعني الاعتماد في إنجاز النص على تقابل صوري ضدي بين حالتين أو شعورين أو موقفين ، ويتولد عن ذلك صدم القارئ بنهاية غير متوقعة ، سواء كانت حدثاً أو صورة أو شعوراً موصوفاً .
  • 8- الإكثار من الانزياحات أو استبدال العبارة واستكمالها بالإضافة أو الوصف بما لا يتوقع القارئ أو ينتظر .. وأكثر ما يحدث ذلك على مستوى الوصف كقوله (سواء أصفر ، سواء أحمر ..) .
  • 9- الاعتماد على العفوية والاسترسال اللغوي والصوري ، مما يخلق بساطة (خادعة) ، تنقل شعوراً أولياً بالبراءة والتساؤل العادي ، لكنها تخفي احتجاجاً أو اعتراضاً شديداً على العالم كوجود ومحيط وأحداث وبشر .
  • ملامسة قضايا الحرية وحق الإنسان في الوجود الكريم والحب والعدالة ، مما تُعد موضوعات جاذبة لاهتمام القارئ ، وتغدو ملامستها – بهذه الطريقة الطفولية الساخرة – ضرباً من (جماهيرية) تعوض الحماسة والنظم الزاعق والهيجانات اللغوية والصورية في الشعر التقليدي الذي يقترب من الموضوعات نفسها بكيفيات مختلفة .

لقد كنت حتى هذه اللحظة (أبرر) ما أحدثه ديوان اللوزي (الشباك تهتز – العنكبوت يبتهج) من أصداء متفاوتة ، وكأنما سرت إلى قراءتي ذاتها عدوى الاستفزاز الذي هيمن على نصوص الديوان . لكنني عند اللحظة نفسها من وقت أو زمن قراءتي سأتوجه إلى النصوص كوثائق : أو مستندات لأعزّز ما ذهبت إليه في انطباعاتي العشرة الآنفة وكأنني أدلّ عليها أو أتيقن .
سألتفت أولاً إلى عناوين القصائد وأدعو لقراءة حكمتها أو ما تعنيه حين تكون بهذا الزهد والقصر والمباشرة : (رجم / حبس / عصفور / قناع / جهة / سجيل / هروب / حرية / انتظار / اثنان / ذاكرة / سرّ / صورة / بذرة / هامش / غياب / فراغ / منفذ / أمل / شيء / انكسار …)  .
إن هذه العينة العشوائية سترينا ما وراء اختيار العناوين من عفوية ومباشرة ، ربما وجد فيها قارئ آخر كسلاً أو تكراراً أو تقليدية ، لكنني وجدتُ فيها ما يوجه قراءتي صوب موقع الهامش الذي سكنه الشاعر واكتفى به ، فلماذا يجعل العناوين ذات فخامة فارغة أو صياغات متحذلقة ؟ فضلاً عن أنّ هذ الاكتفاء أو الاقتصاد يناسب ما تحمله رؤية الشاعر عبر نصوصه من اقتصاد واكتفاء وتنازل عن التفاصيل .. وكأنه يعلق من موقع الهامش هذا ويناكد ويشاكس.
في قصيدة (أعميان) لا نجد إلا سبعة أبيات ، يقتسمها أعمى ومبصر بعدالة (ثلاثة لكل منهما والبيت الخامس مشترك بينهما) لكن حكمة القصيدة تقوم على الاستبدال فقط ، حيث تكون النهاية عكس ما يحسبه كل منهما تماماً :
يحسب الأعمى
أن كل ما حوله جدران
ويحسب المبصر
أن كل ما حوله فراغ
وحين يمشيان
يصطدم المبصر بالجدران
ويتعثر الأعمى بالفراغ
إن هذه القصيدة تصلح مثالاً لما تخادع به قصيدة النثر قارئها ، فهي تبدو لأول وهلة مجانية ، تسودها الفوضى والتداعيات ، والعلاقات غير المقبولة لدى القارئ ، أعني انقلاب قناعاته على وفق ما تريد القصيدة ، لكن قراءتها ثانية سترينا انضباطها الشديد: فالأعمى  يحسب شيئاً من وحي عماه ، والمبصر كذلك ، لكنهما حين يمشيان (يصطدم) المبصر بجدران الأعمى ، بينما (يتعثر) الأعمى بفراغ المبصر . إنه إذن هجاء لبصيرة المبصر الذي لم يكن إلا أعمى آخر ، وهذا هو تفسير التثنية في العنوان (أعميان) .. وأحسب أن اللوزي شعر بأهمية هذه القصيدة في توضيح رؤيته لقارئه فوضعها كاملة على الغلاف الأخير ، وكأنها ظهر لبطاقة تعارفه مع هذا القارئ .. القصيدة الأخيرة (الشباك تهتز) هي الأخرى تحمل روح المشاكسة التي في الديوان ، فهي تحتل نصف العنوان – عنوان الديوان – بينما جعلها الشاعر آخر القصائد في ترتيب الديوان .. هذا من حيث تأخر موقعها المتعارض مع تقديمها كلافتة على غلاف الديوان ، أما داخلها فيتسلم القارئ خلاصة :
لا أمل في النسيان
لا أمل في المحاولة أيضاً
لقد وقعنا
واهتزت الشباك
إن النفي (نفي جدوى النسيان وجدوى المحاولة معاً) هو أحد مراكز التعبير عن رؤية الشاعر ، واختياره – على مستوى التركيب – يبلور علاقة الشاعر بالعالم ، ولعل صيغ النفي والاستفهام الكثيرة في الديوان تعكس موضع الشاعر إزاء العالم : كمتسائل وكائن رافض ..
محاور كثيرة يمكن أن يألفها القارئ ويأنس بها : مهنة الجندية حين تصبح مناسبة للتفلسف والسؤال حول الموت مثلاً :
ما قبل الخوذة
سوى أمنية الجندي
ما بعد الخوذة
وهي تتدحرج بسرعة
إلى جهة خامسة
سوى دهشة الجندي
إن اللوزي يصور هنا بداية ونهاية يتوقعهما في حياة الجندي ومهنته ، لكنه يشير ويؤشر ويصور دون تفاصيل ، مكتفياً بالظرفين الزمانيين (ما قبل / ما بعد) وعلاقتهما الضدية زمنياً ، ثم بالنهايتين اللتين تبعتهما : أمنية وموت ، لكنه اكتفى بصورة الموت (خوذة تتدحرج مسرعة) أما وجهتها فهي (جهة خامسة) تعني الموت الذي يستقبله الجندي بالدهشة .
ثمة أكثر من نص حول مهنة الجندية تؤكد موقف الشاعر من الموت بهذه الطريقة .
وللحرية موضوعاتها أيضاً وتشكلاتها الصورية  وسأختار منها – كخاتمة – قصيدة (سجين) :
الإسم المحفور
على جدران الزنزانة
هل يحلم أيضاً بالحرية ؟
حين أطلق سراح
جميع السجناء
بقي الإسم سجيناً
ولعل هذا (الاسم السجين) هو اسم إنسان الهامش : الشبيه بتمثال ، أو المهمل كمفتاح على طاولة ، كما يقول الشاعر .
ومادام ديوان اللوزي هو سجلّ محاولاته الأولى في الكتابة الشعرية ، فلا غرابة أن حمل عثرات البدايات أو سقطات التعرف على قوانين هذا النوع الشعري الصعب الذي اختاره ، فقصيدة النثر تحمل لكاتبها – كما لقارئها – مزالق وفخاخاً ، يجدر به أن يحتاط لها .
فانسيابها النثري وإمكان السرد فيها وحرية المخيلة وإيديولوجيتها الجاهزة – لعل اختيار النثر هو موقف ضدي من الكون في الأساس – إلى جانب مجافاتها للوضوح الساذج والإسراف اللغوي والصوري ، كل ذلك سيوحي بالخطر من كتابتها بوعي ناقص أو زائف (أعني امتثالاً لموضة ما أو انسياقاً لحداثة متوهمة أو انتماءً قطيعياً) ومن مظاهر ذلك تعثر العبارة بطنين أو هيجان لا يقل خطورة عن النظم التقليدي .. وفي ديوان اللوزي ثمة تكرار لبعض الثيمات التي أحسّ الشاعر بذكائه وحساسيته أنه موضع جذب وإغراء للقراءة .. لكن كتابتها أكثر من مرة تجر ذاكرة القارئ إلى ملل متعب (أضرب مثلاً لذلك بصورة السجن المرسوم على الورق أو السبورة واستحالته لسجن حقيقي) فضلاً عن أن الصورة ذاتها مكررة ومنقولة عن شعراء عالميين (الطائر والقفص لدى جاك بريفير مثلاً) ومن الفخاخ الأخرى ، تعمد صدم القارئ بالقول مثلاً (هذا الحمار المربوط سيظل ينتظرك) فهي صدمة قد تحقق فكاهة أو سخرية ما ، لكنها لا تعبر عن وعي شاعر يقرأ تاريخه ورموزه بعمق فيقول :
كانت هنا بلد
تهجاها هدهد
فأشعل فيها الخراب
…من كتيبة الجنود وخوذهم ، إلى عشيرة الشعراء وقصائدهم ، هكذا وصل إلينا محمد محمد اللوزي مدشناً اصطفافاً فنياً وجيلياً جديداً في مناخ الكتابة الشعرية ، ستتخلص من أصداء أو أصوات سابقة، لتستأنف مرحلة مختلفة تشمل زملاءه العاكفين في الوقت ذاته على إنجاز مستقبل كتابتهم .
 
 
 
 
 
 
المختارات
 
د. عبد العزيز المقالح
كتاب القرية
(اللوحة الخامسة والسبعون)
 
( من هنا مر الأمس
ومن هنا يمر اليوم
ومن هنا سوف يمر الغد ،
من هنا تخرج الفصول الأربعة
وفوق هذا التراب الجريح يقاوم الزمن
شيخوخته
سيدة الأرض ،
سيدة التلال والتجاويف والمنحدرات
اللوحة الجميلة المرسومة بريشة السماء
والمتدثرة بحرير متعدد الألوان والأطياف
هي أمنا ،
لكن المطر ، لم يعد وحده هو الذي يهطل عليها .
ذباب المبيدات ،
قنابل الدول العظمى
أكياس البلاستيك .
والعصافير الجميلة لم يعد يروق لها
الهبوط بأجنحتها الصغيرة إلى الحقول
تخشى أن تتلوث أصابعها بمستنقع الموت الصناعي .)
 
