كتابي حلم الفراشة -الإيقاع الداخلي والخصائص النصية في قصيدة النثر

 
 
 
 

حلم الفراشة

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
دار أزمنة -عمان -ط2-2010
 
 

المحتويات

 
 

  • الفراشة التي أصبحت امرأة .. القصيدة التي تحولت نصاً. مقدمة:
  • الإيقاع والإيقاع الداخلي في قصيدة النثر خاصة.
  • حلم الفراشة: الخصائص النصية في قصيدة النثر.
  • الانشادوالتلقي :المزايا الشفاهيه في القصيده العربيه الحديثة
  • الشعر والتوصيل: بعض مشكلات توصيل الشعر وتلقيه في شبكة الاتصال المعاصر.
  • الشعرية العربية من القصد إلى الأثر.

 

 
غلاف الطبعة الأولى من الكتاب-وزارة الثقافة -صنعاء-2005
مقدمة
 

الفراشة التي أصبحت امرأة .. القصيدة التي تحولت نصاً

 
في قصيدة من الشعر الصيني القديم (سيستفيد منها أنسي الحاج لاحقاً ليستثمرها في نص نحلله في كتابنا هذا) تستيقظ المرأة الحالمة فلا تعلم إن كانت فراشة حلمت أنها امرأة ، أم امرأة حلمت أنها فراشة.
وهكذا تتماهى المرأة بالفراشة ، فتغدوان كائناً واحداً ، بحلم مشترك.
بين الشعر وقصيدة النثر وشيجة حلمية شبيهة بذلك أيضاً ، حيث لا ندري هل أصبح الشعر نثراً أم النثر هو الذي حلم أنه صار في القصيدة شعراً ؟ وهذا كان دافعي لاختيار عنوان الكتاب (حلم الفراشة) المخصص لقصيدة النثر ، ولما يتصل بتقنياتها خاصة: إيقاعها الداخلي البديل للوزن والموسيقى التقليدية والقافية ، ولاشتغالها على (الأثر) الذي تخلقه القصيدة وتتركه في تلقي قارئها والذي يتحقق بطرق عديدة ليس الوزن إلا واحداً منها ، ولاعتمادها على السرد كعنصر أساسي في شعريتها وقراءتها معاً ، وعلى كتابتها وهيأتها الخطية على الورق بديلاً للنزعة الغنائية القديمة التي أرى أن الإنشاد أبرز مظاهرها التي نسعى لأبعادها عن استقبال النصوص الشعرية كي لا تلخص أو تختزل في آنية زمنية أو لحظة انفعالية تمثلها عملية الإلقاء والتلقي الشفهيين ، مع التذكير بما يفرضه الإنشاد من استحقاقات وخسائر عند كتابة النصوص المعدة للإلقاء كارتفاع الصوت والجنوح للغنائية والخطابية والموسيقى العالية.ٍٍٍ وأحسب أن هذه الموضوعات تتصل من قريب بالحكم على قصيدة النثر بالرفض والقبول في الذائقة الشعرية العربية.
الدراسات الأربع في الكتاب تجمع بين دراسة الإيقاع والإيقاع الداخلي دراسة علمية تستند إلى الفرضيات الموسيقية، وتكشف بعض آليات إنجاز النص وقراءته والنظام المتخفي وراء فوضاه الظاهرية، وبين التحليل النصي وتطبيق الفرضيات على نصوص مختارة لغرض الدراسة فحسب.
أشير أخيراً إلى أن هذه الدراسات كُتِبت في أوائل التسعينيات ونصفها الأول (عدا الدراسة عن الشعرية العربية من القصد إلى الأثر المكتوبة عام 1997) لذا لم أعدّل ٍفيها شيئاً أو أضيف استشهادات نصية مما نشر لاحقاً إلا القليل من نماذج قصيدة النثر التي طورتها كتابات الأجيال العربية اللاحقة بعد الستينيات. وهي نماذج درستها في مناسبات متفرقة ولا يتسع الحيز المتاح لهذه السلسلة لنشرها كاملة والاستشهاد بها ، وسيكون نشرها في كتاب لاحق أنتهي منه هذه الأيام بعنوان (البرق والنهر) ..
وقد رأيت من المناسب إعادة نشر دراسة لي أنجزتها أواخرٍٍٍ الثمانينيات حول مشكلات توصيل الشعر وتلقيه قياساً إلى تطور شبكة الاتصال، وتقدم الوعيٍٍٍٍٍ الاستقبالي لدى القارئ بسبب ما أنجزته على مستوى الصياغات وتطوير مهارات التلقي تقنياً، فيما ظل بعض شعرنا الحديث مستجيباً لشروط التلقي والتوصيل الشفاهية. وسيلاحظ القارئ أنني أستبق بهذه الدراسة ما وصل إلينا لاحقاً من مفاهيم (القراءة والتلقي) التي جعلت نشاط القراءة محور شعرية القصيدة… وأستشرف دلالات الغنائية الزاعقة التي أرى أنها من آثار التقليد الشعري الذي جاءت برامج الحداثة لتلغيه لصالح المقترحات الجديدة ايقاعا ودلالات وبنى ،نوهتُ ببعضها في كتابي هذا وفي بحوث أخرى،،ومنها تعقب مظاهر السرد،والتغيرات الخطية ،والايقاعات الجديدة في القصيدة العربية.
 
الإيقاع والإيقاع الداخلي
في قصيدة النثر خاصة
 
((إن من الأشياء أشياءَ تحيط بها المعرفة ، ولا تدركها الصفة))

إسحاق الموصلي

  1. مقدمـة :

يفصح المقتطف الذي اخترناه أعلى بحثنا عن معضلة الإيقاع مصطلحاً ومفهوماً. فهو من الأمور التي لا تتحدد بالوصف أو تنحصر فيه ، رغم أن إدراكها مما يتحصل بالمعرفة. ومما يزيد الخوض في الإيقاع صعوبة كونه يقع عند ملتقى مفاهيم شعرية لا تزال غير محددة ومستقلة بنفسها أو بعلاقتها مع المفاهيم المجاورة.
الإيقاع شاشة نبصر على سطحها تصارع وجهات النظر إلى الشعر ، وتحديد عناصره ، وصلته بالنثر والنظم والوزن الموسيقي ، وموقعه في الإنشاد والإلقاء أو الكتابة والقراءة.
ولا يبتعد الإيقاع عن مناطق الخلاف حول ذلك كله ، إن لم يكن في جوهرها غالباً. فعلى صعيد تسميته ، لا يظهر الخلاف بشكل اصطلاح مقبول أو مرفوض ، بل بشكل مفاهيم تتقرر على ضوئها شعرية الشعر وتميزه عن الأجناس الأخرى. كما أن الخلاف يأخذ أهمية أبعد من الاعتراف بوجود الإيقاع أو عدم وجوده في هذا النوع أو ذاك من الشعر ، لما تنعكس عليه من آثار وسال الاتصال والمتغيرات الثقافية. فالخوض في موضوع الإيقاع يجب ألا يتم بعيداً عن تغير القنوات الاتصالية وانتقال الشعر من الشفوية إلى الكتابة ، الأمر الذي رتب مزايا توصيليه لم تكن موجودة من قبل.
ولما كان العروض العربي قد جرى تقنينه وفق معطيات صوتية مشتقة من رواية الشعر وإنشاده ، فقد كان طبيعياً أن تراعي فيه المدد الزمنية والأعداد المتساوية في الحركات والسكنات ، مما يعبر عنه لفظ (الوزن) تعبيراً دقيقاً.
واستكمل العروضيون العرب تلبية الطبيعة الشفوية للشعر العربي فربطوا علم القوافي بالعروض ، وفصلوا في القوافي لما تعطيه من تثبيت نغمي وما تشيعه من صدى خارجي يخلق الموسيقى المناسبة لصدى التفعيلة المتكررة بأعداد ثابتة.
ومن هنا ، لم يكن للإيقاع في المعاجم العربية الأولى أي وجود ، فمادة (وقع) في (العين) للخليل (وهو واضع علم العروض أيضاً) لا تتضمن (الإيقاع) في مشتقاتها. وأقرب ما تحيل إليه هو “وقع المطر ، ووقع حوافر الدابة. يعني: ما يسمع من وقعه” (1) ، رغم ما يرويه المتأخرون من أن للخليل “معرفة بالإيقاع والنغم ، وتلك المعرفة أحدثت له علم العروض” كما ينقل عن ياقوت(2). وتعليل هذا الرأي يتركز في انهما، أي الإيقاع والنغم ، “متقاربان في المأخذ”. كما ذكر أن له كتاباً معروفاً في الألحان والنغم(3). ولعل معرفته بالموسيقى ونظمه الشعر كانا وراء افتراض معرفته بالإيقاع الذي يرادف في تلك الروايات النغم أو الموسيقى ، ويتفق مع ما نسب إلى الخليل من أنه سمع مدقات القصارين في سكتهم بالبصرة فقال: “لأضعن من هذا أصلاً لم أسبق إليه”(4). وعلى افتراض وجود هذا الكتاب في عصرنا ، فلن نحصل منه على إضاءة في دراستنا للإيقاع ، لأنه لو كان فيه مثل ذلك لظهر في تأليف علم العروض ووضع قواعده ولما ذم الجاحظ تأليف الخليل في اللحون بعد أن أعترف له بإحسانه في النحو والعروض(5). ولا غرابة أن نجد باحثين معاصرين ينبهون إلى إغفال الخليل مفهوم الإيقاع وجوهره وحقيقته واستنباطه ونظامه وتركيبه(6). وأن يذهب بعضهم إلى حد القول بأن “نظام الخليل لا يصلح لوصف إيقاع القصيدة القديمة نفسها ، ناهيك عن القصيدة الجديدة(7). وانه أضر بعلم الإيقاع الشعري عند العرب(8).
ولكننا لا نستطيع مجاراة معاصرينا في التشكيك بعلم الخليل موسيقياً ، سواء قبلنا إلى رواية سوق القاصرين ، أو لم نقبلها. وعلمه بالموسيقى واضح في استنباط زمنية الصوت ومدته وطبيعته التكرارية في البيت الشعري ، وهذا أمر يتأكد عند مقارنة تعريف النغم والإيقاع(9). كما نص عليه الموسيقيون العرب ، فالنغمة عندهم: صوت لابث زماناً على حد ما من الحدة الكمية … وهو قريب من تعريف الوزن والإيقاع في الشعر. إنه “تردد ظاهرة صوتيه على مسافات زمنية محددة النسب”. ووزن الشعر يجعله كلاماً “يستغرق التلفظ به مدداً من الزمن متساوية الكمية”(10). وبهذا نجد الأساس الموسيقي لنظم الشعر العربي. مما أفضى إلى نتائج خطيرة ، ما نزال نعاني منها حتى الآن ومنها:

  • تفهم الموسيقى الشعرية على أنها الموسيقى الخارجية دون سواها(11). أي تلك التي تتحقق بتكرار التفعيلات بمدد متساوٍ في البيت الشعري. أو أن تكون متشابهة في الأشطر تمام التشابه(12).
  • أصبحت البحور نماذج يقاس بها الشعر ، فما لم يكتب وفقهاً ليس شعراً. كما أن الشعر لا يوجد خارجها: إحالة إلي صور الأنغام واللحون في الموسيقى.
  • لا زمت الطبيعة الإنشادية وتفاصيلها الشفاهية مفهوم الشعر ، لأن كثيراً من الأصوات لا يظهر إلا بالإلقاء. وترتب على ذلك تلبية دواعي الإنشاد من الوضوح والمباشرة وإغفال التقنيات التي تتيحها كتابة الشعر وقراءته والتركيز على الصوت وتدرجاته وأصدائه.
  • أرتبطت المعاني النفسية بصور البحور كما ترتبط الموسيقى بالحالات النفسية ، فخصص بعض الأوزان لمعانٍ محددة ، كما أرتبطت الأغراض بالأوزان. يقول حازم القرطاجني: “ولما كانت أغراض الشعر شتى … وجب أن تحاكي تلك المقاصد بما يناسبها من الأوزان … فإذاً قصد الشاعر الفخر حاكى غرضه بالأوزان الفخمة الباهية الرصينة … ))(13).
  • ألهت الفرضية الموسيقية عن معاينة إيقاع النثر ، فاختص الشعر بالوزن لينفصل عن النثر تماماً ويتكرس جنسه بعيداً عن أية مؤثرات.
  • وإذا ما أنخلق بغير الشعر أثر مشابه لأثره في النفوس فإنه يستبعد لأنه لم يقصد إلى نظمه قصداً. والشعر في النظرية الأدبية التقليدية: ((كلام يقصد به الوزن والتقفية. أما إذا اتفق ذلك في الكلام على غير قصد … فلا يعد شعراً))(14).
  • الزهد بالمعنى أو المضامين وما يمكن أن تحققه من أنساق إيقاعية خارج الأنساق العروضية. وهكذا لم يجر الالتفات إلى أنساق التوازي مثلاً لأن إيقاع الفكر غير وارد على لائحة الموسيقى الشعرية رغم ما يوحيه من تناظرات وتعارضات تخلق (أثراً) إيقاعياً مهماً.
  • يترتب على الملاحظات السابقة شيوع المباشرة ، ومحاولة سبك أو نظم الكلام على وفق صور البحور ، دون الإفادة من طاقة الكلمة أو العلاقة المفترضة في تأليف الجملة الشعرية وتعبيرها عن العالم الداخلي لا السطحي.
  • تكرس النظام البيتي الذي يؤطر القصيدة ولا يسمح بأية استطالة خارج وحدته أو امتداد للمعنى والدلالة والإيقاع خارج بنيته المستقلة ، تلبية لما شخصناه من هيمنة الإنشاد والشفوية. وهما صفتان يفتقدهما باحثون عروضيون وهم يوجهون النقد إلى الشعر الحديث ، كالقول مثلاً: ما قيمة شعر لا ينشد (15) أو لا يثير فينا رغبة قراءته وإنشاده وترديد هذا الإنشاد مراراً(16).
  1. تسفيه محاولات البحث عما يميز الشعر عن النثر غير الموسيقي. فأي بحث لا يعد مجدياً ما دام يلتمس حججه خارج الاشتراك الأولي والأساسي : الموسيقى بمفهومها المستقر والمستنبط من تجارب شعرية محددة الزمن والبيئة.

هكذا أصبح أي بحث في إيقاع الشعر غير ذي نفع ما دام لا ينتج المعرفة السائدة منذ الخليل ، ولا ينطلق من الفرضية الموسيقية القائلة بأنه كلام موزون. وما محاولتنا هنا إلا إثارة لأسئلة ، ومراجعة لأفكار ، ومغامرة بمقترحات سيكون للجزء التطبيقي منها الثقل الأكبر.


