حاتم الصكر : نحن أمّة في حالة هذيان-حاوره الشاعر نوري الجراح

 
الصورة الخارجية :مع نوري الجراح في القاهرة
حاتم الصكر شاعر وناقد من العراق وأكاديمي يدرس في جامعة صنعاء، وفي مركز الدراسات النسوية في العاصمة اليمنية. وقبل إقامته في اليمن عمل الصكر محرراً في مجلة الأقلام الأدبية العراقية المعروفة.
في هذا الحوار معه يكشف الصكر عن رؤيته الراهنة لجوانب من المشهد الشعري العربي، بدءاً من الحياة الشعرية في اليمن.
* ما الذي تفعله، على مستوى النقد الأدبي، من موقعك في اليمن السعيد البعيد… كيف تحصل على المراجع، وكيف يقيّض لك أن تتابع التطورات الأدبية العربية؟
– أنت تعرف أنني أشتغل، نقدياً، على مشروع شعري عربي، وتربيتي الشعرية والنقدية عربية، ليس على مستوى النشر، وحده، إذ نشرت في الموقف الأدبي في سوريا، وفي الآداب اللبنانية، وغيرها، إضافة إلى نشاطي في الدوريات العراقية كالأقلام وغيرها من صحافة بلادي. لكن على مستويات أبعد، وأعني بها مستويات التحديث الذي أتبنى قضيّته وأدافع عنها، فإن هذه القضية تنتمي، في أساسها، إلى غير بلد عربي.
هجرتي إلى اليمن كانت اختيارية، في جانب منها، وإجبارية في جوانب أخرى. مشهد الثقافة العربية ليس غريباً عليَّ، بصرف النظر عن الجزء الذي سأتمكّن من الحضور فيه من هذا المشهد، لسبب أو آخر. الشيء الثاني أن وجودي حيث أنا اليوم لن يضرّ بمشروعي الشعري والنقدي، وأنت تعلم مسبقاً، في ظلّ الشروط الحياتية غير الإنسانية التي يمرُّ بها العراق وتمرّ بها المنطقة أن عليك أن تكيّف وضعك وتندمج في سياق الحياة الثقافية المتاحة، وذلك بناء على مشروعك الشخصي في الثقافة، مهما كان متواضعاً.
والواقع أنني لم أكن بعيداً عن مجمل الحياة الثقافية العربية خلال عملي في مجلة الأقلام وعلاقتي بالحياة الثقافية في اليمن أسبق هجرتي إليها، وكنت قدمتُ عدداً من الملفات عن الأدب اليمني، لا سيما عن الأصوات الأدبية الجديدة، الشعرية منها خصوصاً، وكانت في بالي وضمن مجال اهتمامي وعملي الكتابي.
* على رغم ما تصوره، فإن اليمن يبدو لنا قصياً جداً. كيف تحصل على المراجع الضرورية لعملك؟
– عندما كنت في العراق كنت أحصل عليها عن طريق المراسلة، ومن خلال المطبوعات التي تدخل إلى البلاد. واليوم، في اليمن، أحصل على المراجع والنصوص عن طريق المطبوعات العراقية المتقشفة التي تخرج إلى العالم العربي ويعكس تقشّفها الوضع الاقتصادي الصعب بسبب الحصار المفروض على العراق. فظروف الطباعة هناك غاية في السوء، لكنني كشاعر وناقد وأكاديمي في حاجة مستمرة للحصول على ما يصدر في بلادي.
* ما أكثر ما تتابعه في العراق أدبياً؟
– أتابع الأصوات الشعرية الجديدة، خصوصاً تلك التي تتاح لها فرص النشر في الصحافة العربية، وتتوفّر نصوصها في المتناول العربي. وهذه الأصوات بدأت تأخذ نصيبها من الحضور العربي بصورة أفضل من ذي قبل. هناك أسباب عدة لذلك، منها أن كثيراً من الشعراء العراقيين اختاروا الهجرة، وبالتالي فإن أصواتهم حاضرة، من هنا فإن معظم الأصوات الشعرية التي تعنيني لدي صلة ما بتطوراتها الشعرية.