عبد الرحمن فخري
ليلة .. بلا جفون
(الليل عيني الثالثة)
 
كالعادةْ
والسَّاعة صفْرْ
يُطفئ اللّيَلُ سراجَهُ العَتيقْ
فتتعرَّى الصُّخُورْ
وتضَعُ الأحْلامُ ، على عجَلٍ ، بَعْضَ المساحيقْ !
**
حين تتوقَّفُ أسْطوانةُ الصَّدى
يتَحَلَّقُ العَسَسُ حولَ النَّارْ
يُنْصتُونَ لكتابْ –
الحاَرسِ الوحيدِ للمديْنَة !
**
يتمدَّدُ الوَهْمُ في الشارعْ
بارداً كالأخْطُبوطْ
تتَدلَّى من بين الأشجار الأفاعي .
عقاربُ السَّاعةَ تُصابُ بالدُّوارْ
ويُصْفَقُ البابُ عن آخر الضُّيوفْ !
تَفْركُ عيونَها النُّجومْ
وتُمدُّ الرُّوزنامةُ كَفَّها لأوَّلِ شُعاعْ …
وأنا لم أنمْ
ونامتْ ، مِلءَ جَفْنِها ، شَهرَزادْ !
عدن / نيويورك
69 / 1982
 
محمد المسّاح
إلى الإله القمر أو المقه العظيم
لك العظمة والمجد يا نور الرعاة الفقراء في الليالي المظلمة
لك الخلود والأبدية
يا سارق النار الشمسية من خلف الغلاف المعتم
لتمتد أشعتك في كل الآفاق
وتفترش كل السهول والتلال في بلادي
ليداعب نورك القمري وجوهنا الشاحبة
آمالاً بعيدة ترفرف في كل الأبعاد
أحلاماً خضراء
وكم نود بحب ومودة ملامستها
أيها المقه العظيم
حين تنأى تصيب القلب رجفة
لكن حين تقترب يحضر الفرح
اقترب ولا تنأَ
لتزيل الجفاف من حياتنا أرضاً وقلباً
تنعكس وجوهنا لتحكي لك قسوة التأوهات وحرقة الدموع
لك الخلود والأبدية
دَثِّر ظهورنا العارية
ورشّ نورك الإلهي في القلوب
وأعطنا الحب والسلام
لتطل الأجساد بالتآلف والمودة
أيها المتوسد وجه السماء ليلاً
الزائر مضارب القبائل نهاراً
ووجوه الطيبين الباحثين عن خضرة الأرض وعطائها ..
لابد تزهر الأرض ، وتتبرعم التلال المجاورة
لو تحدق بقوة تذيب الرصاص إلى ” سدّي المائي ”
تستطيع الحبيبة بعدها الاغتسال تحت ينابيعه
وينور وجهها ، وتغني رفيقاتها أغنية للوجه وعظمة العناق
إن الفأر أيها المقه العظيم مازال يمتص ضروع غنمي
ويتشكل الملعون بوجوهٍ عديدة .
أحياناً القتل المجاني ..
وأحياناً شبح غريب يقلق زراع العنب في حقول المعبد في كل المخالف والطرق
هذا اللعين مازال ينحت جدار حياتنا
فيأكل الأطراف ويحولنا إلى أرقام حجرية
ليس لوجهك أيها الرحيم لكن لوجه الشيطان اللعين
هذا الوجه الغائب .. والخاسر مازال يزعج الخضرة والسلام
الأطفال .. وجوه الرعاة الفقراء .
وكل الطيبين .. تتطلع نحوك لتزيل لعنة الجوع الملعون
لتتشكل حبة العنب عبر شفافية ضوئك إلى جوهرة
رائعة تنير أعياد الصراب
ولابد أن ينقض الآن ” النسر السبائي ” ذو القوة الخرافية
على كل الحياة
فتنعم تعريشة العنب بالسلام
ويعود الفلاح والراعي إلى زوجته مرحاً
تعطيه ” فناجيل القشر ” بعد الغروب
ويضمك العالم يا قنديل المساء
ونرقص بعدها في لياليك المقمرة
رقصات الحب والحرية
ونقهر الجوع .
ونتراشق بزهرة العوسج
ونلون الحياة عملاً وحياة  
 
 
ذو يزن
الثورة والموت والميلاد
  مقطع
عالمنا اليوم
يركض فوق صهوة خيل
نحو الشرق ..
يمخر عباب البحر
يتحدى الإعصار
يمضي ليعانق شمس الحرية الكبرى
يزرع بديلاً للعبث واليأس
الأمل الأخضر
في كل مكان
لتتحقق ما كانت أحلاماً
ينشر بسمته الحلوة
في المدن والأرياف
بين البسطاء
بين العشاق
وعلى وجوه الأطفال
يروي شجرة الحرية والحب والأمن
بدماء من سقط على الدرب
لمن لم يسقط
لكل الأحياء
وبحبات العرق الغالي
للشغيلة
في الحقل وفي المصنع
تزهر براعم الخير
لعالمنا اليوم
ولغدنا الآتي المشرق
 
حسن اللوزي
 
الرقص على حدّ الحروف
(إلى الشاعر محمد المسّاح)
 
هاأنا أنشر قلبي بيرقاً للعشق
وأخبزه في وقدة الشمس عجينة لم تلوث
وهاهو ينضج يتساقط أرغفة
يتساقط حمى
يتساقط شهوة  ..
اقتربي مني أكثر
اقتربي وافترشي حواسي
ولتخلعي تراب التعب وعباءة السنين المنكسرة
آه يا امرأة من سرتها الخضراء ابتدأ التاريخ الأخضر للبشرية
ومن فمها الريان انبثقت أنهار الحكمة
من هذا الذي يرسم بزفير الوجع وأضلاع الفجيعة تابوته ؟
ويحاول أن يذوي وهو يعرف أن الأميرة لم تسترح بعد –
حتى تهيئ له قبره المتواضع بين السرة والقلب
أو في البراح المترامي بين الثدي والثدي
مذبوحاً يتدحرج بين الوهم والحقيقة
يتبعثر فوق مسطبة الإشاعة وعلى ذبذبات البلاغات النحاسية .
اتركوا هذا المجنون بالعشق يتكلم
اتركوه يلثغ بالحروف التي لم تغن
وباللغة التي تهشم رأسها وتناطح مشيئة الجدران
فقد نذرته السعيدة للاحتراق مذ عرفت الطريق والأسرار
التي تؤدي إلى جسده
ومذ سلمها مفاتيح خلاياه وبصماته
ليذري رماداً في شرايين بكارتها تمهيداً للتلاحم والانقضاض
إنه يتحفز لطقوس الزفاف ولعب الكرة
في براري الفرح والنشوة .
 