2- في الإيقاع عامة
يبدو أن العرب ليسو وحدهم الذي يشكون من زئبقية مفهوم الإيقاع وصعوبة وصفه وتحديده. يصف جاكوبسون لفظه الإيقاع بأنها ملتبسة إلى حد ما(17) انطلاقاً من كون مفهوم الشعر غير ثابت. ويتغير مع الزمن. كما يقر باحث عربي معاصر بأن الإيقاع » من أكثر المفاهيم غموضاً قديماً وحديثاً إلى حد أننا لا نجد اليوم تعريفاً واضحاً له «(18). وقد لا حظنا في المقدمة أن الموسيقى والوزن والعروض احتلت موقع (الإيقاع) في الدراسة القديمة ، دون الانتباه إلى أن الوزن ما هو إلا صورة الإيقاع كما يذهب رتشاردز(19) ، وهو جزء من الإيقاع . فالإيقاع سابق الموسيقى والشعر ، أو هو بتشبيه حيوي كالعين ، أما الوزن فهو كالبصر . ولما كان البصر وظيفة العين كان الوزن وظيفة الإيقاع(20).
لقد وقع الخلط غالباً بين الوزن والإيقاع من جهة والموسيقى والإيقاع من جهة أخرى. فتقرر بعض الدراسات أسبقية الوزن على الإيقاع، واعتباره نمطاً للإيقاع وليس صورته المجسدة. مما يرتب أن يكون الإيقاع خارجياً يتحقق بالصوت(21). ثم يوصف الإيقاع بالانتظام فيتحدد. ويكون هذا الوصف انحيازاً إلى مفهوم محدد للشعر كالقول »بأن الوزن أو الإيقاع المنتظم عنصر أساسي من عناصر الشعر لا غنى عنه . ومن المغالطة التعامل معه وكأنه قيد محض«(22) ، فوصف الإيقاع بالانتظام تحديداً يعكس مفهوماً محدداً لشعر يتسم بالمعيارية. ولا غرو أن يجد أدلته في حركة الكون وتعاقب الفصول ودورة السنين، كما يجدها باحث آخر في انسجام العالم وقواعد الحياة(23). فربط الشعر بالوزن واعتباره الشكل المميز للشعر دعوة ترجع في أصولها النقدية الحديثة إلى كولردج(24) ، الذي يرى أن الشعر يصبح ناقصاً معيباً دون الوزن. محتجاً بأربعة أسباب تتعلق بمصدر الوزن (التوازن في العقل) وأثره (زيادة الحساسية وإثارة الانتباه) والغريزة والارتباط. وهذه الاشتراطات تلبي دون شك الفهم القائم على افتراض موسيقى محددة المصدر في الشعر، أعني تلك الموسيقى المتحققة بالوزن دون فحص الشعر على وفق المستويات الأخرى: الدلالية أو التركيبية، والاكتفاء بمستوى إيقاعي واحد هو المستوى الصوتي. علماً بأن الشعر الحديث وقصيدة النثر تحديداً، يستثمر بعض الجوانب الصوتية دون اعتبار الزمن. وهذا ما سنلاحظه في الفصل الخاص بالتطبيقات من بحثنا هذا.
لقد تأخر تعريفنا للإيقاع حتى الآن، فيما جرت العادة على أن تكون التعريفات أول ما يبدأ به تأسيساً للمفاهيم اللاحقة. لكن الإيقاع ـ كأية إشكالية لم تستقر بعد ـ يستعصي على التعريف النهائي ، لأن له صوراً وتجليات بعدد المختلفين حوله . لذا قيل إنه لا يمكن ضبطه(25) ولا ضابط له(26). وغالباً ما يربط تعريف الإيقاع بعنصرين هما: الموسيقى والزمن .
يقول هيغل: لإبراز الإيقاع كان القدامى يضيفون إلى الإنشاد المصاحبة الموسيقية، وربما للحصول على تعبير للألفاظ أغنى بالتنغيم(27)، وهذا يعكس الحاجة إلى عامل خارجي غير الوزن والقافية. ومما يقرب الإيقاع من الموسيقى اعتماد الإيقاع على مقاطع صوتية منتظمة، أو كما ينقل جان كوهين عن سيرفان:» الإيقاع دورية زمنية ملحوظة «(28) وهذا هو مصدر اعتقاد كوهين بأن النظم دوري فيما وصف النثر لما فيه من استرسال بأنه خطي المسار(29). إذن فالموسيقية والزمنية يتحكمان في عد الإيقاع غالباً كمرادف للوزن .
حين نقرأ تعريفاً ما للإيقاع في كتب العروض العربية الحديثة بأنه » مجموعة أصوات تنشأ من المقاطع الصوتية للكلمات ، بما فيها من حروف متحركة وساكنة «(30) فإننا لا نكاد نجد لها صلة بالجذر اليوناني الذي اشتقت منه ، واستخدمت بموجب دلالته في اللغات الأخرى، حيث  تعني الجريان أو التدفق » والمقصود به عامة هو التواتر المتتابع بين حالتي الصوت والصمت أو النور والظلام أو الحركة والسكون أو القوة والضعف أو الضغط واللين أو القصر والطول أو الإسراع والإبطاء.. فهو يمثل العلاقة بين الجزء والجزء الآخر، وبين الجزء وكل الأجزاء الأخرى للأثر الفني أو الأدبي«(31). والتعريف الأخير يتيح تلمس الإيقاع في مظاهر أخرى غير الموسيقى والزمن. فالصوت والصمت مقترح خطي يمكن أن يترجم ـ إيقاعياً ـ إلى ميزة بصرية تتجسد في علامات الترقيم المتاحة . أما الضغط واللين فيوجهنا إلى النبر مقياساً لموسيقية الألفاظ. أما الطول والقصر فيتعدى المقاطع الصوتية ليشمل الجمل. وأخيراً يمكن تلمس الإيقاع علائقياً أي في مظهره القائم بين جزء وجزء آخر داخل العمل، وبين جزء ما وكليه العمل.
يلاحظ الشكلانيون الروس أن مفهوم الإيقاع يفقد صفته المجردة ويصبح مرتبطاً بالجوهر اللساني للشعر أي الجملة(32) ، من هنا استنتاجهم أن الخطاب يمكن أن يبقى شعراً حتى مع عدم المحافظة على الوزن. فالمبدأ الذي يؤديه الإيقاع وهو الانسجام يمكن أن يتحقق بطرق عديدة ليس الوزن إلا واحداً منها. فيما يظل للنص الشعري في الأبئية الأخرى مجال لاستجلاء صور متعددة للإيقاع. يحققها الشاعر من خلال تنظيم الأفكار والمعاني وإخفاء الدلالات ، كما تظهرها القراءة واستجابة القارئ جمالياً ،. أي إن المهمة الفنية للإيقاع يتولاها الشاعر أثناء الكتابة فيما يستكملها القارئ جمالياً عند إنجاز قراءاته.
لقد نبه رتشاردز مبكراً إلى أن الإيقاع هو “النسيج الذي يتألف من التوقعات والإشباعات أو خيبة الظن أو المفاجآت التي يولدها سياق المقاطع”(33) ، مع اعترافه بأن الوزن يزيد تحديد التوقع. كما يشبه والت ويتمان إيقاع النثر بأمواج البحر وسرعتها وأنسيابها وإيقاعها المتراكم بحرية أكثر مما في الوزن(34). لكن مؤلف كتاب “الوزن والقافية والشعر الحر” يرى أن ذلك يتحقق في الشعر كذلك ، مستعيراً المثال نفسه: فلو راقبنا الموج ، يقول المؤلف ، وهو يتكسر على الرمل ويعود من جديد لوجدنا  ثمة تشابهاً أساساً في حركة كل موجه ، لكن ما من موجتين تتكسران في شكل متناظر تماماً  هذا “التشابه في الأختلاف” قد ندعوه بالإيقاع(35). ولقد تم التنبيه على ما يحمله الاختلاف أو التضاد من موسيقية إيقاعية ، وكان هذا منبهاً إلى غني النصوص بإيقاعات متعددة ومختلفة .فهي لا تحصى ولا تقنن. كما أنها لا تخضع لتصنيف نهائي. وأصبح بمقدور الشاعر الحديث أن يوجه قارئة إلى إيقاع المعاني والأفكار والصور. وبهذا يصبح الإيقاع ذاتياً لا قالباً جاهزاً عاماً ، وبحسب مقصدية الشاعر والمحلل(36).
خرج الإيقاع من الشعر حصراً إلى النثر والفنون الأخرى ، فصار مبرراً اليوم الحديث عن إيقاع اللوحة (كما نتحدث عن شعريتها أي نظم تأليفها أو إنتاجها) وإيقاع المسرحية وإيقاع النثر الفني … إذاً الإيقاع شاملاً ، لا تحده أعداد أو أنغام. وصار كما يقول سنغور “تلك الهندسة للكائن والديناميكية الداخلية التي تغطيه شكلاً ومنظومة الموجهات التي يبثها للآخرين والتعبير النقي عن القوة الحيوية”(37).
فهل يمكن إذن وضعه في قواعد أو تأديته بصفات؟

3- إيقاع داخلي أم إيقاعات داخلية؟

إذا كان الخلاف حول وجود الإيقاع بتلك الحدة التي عرضناها في الفقرة السابقة فالإيقاع الداخلي سيكون ساحة نزاع أعنف دون شك . والرأي فيه يتراوح بين إفتراضه موجوداً يتخلل العمل دون نمطية أو قوالب ، وإنكار وجوده ووصفه بأنه وهم أو أسطورة . ويتوسط رأي ثالث بين المتحمسين والمنكرين فيقول بأن وجوده مرهون بتغير بنية العقل الفكرية والثقافية والنفسية(38)، فهو يؤجل المشكلة ويربطها بذلك التغير. لقد جرى طرح المشكلة من قبل في إطار وجود نوعين من الموسيقى: خارجية وداخلية. كما أشير في الدراسات السابقة إلى بنية داخلية للقصيدة “تنفصل عن الصورة الوزنية واللغوية ، على نحو ما ، لتحدد الطريقة التي بموجبها بنيت القصيدة(39). وما تلك المقترحات إلا التمهيد الأولي لمقولة الإيقاع الداخلي الذي يحس به وراء الألفاظ والبني الخارجية للنص والذي لم يعط تفسيراً محدداً ، وأكتفي باشتراطه كمسؤولية ذاتية يؤديها الشاعر فنياً ، وينجز المتلقي جزءها الجمالي بالقراءة.
إن هذا الإيقاع الداخلي يأتي غالباً تعويضاً عن الإيقاع الخارجي الغائب في النصوص الحديثة ، وعدم توفره في نماذجها المتنازلة عن صدى القافية ورتابة التفعيلة … مما يجعل الإيقاع الداخلي يؤدي وظيفة تكوينية بازاء المهمة الإطارية للإيقاع الخارجي(40)، ولكن هل يمكن أن نعد الإيقاع الداخلي تطويراً للتفعيلة التي يكتب عليها الشعر الحديث الموزون؟
يبدو أن إيقاع الوزن ، أي المتحقق بصور التفعيلات ، يشيع نماذج قاسية للبحور الشعرية يصعب الإفلات من إطارها. ولا يمكن أين يقدم الوزن الحر نموذجاً للحرية المطلوبة من قسرية النظم أو تجسيد الشعرية العربية الجديدة. فالوزن الحر غير كافٍ لكسر رتابة الإيقاع الخارجي للقصيدة العربية . وهذا لا يعني نفي القصيدة المكتوبة على التفعيلية ، بل وصف خصائصها  الموسيقية ، فهي مشروع تطويري يجدد ويغير عن أصل موسيقي مهيمن ، لنماذجه وجودها القري وحضورها الفاعل في ذاكرة المتلقي. وهذا يحول دون إبداع نماذج ترقى إلى تأسيس حساسية شعرية جديدة ، ميثاقها معقود بين الشاعر والمتلقي: ينتج الأول ما يصدم ويدهش ويفاجئ ، ويتلقى الثاني متقبلاً ما يغير ويحرض ويأسر. لا يستسلم الأثنان لسطوة النموذج السائد أو يستريحان إلى قالب جاهز جرى تعديله شكلياً عبر توزيع التفعيلات بأعداد غير متساوية ينتج عنها أبيات متفاوتة الطول (تجربة الشعر الحر = التفعيلة).
وما دام النص الجديد متنازلاً عن اشتراطات النموذج الوزني ، فإن عنايتنا يجب أن تتجه صوب حركة الإيقاع الداخلي: التي تنمو وتولد الدلالة عبر مكونات النص كلها  وليس في جزء منها: البيت أو التفعيلة. وأرتباط مفهوم الإيقاع الداخلي بمفهوم كلية النص يستجيب لدعوة الحداثة الشعرية في الانتقال من الشفوية إلى الكتابة الشعرية ، حيث الإيقاع الداخلي قائم في النص … في حركة مكوناته ونسيج علاقاته(41)، وما دام الإيقاع الداخلي مشروعاً فردياً غير مقنن وغير موجود بالفعل وإنما بالقوة ، فإن تمظهراته هي الأخرى عصية إلا لمن يحك النص الجديد بقوانين طالعة من داخله. وهذا يتلخص (كما سنفصل لاحقاً) في:

  1. الالتفات إلى الأبنية الدلالية في النص.
  2. الانتباه إلى إيقاع الفكرة والصورة والمضمون والدلالة.
  3. استثمار تقنيات الكتابة الشعرية.
  4. استنباط الجملة الشعرية الكبرى التي يقولها النص.
  5. استخراج الشعر مما هو خارج النص.

ويمكننا أن نتأمل تفريق بير جيرو بين إيقاع خارجي يتحقق بالعروض ، وآخر داخلي يتحقق بالبلاغة التي يمكن وصفها بأنها أشكال منزاحة عن المعيار النحوي  . وجرى على هذا الأساس فحص النثر في الشعر . وتأمل تداخلهما(42).
كما عرضت قضية وجود الشعري في النثر أو الشعر خارج القصيدة ، واستثمار إيقاع النثر لإبراز مهيمنات جديدة في الخطاب الشعري لم يكن لها حضور فاعل بين عناصر النص من قبل.
وفي فصل خاص بالممهدات لتجسيد الإيقاع الداخلي ، سوف نتعرف إلى بعض العوامل التي تتقدم الآن بهدوء ، ولكن بجذرية ، لتحقيق مفهوم جديد لإيقاع يلخص في أنه حركة غير مرئية تظهر بتوازيات داخل النص الشعري تظهرها القراءة.

4- قصيدة النثر: ثنائية الشعر والنثر

كان على قصيدة النثر أن تجيب عن سؤال الحداثة أولاً ، وعن علاقة الشعر بالنثر ثانياً.
فإلغاء الوزن كلياً يطالبها ببديل. واعتمادها النثر يوجب البحث عن إيقاع يوائم بين الشعر وسواه ، ويصل عناصر النص ببعضها إيقاعياً وفق محددات جديدة تناسب ما جرى من تطوير لفهم الشعر وتلقيه ، لكن إشكالية قصيدة النثر تبدأ في التسمية. فما عرف بـ”القصيدة النثرية” يصبح عربياً “قصيدة النثر”. وهذا يستفز المألوف الشعري لأنه يواشج فنين مختلفين. وقد تنبه الفرنسيون إلى ذلك رغم أن قصيدة النثر ولدت بين أيديهم. يشير جان كوهين إلى أن مصطلح “قصيدة نثرية” ظاهر التناقض وعلينا إعادة تعريفها. ويقترح أن ندعوها “قصيدة دلالية” لأنها تترك الجانب الصوتي غير مستغل شعرياً لأن العناصر الدلالية تكفي وحدها لخلق الجمال المطلوب(43). ولعل تناقضها الاصطلاحي يعكس كونها مبنية على اتحاد المتناقضات اتحاداً غريباً ، كما ترى سوزان برنار(44). التفريق اليوم أتجه نحو مناطق الشعر والنظم أكثر من استهدافه الشعر والنثر بل راح النقاد يفرقون بين القصيدة والشعر(45) ، وبهذا تتابع سوزان برنار مقولة      دي بوس : هناك الكثير من القصائد الجميلة بلا أبيات شعرية ، كماهناك الكثير من الأبيات الشعرية التي تخلو من الشعر”. وتتابع يمنى العيد برنار ودي بوس فتفرق بين القصيدة والشعر(46) بعد أن خف التطرف في الفصل والنزاع بين الشعر والنثر. وهذا ما تحقق مؤخراً بفضل الدراسات المعمقة في الشعرية ، تلك التي طرحت سؤالاً جوهرياً محدداً عرضنا له من قبل وهو: ما الذي يجعل من أثر ما عملاً شعرياً؟ تلك الدراسات وجدت أن النص الشعري لا يستجيب لقوانين جاهزة ، وإنما هو شكل فردي. وهذا بالضبط ما وجده الشعراء في قصيدة النثر. فالكثافة والإيجاز والوحدة والمنطق الداخلي هي من أهم مميزات قصيدة النثر التي نزعت إلى سيل من التناقضات لإبرازها في:

  • اسمها الاستفزازي المحيل إلى ضدين: قصيدة / نثر.
  • بنائها العام الذي يقرن النظام بالفوضى.
  • إشراقيتها الداخلية ونزوعها الشكلي.
  • سرديتها وغنائيتها.

