يجد متعة في الرحلة النقدية المعاكسة- حوار أجراه الشاعر عبدالرزاق الربيعي -جريدة الزمان

 
الدكتور حاتم الصكر:
 
تركت التجارب الأسلوبية أثرا واضحا في تحديث القصيدة العربية
ما يهمنا في النقد تحديث الإجراءات وطرق إنجاز الفاعلية النقدية
 
حاوره : عبد الرزاق الربيعي
 
رغم أنه بدأ شاعرا أصدر ثلاث مجاميع شعرية  , وبعض القصائد النثرية في أماكن متفرقة ,فسجل اسمه من خلالهن كواحد من الشعراء الذين حملتهم موجة الستينات على ظهرها ، إلا أن الناقد الدكتور حاتم الصكر سرعان ما أغرته العملية النقدية ليصبح واحدا من أهم النقاد العرب المعاصرين تشهد على ذلك إصداراته النقدية العديدة : ( الأصابع في موقد الشعر – مقدمات مقترحة لقراءة القصيدة  – بغداد1986) ، ( مواجهات الصوت القادم – دراسات في شعر السبعينات  – بغداد 1987) ، ( البئر والعسل- قراءات معاصرة في نصوص تراثية – بغداد 1992) ، ( ما لا تؤديه الصفة – المقتربات اللسانية والشعرية والأسلوبية – بيروت 1993) ،( كتابة الذات – دراسات في وقائعية الشعر – عمّان 1994 ) ، ( رفائيل بطي وريادة النقد الشعري في العراق – كولونيا – ألمانيا 1995 ) ، ( مرايا نرسيس – الأنماط النوعية والتشكيلات البنائية لقصيدة السرد الحديثة – بيروت 1999 ) وله كتاب في الفن التشكيلي عن الفنان (جواد سليم ) ودراسات تشكيلية عديدة
والصكر  بحميميته ودفئه الإنساني أصبح نموذجا ممتازا للشخصية العراقية الودودة حيث يلتقي عنده الأصدقاء  , يبوحون له بأسرارهم , يقراون على مسامعه كتاباتهم , فيصغي لها بكل اهتمام , ثم يدلي بملاحظاته لهم بكل شفافية  ولطف ,و لعل أدق وصف له هو ما عبر عنه  الدكتور عبد العزيز المقالح في كتاب( الأصدقاء) بقوله ”
باذخ في مودته , وألوف
بقلب مضيء
ومثل الندى هاديء في تواضعه
وعلى قلبه الرحب يزدحم الأصدقاء ”
جمعتني به علاقة عميقة بدأت في أروقة دار ثقافة الأطفال ببغداد عام 1981 م وتوثقت في اليمن, عبر لقاءات تشهد عليها شوارع صنعاء والصديق الشاعر فضل خلف جبر الذي كان يشاركنا هذه اللقاءات , ومكتباتها , ومجلس الدكتور عبد العزيز المقالح  أيام إقامتي بها   ومازلت أتواصل معه بشكل مستمر عبر البريد الالكتروني , فمن طبائع الصكر انه يتواصل بشكل حميم مع عشرات الأصدقاء العراقيين والعرب في أماكن مختلفة من العالم ,اخذ بيد العديد من الشعراء العراقيين واليمنيين  الشباب –يقيم حاليا في صنعاء أستاذا في جامعتها- وآخر كتاب صدر في صنعاء , كان للشاعر طالب عبد العزيز , حيث تابعه وكتب له مقدمة  وراجع (بروفاته ) وهو ديوان ( تاسوعاء ) الذي صدر عن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب اليمنيين قبل أيام قليلة , دون علم الصديق الشاعر طالب عبد العزيز .
والكلام عن الصكر, إنسانا ,يطول , ولو استمررنا به لالتهم المساحة  المخصصة للإصغاء له , ناقدا ,بل  واحد ا من ابرز النقاد العرب  في الوقت الحاضر .