عبد الودود سيف
 
أسماء للموج .. وألقاب للزبد
 
متوجاً بصولجان الرغبة في استئناس جراد الوحش الضال بين أقدامي وخطاي ..
أغادر آخر الخرائب المتربة في أسمائي ، وأدخل من قبلة الغيم ، مؤتلفاً مثل قوس السؤال .
وليكن ! إنني متعب وأنا لا ريث ولا عجل أدخل لأخرج ، وأؤجج أباطيلي لأخمد شهوتي : ثم أنتظر الذي يلتمع فيها ، لحظة انتجاج ثقابها .. قبل أن أندمل ، وأعود إلى أكفاني ، مباركاً ، في أجفان النعاس .
وليكن : إنني كامل ، وقابل للطلق أو الانكسار . لي أحلام بعدد ما صُفَّ في مركبي من ألواح . كل لوح فضاء للوحة وكل لوحة مبراة لغصن .. أو حجر .
وأنا أعمى . أَستدل عليَّ من لهبي : وأصعد جامحاً في مرايا الدخان . وأنا مرمر ورخام .
أدخل بلسماً وأخرج طلسماً ، وأمشي بينهما كأسنان المشط أغنية تهذي بين الصدى والصوت .
تبحث عن سماء ثامنة تنقض في زرقتها اسمها الذي يجملها أو يكملها أو يحملها ذنوب مملكة طروادة . اسم لكل عاصمة . ودعاء لكل ناسك . متشعب مثل أفنان السعف . ومتطاول كعنان السنديان.
وأنا الذي آتسع فآمتنع أن يُقبض بعصاة الفهم . قابل للتأويل . وقابل للانفضاض أو الصدارة . لا فرق ، كأنني عصا أدفق في نبع وأفتق من حجر . من يسر معي امتلكني . وإلا امتلكته ، وإلا زرعنا بيننا غصن آس ، يظللنا بالتوبة معاً ، ويسدل علينا أحجار المراثي . فنرجع إلينا ، كأننا ولدنا ، ثم نمضي كل إلى حيث ينتهي بعد الفطام.
***
أيها المنصت إليَّ كأنني أبكي ، هذا رغو ، فأتسع إلى نهاية صفحته الملساء . لا تقل هذا غيم . قبل أن أجلوه بخاتمي إليك ، وأسطع من أليافه البيضاء ، ممهداً كأنني صرح من نرجس ، ولا تقل : هذا رذاذ . فينفرط عقد رمانتنا ، قبل أن نسقف عرش فصوصها ، فننتهي حيث نبتدئ : في فلك خطوتنا الأولى : بين قوسي الرذاذ والغيم ، فتدخل بي طلسماً وأخرج منك طلسماً .
أرتسم في قوس عقدي حجراً حجراً ، حتى إذا رأيتني أثني بحبل العقد إلى ظلمة ، فلا تظنن أنك ستهوي . أنت بين كفي وأناملي ، تنثني فيها لتتقوس ، وتتقوس لتستدير في برج المعراج . وإما درت فيه دورتك الأولى ، فقد اجتزت معي قبة الصراط ، وبدأت تصعد فيها ثملاً إلى أول عرش القلب .. حتى يكون وجهك مرآة ، وبذرك نبتا ، وأنت تستطيل فيهما مدلجاً في الساق . فخذ بيدك إلى بساطي : فصاً فصاً ، وغصناً غصناً ، وأما استوت قبضة الرمان على يديك ، فسرّحْ عشبك يرعى في أيائلي وخيلي .. إلى ما تشاء .
***
سأقول هذا رغو ، وإلا فإن الزبد موج والزجاج رمل ، وما يدخل القلب ينشب فيه أظفاره . ويمكث ، ولا يخرج إلا عنوة .
هذا أنا أفضي ، وبيني وبينك سرج . وبيني وبينك طواويس ، ومواعيد تأجل بوحها ، ومواعيد تأخذك إليك من أشتاتها ، فأراك كأنك تصلي ، وتراني كأنني أدعو . فقل اتسعت الشبهة بين الحمامة والغمامة . واستوى عرش الملح على قبضته كأنه بجع . وأخذ يصغي . وأخذت أغني .. حتى إذا لفنا البياض في سترة هودج واحد . أخذنا بين اسمينا ، فأدعوه أنا : صواناً ، ويدعوني هو : شرارة . ويدعونا الفضاء المسافر في سترتنا : رأساً وتاج .
(2)
لعله النرجس استطال في فضاء خواتمي : وآدعى نسبته إلي ، أو أنه انتحل اسمي ، خلسة . ثم خلع عليَّ أحد ألقابه ، فجئت أغفو على وسائده . وأمشي حالماً وجئت أهذي بتفاصيله ، وأدعو إلي منقسماً إلى سطح وقاع . في سطحي ماء يدوي وسفائن تغني . وفي قاعي أوتار تهذي . ومآذن تصلي .
وأنا مشدود إلى نهاية أوتاري قزح كامل يرفض أن يسمى ويتكسر في مواعين أحلامه إلى ما لا يحصى من الأسماء وبذور الكريستال ، فلأنته إلى حيث انتهيت . إما زبداً أقيم به سرجاً لموجة .
وإما بحراً ، اصطحبه على فمي كياقوتة .. وأدخل أبيض كالموج ، وأصعد أزرق كالماء ، واعتلي زرقة السماء ومنبر اللهب .
فليقاضني النرجس بنصف أحلامه وممالك شذاه ، وأهبه بعض ما في سروري من فضاء ، وبعض ما في فضائي من عتاد وأبهة ، وندخل متوجين بالدهشة والملكوت .
قلبي كان للبحر اسم واحد . وللماء سقف واحد . وللسماء سبعة أبواب ، قلت : اسم واحد يكفي . وسقف واحد قد يكفي . إذا وسعته إلى آخر خطاي ، وسددت الثقوب الوسيعة في مساماته .
ولكن سبعة أبواب لعمر واحد ، متفائل كالدعاء ، لا تكفي .
وأومأت للبحر أن يتبعني ، وللماء أن يغشى في أوردتي ، ويخرج ذائعاً من أعراقها ، ورددت ما للنرجس بي من زهو ، وأطلقت ما في عصمتي من زهو ، وخططت آخر الحدود ما بيني وبيني ، وصعدت في جنح الغيم ، أفتتح عرض أبوابه كاملة .
***
آخذُ بيدي . صاعدٌ في سلاليم غيمي . يداي قرنفلة . وفمي أدعية . وأنا سقف ماء . بعضي ينسخ بعضي ، فأولد بينهما على هيئة كرة من الطين ،
وأمضي أنقش في دائرتها أسمائي .
هذا أنا أقدح حجر صواني ، وأسافر في فضاء لمعه . دخلت . فليكن نهاية ما يحد الغيم : أوّلَ ما أشير به إلي ، إذا دخلت ، وليكن أول ما يبدأ به القلب ، آخر ما أحدُّ به فضاء قصيدتي .
وليكن . إنني متعب . وهذا آخر ما أخيل في عيني من أشجار النعاس ، وآخر ما تبقى في زندي من قش ، أقدحه ، وأصعد ذاهلاً في جنون القصيدة . وليكن . إنني على موعد كي أفض بكارة تاج الغيم ، وأجلس موهناً على عرشه .
هذا فضاء من محار . حمائم من فضة . ونساء من نرجس ..
” يهبطن في أكسية البروق وفي يواقيت الندى . رافلات بأعشاب الوساوس . يدخلن معطرات بشذى تفاح ، يهيج في أوصالي الشهوة .. لهتك قناع كل مرآة وكشف قاع كل قناع ” .
أيائل تتشرد في أشتاتي ، وتجمعني على أحداقها من كل انحائي .. حتى إذا رجعت إلي موهناً ، وفتحت عيني كأنني استيقظ من حلم ، وأنهض متثائباً : يقول لي الحلم : خذني إليك ، ندخل نكمل رحلتنا في بساط هذا الفضاء .
تهبط الحمائم من ريشها . والنساء يصعدن إلى صنوجهن ، ثم يرشن من ريش الحمام قيثاراً ، ومن سيقان النرجس أوتاراً ، وينصبن على أعناق الأيائل هوادجهن ويدخلن هوادجهن مدثرات بإِزميل الغناء .
***
هو الغيم سُلّمك الزجاج ، إذا خطوت ، وأول ما تقيم بسقفه زينة ، وتنصب هودجاً.
وهو رجوع أصابعك إليك من أقصى إشاراتها ، وآخر ما تمد به إلى غصن وتقرؤ في كتاب .
وهو انتصاب خندقك الأخير بقبض الموج والزبد المكسّر ، تحت جنح خاصرة الزبد .
***
المدى تفاحة . وأنا سكين ، وحيث هويت : ثقبت على جلدها باباً ، وأطلقت العنان للنساء أن يستدرن في خواتم شهوتي ، ويدخلن يتفيئن في فضاء أشجاري وأغصان هواي .
وأنا متعب لا ريث ولا عجل . كأن الماء يرسم في خطاي نافورة ، والطين يفتتح في مداي قبة . وأنا أعود إلي من أقصاي .
في يدي مقاليد يدي . وفي يدي مصابيح القبة و المحراب .
سيقول لي الطين :
هذا يوم أختتم فيه أسفاري وأدخل إلى ملكوت يهبني التهليل ، ويخلع علي بسطة .. ينقش فيها بعضي بعضي ، وأولِفُ منهما قامتي الواحدة .
ويقول لي الماء :
أنا الجسد الذي أعطي للكلمات قوامها . وأنا النبع الذي يؤالف بين أشتات الحصى والحجارة والغبار . دمي يتلو دمي . فينسج سورة ابتدائي وندخل ننقش في الفضاء خطوط فراشة نرجستنا الواحدة .
دخلت ..
حيث أخطو ليس ثمة سماء ولا قاع .
أخطو فتنحرف بوصلة الجهات ، تتسلل
جميعها من قطب واحد ، تتجمع في نقطة مركز
وتخرج منها إلى خطوتي لترسم فضاء دائرة .
تبدأ الدائرة . تكبر . تكبر وتصبح إلى ما لا نهاية ، في حدود الفضاء . إذن بدأتُ.
 
عبد الكريم الرازحي
 
صنعاء
 
إنها ، أسطورة من الحجارة
قصيدة من الطين المشوي
وحانوت . يكتظ بالخرافات
 
في مداخل أسواقها
تسطع شمس البهارات
ومن نوافذ بيوتها الملطخة بالنساء
تطل إناث ببياض الحليب
لهن أعناق الزرافات
وعيون بقر الوحش
دافئة بيوت ” صنعاء ”
والنساء أكثر دفئاً
في كل بيت موقد لا ينطفئ
وفي قلب كل امرأة
شمس لا تغيب
 
و ” صنعاء ” مئذنة تستيقظ عند الفجر
وتوقظ غزلان المدينة
مآذن تشتعل عند الغروب
وتشعل قبة الروح
 
أذكر ” صنعاء ”
فتضيء قرى الذاكرة
أغيب عنها
فتنطفئ جذوع حواسي
وتأكل ورقة قلبي
حشرة الحنين
 
كل حجر في ” صنعاء ”
يذكر وجهي
وكل زقاق فيها
يؤدي إلى قلبي
 
آه ” صنعاء ” ! من يمنحني ثقباً في سورك
لأرى قلبي المأسور
ضوء حبيبتي الخارجة من الحمام
عصفور بخور شعرها حين تعبر الزقاق
يا أبواب ” صنعاء ”
هل خرجت حبيبتي هذا الصباح ؟
لأبخر هذا المكان بالنار
وأعد الماء المبخر
هل ستخرج هذا المساء
لأشتري أحسن القات
وأفضل التبغ
 
أقسم . لو لم تخرج هذه الليلة
سألغم هذا السور قلبي
سأبيح مدينة ” صنعاء ”
لقبائل حبي
سأسدّ جميع مداخلها
بوباء العشق
وطاعون الصبّ
 
شوقي شائف
 
من ذكريات العشق في الزمن الجبلي
 
وحدي ، هو الحنين يستطيل مدارا .. مدارا
ويتكئ على أذرع الشمس ذاكرة كالطفل
كان الطوفان يرتدي أجساد الخضرة سنبلة .. سنبلة
والمطر من الحصى .. والدم
تذروه الريح على أهداب العشب
عشباً ومرارة
ويتشكل على نهدي الشجرة الباكي امرأة
مرة بالتنهد يحتضن وجهها
يكفنها بريق عينيه اللاهثتين
بروقاً كان الموت
ومرة تسافر متعلقة بالثمر
تاريخاً يتبرعم أقماراً عاشقة
ويتيماً منحوتاً على ظلال الشفق
يسقى بحلمة شمس حليبها : دمع أو وجع
ينساب في الصخر نبعاً بين المسافة والمسافة
والمسافات جسد الوجع المتورمة ضفة تتدلى مرفأ
وضفة تتناثر دماء
من ترى يمنحها شاطئاً ينثني أوصالا
أو زبداً يترجل كفي الموجة
ويرتخي أنجماً تتعرى عشباً ومرساة
لتعود مساكب الشمس من سلاسل الأسر ثانية
من ترى يستعير قلبها ويزرع بدلاً منه رئة
لينبت في يباس الشفاه
في الجرح خبزاً وطفلا
طفل بكل أزمنة الحزن
يقرأ في العشق أسفار الأرض والفقراء
ويرسم في شقوق جدار الطفح ،
وفي ظلال مدن لا يغسلها الماء سورة الآتين من هذا الحنين
حلم وعشق يعذبان صلوات أحرفه الباقية
ويخيط فوق ضلوع النهر التي قسمت بالشوك ، والحصى ،
وبالمرارة ، والطفولة المهاجرة
حنيناً يستطيل مدارا .. مدارا
ويتكئ على أذرع الشمس ذاكرة كالطفل .
 