من جهة أخرى، وبما أن عملي النقدي الأكاديمي يتميّز بتقصي المسائل المعرفية من نوع: أين وصل الشعر؟ وما الذي يحتوي عليه؟ وما أسئلته الجديدة؟ فإن هذه الأسئلة وغيرها مطروحة عليَّ في كل وقت ومع غير ساحة شعرية، ويمكنني أن ألمس القضايا المتعلقة بهذه الأسئلة وغيرها من خلال موقعي في اليمن بيسر، لا سيما أن نصوص الأصوات الشعرية العربية متوفّرة وتصل إلى اليمن، وأنت تعرف أن العمل في التدريس يعطيك فاعلية اضطرارية خاصة لكونك تمارس مع الطلاب تحدياً يومياً في استكشاف الشعر وقراءته، والبحث في أشكاله وخصوصياته ومستجداته.
تجربتي في اليمن أكسبتني خبرات مهمة، فمنذ أن كنت في العراق كانت لدي كما تعرف اهتمامات بالأدب النسوي انعكس جانب منها، في مطلع التسعينات، عربيا،ً في مجلة الكاتبة التي نشرت لي أبحاثاً تتعلق بالكتابة النسوية. في اليمن تمكنت من خلال مركز الدراسات النسوية من تطوير متابعتي الأدب النسوي، وذلك عن طريق التعامل مع الطلاب، وعن طريق البحث، وهذا جعلني أتأمّل في صورة المرأة قديماً وحديثاً، وفي نشاط الكاتبة العربية ومقدار وعيها الواقع، وتمثلها له، والتعبير عن ذاتها من خلاله. وقد أتاح لي هذا الانفتاح على تجارب كاتبات عربيات جديدات، إضافة إلى أن السنوات الثلاث الأخيرة حصلت فيها زحزحة في موضوع النقد. فقد توصلنا إلى أننا مادمنا نقرأ النص الجديد، علينا، كنقاد، أن نحتك بالأساطير القديمة والأيديولوجيات المختلفة سائدة ومضادة، وبالتالي فإن الذي يكتب عن الشعر هو قارئ من نوع خاص وفعّال، وليس شخصاً منفعلاً بالنصوص وحسب. بهذا المعنى، فإن الكتابة عن الشعر تتطلب منا أسلحة معرفية إن لم تكن تضاهي النص، فإنها توازيه، على الأقل. وهذا ما أسمّيه النص المعرفي عن النص الإبداعي، وإن كانت هناك نبرة في دعاوى النقد الثقافي تحمل شيئاً من الاستعلاء. أنا لا أريد أن أغادر موقعي التطبيقي كناقد، وستظلُّ النصوص أدلتي ومستنداتي في ما سأطرحه من أفكار نقدية.
* أسأل عن بعض أفضل الأصوات الشعرية الجديدة في اليمن؟
– الشعر في اليمن حاله كمثل حال الشعر العربي في مختلف أقطاره. هناك تجايل غير معلن، القارئ يمكنه أن يرصده، أما الشاعر، ولأنه داخل الحالة، فليس بالضرورة أن يرى هذا التجايل. يستطيع القارئ الخاص أن يرصد التراتب الجيلي أيضاً. بمعنى أن هناك ريادة، هناك جيل رائد على مستوى عربي، سواء على صعيد تحديث القصيدة، كأن تقول، مثلاً، أن الشاعر عبدالعزيز المقالح هو أوّل من كتب القصيدة الحديثة في اليمن، وهو مستمرّ في الكتابة، حتى كتابه صنعاء الذي صدر قبل أيام، ثم هناك قصيدة كلاسيكية محدثة فيها شيء من الرومانسية، يتزعّمها الشاعر عبدالله البردوني وجيل من مقلديه.
ثم بعد ذلك تأتي الأصوات الشعرية الجديدة التي تلي المقالح، مثل عبدالكريم الرازحي، وشوقي شفيق، واسماعيل الوريث، وغيرهم. وهذا الجيل الأخير ينقسم إلى قسمين، منهم من يجد في المنجز الجمالي لنازك الملائكة وبدر شاكر السياب منتهى أمله ونهاية قدراته، ومنهم من يجد أن هذه الريادة المبكرة لثورة الشعر الحرّ راكمت خبرة انطلق منها إلى كتابة قصيدة أحدث.
وهناك على هذا الميل الرازحي في تجاربه النثرية، مثلاً، وشوقي شفيق، ومحمد حسين هيثم، لا سيما تجاربه الأخيرة التي اطّلعتُ عليها في القدس العربي، ونزوى، وغيرها من الدوريات العربية.