–  في دراساتك النقدية نرى انك تعتبر قصيدة النثر نموذجا للحداثة , والذي يقرا شعرك في دواوينك الثلاثة يرى غير ذلك , ما تفسيرك لهذه المفارقة ؟
في الشعر , أجد نفسي منقسما , لان اشتراطاته كما يفرضها هو علي في القصيدة ليست هي ما أريد فرضه على نفسي قارئا للقصيدة بمعنى إنني استجيب لحساسية خاصة بي وأنا اكتب عن الشعر بينما تتجلى شروط خاصة بي وأنا اكتب عن الشعر بينما تتجلى شروط خاصة بالقصيدة عند كتابتها تتفق مع إيقاعي ونقطة ملامستي للشعر التي يثيرها الانفعال عادة , لذا تجد إنني اكتب عن قصيدة النثر نموذجا ممكنا للحداثة ولا اكتبها إلا قليلا لأنني اكتب الشعر بانفعال شديد وبحالات خاصة جدا لا يعود للاختيار فيها حصة من منطق او تنظير , فتجيء مندفعة يصعب علي كبحها او فرض نظام ما عليها , فأنت تستطيع ان تشبه ذلك بمناورة يتقابل فيها النص والقاريء , في الشعر تفلح القصيدة في أن تجعلني أتخلى عن خططي لكنني في الكتابة عن الشعر أحاول أن أواجه بوعي مسبق خطط القصيدة وهذا هو الفارق مابين موقف الكتابة ولحظة القراءة وافقها , وهو يحكم في ظني اغلب كتابات الشعراء الذين يتخذون النقد موقفا فضلا عن إنني لا أرى علاقتي بالشعر نموذجية وصحيحة .
–   كيف ؟
– الشعر لا يقبل الابتعاد الخجول او الغزل البعيد , بل هو اقتحام ومخاض لم اعد قادرا على خلق مناسبته او الاندماج في افقه , لكن هذه العلاقة تريحني حقا , اذ تبقيني كذات قارئة على مبعدة من مسافة كافية من موضوعي وربما , وهذا اعتراف , يضعني هذا الابتعاد الشبيه بابتعاد المشاهد عن اللوحة بما يكفي لمشاهدتها في موقف ذاتي محض إذ اسقط أحيانا ظروف كتابة النص وأتجاهل نيات كاتبه لانطلق في تأويله دون خبرة كتابة مسبقة ولعل هذا هو سبب نفور القراء من شعر النقاد , راهنا , ومن شعر العلماء سابقا , لان نصهم الإبداعي لا يظهر الفاعلية النظرية لرؤيتهم او منهجيتهم .
–  وهل تتفق مع ابن قتيبة عندما سئل عن سبب عزوفه عن كتابة الشعر أجاب : علمي بصناعته ؟
– تذهب الدهشة بمعرفة أسرار اللعبة , ذلك القانون يسلب متعة منتظرة ولذة مرجوة من كتابة النص الشعري في حالة الشعراء – الكتاب  لا لأنهم يفككون لعبة ذات قوانين نهائية فليس في الشعر مثل ذلك , لكنهم في الحقيقة يكشفون لعبة منظورهم الخاص فلا يعود ما يدهشهم في النص , وليس من سبيل لأي استكشاف جديد أو مغامرة لأنها محكومة بخرائط ذات حدود قاسية ومقدسة في شعر سواهم يفاجيء النقاد ويفاجئون أنفسهم مما يجعلهم يغيرون وجهات نظرهم ويبدلون سير تحليلاتهم الذهنية وفق معطيات النص الشعري الذي أقصي كاتبه , أما معرفة أسرار  الكتابة فلا يعود لها معنى إلا بالتوفر على قوانين نظم عامة  -من عروض وبلاغة ونحو -وأنت تعلم إنها وحدها  لا تكفي لخلق النص الشعري فليس إذن من أسرار تعيق نص الناقد شاعرا , ولكن الإشكال هو مفاجأة الذات والدهشة المستلبة , لدي شخصا محذور آخر يقف بيني وبين الانغمار في تجربة الكتابة الشعرية .