وقد كانت تتويجاً لسلسلة من الخدشات على سطح البنى الشعرية السائدة وأعني بالخدمات محاولات التجديد الأولى ، فالشعر المقطعي والشعر المنثور والشعر الحر وسواها ليست إلا محاولات جزئية بإزاء ما اقترحته قصيدة النثر من مفارقة للصيغ السائدة. وقد كانت مقترحاتها الإيقاعية بديلاً للإيقاع الخارجي المتحقق بالعروض. فمفاهيم “الكثافة والإيجاز والمجانية” ، التي نقلت مطلع الستينات عن سوزان برنار ، حققت كثيراً من أهدافها في إقتراح شكل جديد للقصيدة (47)، كما أن مفهوم “الجريان والتدفق” قد لفت الانتباه إلى ما تكتنز به القصيدة من رؤى تتجسد بنائياً عبر كلية النص. ويعضد ذلك الجنوح إلى (التماسك والقصر) مما يختبر قدرة الشاعر على كبح الثرثرة والترهل الفضفاض في بناء قصيدته. ويوجه القصيدة نحو تجسيد التوترات الداخلية.
إن تلك المفاهيم جعلت قصيدة النثر في سياق جديد من المحاولات التحديثية رغم ما يمكن أن يقال عن نماذجها المتحققة ومستواها. يقول دوجاردان: “كانت القصيدة الننثرية محاولة لتحرر الشعر إنطلاقاً من النثر ، أما الشعر الحر فقد أستهدف الغاية نفسها ، ولكن إنطلاقاً من الشعر” (48).
في قصيدة النثر تتجلى مزايا إيقاع النثر الذي لم تمسه القصيدة بسبب تحصينها وراء جنسها. وفي مقدمة تلك المزايا: السكون الذي يحد بتعبير كمال أبو ديب من “طغيان الكلمة” (49)، وهذا تحقيق لحلم محمد مندور بالشعر المهموس ، والرصافي بالشعر الصامت.
لقد وجد كتاب قصيدة النثر في التراث النثري العربي دافعاً آخر نحو استجلاء الشعري في النثر. وهذا واضح في مرجعية قصائد أدونيس وبعض كتاب قصيدة النثر بصفة خاصة ، إذ أفادوا من إشارات التوحيدي ومواقف النفري ومخاطباته وأقوال الصوفية والمجانين والموسوسين في تلوين إيقاعات قصائدهم. وما جلبوه من إشراقات والتماعات نثرية استعاضوا بها عما فقدته القصيدة من موسيقها الخارجية. فيما ذهب شاعر كمحمد الماغوط إلى غنائية تصويرية تقوم على التشبيهات الصورية والمفارقة لتحقيق شعرية جديدة نجحت في تعويض الغياب الذي تركته الإشتراطات التقليدية المهجورة في شعره . فالماغوط إذ ينتسب إلى مدرسة الشعر الحر المطور عن الشعر المنثور ، فإنما يقدم تعضيداً للشكل المقترح وتعزيزاً لأطروحاته.
وفي الشعر المنثور ذاته سنجد كما في التطبيقات التالية أن قيامه على مبدأ إيقاع الفكرة قد حرره من مبدأ البيت ومن جزئية التعبير والموسيقى التقليدية. إلا أن إحلال السطر محل البيت وتحقيق كلية النص وعلاقة الجزء بالجزء ، والجزء بالكل ، لم تحصل إلا في نموذج قصيدة النثر.
 


5- ممهدات إيقاعية
يمكن للباحث أن يشير إلى عدة ظواهر لا تزال تعمل منفردة لتهيئة ما يمكن تسميته “أرضية” صالحة لتحقيق الإيقاعات الداخلية التي ستجد تجسداتها الفنية (داخل النصوص) والجمالية (في القراءة) بعد أن تتأكد أعراف جديدة في فهم الشعر. ومن تلك العوامل الممهدة نشير إلى:

  1. الشعر المترجم عن اللغات الجنبية الذي يحقق هدفين: بنائياً باقتراح السطر بديلاً للبيت الشعري ، وجمالياً بترسيخ نوع شعري لا يندرج ضمن النمط المنتظر لدى القارئ وزناً وقافية ، لكنه يترك (أثر) الشعر في نفسه. وبهذا تتقوض نظرية (القصد) من النظم ، واشتراطها للشعر. وإحلال مبدأ الأثر محلها. ويتسع مفهوم الشعر ليشمل ما لا يمتثل للتقاليد الشعرية السائدة. ويبدو أنه حصل في الآداب الأجنبية شيء مشابه لما حصل عندنا ، فكانت القصائد النثرية المترجمة عن الفرنسية من العوامل الأساسية في ظهور قصيدة النثر في الأدب الإنجليزي(50). ويوضح لنا أعتراض نازك الملائكة على ترجمة الشعر الأجنبي سطرياً: ما يحمله هذا النوع من الشعر المترجم من هدم للحساسية السائدة ، وتأسيس للشكل الجديد الذي يشيع إيقاعاته المستقبلية(51). إنه باختصار اقتراح لرؤية كيفية أخرى للشعر لم يعهدها التراث الموسيقي الشعري عندنا.
  2. الخلط العروضي أو “الإختلاط” بين تفعيلات أكثر من بحر. نجد أن ذلك يساهم في كسر حدة المهيمن العروضي على البنية الإيقاعية. ونذكر في هذا المجال أن قصيدة أدونيس “هذا هو أسمي” قد قرئت على أنها نثر. يقول أدونيس “ظن بعضهم ، وبينهم نقاد وشعراء ، أنها نثر. ولعل ذلك عائد إلى أنهم لم يروا فيها الشكل المألوف ، المشطر لقصيدة ما سمي بالشعر الحر أو شعر التفعيلة”(52). وهذا يساهم بفرض مهيمنات جديدة في النص الشعري تخفف من حدة الإيقاع الخارجي المتحقق بالوزن والقافية.
  3. التدوير: وهو تكريس لإحلال السطر بديلاً للبيت. وكذلك اقتراح جملة شعرية كبرى تنتظم النص بدل الجمل المتفرقة داخله. ويمس التدوير زمن القصيدة كما يلغي تقنياتها السائدة ، ولعله في إحيائه “البند” قد أفاد من إيقاعات مهملة لإنجاز شكل إيقاعي جديد يتضمن مزايا نثرية. فالبند حلقة بين الشعر والنثر(53)، كتبه شعراؤه كما يكتبون النثر فيما ختموا فقراته بأسجاع كان تباعدها يضعف من الدور الخارجي للقافية ويمنحها وظيفة بصرية ضمن الكتابة. ونجد أن بعض البنود تدخل ضمن ما أسمي “الاستمرارية الرجزية”(54) ومنها رجز لأبن دريد جعل في آخر كل ستة عشر جزءاً منه قافية ، والجديد فيها استمراريتها ونظمها على الرجز ، فيما كانت البنود المتأخرة تنظم سطرياً على بحر الهزج أو الرمل ، ويصفها العروضيون عادة بأنها نثر فني. وهذه الاستمرارية ذات صلة بالتدوير الحديث الذي يفاجئ القارئ بكتلة كتابية سطرية دون تشطير وبهيئة المسترسل.

4- النثر الفني : يعد أنسي الحاج ارتفاع مستوى النثر واقترابه من مفهوم القصيدة عاملاً مساعداً أو تمهيداً مباشراً لدخول النثر في الشعر(55). وقد أشرت إلى دخول الإشارات الإلهية والمواقف والمخاطبات وبعض الأعمال النثرية العربية ذات الوهج الشعري كمراجع في قصائد شعراء قصيدة النثر. وتدخل في هذا المجال نماذج النثر الحديث كأدبيات جبران خليل جبران مثلاً ، وما نشاهد من تأثيرها في شعر أدونيس  المنثور منه بخاصة . ومن مؤثرات النثر يمكننا تشخيص السرد والحوار والتقنيات الأخرى كالجمل الاعتراضية ، وعلامات الترقيم ، أي شكل الكتابة وتوزيع النص إلى فقرات بحسب المعنى أو المؤثرات البصرية .
5- العامية الدارجة وما عكسته من مستويات دلالية لم يكن يعرفها الشعر من قبل. وقد نبه الباحثون إلى ذلك وأشاروا إلى مواضع بعينها كتجسدات لأثر العامية في التمهيد للقصيدة النثرية . فالصياغات والانحرافات اللغوية هي جزء مما يمكن تسميته بالممهدات . وهي مؤثرة في الفن الشعري وفي استجابة المتلقي .
6- تغير البنى اللغوية والنحوية . ومن أمثلة هذه التغيرات يدلنا كمال خير بك إلى ما يسميه « تراجع الفعل ، وسيادة الجملة الاسمية وشبه الجملة »(56) ، وهو تحوير أيقاعي يتناول ترتيب الجملة وشخصيتها وإيقاعها في القراءة.
7- ممهدات محايثة : تدخل فيها عوامل معرفية متعددة ، وفرز اجتماعي وحضاري، وتغيرات البنى الثقافية ، ومظاهر التحول في الأشكال الفنية (رسم / سينما موسيقى / غناء / مسرح / رواية / قصة …) وهي تهيئ على مستوى التلقي ما يمكن وصفه بالأرض الصالحة التي يتآخى على تربتها الشعر والنثر.

6- مزايا إيقاعية : مقترحات

نستطيع عند إنجازنا القراءة الكلية المتجهة إلى النص بكونه كلية موحدة أن نميز بين ثلاثة أنواع من الإيقاع القائم على التوازي الذي نعني به مجاراة لجاكوبسون ما يتشكل من علاقات أصلية بين الوحدات المتكررة المرتبة في مشابهات وتباينات ترينا العلاقة بين الشكل الخارجي والدلالة(57) ، وهذا التوازي يمنح الشاعر نظماً يساعده على تقطيع الخطاب الشعـري تحليلياً للكشف عن مدى تصالح الدلالة والبناء الشعري(58) ، في النوع الأول وهو التكرار أو الإعادة : تبني القصيدة هيكلها على إعادة الفكرة بألفاظ متنوعة أو بالألفاظ نفسها أحياناً ، وهذا يتطلب قراءة تكرارية تتجاوز استقلال البيت أو الجمل الشعرية الصغرى .
في النوع الثاني وهو إيقاع التعاقب أو النمو المتوالي : تكون للجملة الشعرية أجزاء صغرى يؤدي أحدها إلى الآخر وصولاً إلى النهاية. وهو إيقاع ذو ميزة نثرية (سردية) يقرب من القص بنبرة هادئة تناسب تسلسل الحكاية .
أما النوع الثالث فهو المستحدث من الإيقاع الترابطي الذي لا يكتفي بعلاقة المجاورة بين العبارات أو تتابع معانيها بل يربط بعضها ببعض ربط السبب بالنتيجة . ودون هذه العودة لا يظل لجريان القصيدة أو تدفقها أي معنى . وفي البحث عن تجسدات إيقاعية لبنية التوازي نشير إلى إيقاع التضاد والتناقض ، ويقوم على الطباق الصوري أو استحضار السلب اللغوي . وقد جعلتهما في نسق واحد لأن التناقض درجة أكثر حدة من التضاد وأشمل. فالتضاد يفترض وجوداً جسدياً لمتضاد أما المتناقض فيلغي وجود الآخر بتعدد احتمالاته . فضد الأبيض هو الأسود، لكن نقيضه المتعدد ينفتح على ألوان متعددة ومدلولات كثيرة.
نقترح هنا قراءة قصائد النثر لاستجلاء إيقاعها الداخلي بمفهوم البؤرة والموجة، أي بمفهوم المركز الذي يبني له أغلفة تتسع من حوله لتبتعد عنه رغم انبثاقها منه ، وعودتها إليه ملامسة ومفارقة. وقد اقترح باحثون أن يعتمد نسق التوازي بأنواعه المتعددة كالتوازي المتصاعد أو توازي الذروة(59) ، ونبه موريه إلى أنواع كثيرة منه في سياق تحليل انساقه ، منها : توازي التضاد والتوازي التركيبي وتوازي الترادف ، ونلاحظ أنها جميعاً مظاهر لإيقاع الفكر، أي أن إظهارها بالفعل لا يتم إلا عبر استنطاق معانيها . ومن المقترحات الإيقاعية : الترجيع الذي يرى نورثروب فراي أنه جذري في الفنون كلها(60) ويسمي توفيق الزيدي ثلاثة أنواع من الترجيع هي : الترجيع بالترتيب ـ الترجيع بالتفاعل ـ الترجيع بالاعتراض أو الالتفات(61). كما يقترح علوي الهاشمي تفجير الخصائص الصوتية وتعويض الوزن الغائب باستخدام مظاهر تشكيلية كالفراغ والقطع والحذف(62)، منبهاً بمقابل ذلك إلى بعض العيوب البنائية في اعتماد الإيقاع الداخلي منها : التراكم الخارجي وفقدان الإيقاع التكويني أو الموسيقى الداخلية. ونستطيع المضي في المقترحات لنذكر إيقاع التداخل والإيقاع الحر وموسقة الفكرة والتكثيف اللفظي والتواتر والنمط الفوضوي للإيقاع والإيقاع المرسل ، وهي تقوم جميعاً على مناداة الفكرة لاستخراج تجلياتها وبثها في شحنات تصويرية أو تقريرية تعتمد التقابل والتكامل للوصول إلى المتلقي..
فالتواتر مثلاً هو ضرب من الإيقاع الداخلي تنحو فيه القصيدة إلى الاستدارة، وتخضع حركتها الداخلية للتداعي الصوري(63) وينضوي كثير من شعر الماغوط تحت هذا الاتجاه كما سنرى في تطبيق لاحق.


7- في البحث عن طيف : نتائج
تبين لي ، وأنا أمسح جوانب قضية الإيقاع الداخلي ، أن موضوع بحثي يدخل ضمن ما لا يوصف رغم أنه يدرك بالمعرفة . فالقضية معلقة بالقراءة ، وما أن نحاول تسمية أحد عناصرها بعد تجسده نصياً حتى يدخل في الغياب ليغدو طيفاً أو هاجساً. لكننا نستطيع أن نجمل ما رأينا في لحظات البحث عن هذا الطيف فنقول :

  • الإيقاع أسبق من العروض والوزن وأشمل منهما:
  • لا يحدد الإيقاع الداخلي خاصة تحديداً حصرياً ، لأنه شخصي ومتغير(64).
  • يتغير الإيقاع كلياً بتغير البنى المكملة ثقافياً .
  • لا يظهر الإيقاع الداخلي مجسداً بالإنشاد بل بالقراءة وما يترتب عليها من مزايا.
  • وهو إذن مهمة فنية ، تأليفاً ، وجمالية استجابة وقراءة ، وتلقياً .
  • ثراؤه في هدم أسوار الشعر والنثر للانتفاع من إيقاعات مختلفة .
  • سيظل الخلاف حوله طويلاً ، لأنه مركز تقاطع لعدة قضايا تجمعها كلمة واحدة هي الأخرى لم تجد مكاناً في الاصطلاح والمفهوم أعني: الشعرية وللحظة تاريخية في تحول الوعي بالشعر وتلقيه أعني: الحداثة.
  • لكل قصيدة إيقاعها الذي تصنعه المهيمنة سواء على المستوى الدلالي أو الصوتي أو التركيبي .