عبد اللطيف الربيع
 
ملاحظات عنّي
 
لأن لدي ما أقول
أنام مبكرا
ولا أفكر بقراءة جرائد الصباح
هناك علاقة منطقية
بين البول والأخلاق
وعلاقة منطقية
بين اللبن والأطفال واللصوص
***
في الصباح أشرب اللبن
وأخرج إلى المعاش
رافعاًُ الراية البيضاء
الأعداء المبتسمون خلف مكاتبهم
يطلقون عليَّ الفواتير
يوماً ما .. سأطالب الله
بكوكب مستقل عن المجتمع
***
هنا علاقة منطقية بين مراحيض
البورتسلان
والرؤوس البيضاء
***
الموتى كثيراً ما يثرثرون أثناء موتهم
ليت لي نفس الشجاعة
***
حين أدمن الفلاحة
أمنح رخصة لاستيراد البلاستيك
وحين أفكر بالغابة
أكتشف العصي
وحين أفكر بالسرعة
أكتشف الرصاصة
يلزمني مصل لكي لا أفكر
بالأمس توجوا إمبراطوراً
فدفعت الضرائب المتأخرة
***
حين كنت على مسافة قريبة  من يدي
سقط رأسي من جيبي
ولم أدفع ثمن اللقمة الأخيرة
***
قرب خزيمة يتسع الجسد
وتكثر الحركة
وهناك دائماً شرطي
ينظّم السير نحو ” المقبرة ”
***
السماء ليست الديدان
والأرض ليست الغربان
هذا ما اكتشفته بعد موتي
***
المقاعد الخلفية مليئة بالهتاف
والأمامية فارغة ومحجوزة
سبع عجاف
سبع سمان
سبع سماوات
سبعة أيام
 
زين السقاف
همس الألوان
 
” يمكن للمدارس أن تعلم شيئاً أشبه بالفن .. وليس الفن تماماً “
                                                   الفنان هاشم علي
ينساب الليل بين تجاويف
” الوادي الأخضر ”
تهيم الألوان على الأفق معك
هاأنت ذا توقظ فتنة الهمس
في مرقدها
أنغاماً ترسلها في الريح
مع العازف الجوال
خطوطاً
وظلالاً
وجباها غضنها الكد
تتفتح من بين رماد الزمن
المقهور
كأكمام الورد !
تشيح عن الليل الألغاز
وتزيح مسافات الوحشة
من هذا الكون
هاهي ذي كائناتك
تنضو عن الأمسيات الحزينة
ثوب الحداد
تتوالد كالنغم المتواتر
في أغنيات الشجن الليلي
هي ذي .. تشرئب مثل
السنابل أعناقها
في ” موسم الخير ” .
كل سنبلة
نهدة تتعالى
ويضج نداء
هي ذي .. يزدحم الأفق بها
فلها .. تنسج الشمس
بروداً من تباشير النهار !
***
مفعم أنت بالناس
يتدفقون من قلبك
بين أناملك
يتشكلون
وديانا
تزدهي فيها الأكف عطاء
يتألق فوق الجباه العرق
وعمراً يصوغ من الصخر
حقلاً ندياً
ثم لا يرتجي بعد منه
الحصاد
وهذه ريشتك
بين هذا الخضم
مثلما النشوة في عينيك
تضيء المدى
 
عبد الله القاضي
 
تعويذة للطفل ردمان
 
منكسرٌ كعصفور السبئيين
تستيقظ في ذاكرتي كآبةُ البحر
يرجمني الرمل منادياً :
” أصابه مسٌّ ”
أخبئُ القمر في جيبي وأشردُ
صغيراً باكياً يشغفه الحب
نهراً مختوماً بالكآبة
مرتحلاً في أصواتِ طبولِ الليل
باحثاً عن سوقٍ آوي إليه
مشتملاً بعباءة الأسحار ، أسمع الصدى مردداً :
” أصابه مسٌّ ”
تحت سقف الزنك المقفل في الليل
أتكور هناك وأنام على يدي مثل كل الغرباء
وفي الحلم أستحيل طفلاً صغيراً يسير على حافة البحر
حيث الأشياء مغشاة بالطراوة
يقودني أبي العجوز وأقدامي تعبث بالرمل
إلى بلدٍ تملؤها الأعيادُ والبهجة
تملؤها الأشجارُ والماشية
تملؤها الحكاياتُ ولا تعرف النقود
 
وأظل أسافر في أرض الحلم
وأبي العجوز يقصُّ لي حكاياتٍ
تقودنا معاً إلى الجنة
معاً إلى بلد الخبز والدفء
وصوته يعلو مردداً :
” يا ردمان ! الخبزُ والدفءُ أجملُ من الغيومِ والقمر ”
وفي قلب الليل يهزمني البردُ والجوعُ
وتختفي أرضُ الأحلام
 
هذا الغريب المحزون
هذا الطفل الذي تغشاه القتامة
من يندب في مثل هذا الوقت من الليل
هذا الغريب يومئ إلينا بعينيه
أنظري أنظري
” هل أصابه مسٌّ ” ؟
تقول الزهرةُ للثريا :
” بل رميةُ سهم ”
 
امنْحُه بكارة الحزن يا صبحه
وآصنعْ له
رئةً من حنين
وشبابةً من مطر ..
 
نبيل السروري
 
لوركا
لو لم ترجُ القمر أن يأتي
لكي لا ترى دم (أخناثيو)
وقلبه الفتي
المتناثر مثل تويج الزهرة
فوق درجات القصر ؟
 
لو لم ترجُ القمر أن يحجب عنك الرؤية
ليلة ثملوا ” بفرانكو ”
وألقوا بغرناطة .. كل صبا غرناطة
سراً في حوشٍ مجهول !

  • هل كنتُ سأحب ؟

هل كنتُ سأحمل قلباً يكفيني
حب العاشر من تشرين هذا ؟
أو أقفز مثل عجل صغير
و مثل طلأ الخراف
نحو ذلك الشجن المتقاطر من عيني سوسن ..
 
جمال الرموش
حائط ضد ظلالنا
 
اليوم لا يدل على ما يشابهه
لا يهبني الزجاج الشك ، ووحشة الأصابع
لا تهبني الغيمات وراثة الأسى
.. هكذا كلمتني حواسي :
أخرج ما عليك
وشم بساطة الله .. والمطر الحليف
وأمتدح فرحتك كي تقول الأغاني
وأبصر مجد الخلايا
.. وقد صدقت
حائط ضد ظلالنا
كان ..
وقبائل تقض بهاء البحر
وتقطر الفوضى
.. كيف تعلو حذاقة الإنشاد ..!!؟
وأنا ألقي السلام على حجر لا يرد السلام
هل نُصاب اليوم بوطنٍ مُر ..
أو حطام .. !!؟
وقد صدقت
.. اليوم سأنشد لهذا الخيط
مثلما قالت حواسي
وأقول له / انهض من نعاسك
أرجوك ..
لا تدل على هلاكي
وأهمس للمرايا أن لا تخون مداي
والغبار لا يئن له وريدي
أو يداي
لا يجد من صداي
أيها الخيط
لا تغلق خطاي
سأسكب شهية الندى في عروقك
حتى أكون لك طائعاً
أيها الخيط
.. هكذا صدقت
ومضيت ..!
آه ما أطيب حواسي ..
آه ما أغباها ..!!!
عدن – فبراير 1987م
 
محمد حسين هيثم
 
حضرموت
 
حضرموت
سلة إلهية
ينقشها بحارة
ذوو مباءات زرقاء
بحارة يردمون الليل على نساء العواصم
يسورونهن  بالمباخر والشجر المر
ويرصفونهن باللهاثات
حضرموت
تبدأ نشيدها
من محارة يدوي فيها الممسوسون بعشب
مرجاني واغل
حضرموت
النحلة المرتجاة
تشيد في الوخزة العذبة
ما ترتجله القوافل من شتاءات وأوثان
 
حضرموت
أقرب من شهقة وليٍ
يزدحم بمروقات لا تحذ :

  • -بصلاة جماعية على الموج النائم
  • -بسماوات تصب لبنها في الطاسات
  • -بجبل يترجل عن لا نهائيته ويتسوق
  • -ببحر تهرّبه الأجراس المدرسية إلى السينما

 
ثم
لقيت حضرموت
فلقيت بحراً تدخره مناماتي
ونهاراً لا تتوزعه الكائنات
وهواء مسيجاً بحذاقاتي
 
حضرموت
يا شيطانة الفراديس
تهيأي لمصادقة القنب الليلي
سريرك قارة
تتدحرج إلى هذياني الأبيض
 
شيطانة الفراديس
الثعالب تجفف ربيعها
في شمس موارية
وتحتال على العشيرة النجمية
 
شيطانة الفراديس
أمهليني ريثما أضع الريح في سلتي
وأبايع الغراب
ثم آذبحيني
لأنام قرير الدم في صحنك الرؤوم
و فجّري الغشاءات الملعونة للرمل
***
إنها حضرموت
حضرموت الأحاجي
حضرموت الوقت الملغز
حضرموت التي رتبت بحرا
وسهلاً
وجبلاً
وخرجت كعشبة مجنونة
تسوط الصحراوات
بالندى البحري
والمراكب الحجرية
وطلسمت حماماتها بالجهات الأربع
 
إنها حضرموت
إنها المعدن يلهب الروح
يقطرها في مفاوز تعوي
إنها الخلب
الزيف
النرجس الناشب في المرايا
العشائر تتلاطم بالرؤوس
النساء المؤتزرات بالكحل والغرابات
النتروغلسرين الناغر في قهوة الصيارفة
 
إنها حضرموت
حضرموت الرف العلوي للخلائق
تهرق الحرفيين تحت جنونها
تجدد مهاد الفحولة
تطوطم الخطى والخطايا
إنها حضرموت
البهية كحجر لا يكذب
الشفافة كزهرة لا تشيخ
أؤلب النشيد عليها
أعد لها ما استطعت
من الزفافات البيضاء
وأرتجل لها
شعبا من الحدقات
شعبا يقتنص المجرة
ويحلب عصفورة الريح
 
عدن – أغسطس 1986م
 
شوقي شفيق
 
النقائض
 
(1)
ذات حموضة ، جسد في الركام أعلن الإفتضاح ، وراح يؤرخ للدرس .
ذات حموضة ،
جسد أعلن خروجه على التركيم وراح يرسم علائقه
الأولى .
وشبكة الجسد تفتح شهية التفكيك
(2)
الوحشة أم الغياب ؟ الخرائب أم نقائض العائلة ؟
البياض أم الانحناء في الوعي ؟ الأسئلة أم تأرخة لتنظيف
السؤال ؟
(3)
الغيوم التي تتدحرج في أفق موحش ، الغيوم التي
تقذف الأشلاء مّنْ سماّها أمطاراً ؟
الجدران التي تحيط بي . التي تخترق القلب من
سمّاها غرفة نوم ؟
والنشيج الذي في سمائي من سمّاه غناء للطفولة ؟
(4)
في مهنة التقنية ستنتهي اشتعالاتك ، وستبدأ وظيفة
التحضير السمجة . والقمر الذي كنت ترعاه سيزيد على
احتياجاتك ، فتوزع تكدسه على مناضد أخرى .
(5)
في خباء الذاكرة ثمة حموضة قصوى
وثمة جسد خارج ساعات النوم يبحث عن نوم ثقيل
خالٍ من النوترات المشبوهة .
(6)
تحضرّ لتحللاتك ، أم لتيبّس الخلايا ؟
تستدعي التباساتك الشخصية أم أوهام الاعتياد ؟
(7)
تخرج من إسفلت التهتك لتذهب
في نرفاثا الصهيل
فهل وثقت معناك في مفردة الجمعي
أم تراك تنفرد بأمدائك المقفلة ؟
(8)
حيثما الوفت مصدر للجوع
حيثما النبوة تعني الموت
حيثما الرغائب دافع للسطوة
حيث العشيرة قصد ومناورة
ستنمو أيامك الفارغة .
 