وشهدت السنوات الأخيرة خلال وجودي في اليمن شيئاً جديداً، فهناك موجة شعرية ثالثة، لو صحّ التعبير، كالشعراء أحمد الشيباني، وهدى أبلان ونبيلة الزبيري، وابتسام المتوكّل وناديا مرعي وأحمد الزراعي. والملاحظ أن غالبية أعضاء هذه الموجة من الفتيات. فالشاعرات يبدأن من النثر، والقليل منهن يبدأن بالتجارب الشعرية الموزونة.
هذا الجيل الجديد الذي أتمنى أن يقيّض لمجلة عربية أن تتعامل نصوصه بصورة كريمة خلاقة يضم شعراء وشاعرات يحاولون معاً أن يختلفوا حتى مع النخبة الجديدة من الشعراء التي كتبت قصيدة نثر مختلفة من أمثال عباس بيضون وسليم بركات وسركون بولص ونوري الجرّاح وأمجد ناصر وبسام حجار، وعبده وازن ووديع سعادة، وهو جيل لديه اطلاعه الكبير على نصوص هؤلاء الشعراء ولدى شعرائه دعاواهم للاختلاف عنهم، أيضاً، ولديهم مرجعياتهم وأفكارهم، وأتمنى أن أتمكن يوماً من تقديم دراسة نقدية تقرأ نصوص هؤلاء الشعراء عربياً على صفحات منبر خاص بالشعر، فهم ينتمون إلى جيل يستحق أن يقدّم وأن يُنظر في تجربته.
وفي اعتقادي أن هؤلاء، على قدراتهم كشباب، يطوّرون تجربة شعرية مهمة. وهذا المشهد الشعري فيه تنوّعٌ وتجديد لكنه نخبوي. ونحن لو شئنا أن نكون صريحين أمّة يقول عنها كتابا الأغاني وطبقات الشعراء وغيرهما من الكتب التراثية أن العرب كانوا يقولون كلامهم شعراً. والمفارقة اليوم أن شعراء كباراً في العربية يطبعون من دواوينهم بضعة آلاف من النسخ فقط، على رغم أنهم ينتمون إلى أمة تعد بمئات الملايين. لعل دخول الشعر العربي في مناطق وعرة، وبحث وجودي معمّق، وتأمّل في القضايا الكبرى للإنسان يجعله اليوم يبدو نخبوياً. القارئ، أيضاً، فقد حماسته للشعر البسيط العادي الذي شاع لعهود كثيرة. وكلامي لا يطاول، الأساليب، فقط، وإنما الرؤى المختلفة، أيضاً.
الوضع النخبوي للشعراء اليمنيين، إذن، ليس استثناء بين زملائهم العرب، هناك حالة نخبوية عربية في الشعر، وما أرجوه هو أن نكسر هذا الغيتو في يوم من الأيام، حتى لا يقال أن العزلة أغرتنا، ولكي نصل، إلى شيء من الانفتاح بين النص الشعري والقارئ الأعرض، وإن كنتُ أشكُّ في إمكان أن يتم هذا في وقت قريب.
* إذا كانت هذه هي حال الشعر في اليمن، وهذه هي صورته التي لا تبتعد عن عموم الحالة الشعرية العربية، فكيف هو الحال بالنسبة إلى الفنون الكتابية الأخرى؟
على مستوى الكتابة القصصية، مثلاً، هناك بعض الأسماء المهمة، فبعد تجربة محمد عبده ولي الرائدة في كتابة الرواية والقصة، هناك حالياً أسماء جديدة كأحمد الزين، وأروى عثمان، وغيرهما ممن يكتبون قصة تتواصل مع النسق التحديثي في الكتابة، مع فروق تتعلق بالواقع اليمني، على اعتبار أن القصة تحتاج إلى مجريات تتعلق بالواقع، لذلك فهي أعطت أشكالاً حلمية وتجريبية وشعرية يبقى محرّكها ومشغّلها هو الواقع، والواقع في اليمن كثيف وثقيل وتفاصيله ليست سهلة، حتى جمالياته خاصة.