ما هو هذا المحذور ؟
–  هو ما تخلقه المسافة بين الممكن والواقع على مستوى الوعي , وما تضيفه ذخيرة القراءة إليَ والرقابة الذاتية , إن قرائي والشعراء الذين أقرا لهم والتراث والقصيدة ذاتها هو القصيدة , إلا إنني لا أجد نفسي بعيدا عن الشعر إذا ما اعتبرناه شيئا أوسع مدى وأعمق من الكلمات ذاتها داخل النص , أي انك تجد بعضا من شعري غير المكتوب في موقف النقد ذاته سواء بنقطة اختيارية للموضوع أو اختيار  مداخله وعناوينه وحتى أسلوبيته الخاصة فانا أرى أن النقد أدب في المقام الأول , وأية محاولة لفكه من حاضنته الأدبية بحجة علميته أو ابتعاده عن الإنشائية لا تنجح في خلق أدبية خاصة للنقد , المقالة النقدية في الدراسة والبحث يمكن أن يظهر فيها أسلوب خاص بالكاتب وان تضيف ذخيرة أدبية لقارئها بما إنها تجاور النص الشعري وتتعلق به , بهذا المعنى نبحث عن الشعري في النقدي وعن قصيدة مفترضة لا يقولها كاتب
–  لو وضعنا مجاميعك الشعرية على طاولتك النقدية ,فماذا تقول ؟
– لا أخفيك إنني بوعي وبلا وعي أحيانا أقصي الشعر من منجزي الأدبي الخاص واشعر إزاء أية مجموعة من مجاميعي الثلاث بان ما كتبته ليس هو ما أريد فكأنني أقدم نفسي باسم آخر أو أتحدث عن شخص  سواي وذلك يربكني أحيانا على مستوى الشعور لأنني في الفترة الفاصلة بين الكتابة والنشر أكون قد ( نمذجت ) في ذهني قصيدة معينة مفترضة ورحت أقيس  عليها الشعر الذي أقرؤه , حتى شعري أحس غربته إزاء النموذج الافتراضي , هنا تختلط آليات الدفاع الذاتية عن النفس بالمناطق التي يصدر عنها الوعي بالشعر نظريا , إن تبدلات الحساسية الشعرية والذائقة تجعلني كقاريء أحس بالنفور أحيانا من موقفي أثناء كتابة  نص لأنني لا أهبه نفسي كاملا ويكون نصي كالكلمة في الأمثولة العربية القديمة إذا خرجت مني فاتتني وفقدت السيطرة عليها ولذا لا أجد لنفسي في الشعر مستقبلا محددا لاسيما بعد أن بدأت تتسع خارج اطر القصيدة ذاتها لتصل إلى الرؤى ووجهات النظر والأساليب والطرق وسواها من الكيفيات الممكنة لتشكل شعرا خاصا نعرفه ونحسه لكنه ليس الشعر الذي نكتب وننظم قاصدين ذلك كما ترى يفرز منحاي الشعري في أسلوب كتابة المقالة النقدية ولعله من أهم الأسباب التي أبعدتني عن البنيوية المدرسية التي تحيل النص على مستوى النشاط النقدي إلى عينة قابلة للتحليل ببرود وبأقيسة نهائية ذات طابع علمي
* تتوسل الدراسة  النقدية بالنص لتخرجه من أطره البلاغية إلى عوالمه الإيحائية , هل يمكن النظر  من هذا الجانب في دراستك ( البئر والعسل ) وما هي الأسس التي تتمحور في الذائقة النقدية للتراث بوصفه نصا شفاهيا ؟