 

تطبيقات

  • مخاطبة 54.

« يا عبد قلبك في يدي قرب ، قلبك بين يدي بعد.
يا عبد أقصد وأطلب وإلا لم تثبت ، فإذا قصدت وطلبت فقل يا رب بك قصدت وبك طلبت وبك ثبت .
يا عبد قد رأيتني في كل قلب فدل كل قلب عليّ لا على ذكري لأخاطبه أنا فيهتدي ولا تدله إلا عليّ فإنك إن لم تدله علي دللته على التية فتاه عني وطالبتك به».

  • النفري(65)

* لتلمس إيقاعات هذه القطعة النثرية لابد من فهم دور كاتبها في توجيه الخطاب، فهو يتقمص صوتاً أعلى يخاطب عبداً. وبهذا ينخلق فضاء النص ومجلي توازياته. ومن افتراض هذا الخطاب المتعالي، يبدأ تعقب الفكرة وما تأخذه من تلوينات إيقاعية.
تتطلب مقاربة إيقاع هذا النص النثري المرتكز على شعرية خاصة تنبني على شفرات قادمة من خطاب خاص هو الصوفية أن نتأمل التغيرات الدقيقة في الحروف والكلمات : في يدي وبين يدي في السطر الأول ، مثلاً، ما يترتب على ذلك من زيادة في المعنى ؛ ومطابقة بين (قرب) و (بعد) ؛ أي ملاحظة ما يفعله تغير الحرف (في) من استدارة في المعنى .
إن وحدة المعنى تتجلى في العبارات والجمل فيما تكمن وحدة الدلالة في النص ؛ كما يرى ريفاتير. وهذه الوحدة المعنوية تظهر في السطر الثاني المصدر بالعبارة المفتاحية (يا عبد .. ) فتشترط حصول فعلين للوصول إلى الثبات ، وقد كررت ثلاث مرات : بالأمر ، والماضي بمعنيين يشبهان الماضي البسيط والتام. أما إذا تابعنا تغيرات الإسناد إلى الضمائر لوجدنا أن فاعلي الفقرة الأولى الضمير (أنت) والثانية (التاء) المسندة للمخاطب والمتكلم ؛ وقد انتظمهما نسق من التعاقب المقصود لإحداث التغيير المعنوي ، وذلك يظهر في القراءة أيضاً . وهذا التكرار يتضح في السطر الأخير المبدوء بـ (يا عبد قد رأيتني) ، فالجار والمجرور يتكرران لتجسيم الصوت الموجه للخطاب ؛ مع التركيز على ضمير المتكلم (الياء) وما يقابله من ضمائر ( الكاف ـ الهاء .. ) .
إن بؤرة هذا النص تصلح لرؤية صراع الضمائر والأضداد لينبني بها عالم يقوم على التوازي بين الإرادة والاختيار ؛ ساهم إيقاع الفكر في تجسيده وتوصيله .

  • أغنية لباب توما

حلوة عيون النساء في باب توما
حلوة حلوة
وهي ترنو حزينة إلى الليل والخبز والسكارى .
وجميلة تلك الأكتاف الغجرية على الأسرّة .
لتمنحيني البكاء والشهوة يا أمي .
ليتني حصاة ملونة على الرصيف .
أو أغنية طويلة في الزقاق
هناك في تجويف من الوحل الأملس
يذكرني بالجوع والشفاه المشردة
حيث الأطفال الصغار
يتدفقون كالملاريا
ليتني وردة جورية في حديقة ما
يقطفني شاعر كئيب في أواخر النهار
أو حانة من الخشب الأحمر
يرتادها المطر والغرباء
ومن شبابيكي الملطخة بالخمر والذباب
تخرج الضوضاء الكسولة
إلى زقاقنا الذي ينتج الكآبة والعيون الخضر
حيث الأقدام الهزيلة
ترتع دونما غاية في الظلام
أشتهي أن أكون صفصافة خضراء قرب الكنيسة
أو صليباً من الذهب على صدر عذراء
تقلي السمك لحبيبها العائد من المقهى
وفي عينيها الجميلتين
ترفرف حمامتان من بنفسج
أشتهي أن أقبل طفلاً صغيراً في باب توما
ومن شفتيه الورديتين ،
تنبعث رائحة الثدي الذي ارضعه
فأنا ما زلت قاسياً
أنا غريب يا أمي .

  • محمد الماغوط(66)

* يلفت عنوان القصيدة نظرنا إلى مفارقة مقصودة ، فهي (أغنية) لا تقدم إيقاع الأغنية الشائعة . أغنية تطرح الوزن والقافية والمجانسات الزاعقة ، وهي موجهة إلى «باب توما» المكان الذي سنكتشف منذ البيت الثالث أن الحزن يجلل عيون نسائه ؛ ولا شيء فيه يستدعي الغناء والفرح ، حتى حانته وشعر شعرائه وجمال فتياته ولعب صغاره . تلك هي المفارقة التي سوف تشطر النص نصفين منذ العنوان ؛ وتجعل الصور المنثالة فيه تنتمي إلى هذين العالمين بضدية واضحة تخلق أخيراً إيقاع القراءة التي يسيطر عليها الحزن ، والإحساس بجمال الفقر وألفته رغم ذلك .
ينبهنا المدخل إلى هيمنة الجملة الأسمية ، فيما ينقلنا البيت الثاني إلى صيغة شعبية يجسدها التكرار (حلوة حلوة) .. ويصلنا إيقاع الحزن عبر عيون النساء الحزينة وأكتافهن على الأسرة .. ومخاطبة الأم في البيت الخامس . ثم يدخل الشاعر إلى نص بعد أن أدى المدخل مهمة التعيين والتثبيت فيتلخص صوته في أمنيتين تتصدر كلاً منهما عبارة (ليتنى..) البيت السادس والبيت الثاني عشر ـ متبوعة بأمنيتين: قصيرة وطويلة.

  • ليتني حصاة ملونة .

أغنية طويلة في الزقاق
هناك حيث …

  • ليتني وردة جورية / يقطفني شاعر..

حانة من الخشب الأحمر .
يرتادها ……
فالأمنية الأولى تستغرق بيتاً أو اثنين ، فيما تمتد الثانية خمسة أبيات أو سبعة . ثم ينتقل الشاعر إلى أمنيتين أخريين مصدرتين بالفعل (أشتهي) بعد أن اشتد انفعاله وإحساسه باستحالة ما يطلب فاستخدم فعلاً ذا دلالة ، واستعان بصيغة الفعل الأقوى دلالة .. وكررّ الفعل مرتين ليتصدر كل أمنية وهي ذات شقين أيضاً : قصير وطويل في القسم الأول ، وأمنيةواحدة (طويلة) في القسم الثاني :

  • أشتهي أن أكون صفصافة ..

أو صليباً من الذهب على صدر عذراء
أقلي السمك …

  • أشتهي أن أقبل طفلاً ..

ومن شفتيه ….
ثم يمزج وحدته وغربته مع مناداة أمه التي خاطبها ، من بين نساء باب توما في البيت الخامس. ويلاحظ القارئ أن أمنيات الماغوط كانت بصيغة المؤنث :

  • ليتني : حصاة ملونة / أغنية طويلة / وردة جورية / حانة .
  • أشتهي أن أكون : صفصافة / رائحة ثدي .

وفي باقي القائمة يسند المشتهيات إلى مؤنث : صليب على صدر عذراء / شفتا طفل…
وهذا انعكاس لهيمنة القيمة التي أثبتها المدخل ؛ فنساء باب توما الحزينات الجميلات المتعبات الفقيرات … والأم بينهن والفتاة العذراء ورائحة الثدي، تستدعي كلها خطاباً أنثوياً تجتمع فيه ميزتا الجمال والعناء معاً. وتحف به الشهوة والشبق كما تمثله رغبته في تعقب الثدي الذي أرضع شفتي الطفل وفي استخدام العقل (أشتهي) نلاحظ هنا أشد حالات التوازي وضوحاً من خلال الصور والمفردات، فقاموس النص يقدم لنا هذه المفردات: العيون / النساء / الليل / الخبز / السكارى / الأسرة / البكاء/ الشهوة / الوحل / الجوع / الشفاه/ الأطفال / شاعر / حانة / المطر/ الزقاق/ الغرباء/ الخمر / الذباب / الكآبة / الأقدام/ الظلام / الكنيسة / الضوضاء / المقهى / الثدي / وحيد / غريب / كما يردف الأسماء صفات مثل: حلوة / كئيب / حزين / جميل / كسولة / الهزيلة / المشردة / الغجرية / صفير / قاسي / خضراء / وردية ..
ويعكس هذا الحشد من الأماكن والصفات إيقاع التناقض الذي تلخصه جملة النص الكبرى: جمال الفقر وعذابه. ولا يمكن لنا أن نقرأ النص بدون عاميته المكانية خاصة التي تصنع مفارقة أخرى إذا ما واجهناها بالصياغة الشعرية في جمل مثل (لتمنحيني البكاء…). والتعرف على الأمنيات الأربع الكبرى المصدرة بالتمني (حرفاً وفعلاً) تتيح لنا بالمقارنة مع المدخل التعييني أن نتعرف على نسق التوازي الذي خلقه الشاعر بالمنافرة المستمرة بين جمال فطري وفقر طارئ يحكمان نساء باب توما وأشياءه الأخرى : الحانة والزقاق والبيت والسرير. حيث (إنتاج الكآبة والعيون الخضر) قدر الحارة المنطفئة على بؤسها وأحلامها.
في هذا النص يتجسد إيقاع التوازي بالتناقض من خلال الصور الحادة المتنافرة، مما يخلق ذلك الذي يسميه رتشاردز « المفاجآت التي يولدها سياق المقاطع » وهو يعوض النظم الغائب: ويستثمر المستوى الدلالي الذي وظفت فيه عناصر النص.
3- خطة
« كنت تصرخين بين الصنوبرات ، يحمل السكون رياح صوتك إلى أحشائي .
كنت مستتراً خلف الصنوبرات أتلقى صراخك وأتضرع كي لا تريني .
كنت تصرخين بين الصنوبرات : تعال يا حبيبي !
كنت أختبئ خلف الصنوبرات لئلا تريني ، فأجيء إليك ، فتهربي ».

  • أنسي الحاج(67)

 
* يقدم لنا نص أنسي الحاج القصير هذا نموذجاً لصلة الجزء بالجزء والجزء بكلية النص. إذ يمكننا أن نعد الجمل الشعرية الصغرى الأربع المصدرة بالفعل (كان + الضمير) ذات علاقة داخلية ببعضها (1و3) و(3و4) من جهة . وصلة كل منها بحكم علاقته العامة بالنص كلاًّ موحداً .. إضافة إلى ما يمنحه التوازي بين (كنتُ) بضمير المتكلم و(كنتِ) بضمير المخاطبة من إمكان تأليف الجمل الصغرى بنسق آخر (تعاقبياً) وكالآتي:
1-2 و 3-4 إضافة إلى النسق المقترح آنفاً : 1-3 و 2-4، فالنسق الأول يمنح ما يشبه الدورية الزمنية التي يمنحها الوزن وهو يكرر التفعيلات ، أما الثاني فيمنح النص نمواً خطياً (نثرياً) يجعل التوازي كلياً بين المتكلم والمخاطبة .
يرشدنا العنوان أولاً ـ وهو جزء من بنية النص وموجه قوي يخلق إيقاعه ودلالاته ـ إلى (خطة) تشبه ما يحدث في الحرب : تصرخ المرأة فيما يختبئ الرجل .. ثم إذ يجيء إليها تهرب . تحاربه المرأة بصرختها التي تنفذ إلى أحشائه كالرياح ، فيما يكون (هو) مستتراً (خلف) الصنوبرات، متضرعاً كي لا تراه . إن دمج الجملتين (1و3) يعرفنا على ما كانت تفعله المرأة ؛ فتكون الجملة المولدة منهما :
– كنت تصرخين بين الصنوبرات ، يحمل السكون رياح صوتك إلى أحشائي: تعال يا حبيبي ! أما ما كان يفعله الرجل فهو المعبر عنه في الجملتين (2و4) ويمكن تلخيصه بجملة جديدة بعد حذف المتكرر:

  • كنت مستتراً خلف الصنوبرات ؛ أختبئ ، أتلقى صراخك وأتضرع كي لا تريني ، فأجئ إليك ؛ فتهربي .

وتعطينا مطالعة الجملتين المقترحتين توازناً دلالياً وتركيبياً في آن واحد : فجملة الرجل تقابل جملة المرأة . وموقعه (خلف) الصنوبرات يقابل موقعها (بين) الصنوبرات وصراخها يقابل اختباءه مستتراً منها . ودعوتها (تعال يا حبيبي) المختومة بعلامة تعجب شاكة ومتحيرة تقابلها ضراعته (صلاته الهامسة مقابل صراخها) لئلا تراه فيحدث ما يتوقعه .. هذه الحرب بين صراخها وضراعته ؛ ودعوتها واختفائه يبررها ما يحدث في الختام إذ يراها فتهرب منه إذ يجيء إليها .
تمنحنا معاينة النص تركيبياً رؤية التكرار في صيغة (كنت ـ كنت) وتثبيت المكان وتفصيل الحدث ثم المفاجأة ، في ما يخالف التوقع . إذ نحسب أن المتكلم يختبئ كي لا يستجيب لندائها ؛ فيما يتضح أنه يخشى أن تراه فتهرب إذ يدعوها إليه أو يجئ إليها .
إنني أريد بهذا التأكيد على توالي أجزاء الحدث أن ألفت الانتباه إلى هذا المنطق الداخلي الذي يحكم النص ، والمخادعة التي يجريها الشاعر إذ يصرح بزهده بالبناء المنطقي ، فيما يبث إلينا نصاً لا يمكن فهمه وتلمس إيقاعاته إلا بالتعرف على منطقه الدقيق المتجسد بالتناظر والتتابع السببي .. ويصل اهتمام الشاعر حداً أقصى باللغة إذ يصل إلى عبارته الأخيرة : لئلا تريني ، فأجئ إليك ؛ فتهربي . لأن تراتب الأفعال : أجيء ؛ تهربي يتم نحوياً بالعطف على (تريني) المنصوب ، وهذا يجعله تحت طائلة النفي أي : لئلا ß تريني ـ ولئلا أجيء … ولئلا تهربي . ولو أنه أراد إتمام الهرب لقال : فأجيء .. فتهربين (بالرفع). وهذا يعني أن الهرب لم يحصل كما أنه لم يجيء إليها ، وإنما هو توقع لما يحصل لو رأته . ولهذا فهو يستتر كي لا تراه وكي لا يجيء إليها ثم تهرب منه. والدليل النحوي هنا يؤكد قيام النص على منطقه الداخلي المقتصد والمكثف .. دون فضاء إنشائي أو مبالغات تهويلية وهكذا نستطيع تلمس إيقاع (خطة) وسواها من قصائد أنسي الحاج القصيرة .
4- رقعة من تاريخ سري للموت ß
يسأل لا جواب . فليكسر مرآه نرسيس
مرآة نرسيس ظل      كيف يكسر الظل ؟
لكن ، حين سأل
عرف أن الإشكال أكثر إبانة من الإبانة
عرف انه مكدود بالفتنة مشبوب لها
عرف طسم
عرف أنه المنادى وأنه ينصرف
عرف أنه عادة ثانية وطبيعة خامسة وزمان رابع
لهذا
ولأشياء يرجئ ذكرها
وصف نفسه أنه الشرق
لهذا
ولأشياء نسيها
سكن في لذة الخطيئة
وأخذ ينشر علم الشهوة
لهذا
ولأشياء لا يذكرها
نزح إلى الظن
ولابسَ الحيرة