وبالتالي من الصعوبة أن يفلت القاص من الواقع وما يمنحه، مع ملاحظة غياب المسرح تماماً، سواء مشهدياً أو كتابياً. هناك تجارب طيبة لمحمد الشرفي على صعيد المسرح الشعري، لكنها أملت مسرحاً أدبياً، وهذا ما ينطبق على البنية الاجتماعية ونظرة المجتمع إلى المسرح.
وكدارس معنيٍّ في حقله الأكاديمي بالشعرية العربية.
* الأكاديميون العرب يعزلون بسلوكهم اليومي الحرم الجامعي عن التطورات الأدبية والثقافية الجارية، بدورك ما هي النماذج الشعرية التي تتناولها مع طلابك، وهل تتعامل، مثلاً، مع الشعر المنتج خلال السنوات العشرين المنصرمة؟
– أنا من النقاد الذين يرون أنه آن الآوان لتدخل نصوص الشعراء الجدد جداً إلى حقل تدريس الأدب في الجامعة، وأعني بهؤلاء الشعراء الذين جاؤوا بعد نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وأنسي الحاج ويوسف الخال وعلي أحمد سعيد (أدونيس) ومحمد الماغوط. المطلوب، في نظري، بعد خمسين سنة من ثورة الشعر الحديث أن يلتفت الأكاديميون إلى سيرورة الشعر العربي وصيرورته. ما أظنه أن القصيدة العربية اليوم بات تفرض علينا تنوعاً كبيراً، ما يعني أن هناك أطيافاً متعددة، وتنوعاً في الأساليب الشعرية يفرض عليك بالمعنى الأكاديمي أن تتعامل معها. لكن، بصراحة، من دون أن يسعى الناقد الأستاذ الأكاديمي، إلى فكرة التكريس. لا حاجة بنا إلى تكريس ما بات مكرساً فعلاً لكن المطلوب هو الدروس الحرّة للنصوص الأدبية، وتحليلها هو ما ينقص طلابنا الذين قدمت لهم الآداب بصورة أبوية، وفُرضت عليهم الرؤى بصورة قسرية، حتى عندما تكون جديدة.
علينا، إذن، أن نتمكن من تقديم كل الأطياف الشعرية للطلاب، وهم عليهم أن يقيّموا ما نقدم لهم، وما يتذوّقون. ولعل في أولوياتي الخاصة كمدرس جامعي هو تلقين الطلاب فكرة الإعجاب بالتنوع، لا بالواحدية والأحادية في التفكير والتذوق الجمالي، بحيث يمكن خلق أجيال لا يداخلها التعصب لأسلوب شاعر ضد أسلوب شاعر آخر، فالذائقة الجمالية لا ينبغي لها أن تتعصب للأساليب والأفكار، بمقدار ما تكون قادرة على استقبال التنوع.
أنا مثلاً، يمنياً وعربياً، أُدَرِّسُ طلابي شعر شعراء الموجة الثالثة، لو صح التعبير، وبالتالي فهم يقرأوون أبحاثاً حول الشعر الجديد هذا. ونحن عملياً اعتدنا أن نبدأ حركة التجديد الشعري بشوقي، كجسر بين الكلاسيكية والجديد، ثم ننتقل من بعد إلى الشابي وبعض شعراء المهجر، ثم من بعد إلى السياب والملائكة وصلاح عبد الصبور ومحمود درويش وأمل دنقل وأدونيس وعبدالعزيز المقالح، ثم نصل إلى شعر اللحظة الراهنة، فنذكر شعراء ما بعد جماعة شعر ممن ذكرت أسماء بعضهم قبل قليل.
وأزعم أنني من الذين يتحركون من داخل المؤسسة الأكاديمية للانفتاح قليلاً على الأصوات الشعرية التي ذكرت أسماء بعضها قبلاً، والتعرف على الأعمال والأمزجة الشعرية الجديدة، أي إلقاء ضوء على الطريق وصولاً إليهم، ثم على الطلاب، من بعد، أن يواصلوا بأنفسهم، من خلال أبحاثهم أو عن طريق الدراسات العلمية التي يحضّرونها. في هذا السياق، علينا أن نعترف أننا نعاني من مشكلة أساسية اسمها الكتاب الجامعي فهو كتاب محافظ، لكن هناك بداية خجولة للتجديد على صعيد التعامل مع المناهج والمقررات. هناك، بطبيعة الحال، ضرورة للبحث في الموروث الجمالي الجديد وقراءته أكاديمياً، ومع الطلاب

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*