–  مشكلة التراث أو اشكاليته بالمعنى الأصح قائمة فينا نحن متلقي هذا التراث , لكن المشكلة إننا نحن المحاصرين نختلف حوله أي حول سبل الاتصال بهذا التراث والطرق التي تؤدي إليه ,فالماضي ليس هو التراث قطعا , لكن ما يشع علينا ويحضر في وعينا هو الذي يتحدى سؤال الصلة بالتراث على المستوى المعرفي , في اعتقادي إن التراث يتشكل كل مرة مع كل قراءة بشكل آخر , وذلك حقل لنا أولا وللتراث ثانيا , فهو ليس محددا وإنما نعود إليه بمعنى الهضم والامتصاص والتمثل , ومن هنا تنشا المشكلة ,فالرؤية التراثية للتراث بتعبير الجابري نتبناه كاملا ونذب عنه كشيء مقدس لا يجوز مسه ,والرؤيا الحداثوية تصطنع خصومة مع موضوع خارج ذاتها بفعل رؤية مقحمة عليه من الغرب غالبا , الغرب الذي لم يفعل مثل ذلك مع قرائه
* وماذا عن الرؤية المعاصرة للتراث التي تنطلق من وعي العصر ؟
– لا تخاصم التراث قدر خصومها حوله مع الموقفين السابقين لهذا الدافع اتجهت إلى إشارات لامعة جذابة كحقول المغناطيس كامنة في المتن التراثي ليشمل الأخبار والأساطير وبعض الامثولات , هذا على مستوى النص
* وعلى مستوى الزمن ؟
– جرى  التوسع بشكل موغل في الماضي الذي يحتوي التراث ويؤطره فوجدت درسا نصيا ممكنا في لقية بابلية أو رقية من أور أو خبر عن شاعر جاهلي ومحاورة لصوفي ونادرة ذات بعد يطلقها مجنون , بل وجدت متنا هائل الضخامة في شعر العميان وتبصراتهم التي تكاد ترى ما لا تراه أعينهم المطفأة فكانت العصا المبصرة عنوانا لمقاربة اللا مرئي والمرئي معا في نص البصر والبصيرة بسيرورة تمتد من الأدب العراقي القديم وتمر بالتراث الإسلامي والعربي وبعض متون السرد الحديثة ,لقد كانت رؤيتي للتراث في (البئر والعسل )نصية في المقام الأول وتذوقية تبحث عن الأدبي في التراثي
و في نصوص التراث نداءات مغرية لا تكف عن جذب القراء المعاصرين رغم بعدها في الزمن وإذا ما قمنا بقراءة سياقية للتراث فسنجد النصوص الإبداعية والقضايا التي تثيرها ، مناسبة أخرى لاختيار رؤانا وإجراءاتنا .
وبالنسبة لي كنت أجد متعة إضافية في هذه الرحلة النقدية  المعاكسة أي العائدة للماضي
لكنني ركزت على هوامش وحواشي من هذه كالسرد الرمزي والمضامين المخالفة والترميز والأسطورة ، وفي ذلك تحريك لمفهوم الصلة بالتراث والإفادة منه أو استحضاره
* ألهذا تعتز بـ(البئر والعسل ) وتعتبره من أفضل كتبك وأقربها إلى نفسك ؟
– نعم ، رغم أنه أصغرها حجما وأقلها تعمقا في المعنى المعرفي واستخدام المصطلح والمفاهيم ولكن اجتهدت أن أنجز فيه أسلوبية شعرية تعالج حكايات وقصصا وأخبارا من التراث فجاءت اللغة ذات وهج شعري مع المحافظة على تعدد المواضيع التي عالجتها في هذا الكتاب والذي كان أول استجابات للتأثر بالتلقي والاهتمام بالقارئ بصفة من العناصر الأخرى ، كما أحسست بمتعة خاصة وأنا أعد مادته وأنتقيها من قراءاتي التراثية .