(9)
بحث في تاريخ الزكام ، أم مصالحة لبكتيريا
السكوت ؟
تنتشر سلالة الربو في صدر هش
وثمة إعادة لترتيب الآصرة بين الرئة والتبغ
ثمة آصرة بين القبيلة ونمو التخلف .
 
(10)
ذات حموضة
أهديتُني قصيدة وسعالاً
ونقائض مني
وكسرتُ العروض الدبق .
(11)
في ليلة نظيفة – نادرة
جاءنا الرازي ، فقتلناه
ورحنا نؤسس لتاريخ سفيان بن معاوية
فازدهر الفقدان .
(12)
أهي القصيدة تقضم ما تبقى من حبال العمر
أم البحث عن حنان إضافي ؟
(13)
في الخامسة إلا وطناً
شددنا أحوالنا إلى سرعة مائلة ، وكنا
نتفاخر بوتائرنا . في الخامسة إلا وطنا ، آندلع الغموض
وتشابكت الكائنات :
الورقة والسماء ،
الحمامة وعلبة البيرة ،
ماركس والفندق العالي ،
قلبي والحائط المنهار .
(14)
ذات حموضةٍ
سنعلن الافتضاح عند تاريخ الدرس .
وسترمي جسداً إضافياً في شهية التفكيك
عند حموضة ما .
جسد يرمي تواتراته المشبوهة
ويصعد في الفراغ الملتبس .
 
 
عدن
14 – 5 – 1989م
 
عبد الناصر مجلّي
 
منزلة القات
 
في الخضرة البهية ، المتقدة في الذاكرة
في الأغصان الطوال ، وشربة الماء المالحة
في ضوضاء الأصدقاء ، وغيبة العقل ،
وأقاصيص ” المتافل “* المتخمة ،
في الجثث التي مزقتها صرعة القات ،
في لحظة ..
كانت الخيانة أولها
في ” المدكاء “*
والوسائد العالية ، ..
في عصرية لها نفس الطقوس الخضراء
في الزمن الذاهب
في ساعاته السليمانية القائمة
في ” نقم “* الحيد*
والأشجار الحجرية ، ..
والعسكر ..
والقلعة الشاحبة ،
وفي الغربان ..
والطيور الممزقة على الأسلاك
في الوطن المغدور
بين لحظة الصحو الغافية
والطلقة المباغتة
في
الشوارع المقفرة
إلا من أناس يعلكون
ضجرهم على الأرصفة ، ..
فيَّ أنا ..
القادم من توحش الماء
إلى بركة تقتتل فيها الضفادع
وتنتحر الحيتان
في
كل
شيء
يؤدي إلى حيث لا يعود الأصدقاء ..
أُهيئني لوقتي المطحون بعد قليل
عجينة
خضراء
وأسرد حكايتي ..
القات
والبول
على الجدران ..
والخطى التي تظللها الأمكنة
ذات
شخص
باغتته ساعة الأدمان
فحلّق في لذته
وآسترسل في الكلام
فتدفق البحر من كلامه
ولبطت أسماك نشوته في الميدان .
حينما أيقظته الساعة
كان الوقت حزمة خضراء
وشخص وحيد
يصنع انتحاره اليومي
بحرفة القاتل
ورعشة السكران ،
وفي عينيه ذهول
وفي ذاكرته
وطن
يذهب
(كلما أدركته المنايا)
في
رتابة
الأحزان !!!
 
عمر بو قاسم
 
نوع آخر من البشر
 
* صيغة
هل يدهشك خلو هذي الطاولة
من جهة ترتفع بها حواسك للسقف
وماذا تبقى على جبينك
غير ضوء تأخذه من جيب بنطال قديم .
تعودتَ على ثقل أنفاسه
أن يذوّب ضلوعك ليفترس ذاكرتك
أن يقترب منك أكثر
ليطفو على جسد بمسافة ما .
* تخمة ..
تأكدت أن الباب هو الأعوام ومجاز الماء الذي
ننأى به حين يقف أمامنا نهتم
كثيراً بأيدينا
*كان يتحرك بإرادته ويفترض نهاية
افترضت ” نهاية ”
لذا تكون جسدك
في عين امرأة تحبها
أداة شرط (حادة)
أذكر أني مشيت بسرعة واختصرت كثيراً من الهواء
والالتفاتات المحرجة كانت ترتطم على جبيني
وكأنه البحر الذي يقلق طيوره لتصل إلي بنظرة
ترسبت على رمل ابتل ” بالرياح ” ، نكش حكة على يدي
يتبدل حديثها تنبهك الأبواب لو كانت هذي الجدران أكثر
حرارة وأنت بجرأتك تهتم بشرب ” الشاي ” وتحيطني بهذا
المعقد لنزفت الكثير من
الدوائر التي تخشاها والتي تطفو بلا عمق أمامك
والتي تتلاشى على قطعة الخزف التي تظنها تجعل
أقدامنا وهذا الضوء الذي تبقى من ذاكرة الأيام
يهمش الجموح والألفاظ ليس ضوءاً بل هو أجساد
متوحدة لأشباح بيضاء
لقد حدثوني بصوتك . لابد من مرآة كبيرة
تدخلينها بأكملك تلمَّسي جسدك كوميه تحت
” لمعة ” رائحتي التي تنتشي بها شعيرات أنفك .
 
نبيلة الزبير
 
أيام الاثنين الواحدة
 
الاثنين
الدلو المليء الثقوب
يترمم بصعيد خائب
يتبتل للمسات سوف تمطر يديها فيما بعد
 
الاثنين
نغمس قدمينا فيه ويعرق التراب لتنبت
أيام حليقة وكستناءات
 
الاثنين
قطع الخمود التي تجمع فجواتها وتقتعد على شكل نار
قطع الرغائب المحمولة على الصدأ
الشفرات الناجزة للشواء
النار الفخارية
لم تتهيأ
يتقشر يوم الاثنين
 
الاثنين
تتكئ كثيراً
أين .. ؟
تبحث عن مزاليج للفضاء
أشعر أن في صدري هواء بأكرات منكوءة
 
الاثنين
الدلو المرمم الخيبات
يبتكر يدين من الصلصال
يسكب خابيته النيئة
ويترنح
 
الاثنين
هل النوافذ مسدلة حقا
أبرقت ..
كأن أربع بآبئ
كأن زخة
كأن خطيئة خالصة
 
الاثنين
المظلة حارة
لو تركنا للشمس أن تلحس انغماراتنا
 
الاثنين
نفتح الجريدة على برج القوس
نقرأ : ثم قابان بينهما مدية
 
الاثنين
الشارع خالٍ
إلا
من
عثرتين متعامدتين
 
الاثنين
لن تجد ما تقوله لامرأتك لأنك عدت مبكرا
ولن أجد ما أقوله لمرآتي لأنني لم أعد ..
 
علي المقري
 
كأنّكِ وحدي
 
ستكتشفين غداً أنّ الظل الذي كان
يتبعك لم يكن ظلك بل هو ظلي
وسأكتشف أنا أنّ التي كانت تمشي
إلى جواره لم تكن أنتِ
 
كأنني وحدكِ في الترقب
كأنكِ وحدي في الغياب
ربما في حياة أخرى
لن نغلق فيها أيّامنا على فزع
أو نفتحها في ارتباك
ستصبح أوهامنا عارية منا
وحيث ابتعدنا سنجدنا
حينها ، ربما ، نبكي
أو نضحك
نندم
أو نغني
……………
……………
……………
……………
ما الفائدة ؟
 
محمد الشيباني
 
تعز
(إلى محمد ناجي)
 
بعينين جائعتين يصطاد حنينه ، وبقدميه اليقظتين
يهش انسراحه في مرآتها الحجرية .
 
قبل أن تفترض أسماءنا في الحكايات
المدفونة بسلال القرويات
وفي آباطهن حيث يفشي النعناع آثامه
 
سيتوكأ طويلاً
بمآذن الرسوليين اللواتي لاذ بهن من
دروس الإملاء ، وجارى من رؤوسهن
(دخاخين) المطابخ الواطئة بحرائق سجائره
 
سيخلط أنفاسه بعوادم العربات العتيقة
وهي تجرجر أنفاسا عصية في العقبات .
 
الداخل من باب المداجر لأول مرة
هو نفسه من رأى (عبد الهادي السودي)
حياً في عطر المريد ،
في (جنبيته) منزوعة الرأس ،
في حجرته الملساء الصغيرة ،
في زمنه المحيد بين رباطين ،
 
يا بابها الكبير
سّمِ الداخلين برطانتهم ،
القرويين بدمهم الرهيف ،
الجوالين الذين يخبئون أعسارهم اليومية
تحت جلود ملفوحة
واتركْ علي النهمي مبهما
يغسل أيامه بأبخرة البطاطا
وينشق خشبتك بطحين الزعتر .
 