  • أدونيس(68)

 
* هذا مقطع من عمل طويل لأدونيس ، وإيقاعه لا شك مرتبط بإيقاع العمل الموحد ، إلا أن التجزئة وإعطاء عناوين جانبية يبرران القراءة الجزئية . فما نقرأ هنا ليس إلا (رقعة) أو خطاطة لها قوة الأثر أو الوصية ، ويزيدها قدسية أنها تنتمي إلى (تاريخ سري). وسريتها هذه تمنحها قوة الغيبي والغائب معاً . الغيبي احتكاماً إلى الموت والغائب لكونها جزءاً من تاريخ سري ، أو أثراً من عمل بخفي . ولهذا ، لن نجد في هذه (الرقعة) المجتزأة أصلاً من تاريخ سري أية إجابة. فالنص يبدأ بالفعل (يسأل) وينتهي بالنزوح إلى الظن وملابسة الحيرة . وبين الفعل (يسأل) و (لا جواب) في البيت الأول بياض مقصود يشير إلى الزمن اللابث بين السؤال والإجابة المنتظرة. ومثله بياض البيت الثاني بين عبارتيه . وتظل الموازاة في جسد النص قائمة بين السؤال والمعرفة. هكذا ينطق النص بجملته أو بؤرته أو مركزه. ومن هنا نتعرف على صلة البؤرة بما ينبثق عنها، أي صلة الفكرة الرئيسية بتنويعاتها التي تنتشر فيها وتتباعد عنها:
حين سأل
عرف
وتستمر المعرفة خمسة أبيات لا يدرك خلالها جواباً ، فينتقل إلى النتيجة:
– لهذا
ولأشياء ..
وصف …
فالنتيجة ستكون (الشرق) تجسيداً لتلك الاستحالة في معرفة الإجابة .
ولهذا مرة أخرى سيختار الخطيئة والشهوة .
ولهذا مرة ثالثة نزح إلى الظن ولا بس الحيرة.
إن النتائج المبررة مصدرة بعبارة (لهذا و لأشياء ..) ؛ وسنجد أن الأشياء موصوفة بعدم التعيين بعد عبارة (لهذا..) :
ولأشياء يرجى ذكرها .
ولأشياء نسيها .
ولأشياء لا يذكرها .
وهي تؤدي معنى واحداً وتمهد لفعل واحد في المقطع الأول (وصف نفسه) وفعلين في المقطعين (الثالث والرابع) [سكن ـ أخذ] و [ نزح ـ لابس] . ولا نستطيع التعرف على إيقاع الفكرة في هذا النص إلا اهتداء ببنية السؤال والبحث عن إجابة مستحيلة ، واستعانة بهذا الترجيع المقصود (سؤال ـ جواب ) (مرآة ـ ظل) (سأل ـ عرف) (ثانية ـ خامسة ـ رابع) ( يرجئ ذكرها ـ نسيها ـ لا يذكرها) .. وينبني التوازي هنا ويتكرس ببناء قوامه التناقض إيقاعياً… مع التصرف بالطبائع مثلاً وإضافة طبيعة خامسة (إلى العناصر الأربعة) وزمن رابع إلى (الأزمنة الثلاثة) والتناقض بين المنادى الذي ينصرف والقاعدة النحوية في النداء .. ومعرفة أنه (طسم) التي لا تزيده معرفة بنفسه بل تبلبله وتظل كمحاولة كسر مرآة نرسيس التي ليست سوى ظله في الماء ، كلما حاول إمساكه والتوحد به هرب منه واختفى. وبهذا التوازي بين الفكرة وتجلياتها النصية التي يظهرها البناء المتحقق ، نتلمس الإيقاع الخاص لنص أدونيس الذي يتدرج من إشراقية الموت وسريته التاريخية في العنوان ، حتى رمزيته وانغلاقه في (طسم) و(مرآة نرسيس) في المنام ..
 
الهوامش
 

  • الفراهيدي: كتاب العين ، تحقيق د. مهدي المخزومي و د. إبراهيم السامرائي ، ج2، دار الرشيد للنشر ، بغداد 1981 ، ص176.
  • د. مهدي المخزومي: الفراهيدي عبقري من البصرة ، خزانة التراث ، ط2 ، دار الشؤون الثقافية ، بغداد 1989 ، ص100.
  • ابن المعتز: طبقات الشعراء ، تحقيق: عبدالستار أحمد خراج ، ط4 ، دار المعارف بمصر ، القاهرة 1981 ، ص96.
  • نفسه ، ص95.
  • المخزومي: سابق ، ص83.
  • محمد العياشي: نظرية إيقاع الشعر العربي ، المطبعة العصرية ، تونس 1976 ، ص29.
  • د. عبدالعزيز المقالح: أزمة القصيدة الجديدة ، دار الحداثة – دار الكلمة ، بيروت ، صنعاء 1989 ، ص21.
  • العياشي: سابق ، ص18.
  • صفي الدين الأموري: كتاب الأدوار ، شرح وتحقيق الحاج هاشم الرجبي ، دار الرشيد ، بغداد 1980 ، ص41 و 139.
  • مصطفى جمال الدين: سابق ، ص45 و ص15.
  • إبراهيم أنيس: موسيقى الشعر ، ط4 ، مكتبة الإنجلو المصرية ، القاهرة 1972، ص125.
  • نازك الملائكة: قضايا الشعر المعاصر ، دار الآداب ، بيروت 1962 ، ص11.
  • حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء ، تحقيق وتقديم: محمد الحبيب ابن الخوجة ، دار الكتب الشرقية ، تونس 1966 ، ص266.
  • المخزومي: سابق ، 156 ، وإبراهيم أنيس: سابق ، ص50.
  • العياشي: سابق ، ص125.
  • إبراهيم أنيس: سابق ، ص16.
  • رومان جاكبسون: قضايا الشعرية / ترجمة من الولي ومبارك لاحنون ، دار توبفال للنشر ، الدار البيضاء 1988 ، ص106.
  • نفسه ، ص137.
  • أ. أ رتشارد: مبادئ النقد الأدبي ، ترجمة وتقديم: د. مصطفى بدوي ، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة ، القاهرة 1963 ، ص33.
  • توفيق الزيدي: مفهوم الدبية في التراث النقدي ، ط2 ، عيون المقالات ، الدار البيضاء 1987 ، ص60.
  • سعيد الغانمي: قصيدة النثر – أسطورة الإيقاع الداخلي، مجلة الأقلام ، العدد 5، بغداد ، آيار 1985.
  • سامي مهدي: أفق الحداثة وحداثة النمط – دراسة في حداثة مجلة (شعر) بيئة ومشروعاً ونموذجاً ، دار الشؤون الثقافية ، بغداد 1988 ، ص105.
  • العياشي: سابق ، ص329.
  • سوزان برنار: جمالية قصيدة النثر ، ترجمة د. زهير مغامس ، بحوث مترجمة – 1- ، بغداد د.ت ، ص178.
  • العياشي: سابق ، ص90.
  • عز الدين إسماعيل: الشعر العربي المعاصر، قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، ط2 ، دار العودة ودار الثقافة ، بيروت 1972 ، ص53.

 

  • هيغل: فن الشعر ، ترجمة: جورج طرابيشي ، ج2 ، دار الطليعة ، بيروت 1981 ، ص324.
  • جان كوهين: بنية اللغة الشعرية ، ترجمة: محمد الولي ومحمد العمري ، دار توبفال للنشر ، الدار البيضاء 1986 ، ص86.
  • نفسه ، ص96.
  • مصطفى جمال الدين: سابق ، ص7.
  • مجدي وهبة: معجم مصطلحات الأدب ، مكتبة لبنان ، بيروت 1974 ، ص481.
  • إبراهيم الخطيب: نظرية المنهج الشكلي ، نصوص الشكلانيين الروس ، الشركة العربية للناشئين ، مؤسسة الأبحاث العربية ، الرباط – بيروت 1982 ، ص52.
  • رتشاردز: سابق ، ص192.
  • س. موريه: الشعر العربي الحديث (1800-1970) تطور أشكاله وموضوعاته بتأثير الأدب الغربي ، ترجمة وتعليق: شفيع السيد وسعد مصلوح ، دار الفكر العربي ، القاهرة 1986 ، ص43.
  • العياشي: سابق ، ص11.
  • محمد مفتاح: دينامية النص وتنظير وإنجاز ، المركز الثقافي العربي ، بيروت 1987 ، ص63.
  • ليليان كيستلوت: إيميه سيزير ، ترجمة: أنطون حمصي ، وزارة الثقافة ، دمشق 1970 ، ص55.
  • كمال أبو ديب: سابق ، ص521.
  • كمال خير بك: حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر ، دار المشرق ، بيروت 1982 ، ص316.
  • علوي الهاشمي: معول يشيد الفضاء ، مظاهر التركيب اللغوي لقصيدة النثر في البحرين ، مجلة (كلمات) العدد 10-11 ، 1989 ، ص19.
  • يمنى العيد: في معرفة النص ، دراسات في النقد الأدبي ، ط2 ، دار الآفاق الجديدة ، بيروت 1985 ، ص101.
  • حسن الغرفي: سابق ، ص13.
  • جان كوهين: سابق ، ص11.
  • سوزان برنار: سابق ، ص6.
  • نفسه ، ص12.
  • يمنى العيد: سابق ، ص91.
  • أنسي الحاج: لن ، ط2 ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت 1982 ، ص19.
  • خليل حاوي: جبران إطاره الحضاري وشخصيته وآثاره ، دار العلم للملايين ، بيروت 1980 ، ص300.
  • كمال أبو ديب: سابق ، ص523.
  • د. عبدالستار جواد: قصيدة النثر في الأدب الإنجليزي ، محاضرة ، الموسم الثقافي لنادي الشعر في اتحاد الأدباء ببغداد ، 1986.
  • نازك الملائكة: سابق ، ص126.
  • أدونيس: مقدمة الأعمال الشعرية الكاملة ، م2 ، ط4 ، دار العودة ، بيروت 198 ، ص7.
  • مصطفى جمال الدين: الإيقاع في الشعر العربي من البيت إلى التفصيلة ، ط2 ، مطبعة النعمان ، النجف 1974 ، ص254.
  • جلال الحنفي: العروض – تهذيبه وإعادة تدوينه ، ط2 ، وزارة الأوقاف ، سلسلة إحياء التراث –10- بغداد ، ص757.
  • أنسي الحاج ، سابق ، ص 15.
  • كمال خير بك ، سابق ، ص 157.
  • رومان جاكوبسون ، سابق ، ص 106.
  • حسن الغرفي ، سابق ، ص 11.
  • فاضل ثامر: الخطاب الشعري ونسق التوازي ، بحوث المؤتمر الخامس عشر لاتحاد الكتاب العرب ، ج2 ، دار الثورة ، بغداد 1986 ، ص204.
  • كمال أبو ديب ، سابق ، ص 285.
  • توفيق الزيدي ، سابق ، ص 61.
  • علوي الهاشمي ، سابق ، ص 69.
  • ألياس خوري: دراسات في نقد الشعر ، ط3 ، مؤسسة الأبحاث العربية ، بيروت 1986 ، ص168.
  • يذهب د. جودت فخر الدين إلى أن الحديث عن (إيقاع داخلي) في قصيدة النثر هو (كلام مضلل) ويرى أنه لا مسوغات مقنعة له ، ويقترح (التكامل الإيقاعي) بين المستوى النحوي والبلاغي والعروضي في القصيدة ، موسعاً بذلك مفهوم الإيقاع ليشمل التراكيب النحوية والصور البلاغية إلى جانب العروض. ينظر: الإيقاع والزمان ، دار المناهل ، بيروت 1995 ، ص29 و 31 و 41.
  • النفري: كتاب المواقف وكتاب المخاطبات ، تصحيح: أرثر يوحنا أربري ، طبعة بغداد المصورة عن دار الكتب المصرية ، القاهرة 1934 ، ص207 و 208.
  • محمد الماعوظ: الآثار الكاملة ، دار العودة ، بيروت 1973 ، ص26.
  • أنسي الحاج: لن ، سابق ، ص14.
  • أدونيس: الأعمال الشعرية الكاملة ، سابق ، ص710.

 
 
 
 
 
حلم الفراشة
الخصائص النصية في قصيدة النثر
– مقدمة وتطبيق نقدي-
 

  • مقدمة: القراءة والنص

أصبح شائعاً اليوم ، في النشاط النقدي ، القول بـ أن تحليل النصوص يستند إلى فعل القراءة الذي يقوم به القارئ موازياً لكتابة النص نفسه ، وقد تدرج القول بفاعلية القراءة ومركزيتها من الاهتمام بمنتج النص أي شاعر كإنسان أو ذات ؛ فالنص نفسه كمتن متحقق مستقل عن كاتبه ، ثم القراءة التي تعد النص مكاناً تلتقي عنده آفاق عدة: أفق الكاتب وافق النص وأفق القراءة ، لتخلق من إنصهارها وتفاعلها شكل النص الجديد. وهي بذلك ترفض التركيز على قراءة النص ، باعتبار منتجه ، مما يحول ملفوظاته إلى وثائق ومستندات تلي المرجع وتتبعه ونجسد هيمنته المنتج وكيانه الخارجي دون اهتمام بالمتن ومفرداته ونظمه الداخلية وخصائصه النوعية ، أما في مناهج القراءة والتقبل فكل أجزاء النص إنما تجسد علاقته بنوعه من جهة ، وما يحقق من مزايا داخلية تكشفها القراءة من جهة أخرى.
لم تعد قراءة النص إذا مرهونة بوجود المتن لذاته ، بل تعدته إلى ما يسبغ عليه القارئ من نشاط تأويلي يسمح به هذا المتن دون أن يعيقه أو يقهره أو يكبته بربطه آلياً بصاحبه وحياته ونفسيته وإيديولوجيته. وغدا نشاط القراءة والتأويل جزءاً متمماً للتأليف لا يطابقه بالضرورة ولا يفرض نموذجاً موحداً للشرح والفهم والتفسير ، وبذلك تحققت حرية النصوص بعدم إخضاعها لمعنى (أو غرض) نهائي ، وضمنت حرية القارئ عبر تعدد القراءات وتنوعها ، شرط استنادها إلى المعطيات النصية ومستنداتها وما تثيره على مستوى التلقي. وبهذا دخلت إلى حقل تحليل المتون الشعرية مصطلحات كثيرة نتداول بعضها اليوم في لغتنا النقدية مثل ((النص)) و((القراءة)) و((التأويل))  و((الإيقاع الداخلي)) وسواها مما لا يدخل في موضوعنا … ولكل من هذه المصطلحات مفهوم يحف به هو الآخر مستحدث في خطابنا النقدي العربي. فالنص هو الأسم الجديد للعمل الأدبي شعراً ونثراً(1)، كما أن الدلالة تقابل المعنى الذي اختص بوحدات الجمل والعبارات ، بينما تكمن وحدة الدلالة في النص بوصفه كينونة محددة من القول ذات وجود كلي(2) .
أما القراءة والتأويل فقد حلا محل الشرح والتفسير ، وأصبحت القراءة ((هي التي تحيل النص إلى معنى وتجعله قولاً معلناً (3). فالنص ليس بنية مستقلة عن تلقيها ، ولا يمكن وصفه إلا من داخل عملية استقباله. ولكن علينا أن نعترف أولاً بحداثة هذه المصطلحات ، فالنص اصطلاحاً ومفهوماً لم يكن معروفاً بلفظه ودلالته في نقدنا القديم ، وغاية ما يعطيه المعجم اللغوي لهذه المفردة هو رفع الشيء وإظهاره وغايته وأقصاه أو منتهاه(4)، أما في المصطلح  فالنص هو “ما ازداد وضوحاً على الظاهر لمعنى في التكلم وهو سوق الكلام لأجل ذلك المعنى”(5). ونلاحظ في التعريفين ارتباط النص بـ المعنى وإظهار ما يتعلق به ، فهو ليس بنية مستقلة بل تابع لغرض يراد توصيل معناه ، وقيل عن تعريفه بشكل أكثر تحديداً إنه “ما لا يحتمل إلا معنى واحداً وقيل ما لا يحتمل التأويل”(6) ، وهذا تأكيد لارتباطه عندهم بالمعنى أولاً وبالقصد الثابت من بعد.
إلا أننا إذ نتقاطع مع القول بعدم احتمال النص للتأويل نجد أن مهمة القارئ ليست في إظهار المعنى الذي عني النص بإظهاره أصلاً ، بل في إعادة صياغته وتأليفه عبر التأويل ، إذ لم تعد مهمة القارئ محددة في “تلقي” النص وحسب ، وإنما تعدت ذلك إلى “الالتقاء به” ، وهذا تجاوز لنظرية النص ذاتها ، أي الأفكار التي تحدد الشعرية بكشف نظم النص وعلاقته الداخلية التي توضحها الألفاظ دون تدخل القارئ .. ويمكن القول إن نظرية النص التقليدية تبحث في أثره في المتلقي ، بينما تفترض نظريات القراءة البحث في أثر القارئ نفسه في النص. حين تداهمنا النصوص بذخيرتها اللفظية والدلالية تكون لنا – نحن القراء – ذخيرتنا المقابلة. وهذا ما يوضحه الرسم الآتي:

المؤلف

نظرية النص                      ×       النص              المتلقي

نظريات القراءة والتقبل       ×       النص              القارئ

حيث يلتقيان في تجاوز حضور الكاتب والاكتفاء بوجوده النصي (عبر نصه) ، ويختلفان في زيادة فاعلية القارئ وهو يلتقي بالنص في نظريات القراءة. ولقد ترتب على القول بالنص ، هدم التجنيس التقليدي للأنواع الأدبية (شعر / نثر) فصار الاسم المشترك حافزاً لاقتراب الشعر من النثر ، وهو أمر تنبه إليه الكتاب العرب ، فقد روى التوحيدي عن ابن هندو الكاتب قوله: “إذا نظر في النظم والنثر على استيعاب أحوالهما وشرائطهما ، والإطلاع على هواديهما وتواليهما ، كأن المنظوم فيه نثر من وجه ، والمنثور فيه نظم من وجه ، ولولا أنهما يستهمان هذا النعت لما أئتلفا ولا اختلفا”(7).
فالقطيعة بين النثر والشعر ليست تامة كما يراها النقد التقليدي ، ووجود كل منهما في الآخر متضمناً أو محالاً إليه دليل على قربهما في المأخذ والاتجاه ، وليس باب “نثر النظم وحل العقد”(8) إلا محاولة لإعادة هيبة الأنواع الأدبية وفق تقاليدها المستمرة التي نرى أن تغييرها حتمي مما يدخل مزايا بعضها في البعض الآخر. وعندها تسقط المفاضلة بين الأنواع وتتبادل الوظائف كأفرادها تماماً.
 

  • مزايا نوعية جديدة:

دخلت قصيدة النثر إلى الأنواع الأدبية بكونها نصاً شعرياً رغم الالتباس الحاصل في اسمها ومفهومها ، مما أشار إليه باحثون عديدون(9) ، وهي باعتبار النص ملتقى لآفاق القراءة تندرج تحت التصنيفات النصية ، لأنها تمتلك خصائص نوعية ومزايا داخلية تظهر بالتحليل النصي وتسليط القراءة عليها:

  • إنها قصيدة قراءة تخاطب عبر الجسد الورقي عيني القارئ لا أذنيه: وهي تخاطب معرفته الكتابية لا الشفاهية وهذا يرتب مزايا كثيرة منها استثمار سطح الورقة للتوصيل دون الإلحاح على الوسائل الشفاهية بالقافية والوزن والصيغ أو القوالب اللغوية الشفاهية ، لذا فهي تستغل البياض مثلاً لتوصيل الإحساس بالزمن ، وعلامات الترقيم لغرض توصيل الانفعال .. وهذا ما لا يمكن لنص آخر أن يستثمره وهو واقع تحت هيمنة الوزن والقافية واللغة الشعرية النمطية.
  • إنها تستفيد من نصيتها وإفلاتها من التجنيس في الإفادة من الخصائص السردية ، لاسيما الأزمنة والأمكنة ولغة القص والتسميات والحوار والحدث ، رغم أن لها زمنها الخاص ، أي الزمن الشعري الذي لا يتطابق بالضرورة مع الزمن الخارجي. وتلاحظ سوزان برنار شيوع السرد في الشعر منذ السريالية. وهو سرد يقع “خارج الزمان”(10) مستخدماً الوسائل التقنية للقص وتسلسل أحداث مسرودة بواقعية ، برغم أن قصيدة النثر لا تلتزم بتلك الوسائل ولا تقدم لنا منطقاً عاماً أو ظاهرياً. وذلك لا يعني افتقادها المنطق الداخلي ، “فكل قصيدة مهما كانت متحررة من الفكر العقلاني لها منطقها الداخلي وهو الذي يعطيها بناءها ووجودها العضوي”(11).
  • نعني بـ الإيقاع ذلك المكون الذي يهب قصيدة النثر مزاياها الشعرية الخاصة. وهو إيقاع داخلي يعوض عن الموسيقى الخارجية الغائبة. وعادة نحس بهذا الإيقاع وندركه دون وصف محدود لأنه متغير حسب معطيات النص ، متمركز حول الفكرة والصورة واللفظة لكنها تسهم في نمو وتولد الدلالة عبر مكونات النص كلها وليس في جزء منها(12). الإيقاع أشمل من الوزن والموسيقى الخارجية المتحققة بالبيت الشعري والقافية. فهو خط عمودي يخترق النص وينتظمه. أما الوزن فهو عنصر من عناصره وحسب ، إلى جانب اللغة أو المعنى والقافية وأجزاء البيت الشعري. وهو لذلك يشتمل على الوزن ويتعداه ليعترض الشكل الخطي للقصيدة .. كما يوضح هنا:

الإيقاع الداخلي             
 

الشكل الخطي للنص

 

 
 
البيت
    الوزن
   القافية
  اللغة
 المعنى
وبذلك يصبح الإيقاع الداخلي عاملاً إيجابياً يجسد كلية النص لأنه يحتوي العناصر كلها ويمكننا تقصيه ومراقبته في البياض الورقي والمغيبات من الدلالات التي تحيل إليها الألفاظ .. وفي توازي أفكارها وتقابلها وعلاقاتها المتغيرة.

  • إنها تولد إيحاءات لا معاني ، وهذا يؤكد كونها قصيدة دلالية(13) لأنها تدع الجانب الصوتي غير مستقل شعرياً ، مكتفية بما تخلفه العناصر الدلالية من إيحاءات. وهذا يسهم في حرية القراءة وتعددها. فقصيدة النثر لا تعطي معاني ثابتة محددة بل تخلق إيحاءات يولدها عادة مولد لساني (كلمة أو جملة أو صورة) ثم تنبني عليها استطرادات سردية تؤدي إلى خلق أثر الشعر الموزون في المتلقي ، وتترك له حرية توليد الأحاسيس الثانوية الأخرى. فموقع المتلقي يتغير طالما كان موقع المتلفظ متبدلاً على الدوام.
  • إنها قصيدة كلية لا جزء فيها يغني عن سواء ، كما أنها لا تدرك بالملفوظ وحده. وهي لذلك اكثر صلاحية للقراءة من سواها. ففيها تنصهر أنا الشاعر وأنا النص (أو الأنا الشعرية) وأنا العالم الخارجي (أو الأشياء). وعلى مستوى آخر تندرج إيحاءات النص وتفسيرات القارئ التأويلية .. وإن ذلك كله يجعل تلازمها العضوي ظاهرة مميزة بدءاً من عنوانها حتى آخر علاماتها. ولعل سوء فهم قصيدة النثر هو الذي يدفع البعض إلى حذفها من التصنيفات النصية ويجعلهم لا يرون مزاياها وخصائصها النوعية الداخلية: أنها قصيدة لا تعلن عن نفسها بل تترك للقارئ حرية اكتشاف منطقها الداخلي الخاص وزمنها وإيقاعها وإيحاءاتها وكليتها العضوية.

في الجزء التالي من الدراسة ، نحاول تلمس تلك المزايا والخصائص في نص لأنسي الحاج سنرى فيه أن المستوى اللساني يسمح بالتعرف على دلالة الماضي والحاضر كأزمان شعرية لا نحوية فحسب ، كما نرى موقع المتلفظ وقد أثر في موقع المتلقي (حين يكبر الراوي ؛ ويشير إلى مرور زمن على حلم الفتاة يستخدم لغة السرد الحكائي). والسرد كما يفهمه أنسي الحاج في مقدمته لديوانه “لن” مثل الوصف في قصيدة النثر – يفقدان غايتهما الزمنية(14).
ففي النصف الأول من النص سنرى أن الراوي الخارجي يصف بحياد ودون تدخل ، ولكنه بعد البياض الفاصل بين مقطعي النص يدخل في السرد بشكل مباشر. وهي قصيدة كتابية لا تفهم إلا بمعرفة دلالات البياض والتشطير المتعمد فيها ، وذلك يخلق إيقاعها الخاص أيضاً ، كما نراه مجسداً في تناظر (وتنامي) حلم الفتاة. ولعلنا محتاجون إلى القول بأن لغة أنسي الحاج هنا خادعة ، فمن حيث تبدو لنا زاهدة في المنطق والترابط ، عابثة ، قلقة ؛ نجدها منضبطة لأداء دلالاتها والإيحاء بها بتسلسل. فهو يحافظ على زمنية الأفعال حسب مستوى السرد في النص ، ويعتمد التكرار لخلق الدلالة أو تعددها أحياناً.
قصيدة الحاج إشراقية حسب تصنيفات سوزان برنار لأنماط القصيدة النثرية. لأنها “تمحو حدود المكان والزمان”(15). وهي نقيض “القصيدة الشكلية” التي تتقيد بهما ، فضلاً عن أنها تتعمد تغييب مرجعها الذي دخلت في تناص تناسخي معه وأعني هنا أن حكاية الفتاة والفراشة المتماهيتين معاً هي في الأصل أسطورة صينية…
 

  • النص(16):
فتاة فراشة فتاة

1-   حلمت فتاة أنها فراشة
2-   وقامت
3-   فلم تعد تعرف إذا كانت
4-   فتاة حلمت أنها فراشة
5-   أو
6-   فراشة تحلم أنها فتاة

 
(1)
(2)
(3)
1)
7- (4) 2)
8-   بعد مئات من السنين
9-   يا أولادي
10-        والهواء في الليل
11-        فتاة وصبي يركضان كفراشة
12-        تحلم أنها فتاة وصبي
13-        أو
14-        فتاة وصبي يحلمان انهما فراشة
15-        واشتدت الريح على الهواء
16-        تمزقت في الخارج
17-        يا أولادي
18-        فراشة
(5)
 
 
 
 
 
 
(6)
(7)
3)

 
 

  • المتن النصي ومقترحات القراءة التسلسلية:
  • تشير الأرقام الموضوعة يمين الأبيات إلى تسلسلها عددياً في النص الأصلي أي التقسيم الترتيبي الخطي.
  • وتشير الأرقام الأولى يسار الأبيات من (1 إلى 7) إلى التقسيم الجملي الذي نقترحه.
  • أما الأرقام الثلاثة إلى أقصى اليسار (1 ، 2 ، 3) فتشير إلى التقسيم المقطعي. وجميعها مقترح مني وليس في الأصل.
  • فالتسلسل الأول (من 1- 18) يمثل القراءة الترتيبية العمودية التي تقتضيها الهيئة الخطية للنص. أي إن كل بيت هنا يؤدي إلى ما يليه من أبيات. والحاصل في هذا المستوى من القراءة وجود (18) ثمانية عشر بيتاً تتراوح بين حرف واحد وجملة طويلة من ست كلمات. وفي هذا المستوى يتوجب علينا مراعاة فاصل البياض بين البيتين السادس والسابع. وهو عندي يأخذ رقماً في تسلسل الأبيات رغم انه مقطع كامل. فما يبدو للقارئ بياضاً يفصل بين مقطعين هو في حقيقته زمن يستغرق فعل القيام من الحلم ، وملاقاة المصير بالتمزق.

كما نلاحظ ، بعد صمت البياض بين البيتين ، تغير صوت السارد ، فأصبح شيخاً يحدث أولاده (بعد مئات السنين). هذا الانتقال الزمني وتغير السارد لم يتما لولا التمهيد الذي هيأنا البياض الفاصل بين المقطعين إلى ما سيحدث.

  • وإذا انتقلنا إلى أقصى اليسار وتأملنا التقسيم المقطعي (من 1- 3) لوجدنا أننا لا نزال نتابع التقسيم الخطي المسطور على الورق ونحتكم إلى هيئة النص الخارجية. فثمة مقطع أول يمثل حلم الفتاة وقيامها من الحلم: الأبيات (1-6) ومقطع ثان يبدأ بالبيت ( 11/ حتى نهاية النص) وفيه يدخل الصبي إلى النص ، ثم نهاية الحلم بتمزق الفراشة.

لكنني أعد البياض الفاصل بين المقطعين مقطعاً مستقلاً لذا يأخذ رقماً تسلسلياً لتصبح القصيدة ذات ثلاثة مقاطع.

  • أما على الجهة اليسرى عند نهاية كل بيت فنجد التسلسل الجملي المقترح حسب متابعات الجمل الشعرية الصغرى ، أي التي يتطلب الانتهاء منها الانتقال إلى جمل أخرى داخل بنية النص الكبرى. وهنا يصبح التسلسل من 1 إلى 7 ، أي أن هناك ست جمل صغرى يتكون منها النص. هنا أيضاً لابد من عد البياض الفاصل بين المقطعين جملة مستقلة ينبني على مراعاتها ، عند القراءة ، تخيل جملة ينطق بها البياض قوامها اللبث أو الفترة الزمنية بين جملتين يرشحها السياق الذي يدل على تحول في النسق داخل النص ، ويمهد للوصول إلى الجملة التالية (بعد مئات من السنين …) لأن ما سيحدث إنما يحدث في الليل أيضاً ويهيئ لعودة الحلم. لكن ما يحصل أن الريح تشتد وتتمزق الفراشة أي تموت.
  • خلاصة وتحليل:

ننتهي من وصف الهيئة المتنية للنص إلى انه ذو هيئتين: خطية وجملية. والهيئة الخطية تتضمن صورتين: التسلسلية حسب القراءة الترتيبية لكل بيت والقراءة المقطعية. وهنا يتألف النص من ثمانية عشر بيتاً بإضافة بيت البياض ، وثلاثة مقاطع بإضافة مقطع البياض. أما الهيئة الجملية فيتكون النص وفقها من سبع جمل شعرية باحتساب مقطع البياض كجملة مفردة مستقلة. ويمكن التمثيل لها بهذا الرسم التوضيحي:
 
 

 
 
 
 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

 (من حلمت .. إلى فراشة). 1-    حلمت فتاة ..
2-    البياض
3-    بعد مئات من السنين
* يمكن عدها أربعة بإضافة مقطع العنوان كما سنرى.
1-    حلمت فتاة ..
2-    وقامت
3-    فلم تعد ..
4-    البياض
5-    بعد مئات من السنين
6-    واشتدت الريح ..
7-    تمزقت .
8…………
-* يمكن عدها ثماني جمل إذا أضفنا جملة العنوان كما سنرى.