* وكيف قدمت المعالجة النقدية لهذه القراءة ؟
– معالجتي تعتمد على منهج التأويل الذي يبحث عما وراء بنية أسطح أو ما يظهر من النص في القراءة الأولى ,فكنت اذهب إلى بواطن يتيحها الحفر النقدي والتأويل خاصة فيظهر ما في النصوص من متون غائبة أو مغيبة وعلى هذا المستوى من التحليل يستثمر الكاتب العنوان والواجهات الخارجية الأخرى مستندا إلى حجج لسانية في النص نفسه , ولنمثل لذلك بالحكمة الرعناء ,وهو احد فصول الكتاب حيث تناولت أخبار المجانين وأشعارهم فوجدت إن الجنون  ليس قسيم العقل وإنما هو قسيم المنطق السائد ,أي ان المجنون الذي سئل عن سبب لبسه القلادة فقال :لكي لا أضل عن نفسي ,سيكون  في منطقه عقل آخرين وليس في منطقة اللا عقل التي توصف بها أفعال المجانين في العادة لان كلامه يحتمل التأويل كأداء وكذلك الأعمى الذي يقول ( كفاي عيناي )
* ألا ترى انك تحمل النص أكثر من طاقته ؟
– كل قراءة تلي الانتهاء من كتابة النص هي تحميل وتوجيه وتأويل يتطابق بالضرورة مع (نص ) الكاتب ,إننا لا ننطلق في القراءة من حقائق نهائية بل نرى في النص دعوة لنا جميعا ونداء للاتصال به وفق ذخيرة القراءة التي تكونت لدينا , ولهذا نختلف في المصطلح والمفهوم , إنني على العكس من ذلك أرى إن النشاط التاويلي هو انتصار للنص , وأحيانا أجد نفسي اقرب للنص من كاتبه نفسه ,لا أنسى إن شاعرا معروفا رد على قراءتي لديوانه مسفها اجتهادي في تأويل عنوان ديوانه الذي وجدت فيه محفزا للتجربة داخل الديوان ,لقد كنت في هذا الموقف أكثر تفهما للنص واعتدادا به من الشاعر نفسه ,إننا لا يمكن على مستوى القراءة أن نفرض رؤية ما على القاريء ولكن يتاح لنا بما ان النص متن لغوي في المقام الأول أن نستخرج منه دلالات متعددة تختلف حولها التأويلات لاسيما في الشعر الحديث الذي تلتبس فيه الأشكال والرؤى وتتحد سبل التعبير دون تقاليد راسخة .
* تدور في الدراسات المقارنة الحديثة فكرة البحث عن بديل اصطلاحي للتأثير , الغاية منه أن يكون فاعلية إجرائية في النظر إلى نص الآخر فيقترح مصطلح التماس والمؤسس على المجابهة وصولا للاستلهام أين تكمن رؤيتك للتأثر والتأثير ؟
– أنا أرى إن السرقة وتحقيق المسروق والمنقول والأصيل هو من مهمات النقد الأدبي المعاصر , لان هذه المهمة موكولة بمحقق النصوص والمؤرخين ولا تحتاج إلى جهد كبير وهي خارج النقد لكننا نبحث عن تأثيرات  مشعة ترسلها نصوص كبرى أو أفكار أو مقولات تتشظى لتأخذ قيادتنا في نصوص تالية والذي يعنينا هو الكيفيات  التي تم بها هذا التأثر ,لقد ظن بعض أدبائنا بفعل نظرية المركز والمحيط الاستشراقية إن الغرب نص مشع دائما مؤثر ومرسل , ونصنا هامشي مستقبل متأثر دائما , حتى ليذهب بعضهم إلى البحث عن المسروق دائما في المرجعيات الغربية في الشعر خاصة حتى لو كان التأثر بكيفية فنية تحيل المرجع عربيا , إن الكيفية المراد فحصها  فنية في المقام الأول  مستندة على وجود نصي يلتهم المؤثرات ويتمثلها ويقوي دمه بها فلا تظهر بأشكالها في حجيرات هذا الدم وأنا تدخل في مكوناته الحياتية وبنائه الجسدي , فالمفارقة قائمة على اعتبار النصوص ملكا مشاعا في خطوطها العامة ويعاد دائما صوغها وهذا هو مجال عمل النقد , أما استقصاء المؤثر بإرجاع كل كسرة نصية إلى شاعر آخر ( غربي في الغالب ) فهو عمل يعيد درس السرقات الشعرية الذي بدد جهود النقاد القدامى وأدخلهم في المبالغة وتهويل هذا المبحث لدرجة إن بعضهم يستخدم عبارة هذا البيت ( ينظر إلى بيت فلان ) أو (يلاحظه) , إن المؤثرات الكبرى على الإنسان واحدة لاسيما في مسائل شعرية كبرى كالموت والخلود والحب والحرب .