هدى أبلان
 
غرباء
 
(1)
الدرب ليس له أحد ..
غير جيب معبأ بأوراق الليل ..
يقتني من حانوت على مفترق المشيئة ..
خطى مرتقة بجلد حلم قديم ..
إذا تثاءب دعاها إلى رقصة بأقدام قليلة ..
وجنون كثير ..
إذا جاع التهم همسها الناضج ذات دفء ..
إذا ظَمِئَ شرب صرختها المغتسلة بماء الله ..
وإذا حن ..
غادر استطالته ..
وانكمش في زاوية في أقصى القلب ..
يقلب صور عابرين مفخخين بالنشيد ..
يذرف نظرته ..
ويصطك من الصمت ..
(2)
الوردة ليس لها أحد ..
غير انصهارها في يد عاشق حزين ..
يقطفها من غفوتها كل صباح ..
يمضي بها إلى إناء دمعة فائضة الألم ..
يعلمها ترتيل الحب ..
واستنشاق السر الكامن في العينين ..
ليسقط دون لغة ..
(3)
القلب ليس له أحد ..
يمضي لفتح غُرفه المغلقة بالنسيان الأحمر ..
تحك خفقة محبتها المسدلة منذ ألف ليل ..
يهتز قدح دم متجلد في وجه الدوران ..
ووحده .
يخيط بالطعنة سجادة الجرح المعدة للبكاء ..
ويصلّي باتجاه الموت ..
(4)
البيت ليس فيه أحد ..
حالت ثقوبه المغمضة دون استدارة شمس صغيرة في
فناء الروح ..
انحنت جدرانه في وجه صفعة الريح ..
شاخ دفؤه وانزوى في قارس الانتظار ..
يشرب بعيون الغائبين بلادا حارة سالت على حافة
المر ..
وذابت في ارتعاش تلويحة لن تقف .
 
عبد الوكيل السروري
 
تجريد
 
عارٍ من الكتابة
يزوغ في كهف المعنى
كلما هرش زغنه بحكمة الشمس
نهاره يبدو كلقيط حاذق
يشلح بين يديه وسخ العالم
لا يتطلع إلى فاكهة في الوجوه
كما لا يتوسم في العابر
ممحاة بؤسه ،
ولا حتى في مجرد صديق قديم
يهش عنه الضجر
تماما مثل طائر الحبار
يرتقي خوفه
متى أشرعت جناحاه بصفع
وجه الحيرة
يثقب بمنقاره جماجم
مفقوءة العينين
رصعتها الأنفاس بألق خفيف
سال من لعاب البرابرة
الخرائب تملؤنا
لا تجهد العصافير بالغناء
ولا الممالك بالعزاء
هناك فضاء آخر
يركض فيه الجنون
يوازي عربة العدم
داخل الأشياء ..
 
أحمد الزراعي
 
أوابد العين
 
لَمعاني المبهج ، رافقني في الظلال ،
الظلال المعتمة بطحالب
ضاجة الفراشات
في مساراتها المسكونة
 
بحنين الأزهار
حيث العصافير ترقب انسياباتها
تحرث الهواء
فاتحة أوابد العين
أوابد الماء على مكابدة أشياء
متواشجة الشجى
عين الطائر ترى جرح الفراشة ،
لكن وحدها الفراشة ترى
جرح الشاعر
وحده الشاعر ،
 
يرى قوس حياته المشدودة
إلى                         العدم .
أنام حتى تنكسر شوكة السهر
نومي
يغادر
المنزل
كل حلم
يعد الخطى المبعثرة في ظلال
الأشجار
يقتفي لمعان الوحشة
نومي يمشي وحيداً تحت نعاس
الأشجار
 
أرى صحوي متقداً
يشعل
في البروق
شرارة السر
يتأبد البحر فقاعة في
عين
قدّيس
ميّت
أرى النيازك
توسوس
قشرة
الكون
بمباهج
منسيه
أرى نمر المجرّات يدخل
حديقة ……………… اليأس .
ألمس ، بإشفاق ، طراوة
الماضي
تعلق حشرة البراكين ،
بخرائب يدي
حيث تفتح دهشتها
صهاريج
هائلة
لظمأ الخراب
أفتح بوابات شاسعة
لثيران المخيلة كي ترعى
عشب النجوم
أفتح ثقباً لخمرة البرق ،
حتى يتفصد عرق روحي
شموساً ،
باحثاً عن نسور عاد ،
في سراديب سرية .
بعين هانيبال الوحيدة .
أتلمس الجهات المعتمة ،
أغلق بوابة الموت على
أحافير
الأحلام
وأحل ملابس الكاهنة
أغطي ضوءها
بأغصان شجرة الطلاسم
أسجل طرد بريد
للسيد آدم ،
شاكراً له تفاهاتهِ
على أية حال ‍
أقطّر بهجتي في قارورة العدم
أحمل جرة اليأس حتى تصل
جثتي المنقوعة
بالعواصف ودود الخراب ،
إلى أعماق الموت النووي ،
لكن هل تستطيع وردة الأبدية
حمل جثتي المحاطة
بالفراشات ؟‍‍ ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍
 
كريم الحنكي
 
ذات حذاء وشيك
                              (.. في مناجاة صرصور)
 
ما الذي أخرجك الليلة ،
أيها المستريب ،
المتشبث
بقطعة من رصيف هذه المدينة التي
خلفت طينها ،
وانتشرت
حجرية الروح ، والصخب ؟
أية يد للغفلة ،
استمالك التيه بها ..
ثم خلاك
في عرائك الماثل بكل فجيعته الآن ،
للصحو مباغتاً
على هذا القدر من الغربة
عن قبيلك الساعي ، مزهواً
بطمأنينته ،
في مِعى هذه المدينة ،
ومجارير حقيقتها ؟
 
أيّ همّ شردك الليلة ،
أيهذا الكائن المحاصر بقماءته ..
كأنك إياي
بقرنيك الذاهلين
اللذين يستشعران ، في خلاء توجسك ،
انسحاقاً نازلاً
حين تنطبق عليك ، ذات حذاء وشيك ،
سماءٌ ما ..
ثم ترفعك
في
الخلاص؟‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍
 
صنعاء
2001م
 
ابتسام المتوكل
 
فراغ
 
في الشارع الذي لا يفضي
إلا
إلى نفسه
في برهة تقطَّع فيها
ما بيني
وبيني
في سقف الشارع
في سياج اللحظة
ها أنا ..
ألقّن خاصرة الرصيف
فن الشهقة
وأذر على الغبار مذاقاً تلتاع له ذراته
و …
أجهش بالحب
ريثما تنبت مواجعي
فأحلّق جيداً
– بجناحيه –
حينها ، لا شك ،
سأكون قد
غادرتُني
وأخليتُ لكل ما
هو ضدي
الفراغ
الذي كنته
في الفراغ .
 
محمد المنصور
 
مواقيت
 
الأصدقاء الذين مضوا
كانوا هنا / أراهم جيداً
أحلامهم التي تركوها رماداً هادئاً
مضوا … ،
باتجاه ليل لا يتسع لوسائدهم
أين يضعون رؤوسهم المبللة بالخجل
الأصدقاء الذين تتوزعهم الحارات
ينظرون من نافذة واحدة
لنفس الغيمة ” الإسمنتية ”
ها … هم .
يعودون بعد نهار
متخلّين عن أشياء كثيرة
بما في ذلك الانتظار
***
كم يلزمنا من الوقت
لنخلع هذا العرى
في المدينة التي تبيض أشجارها
غباراً
وتمنح الوحل أظافر إضافية
أيها البشر الذين يتسلقون
الهواء
الصدفةُ
وحدها
من يدفعكم لهذا الحضور الفاضح ،
 
الأصدقاءُ
مضوا
أي نهار جاء منه الرحيل
وكم يلزمهم من الحنين الإضافي
كيما يصلوا إلى لحظة
عادةً ما
ينامون خارجها ؟
يعودون
وهو لا يدري إن كان هو ذاته
أول المقيل – اللحظة التي يعكفون عليها
يتعلقون بأذيال النهار السفلى
لا تفلت منهم أصابعهم
كل خميس
القات مربوطاً في صُرر من ” البلاستيك ”
تُرى هل يقبّلون أصابعهم
أم أوراق القات
التي بالصدفةِ أنها خضراء
الأصدقاء
نعم
ندامى الأكياس – أكياس البلاستيك
بألوانها المتُغَضنة
بانتفاخها القليل
وذبولها الأبدي
ها … هم
ينطلقون عائدين
إلى
المهد
أي شيء كانوا يرفعون إلى شفاههم
الكؤوس أم اللحظات الفارغة
لا أثر
للجرار
في كل ما تقع عليه أصابعُهم
بانتظار الظمأ
كأنما يشربون
***
الأصدقاء الذين بلا عادات
هم أنفسهم يتقاسمون الهواء
وعبر الدخان
يتبادلون اللغو
حينما يأتون لا ينسون خلع أحذيتهم
الواحد تلو الآخر
كانوا هنا
يدخلون ليس من باب واحد
من منابت الضوء
يجيئون
ثم يتخطفهم ليل بلا أرصفة
أين يضعون أرجلهم القديمة
حينما
يأوون مُتعبين
وربما عُراة
يمضون صامتين
كأنما يخبئون نساءً في رؤوسهم
نساءً حتماً للقراءة
ورؤوساً للإطلاع
***
مدينة ما
تضطجع السماءُ في إحدى خرائبها
يرجمها الأطفال بالحجارة
ثم شفاهُ تتمتمُ
ثم ليلٌ يفيض عن حاجة الغرف
هاهم
يغطّون الآن في الظلام
ومساءُ أخذ بالذوبان
ونساءُ يرقبن المشهد السفلي
ينهارون
 
صنعاء
يونيو 1999م
 
مبارك سالمين
 
BAR(*)
 
(1)
أعدكم بأنني سأكون منصفاً
في وصف هذه المقبرة وسأقنعكم
بأنها بهية ،
ولا معنى لامتعاض حواسكم ،
صونوا هذه الحواس ،
وأدخلوا عبرها بهجة الموت فخارج
المقبرة ما هو أسوأ كثيراً ..
 