ويمكننا أن نعد التقسيم الجملي ذا محمول دلالي أو معنوي ؛ فالجمل الصغرى تتتابع حسب ما تؤديه من دلالة. والهيئة الخطية مرسلة من النص نفسه ، أي أنها قائمة قبل قراءتنا.
إن الهيئة الدلالية المتخذة من التقسيم الجملي مظهراً لها هي هيئة تصنعها القراءة لأنها غير موجودة في النص أصلاً. هذا ما يمكن أن تقترحه القراءة على النص ، وهي تحتكم إلى هيئته لكن دون الانقياد إلى خطية الهيئة كما هي عليه. وأسوأ القراءات من بعد هي التي تستند إلى الهيئة الخطية الأولى (أي ذات التقسيم الترتيبي المتسلسل) لأنها مرهونة بالبيت كوحدة مستقلة. وعلى هذه القراءة أن تنتج معاني موازية (وربما دلالات) لكل بيت انطلاقاً من اعتقاد القراء التقليديين باستقلال البيت ووحدته واكتفائه بنفسه لإنتاج معنى أو دلالة ، وهذا ما لا يصح في قراءة قصيدة كلية قائمة على وحدة النص كقصيدة النثر.
وقد يدخل في هذه القراءة ما يمكن تسميته موجهات قراءة مضللة تعمدها الباث أو المرسل وهي غير ذات أثر في فعل القراءة.
أما القراءة المقطعية فهي ، وإن تكن محافظة على التسلسل الترتيبي للهيئة الخطية ، تقرب النص من التناول الكلي. فهي ترتب الأبيات في مقاطع كبرى نرى فيها أن حلم الفتاة يستغرق المقطع الأول ، والصمت الذي يبثه النص رمزاً لما سميناه بالفترة الزمنية التي استغرقها التحول في المقطع الثاني ، ثم الانتقال إلى النهاية الصادمة في المقطع الثالث حيث تتمزق الفراشة بدخول الفتى إلى الحلم ودخول الراوي الخارجي إلى السرد.
يملك القارئ في القراءة المقطعة موقعاً وموقفاً ، وإن يكن منقاداً للهيئة ، أما في القراءة الجملية فهو الذي يعطي بداياتها ونهاياتها ويربطها ببعضها لاستيفاء الدلالة ورصد تحولاتها. وذلك يوجب على القارئ الاستعانة بالدليل اللساني أولاً وبالمعنى الذي هو مولد أولي للدلالة وأتساعها الممكن…
هنا سنجد سبع جمل شعرية تتجاوز الترتيب النحوي للجملة العادية وللبيت الشعري المستقل في آن واحد. فلربما تكونت الجملة الشعرية من بيت واحد أو عدة أبيات.
فالجملة الأولى هنا هي البيت الأول= حلم الفتاة ،
والثانية هي البيت الثاني = قيامها ،
والثالثة هي الأبيات (3 ، 4 ، 5 ، 6) = اختلاط الحلم بالواقع ،
والرابعة هي البياض المتروك بين البيتين 6 و 8 = تحولات وفترة زمنية ،
والخامسة هي الأبيات (8 ، 9 ، 10 ، 11 ، 12 ، 13 ، 14) الدالة على التحول ودخول الفتى في المشهد الحلمي ،
والسادسة هي البيت (15) = حصول العاصفة أو اشتداد الريح ،
والسابعة هي الأبيات (16 ، 17 ، 18) وتمثل النهاية.
إن هذه القراءة أقرب المقترحات إلى الخصائص الذاتية لقصيدة النثر نوعاً شعرياً ، وإلى إفادتها من النثر وعناصر السرد بخاصة. فهي بذلك تخترق الترتيب أو التنظيم الذي تقترحه هيئة القصيدة المألوفة وبنيتها. وتمد وجود جملها الصغرى لتخلخل البناء العام. وتقترح تفتيت عناصره حسب معطياتها الدلالية والمستخرجة بفعل القراءة. وذلك يتطلب في حقيقة الأمر قارئاً ذا خبرة بشعرية النوع كله ، مدركاً لما يفعله التنظيم الجديد للنص وهو يخترق البنية ويرفض نظامها المسطور أو الخطي.

رسم البنية والتنظيم
(جملة شعرية)
قصيدة ذات أسطر متفاوتة

 

=

 
 
 
 
ويقابل ذلك الرسم ما يمثله الرسم الآتي الموضح لسكونية النظام وهو يماشي البنية ولا يخترقها لكي يعيد تنظيمها ، فنحن لن نحصل إلا على نظام البنية كما تقترحه هيئتها المتحققة والمرتبة حسب علاقات الملفوظ ببعضه.

0
 

البنية

قصيدة النثر

=

0

0
 
النظام
 
0
=

أبيات دون وزن أو قافية

 
 

  • التحليل:

بنية العنوان
يطالعنا عنوان نص انسي الحاج مشرقاً ، أعلى نصه ينشر ضوءه فوق المتن لينيره أو ليهدي سالكيه إلى ما يعتم من زواياه دون أن يدلهم على ما سيكون ، إنه ضوء مشرق لا عصا تقود الخطوات. والملاحظ أن عبارة العنوان مكونة من ثلاث كلمات مكتوبة دون حروف عطف ، ودون إضافة ، أو تعريف. فالعلاقة بينها إذً دلالية ما دام التركيب النحوي أو العلاقة اللغوية لا يتضح أمرهما. وهناك الفراغ المتروك عمداً بعد كل مفردة:

فتاة           فراشة          فتاة

فهو يشير إلى فاصل زمني يشير – أو ينبه – لما سيحصل من تحولات. والاستعانة النحوية واللغوية لا تنجدنا هنا. ويصبح الدليل اللساني صفراً دلالياً إن نحن استدعيناه. فلو قدرنا واواً محذوفة لما أصبح للعنوان أي مدلول:

فتاة   و       فراشة  و       فتاة

بل سيخلق ذلك بلبلة للمتلقي الذي يحسب أن ثمة فتاتين وفراشة بينما يؤكد العنوان التحولات التي سيشهدها المتن:

فتاة –> فراشة –> فتاة

فالبياض المتروك بين الكلمات يشير (كالسهم هنا) إلى صلة الكلمة الأولى بالثانية ، والثانية بالثالثة. وعلاقة الثالثة بالأولى ضمنياً ..
كما يمنح التأويل لفرضية التحولات قوة كبيرة كما سنرى إذ نتفحص دلالة التحول من (فتاة) إلى (فراشة).
التنكير تعميم للحالة وهذا ما يريد أن يؤكده الشاعر فهو يسرد ما يحصل لجنس كامل يحيل إليه لفظ “فتاة” المنكر المعرف ..
في هذا النص يستقبلنا العنوان ليزيد أشكال التحول ولغزه غموضاً.
فإذا ما انتهينا إلى تقديم (فتاة) فيجب أن نلاحظ عودتها ثانية بعد (فراشة). أما صلة الفراشة بالفتاة فهي كون المفردتين تدلان على أنثى. وهي غير ذات ذكر ، وإلا لقال (امرأة) مثلاً .. بينما نعرف عن الفراشة اسمها المؤنث والجمع (فراش) ولا نكاد نعرف اسماً لذكرها. إن إفراد الجنس البشري ضروري لقول مادة الحلم كما سنرى. فهو حلم الفتاة بكونها منفردة. لأن النوم يسلبنا من اجتماعياتنا ويعيد أنفسنا إلى وحدتها. وهذا التفسير ضروري لأننا سنرى ما يحصل للفتاة حين تقوم وتخرج إلى الواقع أو تخرج من وحدتها. هذا الخروج. والتحول المعبر عنه بالبياض في العنوان بين الكلمات الثلاث ذو مدلول مهم سوف نتفحصه.
وأول ما يطالعنا هو صيرورة الفتاة فراشة. ليس لأن كلتا اللفظتين مؤنث وحسب بل لأن الفراشة ذات محمول جنسي من جهة شكلها وآنفراجها في وسط جسرها، وتدل على الحمق والجهل من جهة أخرى كما في الأمثال القديمة. وهذا يلبي للشاعر ما يريد أن يقوله ؛ فالفتاة إذ تغادر وحدتها وتصبح فراشة (في الحلم) تقدم لنا جاهلة بما كانت عليه وما صارت إليه. وهي بعد الفاصل الزمني (البياض) تتماهى في صورة الفراشة لكن البياض اللاحق يهيئ القارئ لعودة الفتاة إلى طبيعتها الأولى.
يشير المعجم (وهو لسان العرب هنا)(18) إلى المحمول الجنسي في اسم الفراشة. لأن المرأة يقال لها فراش الرجل وإزاره ولحافه. وفسر قوله تعالى “وفرش مرفوعة” بأنه أراد بالفرش نساء أهل الجنة ذوات الفرش. وقيل للنساء فرش ومفارش لأن الرجال يفترشونهن للذة. وكذلك الفرس يقال لها أفرشت إذا استأتت أي طلبت أن تؤتى. والمال المفترش: المغتصب قد انبسطت فيه الأيدي. وافترش عرض فلان أي استباحه بالوقيعة فيه. وحقيقته جعله لنفسه فراشاً. يطؤه ، ويلازم معنى الافتراش: ضعف وصغر. فالفرش صغار الإبل ، ويقال فراش للخفيف الطياشة من الرجال.
أما الفراشة فهي واحدة الفراش. وهي دواب مثل البعوض تطير وتتهافت في السراج ملقية بنفسها في ضوئه. قال الشاعر:
أودى بحلمهم الفياش ، فحلمهم
حلم الفراش ، غشين نار المصطلي
وفي أمثال العرب: أطيش من فراشة. ويذكر الجاحظ في “الحيوان” (19) من أمثالهم أيضاً في موضع الدم والهجاء: “ما هم إلا فراش نار”. ويعلل الدميري(20) تهافت الفراش في السراج بضعف أبصارها. بينما ذهب إلى أنها لا تدري ما تفعل:

كأن بني ذويبة رهط سلمى
يطفن بحرها ويقعن فيها
فراش حول نار يصطلينا
ولا يدرين ماذا يتقينا(21)

ولهذا السبب اقترن طيش الفراشة بالضعف والخطأ ، فقيل في الأمثال: أطيش من فراشة وأجهل / أضعف من فراشة وأذل / أخطأ من فراشة وأخف. وأخذ الغزالي الفراشة شبهاً للإنسان .. وجعل “جهل الإنسان اعظم من جهلها. بل صورة الإنسان في الإكباب على الشهوات والتهافت فيها أعظم جهالة منها ، لأنه لا يزال يرمي بنفسه فيها، إلى أن ينغمس فيها ويهلك هلاكاً مؤبداً”. فليت جهل الآدمي كان كجهل الفراش ، فإنها باعتزازها بظاهر الضوء ، إن احترقت تخلصت في الحال ، والآدمي يبقى في النار أبد الآباد” (22).
وروي عن الرسول قوله “أنكم تتهافتون في النار تهافت الفراش ، وأنا آخذ بحجزكم”. وفسر قوله تعالى “يوم يكون الناس كالفراش المبثوث” بأنه تشبيه للناس بالفراش في الكثرة والانتشار والضعف والذلة.
وهذا الاندفاع الأحمق صوب النار يجعلنا في عنوان أنسي الحاج نتوهم وجود فتاة يصيبها ما يصيب الفراش من عمى (في الليل إذ تحلم) فتأتي التجربة الصعبة التي سنرى ما تناله منها: لقد انسلخت من وحدتها في الحلم لتغدو فراشة. يقول الجاحظ: إن السلخ يصيب عامة الحيوان: والأسروع دويبة(23) تنسلخ فتصير فراشة. كما أن الدعاميص قد تغبر حيناً بلا أجنحة ثم تصير فراشاً وبعوضاً. يقول الجاحظ: وربما ننزع الصمامة من رؤوس الآنية التي يكون فيها بعض الشراب ، فنجد هنالك من الفراش ما لم يكن عن ذكر ولا أنثى. وإنما ذلك لاستحالة بعض أجزاء الهواء وذلك الشراب إذ انضم عليه ذلك الوعاء. فقد يولد الناس من التعفين الفراش وغير الفراش(24). وهذا خلق ينبني لنا – خلاصة – أن تحولات الفتاة إلى فراشة وعودتها إلى صورتها البشرية استغرق زمناً (يدلنا عليه البياض بين الكلمات) كما يساعدنا النص على الاهتداء إليه. كما أن التحول إلى فراشة يجري بـ جهل وضعف وسلخ ، وهو ذو محمول جنسي توحيه أنوثة الفراشة شكلاً وبدافع اسمها المأخوذ من الفراش والافتراش ، ولقرب مأخذه من النوم والحلم. كما سنرى أن الفتاة استعانت بوحدتها في تحولها كما تخلق الفراشة بالانسلاخ.
 
 