 
 
–   شاعت مؤخرا تسميات عديدة تصف زمننا بأنه زمن الرواية أو زمن الشعر أو زمن السينما .. باعتقادك أي زمن نعيش ؟
– أوضحت في مناسبة بحثية سابقة إن القول إن هذا الزمن هو زمن الرواية أو الشعر هو ضرب من التأويل البعيد ، لأنه يحتكم إلى معطيات قابلة للجدل فمثلا قولنا إن هذا زمن الرواية يستند إلى مبيعاتها وتحتله من اهتمامها وحتى إلى مستند تداولي عابر مثل فوز (نجيب محفوظ ) بجائزة (نوبل) لكن تلك المعطيات التي يصدر عنها الحكم كلها قابلة للنقاش ، علما بأن ذلك لا يمنع تزايد الاهتمام بالرواية والالتفاف لها كجنس أدبي مهم إلى جانب الشعر ولكن أي تراتب بديل يضع الرواية على رأس القائمة هو تراتب مختلف عليه ، لأنه نسبي فهناك من يقول أن الزمن لم يعد يحتمل قراءة رواية طويلة بسبب حجمها والزمن المتاح للإنسان المعاصر فضلا عن أن الشعر كما هو متحقق في الحياة الثقافية العربية لم ينسحب إلى درجة الفراغ لتحل محله الرواية التي لا تزال تعاني من الكثير من المشكلات  الأسلوبية رغم تعدد مناخاتها وأساليب كتابتها وظهور تيارات فاعلة ومؤثرة في الرواية العربية دون شك كتجربة (نجيب محفوظ) و(الطيب صالح ) والأجيال التي جاءت بعدهما والتي تواصل الإنجاز الروائي العربي وهو إلى جانب القصة القصيرة وتطورها الواضح في العقود الأخيرة .
 
–   كيف أسهمت نظرية التلقي في تغيير أو تطوير المنظور النظري للنقاد العرب المعاصرين ؟
– نظرية التلقي من أحدث النظريات التي دفعت النقد الأدبي إلى مواقع جديدة ،فبعد عصر (المؤلف ) جاء عصر (النص) لكن التلقي أو التقبل يدفع النقد إلى موقع( القارئ) وهو الخطوة الثالثة في نظرية النقد ومنهجياته .
وقد لقيت النظرية استجابة لدى النقاد العرب لأنها أجابت عن أسئلة محيرة مثل علاقة النص بالمحيط وبالقارئ وبسواه من النصوص ، فكانت نظرية التلقي اعتدالا وتوفيقا بين تطرف الانطباعية والبنيوية في اتجاهين متضادين : إفراغ النقاد العرب للنص وللجمهور القارئ ولمسائل جمالية أخرى كالغموض والأسلوب والشكل وغيرها ، ولكن الإنجاز الأهم كان تحديد دور القارئ في بلورة النص وتشكيله وإعادة الهيبة للقراءة ذاتها عبر الخبرة والتأهيل وتنشيط التقبل ليغدو فعلا جماليا يلي المهمة الفنية للنص عند كتابته.
وقد نبهتنا نظرية التلقي إلى عناصر نصية ذات أثر في المتلقي يمكن أن نسميها (موجهات) لقراءة النص لم يكن يعني بها النقاد من قبل ، وقد جرى تعقب الجذور المنهجية والمفاهيمية لهذه النظرية في تراثنا النقدي ، وهذه ـ كما ترى ـ جهود تحتفي بهذه النظرية وتتأثر بها عبر مظاهر متنوعة ، كما أنها أثارت قضايا مهمة لعل آخرها محاولة وصف زمننا بأنه ( زمن الرواية) كما وضحنا في السؤال السابق ـ احتكاما إلى مقياس التلقي .
 
– نتفق على أن للجامعة دورا كبيرا في تأسيس القاعدة النقدية على مستوى القراءة والممارسة النظرية والوعي فهل يرقى الدرس النقدي في الجامعات العربية إلى هذه المسؤولية ؟
– الحديث من الجامعة خاصة ، والمدرسة العربية عامة يثير في النفس شجنا كبيرا ، فالجامعة ـ كما قلت ـ ذات دور كبير في تأسيس القاعدة النقدية بل الأدبية عموما ، وفي الجامعات وتجمعات أساتذتها وطلابها نشأت كثير من المناهج والرؤى والحركات الأدبية والنقدية الجديدة كان (دار المعلمين العليا ) بالعراق أبرز أمثلتها ، حيث نشأت في حاضنة حركة الشعر الحر ، وكان طلبته أبرز مجددي الشعر في الأربعينات وبعدها ولكن المقلق هو أن ما أسميته (الدرس النقدي ) وأضيف إليه (الأدبي ) عامة شبه غائب بالمعنى المعرفي ، إذ لا يزال الأدب مختلطا في المقررات المتعجلة والمختصرة والمكررة ، بتاريخ الأدب ولا تزال الأنواع الأدبية محددة يغلب عليها الشعر ، أما نصوصه فهي محددة بالشعر التقليدي أو الحر في بواكيره الأولى .