إنها ساحل الهوى
ساح في يدي
فلكم أشياؤكم في هذه المقبرة الجميلة
أعضاؤكم غابت بها ، جدائل أو رياحين
عبقريات تسد الشمس
ولكم ما تعشقون ..
ساحل الهوى
ساح في يدي
خمرة / جمرة
جنة / أو جحيم
علة / مهملة
في هذه المقبرة الجميلة ،
علك أن تسرح بفراشاتك نحو النار
أن تتخلص من فيضانات الشعر
أن تتهيأ للرطوبة والقيامة
أن تذهب للشط توكيدأ للموت
أن تدخل كيمياء المقبرة وتقول
الحمد لله ،
الحمد لله ونحن الآن في نعمة النسيان …
 
هل سّد فوهات الحليب
وقال للانهمار : قف ؟؟
الشعر كالعصفور معنى
والخطيئة كالنهر تفيض
لا سماء سوى ما تبقى / جثة المقبرة
(2)
في المقبرة الجميلة
رؤوس كلاب لما تزل في أنينها
كلام عن الماء
طيور لما تزل جارحة
مزيج أجناس وملاحات / أنثروبولوجيا
صاخبة
شواهد تفر من نومها ، كي تغني ‍‍‍!
رائحة وقاع زكية
صهاريج دمع وغزاة
صباح دافق ،
إنه ساحل الهوى
ساح في يدي ‍!
 
(3)
رغيف يكفي لجميع الموتى
يكفي للموت بما يكفي !!
إنها ذرة تخرج الآن من ميعاد سقطتها
لا بد لي من دوي!!
عفواً لهذا الحزن
حزن لهذا العفو
في هذه المقبرة الجميلة
كل شيء رائع وجميل
الأبناء بين منازل شتى
والأشياء في ترتيبها : جاهلي صدر إسلامي ،
أموي ، أممي ، أبو جهل ، معمم ، أقرع العينين ،
حاذق ، ماركسيون من أتراب هيجل ، وقساوسة
صغار ، شواهد شتى ..
وخارج الجنة والنار
خارج المقبرة التي نحب (أحب)
عدد من الشعراء والمنجمين والبخلاء في
الدين وعمال الأيديولوجيا ، الخونة ، موظفي
المال ، اللصوص خارج الجنة والنار . خارج اللاشيء
خارج المقبرة التي نحب
تلك حدود الشعر
في الوطن الهلام
وتلك أغنيتي
ووصف المقبرة
عدن
1990م
 
عادل أبو زينة
سفر في جبهة القيامة
 
سماء مفتوحة دوماً ، مساء مذبوح الأريج ، نساء يخطرن ، وأدغال ، مخلوقات طارئة ، أبواب موصدة مثل قلوب بنات الحارة ، فضاء ، بحر ، شمال ، كهنة ، سلم مكسور الدرج الثامنة التي توصل إلى قلبي ، طقوس ، مفاتيح ذهبية لبيوت من طين ، شوارع تخالف مواقيت النبض ، سعال ، الرعشة جزء من النص ، حبيبتي لم تولد بعد .
صراخ / منفي يحن إلى منفي وبينهما وطن من غبار ، وطن من جنازات وتجار خشب ، ضريح يعتمر كوفية ، هذا عام الحصاد الآدمي ، شعراء يموتون بعشوائية ، سفلة وزناة يتألقون تماماً ، كل ذلك يحدث عندما يقترب الخريف من الأسئلة ، هل يكفي ماء الروح العذب ، وهراءات الحبر المؤمن ، الرغيف جبل من عذابات ، الحضارة كومة من القش ، البحر وطن الروح ، ومعراج الغزالة صحو، خطوات في الغربة ، في الدخان  ، مرايا ، امرأة تلعن نعاس القمر ، هذي امرأة من خيوط العشية ، مقابر ، أبجديات ، جذع ، بخور ، شمس زبرجدية ، تشرق من مؤخرة فلس ، دمعة مدمية الأفق ، أحصنة تشعشع من أحشاء الرمل ، مواسم تنهال على صخر ذاكرتي ، شمعة في برزخ الماء ، سفر في جبهة القيامة ، قتال ، متاريس رملية تحمي تمر عيني من أفواه النمل ، خطايا ، ما الذي تكسبه المدن من طرد قلبي خارج الكرة الأرضية ؟ لا أحد يثير محبتي ، عدن عصفورة ، الضحى بلا ذاكرة ، هل خضراء ذاكرة الفجر ؟ البكاء موحش لكن ماذا أعمل سواهُ ، ثرثرة في درب أعمى ، قناديل باردة ، حسناء تغرق في النيل ، سد مأرب يعيش بلا غريقة مسكين ، أول سد في التاريخ يعيش أعزب ، وهذا منذ حوالي ألف وتسعمائة وفأر، تجلدني دقات القلب ، قلبي العامر بالحقد ، غبراء ملامح الخديعة ، الأنهر تشرق  من عنقي ، حرية الخوف ، الحرية امرأة ، بنت ، نخلة . وثن . طيف . قصيدة ، برقوقة بكاؤها شمع ، مروق أبدي ، شظايا روح ، هذي دموع الكلام .
 
 
محمد القعود
نشيد الندى
 
مقيم فوق هوة الفصول ..
أدوّن في كتاب الحريق .. نية الخطى ، انسحاب
الهديل ، غربة الحلم ، كآبة الطفولة .. انتحار
الصهيل ، بلاغة الفجيعة ، واعتلاء الرماد
قمة الضمير
***
أدوّنْ في ذاكرة الناي
-كلّتْ لغة البوح ، والحزن طويل
***
مقيم فوق هوة الفصول ..
أشذب سيرة الماء من أراجيف الظمأ .. أقلم
أصابع الدجى من فم الضوء ، أنقي براءة الفرح
من دمعة القهر ، وغبار الهزيمة .
أحرض الجرح على احتضان السفوح ..
***
مقيم فوق هوة الفصول ..
أرد عن خطاي كل دروب مترفة بعتمة العقول ..
أصد عن يدي كل جمر لا يكويني بشجو الحقول ،
كل راية تهادن ريح الظنون
***
مقيم فوق هوة الفصول ..
ألملم أشلاء الأماني /المواسم /الأغاريد /
الهتاف / الابتهاج ، من براري الانتظار ، وأنياب الوحشة .
أسرج الريح صمتي ، وأطلقها فوق صهوة المدن
علّ القصيدة تشعل طفولتها ،
وتقول ما لا أقول ..
علَّ البلاد تجر من وقتها لذة السراب
***
مقيم فوق هوة الفصول ..
نحتَ الأسى ملامحي ،
وكستني المواجع حلة الذبول
نهشت نصال القنوط راية فرحي ، وشردتني
أصداء الألم في صحارى الذهول ..!!
 
 
مختار الضبيري
هذا الفتى !!
إلى صديقي القاص المبدع /محمد عبد الوكيل جازم
 
هذا الفتى
ربيع يمشي
شاعر مبلول
بخمرة السرحان ،
وهشيم التمتمات.
عينان
لا يمل
بكارتها
الريف
قبلة ناي
دخلت  – من غير قصد –
بيت الله
بسمات شاحبة
تتقاسمها
” قرقرات المدائع ”
وعيدان القات ”
حناء زفاف
ينام
على راحتي صبرية
عربة طفل
تهرول
كالضحك
ظل
يبكي
في الظل .
 
نادية مرعي
حوذي
 
تنظّم قطعانك كما ينبغي .
تعيد الكرّة مرات .
مرات .
لا تتعب ، ترافق حماقاتك
عاهات تعيسة /
قرباً خرقاء .
تنفخها دون ملل
تتمرغ حريتك مصفرة
مرارة يوم آخر .
تجتر مواجعاً أمواجاً
صارمة
أسلحة برونزية قديمة
ثقوباً
تحاذي نفسك .
ساعات لا تملأ ،
مدهش قلق انسجامكما ..!
بلا قنوط ..
تعاود البدء :
كل مرة
تسوق ما أستنفر منك
تهدر فراغاً لذيذاً
.. مرات
.. مرات ..!
 
17نيسان 99 م .
جميل حاجب
طراوة
(1)
العاشق يقف
أمام مبنى البريد
يُسيل صوته
كأن يقول :
ربما تغدو يوماً عاشقاً
عندئذ
تعرف كم سهل هو الجنون .
(2)
الصلصال
للنسوة يدعكن أجسادهن
بوقار
ومن العيب حقاً
أن لا تكون لنا
طراوة الطائر .
(3)
العاشق يمَّحي
قبل الطريق
الشروق لا يصل .
(4)
إذن
هل تعرفين
لماذا يتسع بك
ويضيق به
في الجذور ؟
(5)
العاشق لا يعرف أبداً
سر  عشقه
غير أنه
يعرف كيف يكون عاشقاً .
أحمد السلامي
كسل
 
الظهيرة معطلة ، تهبك نعاساً إضافياً ، لتلقط القطرات
المتبقية من النوم ، تصغيها بعمق تحت المخدة ،
تتخيل
أنك تحتضن جسمك ، أو أنك نائم في حضن نفسك ،
مستسلماً لرغبة طفل ، هو الجسد : غجري لا تحصى
أعياده ، تدعه لعينك تلهو به في خيالها .
تحتفل بأعضائك ، وحين يؤلمك وخز في ظهرك
، تستدير بهدوء لتلمس الألم : ربما أذن تلتصق
بالجهة الأخرى من الجدار ، تسترق سمع
جريان الدم في شرايينك .
الظهيرة معطلة ، وباب الغرفة مفتوح ، يراقب التصاق
أجزائك بالفراش ، اليد تتثاءب ، تداعب ذيل خيبة
البارحة
تشكو نملاً إلى صمت زحفه ، وأنت ، لا تملك سوى
صوتك
، وموسيقى خفية ، ربما أنغام تحت جلدك يبعثها
خدر يتفشى
عزفاً على العروق .
يظل مفتوحاً ، لأن صوتك الخفيف بلا يد ليغلقه ،
ومع ذلك
، تحاول غلقه بصوتك ، فتربك الخشب جيداً بأفكارك
التي تزينت
ونامت على العتبة : مفترق يغري بمتعة التثاؤب قططَ
الأفكار الساهرة .
نبيل سبيع
اليوم الذي تعيشه ساعة يدك بدلاً عنك.
 
اليوم الذي يقف بأدب في الطابور
 
اليوم الذي يربط خيط حذائه
ويجب أن يذهب
 
اليوم الذي توسعه ذبابة
 
اليوم الشفوي
(الجهوري أو المهموس)
 
اليوم الميكروفوني
والفوتوغرافي وهلم جرا
 
اليوم المحكي
 
اليوم المترجم
 
اليوم المثلج
 
اليوم الذهبي
أو الآخر العضلي
اليوم العاطفي
 
اليوم المنوي
 
اليوم المباشر
وغيره
 
اليوم الخلفي
 
اليوم الجانبي
 
اليوم الشكلي
 
اليوم المطبوخ جيداً
 
اليوم المستعمل أكثر من مرة
 
اليوم التالف 100%
 
اليوم المسلفن
 
اليوم الكومبارس
 
اليوم الداخلي ليوم
أو الذي يكون بدون درابزين
 
اليوم الذي يدور هكذا في الصالة
ويكلّم نفسه
 
اليوم المعصوب كله بالشاش
 
اليوم المدلل
أو الآخر الذي يتعرق بدون حظ
فيستند إلى حائط
هكذا ، للحظة
ويتنهد بقوة
 
اليوم الذي يبقى هكذا
مقلوباً على ظهره
وقد يئس تماماً
 
اليوم الذي يتعرض للغبار بدون مبالاة
وستجمع أظافرك الكثير من الوسخ
إذا ما هرشته
 
اليوم الذي لم يشرحوه لك في المدرسة
 
اليوم الذي تعاتبه
وقد يعتذر منك
أو الذي تسند ظهرك إلى ظهره ، هكذا
-وتتبادلان التهم
 
اليوم الذي يحاذيك
ويسألك عن الساعة
أو الذي بمجرد أن يحاذيك
تسقط وتشتم أمه
فيدرك الآخرون
أنه دفعك بكتفه
 
اليوم الذي يلقي عليك التحية
وقد تلتقط معه صورة تذكارية
أو الآخر الذي لا يلتفت إليك البته
 
اليوم الذي تركض وراءه
وتناديه بقوة
فيواصل طريقه
دون أن يلتفت
أو تدركه
 
اليوم يتوقف أمامك فجأة
طاوياً ذراعيه
وينظر في عينيك مباشرة
دون أن يتكلم
ودون أن يكون صامتا
فقط ، يثبت عليك عينيه
ويبقيك هكذا
ترتجف وتتعرق
وقد تتظاهر بقراءة مقال في الصحيفة
 
اليوم الذي يربت على كتفك
ويضم خدك إلى قلبه
أو الآخر الذي يركض خلفك ويدركك
فيلوي ذراعيك إلى ظهرك
ويثبتك بقوة إلى حائط
ولن تنسى كيف أمرك بأن تبقى هادئاً
 
اليوم الذي يكون ضيقاً
إلى الدرجة التي لا تسمح لك
بأن تقف داخله فارداً ذراعيك
 
اليوم الذي قد يتهدم
بمجرد أن تعطس تحت سقفه
 
اليوم الذي تحتاج فيه إلى “موتور”
لكي تتخيل شيئاً
 
اليوم الذي تعيشه ساعة يدك
بدلاً عنك
 
اليوم الذي يتفرج على طريقتك في الكسل
ثم يصفق لك بحماس
 
اليوم الذي تدعه يتقدمك خطوة
لتتسلى بالكتابة على قفاه
 
اليوم الذي يقدم لك الكرسي
وقبل أن تستقر عليه
يسحبه ، فجأة ، من تحتك
محمد محمد اللوزي
قصيدتان
 

  • انحدار

 
 
الألم الذي يوزع مجاناً
هل يمكن أن يباع ؟
تطابقت مع نفسي
ثم انحدرت
انحدرت
إلى حيث لا أحد .
الألم الذي يوزع مجاناً
هل يمكن أن يباع ؟
سنوات الانتظار اليتيمة
هل يمكن أن يشتريها متحف
يعرضها …
في صالة الموميات ؟
انتظرت طويلاً
حتى نسيت ما يشبهني
ونسيت ما أشبهه .

  • أعميان

 
يحسب الأعمى
أن كل ما حوله جدران
ويحسب المبصر
أن كل ما حوله فراغ
وحين يمشيان
يصطدم المبصر بالجدران
ويتعثر الأعمى بالفراغ
 
عمار النجار
 
الرجل الذي لا يجرؤ
 
(1)
الرجل الذي ينام في الصفيح
في التأسي والصفيح
في الندم القارس والصفيح
في الأشباح الأليفة والصفيح
في ليل أرجواني يجر شجرة يابسة والصفيح
في الوحشة الطافحة والصفيح
في هواجس الموانئ والعاهرات والصفيح
في البخور المر والصفيح
في الكتيبة التي لم يعد منها إلا جندي واحد …… والصفيح
في الخريف الناعم والصفيح
في خيانة النساء المالحات والصفيح
في العربات الداخنة والصفيح
في الرب المنسي والصفيح
في الوريد الفارغ والصفيح
في معاشقة الخيبة والصفيح
في حكمة الجدات الميتات والصفيح
في التابوت المتسخ والصفيح
(2)
الرجل الذي لا يومض
الرجل الذي لا يحلم
الرجل الذي لا يجرؤ
الرجل الذي لا ينبض
الرجل الذي لا يصحو
الرجل الذي ينام في الصفيح
(3)
الرصيف مديد ومعدني
مطير بشره كبريتي
إسفلت يتشقق
باستمرار
النساء يسئمن الرجال
باستمرار
الأحذية تجوب الإسفلت
والنساء
باستمرار
ورجل ينام في الصفيح
باستمرار
(4)
برميل الصفيح مضغ
رجلاً مشرداً
ذات ليل
برميل الصفيح تقيأ
رغبات رجل مشرد
ذات صبح
رجل ينام غير آبه
في الصفيح
(5)
الرجال
الرجال معادن …
(6)
مدن موسوسة
بالمعدن
لمعان فاضح
ورجل مازال
ينام
في الصفيح
(7)
الصفيح آبتلع
رجلاً
(8)
هواء بارد
ينخر فراغ
الجثة
الصفيح فارغ من الرجل
(9)
الفراغ ينام
في الصفيح
(10)
الصفيح …
 
مايو 2002م
 
إياد الحاج
 
رقائق بولستر شفافة
 
الجوارب التي يمكن تمييزها بسهولة
الجوارب العصرية
ذات القوام المعقول ، جداً
الجوارب التي تبتهج لمناداتها
برقائق البولستر الشفافة
تلك التي طالما كنت تتباهين باصطحابها في سهراتك الليلية .
***
الجوارب الحشاشة
التي ضبطت أكثر من مرة
في حالات ضحك هستيرية
الجوارب الجريئة
التي لا تترد في التلصص على مناطق محظورة
تحت طاولة العشاء
التي لا تكف عن التحرش بالأقدام العارية
الجوارب التي لا تستلطف أبداً
الأحذية المغلقة
بحجة أنها تفوت عليها
فرصة المشاكسة .
***
الجوارب التي اعتادت كل صباح
افتعال تحية لطيفة
تستقبلها جوارب مترهلة لجارك العجوز
بحرارة بالغة على الشرفة المقابلة
***
الجوارب التي تنصرف بلياقة عالية
تماماً كنجمة سينمائية
تعتني جيداً بمظهرها الخارجي
ولا تتخلى عن الموبايل في تجوالها اليومي
الجوارب التي تستمتع كثيراً
بمشاهدة أفلام ” الأكشن ”
وفرقعة الفشار المعلب على الأريكة
الجوارب التي غالباً
ما تظهرها شاشات التلفاز
وهي تطير ابتسامة / تلويحه / قبلة خفيفة لا تفسد المكياج
باتجاه صفوف المعجبين
أو ربما اضطرت إلى التوقيع على الكروت
الجوارب التي تنهي استعراضك الراقص
بحركة رشيقة للغاية
لتحصد في كل مرة
تصفيقاً حاداً
لا يخصك بالطبع
الجوارب التي استأثرت دونك
بالأغلفة الأمامية
لمجلات شهيرة
لقد أفسدت أظافر قدميكِ
كل ذلك ..
 
طه الجند
 
ماذا يمكن لغبي أن يعمل في هذا الليل المتأخر
 
كل شيء منصت
اللوامع الناعسة تغري
وأنا لا أتقن التسلق
ماذا يمكن لغبي أن يعمل
في هذا الليل المتأخر
لماذا لا أحاول الكتابة ؟
فهي لا تحتاج إلى سلالم
حرفة مناسبة لعاطل مزمن
بهذا المنطق العبيط
سحبت ورقاً من ظرف أمامي
القلم يشبه جندياً إسبارطياً
قلبت الأمر
هل أكتب عن الحرب المعلنة ؟
أم عن الهزائم المنسية ؟
قبل السطر الأخير
وعلى مرأى من الحيل والمواجع
أدركت كم تبدو الفكرة رخوة
إذاً الشعر نافذة الغياب
وجدار المضطر
قفزة مباغت ! فقط
الوقت ينبح في الخارج
وحيداً كمياه الينابيع
الأصابع تركض في البر
السيول تترقب المطر
لتمضي معه إلى البحر
وأنا كعجل صغير يحرك ذيله بتعجب
وينصت لما يجري بانبهار
سريعاً تغيم المسالك وتقفر الروح هكذا
عدت منهكاً
أنظر إلى القلم بإشفاق
وألقيت بالورق
هاأنا أحملق في السقف
خشب الصالة سبع لا غير !
خمسة أبواب بالتمام كفروج البهائم
عداد الكهرباء مثبت على الجدار
تذكرت حين أعطاني أحدهم
كرتاً به ألقاب وأرقام
دونت له في المقابل رقم العداد
شخص مهم ولامع
كان لابد أن أتصرف معه بلياقة
على كل حال المطبخ هناك في الجهة المائلة
أيها الصديق لا أحب مفاجآتك المغرية
أمضي إلى الداخل لرصد الحالة عن قرب
أتحسس في الركن
كيس الدقيق لا يزال مكابراً رغم الغارات
كومة صغيرة من البطاطا
إلى جوارها بعض البصل
الغاز واحدة .. الأخرى فارغة
الحليب .. نهاية الشهر سأشتري علبة كاملة
الموقف لا بأس
بالإمكان أن أنام الآن
 
 
 
* متافل : جمع متفل ، وهو الإناء الذي يبصق فيه أثناء تناول القات .
* المدكاء : في الأصل هو ” المتُكاء ” .
* نقم : جبل يطل على صنعاء من جهة الشرق .
* الحيد : الجبل .
(* )  بمعنى : سدّ أو حاجز
. مقاطع من نص طويل بعنوان (متابعة التمارين السويدية)

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*