وذلك أبرز اعتراض على مفردات الدرس الأدبي والنقدي . إلى جانب انصراف الدراسات العليا والبحوث إلى القضايا التقليدية دون إضافات واضحة ، لقد كان كتاب سوزان برنار (مثلا ) عن قصيدة النثر بالضجة التي أثارها والوعي الذي نشره في أصله رسالة أو دراسة جامعية ، فهل نذكر ـ إلا باستثناءات قليلة ـ بحوثا مثلها في جامعاتنا ؟ وهل انصرفنا فعلا لا قولا إلى تحديث درسنا الأدبي والنقدي وإشاعة طرق وإجراءات جديدة كتحليل النصوص والتركيز على السرد الحديث ودراسته ومعالجة مشكلات الفنون وجمالياتها .. وغير ذلك؟ إن المتغيرات كثيرة دون شك في المناهج الدراسية لكنها لا ترقى إلى ما يراد منها لإعداد قارئ خاص أو باحث أو دارس ذي وعي بالمستجدات وهذا ما لمسناه عمليا في حصص كالأدب النسوي أو النثر القديم والنثر الحديث وغيرها مما عانينا تدريسه مباشرة .
ولا أجد الحل في جزئيات أو مبادرات فردية بل في الجرأة المنهجية وتنويع مادة الدرس وربطها الحيوي بالحياة ونظريات الأدب الحديثة ودفع الدراسات والبحوث باتجاه معاصر ومنحى تطبيقي تحليلي لا نزال نفتقده في جامعاتنا حتى في رسائل الدكتوراه أو مقررات الدراسات العليا
–    إلى أين آلت التجارب الأسلوبية التي حاولت تحريك المشهد الشعري العربي وتحديثه في رأيكم ؟
– التجارب الأسلوبية في القصيدة العربية تركت أثرا واضحا في تحديث القصيدة ونقل مستوياتها الأسلوبية إلى قلب عصرها . وذلك أمر يجب ألا ينسى عند تقويم تجربة الكتابة الشعرية العربية ولكن تلك التجارب التي تنضج الآن على أيدي شعراء الأجيال الجديدة في الكتابة ـ وهذا أمر مبهج ـ لم تأخذ مداها التأثيري كاملا لأن أية (زحزحة ) أسلوبية تتطلب وقتا وتراكما كميا ً وتعددا في نوعية المعالجة . ورغم ذلك أجد المنجز الأسلوبي في القصيدة العربية ذا مستوى طيب . والأهم من ذلك ديمومته رغم الإنقطاعات التي تحصل في مسيرته . إن قصيدة اليوم بغناها الأسلوبي وجرأتها وتنوع معالجاتها هي حصيلة جهد الأجيال الشعرية التي تضيف وتعدل وتقترح وتحاور منذ الأربعينات وأنا شخصيا أعوّل كثيرا على تجارب الشباب رغم حداثتها زمنيا فهم مستوعبون للمنجز ومتهيئون لتقبل ما يستجد في المنظور الفكري الفاعل في تغيير وتطوير الكتابة الشعرية العربية التي لفتت انتباه النقاد لا في ثقافتنا العربية فحسب بل دفعت إلى مواقع عالمية عبر الترجمة واللقاءات المباشرة والمؤتمرات
ولعل العقود القادمة ستفرز ما يستقر نوعيا من تلك التجارب التي تتميز بتعددية أساليبها واستفاداتها من المتاح ثقافيا وحنينها الدائم للاكتمال والنضج والسير في قلب عصرها لا على هامشه أو في حواشيه .
–  قضية تعدد المناهج النقدية ، كيف تنظر إليها ؟
– ما دامت الرؤى متعددة والاصطفاف الفكري مختلف ، فلابد من هذه التعددية المنهجية ،كما هو شأن الحياة ذاتها ، ولكن ما يهمنا في النقد أكثر ذلك هو تحديث الإجراءات وطرق إنجاز الفاعلية النقدية ، فأياًما تكن منهجيتك أو رؤيتك لا بد لك من تجنب الخطاب الإنشائي أو الكلي واستبدال ذلك بالخطوات التي لا تغفل التطبيق ولا تهمل (كذلك) المشغلات النظرية ، وهذا ما حاولت البنيوية أن تعطيه للناقد : الإلتفات إلى بنية النص وتركيبها ومستوياتها المختلفة والانطلاق من كون النص (لغة) أولا ، ولكن بربط النص بالمجتمع عند البعض وبالأسلوب عند البعض الآخر وعلوم اللسان عند غيرهم وهكذا ..
والتراث النقدي العربي يشجعنا على مثل هذه التعددية التي عرفها من خلال النقد البلاغي أو اللغوي أو العروضي ،فضلا عن الانطلاق من قناعات منهجية ومؤثرات مختلفة كالانحياز للشكل أو المعنى مثلا ، أو الجدال حول ما يمكن أن ينجزه الشعر من برنامج ديني أو أخلاقي وغير ذلك
–    على ضوء واقع (قصيدة النثر ) التي أصبحت تراوح في مكانها ، كيف ترى مستقبل القصيدة العربية ؟
–   لا أميل إلى المغامرة بتوقع ما ستكون عليه (قصيدة النثر ) مستقبلا أو ما سيكون عليه مستقبل القصيدة العربية .. في الشعر أنت بحاجة إلى انتظار ما لا تتوقع حصوله ، وثمة أشكال كثيرة تموت أو يهجرها الشعراء لكنك تجدها تنبعث بشكل آخر مرة ثانية ، لاحظ مثلا (البند) و(الموشح) والقصائد القصيرة ،فمن يراهن على ما ستكون عليه قصيدة الغد بل حتى قصيدة اليوم المتعددة الرؤى والتقنيات الأسلوبية ؟
 
* نشرت أكثر من دراسة في الفن التشكيلي , كيف توضح لنا أبعاد علاقتك بالفن التشكيلي   ؟
– إن المناهج الحديثة قد نقلت النشاط الأساسي والاهتمام إلى تلقي الكتابة لقياس مدى تأثيرها وتفاعلها ، وبهذا اقتسمت مع الفنون الأخرى مشكلات جمالية عديدة منها قيمة الأثر المنتج في التداول والاستقبال وأثره في تحريك الذائقة الجمالية للمتلقي مشاهدا أو قارئا وكذلك في تعديل الأساليب وتطويرها وهو ما يعني المهتم بالفن التشكيلي بصفة خاصة ، وأعتقد أن اللوحة (والعمل التشكيلي عموما ) ينتظمها بناء خاص بحاجة إلى (قراءة) واكتشاف السرد الكامن فيها وصلتها بالموروث والمعاصرة والمحيط وتوفرها على عناصر البناء الأساسية وما يطرأ عليها من أسلوبيات ومعالجات حديثة تضع التشكيل العربي في عصره وأيضا في خط سير الموروث التشكيلي ، وإن يكن رسميا  تحت مفهوم (اللوحة ) وإنما بتوسيع معنى التشكيل ليشمل الحروفيات والمنمنمات والعمال اليدوية والزخرفية والعمارة ، وكلها ذات امتداد في الموروث ومن الصدف الطيبة في الثقافة العربية إن ذلك الموروث مندرج أصلا في إطار أدبي حيث تراه في رسوم الواسطي للمقامات أو في المنمنمات والجداريات والروح الزخرفية في المساجد خاصة وطابع العمارة الإسلامية المميز هذا إذا لم نرد التوقيف عند مسألة تشكيل الصورة في الشعر العربي ، وه مبحث غني يعطينا الإحساس بوحدة الفنون وأهمية الخبرة البصرية ولعل تلك أسباب كافية للعناية بالفن العربي المعاصر

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*