  • الحلم والواقع: الدخول في التجربة

يقص انسي الحاج حكاية مجردة من الحواشي والهوامش. يبدأ النص والفتاة نائمة. فالفعل (حلمت) الذي تبدأ به الجملة الشعرية الأولى يشير إلى ما سبقه من نوم مختزل غير مذكور. لكن الجملة الثانية (وقامت) تبين ما يحصل لها من خذلان إذ ينتهي حلمها.
فالزمن الذي يفرضه متن الحكاية لا مبناها هو زمن ينحدر من النوم الذي لم يذكر فكان تسلسله كالآتي:
نوم __________           حلم _________   قيام
يفسر اللغويون الحلم بأنه ما يراه النائم في المنام (وهو شر غالباً) ومنه أضغاث أحلام(25) ، بينما غلبت (الرؤيا) على الخير. وهكذا يفسر الحلم بـ الفراشة بأنه رؤية (عدو ضعيف مهين عظيم الكلام) (26) وقد يتراءى بصورة مموهة فراشة من ذهب يغشى سدرة المنتهى فيها روح الإنسان(27).
وحلم الفتاة بأنها فراشة يعقب نومها أي يلي توحدها مع نفسها. ولكنها سرعان ما تقوم وكأنها تهب مذعورة ، لأن القيام يحمل معنى الشدة والتهيؤ للشيء.
كما أنها تأخذ هذه القوة بما انضاف أيها ، وهي حرة في الحلم ، تطير بجناحي الفراشة. إلا أن حريتها تصبح مشكلة وسبباً في حيرتها. فهي لم تعد تعرف إن كانت فتاة أم فراشة. إن الصيغة التركيبية توحي بأنها كانت تعرف. أما الآن بعد أن (قامت) من حلمها فهي (لم تعد) تعرف حقيقتها .. تتماهى في حلمها مع الفراشة حتى لا تدرك إن كانت فتاة حلمت بأنها فراشة أو أنها فراشة تحلم بأنها فتاة. وزمنية الماضي تقتصر على حلم الفتاة (حلمت) ، أما المضارع فمختص بحلم الفراشة (تحلم) ، وهذا يتكرر في كل حلم مسند إلى الفتاة أو الفراشة. فالأصل الماضي (القديم) هو الفتاة والتحول الحاضر هو صورة الفراشة.
يأتي البياض بعد هذه الجملة ليشير إلى زمن محذوف مسكوت عنه ، يحدث فيه ما سنجد أن الراوي المقحم منذ الآن على المشهد ، يخبرنا إياه.
البياض هو فترة زمنية تمارس فيها الفتاة – الفراشة حلمها لتأتي الجملة الخامسة التي يتغير فيها صوت السارد أو ضميره. فبعد أن كان في المقطع الأول هو الراوي الخارجي وضميره غير واضح لأنه يسرد من الخارج (حلمت – قامت – لم تعد ..) ، يصبح في المقطع الثاني راوياً عليماً له حضور عن طريق ضمير المتكلم (يا أولادي) الذي ينبئ بوجهة نظر الراوي وإقصاء (أنا الشاعر) لصالح (أنا الشعر) الذي سيتولد من النظرتين معاً. وطريقة الرواية تشير إلى عودة الظلام (الهواء في الليل) كما تضيف إلى المشهد شخصية (صبي) غير موجود في جمل المقطع الأول.
يشارك هذا الصبي فتاة الحلم في الركض ، لكن الراوي غير متيقن من حقيقتهما ، وكأن شكوك الفتاة في كونها فتاة حلمت أو فراشة تحلم قد تعدى إليه. فيشبه الصبي والفتاة بفراشة تحلم أو فتى وصبي يحلمان .. وهذا الشك يناظر الجملة الثالثة تماماً .. مع فارق لغوي يؤدي إلى بلبلة في القراءة ، فالفتاة والصبي يركضان كفراشة تحلم أو كـ (فتاة وصبي يحلمان أنهما فراشة) فهما جسد واحد مرة وجسدان مرة أخرى. والشاعر يريد أن يجعل لدخول الصبي إلى مشهد الحلم مدلول العنف والانهيار. فهنا ستنشأ علاقة آدمية تعيد ما فعل الأب الأول مع الأم الأولى والخطيئة التي أنزلتهما من الجنة إلى الأرض عقاباً لهما.
والصبي والفتاة يفقدان حلمهما كذلك. بل هو عقاب للأنثى لأنها هي الأصل الذي بدأ بالحلم .. لذا تنتهي متمزقة في الريح .. فانتهى الحلم. (اشتدت) الريح فازداد الضيق على الصبي والفتاة. وما كان هواء ليلياً في الجملة الخامسة أصبح (ريحاً) تشتد على الهواء نفسه ، وتعصف بالفتاة فتتمزق في الخارج فراشة حلمها. لقد تحرر الشاعر من مرجعه ولم يقل (احترقت) فراشة بسبب جهلها وطيشها وعماها ، بل قال (تمزقت) مضمناً المعنى الجنسي الذي يحيل إليه اسم الفراشة وشكلها ومدلولها منذ البدء.
إن خروج الفتاة من حلمها وقيامها من النوم لم يعودا عليها إلا بالألم . لقد خسرت وحدتها وحلمها ونومها. وحين قامت واشتبه عليها الواقع بالحلم لم تجن سوى التمزق. فكما أن الحلم وهبها اللذة (داخل) نفسها ومن نفسها (كما تتولد فراشة الجاحظ وتنخلق أو تنسلخ عن نفسها لا عن ذكر وأنثى) فإن الخارج قرنها بصبي وحلم مشترك واجهته العواصف المشتدة في الريح فتمزقت الفراشة. والزمن الماضي للحلم والمضارع للقيام منه . وثنائية النوم والحلم ، الليل والنهار ، الصبي والفتاة ، الفراشة والفتاة ، تشير كلها إلى ما أراد الشاعر أن يبثه عبر (أنا النص) من تخوف وقلق وشك بالعلاقة بين الرجل والمرأة ، والعلاقة بين الحلم والواقع ، والحياة والمثل .. وهذا ما تعلمنا إياه أمثولة الفتاة – الفراشة الحالمة المتحولة.
 
تمرينات قراءة وافتراضات

  • يستعير أنسي الحاج نصه من مرجع قديم ويخفيه بمهارة. يمكن أن نسمي من ذلك قصة الخلق – لقاء آدم وحواء واقترانهما – ونستطيع أن نستدل على ذلك بدليل طريف هو أن مقطع الخلق الأول مكون من ستة أبيات كأنها تماثل أيام الخلق الستة التي خلق فيها الله العالم. كما أن لفظة (فتاة) و(فراشة) تتكرران ست مرات بينما لا يتكرر (الصبي) إلا ثلاث مرات. التجربة عناء والحياة أثقل من لحظة الميلاد لذا تستغرق ضعف فترة الخلق تماماً (12بيتاً).
  • ألا يذكرنا تحول الفتاة فراشة أو تماهيها بها حلمياً بمسرحية النورس لتشيخوف فهي نص تحولي أيضاً ، ينسى فيه الحالم أنه كان يحلم.
  • لقد أعدى حلم فتاة القصيدة دراستي أيضاً ، فوضعت لها عنواناً لغزياً هو (حلم الفراشة) ولم أجزم: أهو حلم تحلمه الفراشة فيعود إليها بالإضافة ، أم أنه حلم الفتاة الذي يدور حول الفراشة فأضفناه إليها ؟ ولغز العنوان في الدراسة يعيش على لغز صيرورة فتاة قصيدة أنسي الحاج.
  • أسلوب السرد في المقطع الأخير (الجملة الشعرية – الخامسة) يعتمد على مفارقة القص وشيء من السخرية والخرافة .. فهو أسلوب حكائي يذكرنا بالخرافات وقصص السمر والتسلية.

أيريد الشاعر أن يوصل إلى قارئه المعنى الأسطوري المتخفي وراء ملفوظات النص ؟

  • السمة الإشراقية لقصيدة أنسي لا تتحقق كاملة ، فهناك دلالات زمنية لم يشأ الشاعر التصريح بها. وهذا يناقض قوله “إن السرد والوصف في قصيدة النثر يفقدان غايتهما الزمنية”. فأنسي لا يقطع الجسور مع كل أشكال المدة الزمنية أو المكان أو الاستنتاج المنطقي كما تشترط سوزان برنار للصنف الإشراقي من قصيدة النثر ، بل يوازن حلم الفتاة (الماضي) بطيرانها المتوهم (المضارع) ثم يعتمد الفترة الزمنية (البياض + عبارة: بعد مئات من السنين) لينهي حدث القصيدة كما يريد قصدياً: الذعر من العالم والخسائر جراء الاندماج فيه بالخروج إليه (القيام من الحلم) ، أو باختيار قرين عبر علاقة (صبي وفتاة).
  • اللغة تؤدي خدمات نصية مزدوجة: فهي ذات وظيفة دلالية كما رأينا في تحليل الأزمنة النصية. وذات وظيفة فنية وجمالية (أدائية وتقبلية) مما يبرر المجازفات والانحرافات الأسلوبية مثل (الهواء في الليل – واشتدت الريح على الهواء). وأن ذلك جزء من مهمة اللغة في نص القصيدة النثرية عامة.
  • على مستوى القراءة المقطعية ، يمكن أن نعد العنوان نفسه مقطعاً ، بذلك تصبح القصيدة ذات أربعة مقاطع. يمهد المقطع الأول منها (أي العنوان) للتحول والعودة إلى الصورة الأولى: فتاة –> فراشة –> فتاة. كما يمهد للالتباس الذي حصل للفتاة بعد أن (قامت) من حلمها ، فلم تعد تعرف إن كانت فتاة حلمت .. أم فراشة تحلم .. فالعنوان يترك القارئ دون يقين محدد شأن الفتاة – الفراشة في النص. وهذا ما سميناه عدوى العنوان التي انتقلت إلى دراستنا عن النص. فعنواننا (حلم الفراشة) يؤكد شكنا في كون الحلم مضافاً للفتاة مرة (أي حلمها عن الفراشة) ومضافاً للفراشة مرة أخرى (أي حلمها هي) لقد دخل العنوان – باعتباره بنية مقطعية – في علاقة تناص مع المتن ، وتمدد داخله لا بتخليص بنيته بل بالاندراج فيها.
  • وعلى مستوى القراءة الجملية (أي تقسيم النص إلى جمل شعرية) نرى أن العنوان يمكن أن يجد حلة مهيئة أو مفتاحية أنها تطرح سؤالها عبر البياض مفترضة أن ثمة فتاة أو فراشة فتاة. وهذا تمهيد للجملة التالية في المتن: حلمت فتاة أنها فراشة. ثمة إذاً علاقة تناص بين جملة العنوان وجُمل المتن.

 


* الهوامش

  • د. عبدالملك مرتاض: نظرية، نص، أدب : ثلاثة مفاهيم نقدية ـ ضمن (قراءة جديدة لتراثنا القديم) م1ـ النادي الثقافي الأدبي جدة ـ 1990ـ ص 271.
  • مايك ريفاثير: ” سيميوطيقا الشعر ؛ دلالة القصيدة ” . ترجمة فريال جبوري غزول ضمن كتاب ” أنظمة العلامات، مدخل إلى السيميوطيقا” القاهرةـ 1986، ص 218.
  • حسن حنفي: قراءة النص ـ مجلة ألف، ع 8 ربيع 88، القاهرة ـ ص 15.
  • ابن منظور : ” لسان العرب ” ، م3، طبعة بيروت، ص 648.
  • السيد الجرجاني : التعريفات ، ط2 بغداد ، د.ت، ص 132.
  • نفسه ـ ص 132 . يلاحظ تفريق الغريبيين بين المعنى والتأويل : يرى تودوروف أن المعنى هو وظيفة الشيء ودوره . أو دخول العنصر في علاقة مع عنصر أو عناصر أخرى ضمن بنية النص. أما التأويل فهو ارتباط النص بالقارئ في نظام بسبب اختلاف القراءة. وهو إدخال العمل الأدبي في علاقة مع القراءة . . يراجع كتاب يمنى العيد : ” تقنيات السرد الروائي” ، بيروت ـ 1990، ص ص 21ـ22.
  • أبو حيان التوحيدي : الإمتاع والمؤانسة ، ج2، طبعة بيروت ـ د.ت، ص 135.
  • الثعالبي : نثر النظم وحل العقد . بيروت ـ 1983. وفيه يصف النثر بأنه أشرف من الشعر الذي تصوّن عنه الأنبياء وترفّع عنه الملوك لإنخفاض منزلته، ص 6.
  • جان كوهين: بنية اللغة الشعرية ، ترجمة محمد الولي ومحمد العمري ، الدار البيضاء ـ 1986، ص 11.

ويرى كوهين أن مصطلح (قصيدة نثرية) ظاهر التناقض. وينظر كتاب سوزان برنار: جمالية قصيدة النثر” ـ ترجمة د. زهير مغامس، بغداد 1989، ص 6. وهو مجتزا من كتابها (قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا ” . وهي تقلل التناقض الاصطلاح لقصيدة النثر، كونها مبنية على اتحاد المتناقضات اتحاداً غريباً. وفي الكتابة العربية الحديثة يُراجع رأي أدونيس حول تناقض المصطلح في إرشاداته الموجزة حول الطبعة الجديدة من أعماله الشعرية الكاملة، بيروت ، ط4 ـ 1985، ص5 وما بعدها، حيث يقترح مصطلح (كتابة الشعر نثراً ) تجاوزاً لمصطلح قصيدة النثر ومفهومها المبكر.
(10،11) سوزان برنار: مصدر سابق، ص 37، 42.

  1. حاتم الصكر: ما لا تؤديه الصفة، بحث في الإيقاع والإيقاع الداخلي، في كتابنا هذا . وينظر : جولي سكوت : القصيدة النثرية ، ترجمة عبدالواحد محمد، مجلة الأديب المعاصر ع41، ك2ـ 1990، بغداد . ص 8، وتسمى الكاتبة أنواعاً من الإيقاع منها إيقاع الأفكار وإيقاع الأصوات مظهرين للإيقاع الثانوي. وينظر أيضاً :

– محمد لطفي اليوسفي : في بنية الشعر العربي المعاصر ، تونس ، 1985، ص 143ـ ويرى المؤلف أن التضاد وتصارع المتناقضات وتشابكها في شكل تفاعل دوري ، أهم مظاهر النظام في الشعر الحديث.

  1. جان كوهين ، مصدر سابق، ص 11.
  2. أنسي الحاج : ” لن” ، ط2 ، بيروت 1982، المقدمة ص 15.
  3. سوزان برنار، مصدر سابق ، ص 29.
  4. النص منشور في مجلة شعر ـ ع33/34 ـ 1967ـ بيروت، ص : 29 ـ 30.
  5. يقدم فيرث مفهوماً مجسداً لارتباط النظام بالبنية ، وتلازم محور البناء مع العلاقات الأفقية ؛ مستفيداً من كلمتي : بنية ونظام باللغة الإنجليزية ـ ينظر : يحيى أحمد : الاتجاه الوظيفي ودوره في تحليل اللغة، مجلة عالم الفكر، م 20، 34،،،الكويت، 1989، ص 655. وقد وضعت التنظيم بدل النظام، لأن النظام ينبع من العلاقات المستقرة في النص. أما التنظيم فينطلق من الكتابة والقراءة معاً، أي أن فيه واضعاً ذاتياً خارج النص وضمن تلقيه. كما وسعتُ رسمه ليدل عندي على التنظيم العام للنص وليس النظام اللغوي وحسب.
  6. لسان العرب ، مصدر سابق م 2 ، ص 1074.
  7. الجاحظ : كتاب الحيوان ، تحقيق عبدالسلام محمد هارون ، م3، مصر ـ 1938، ص 304.
  8. الدميري : حياة الحيوان الكبرى ، ج20 ـ طبعة القاهرة، 1966، ص 362.
  9. الجاحظ : مصدر سابق ، ص 305.
  10. الدميري : مصدر سابق، ص 364.
  11. الجاحظ : : مصدر سابق، ص 371.
  12. نفسه ـ ص 383.
  13. لسان العرب ، مصدر سابق، م 1 ، ص  371.
  14. الدميري : مصدر سابق، ص 365.
  15. نفسه ، ص 364.
  16. يُنظر :مسخ الكائنات ، أوفيد، ترجمة وتقديم : ثروت عكاشة، مصر ـ 1984. وفيه يقول أوفيد ” هاأنذا أشرع في الحديث عن التحولات التي عرت كائنات ، فبدلت أجسادها أجساد كائنات أخرى ..” ، ص 29. ومن هذه التحولات تحول جثة نرسيس إلى زهرة ، وتحول جوبيتير عند اختطاف أوروبا إلى هيئة ثور، ص69.

 
 
الإنشاد والتلقي
بعض المزايا الشفاهيةفي القصيدة العربية الحديثة
[ سمع إعرابي رجلاً ينشد شعراً لنفسه فقال : سكّر لا حلاوة فيه ! ]
1- الإنشاد في مجتمع شفاهي
يمكن أن نعد الإنشاد تقليداً اتصالياً وتوصيلياً في آن واحد . فهو يقترح شكلاً محدداً للاتصال بالمتلقي ، يعود في جذوره إلى المشافهة التي كانت سبيل الاتصال بالمستمعين في مجتمعات ما قبل الكتابة . ووجدت من يدافع عنها وسيلة أكثر ملاءمة بعد شيوع الكتابة وترسخ أعرافها . ولا شك أن تكوين المتلقي مستمعاً سوف يتغير في مقام القراءة ، وتتغير معه المواقف الجمالية التي تتحكم في استقبال الرسالة الشعرية واستنباط النظم الفاعلة في تأليف النصوص التي تكيفت هي أيضاً لمقام القراءة ودواعي الكتابة .
وبهذا الانتقال من الشفاهية إلى الكتابة ، ومن الإنشاد إلى القراءة، سقطت كثير من أعراف النظم والتلقي كما نشأت أخرى . فلم يعد الصوت أو هيأة المنشد وشخصية المرسل بذات أثر في تقبل نصه . كما أن النصوص نفسها اتسعت لتلائم موقف القراءة في عملية توصيل الشعر إلى قارئ يستعيض عن أذنه بالعين المبصرة ، وعن جرس الكلمات ومعاني الجمل المفردة بتأمل كلية النص ووحدته ، وعن تقنيات السماع وبراعاته المسرحية بفنون الكتابة والخط والبياض وعلامات الترقيم .
إن مصاحبات الإنشاد الموروثة عن مرحلة المشافهة ، اضمحلت هي الأخرى، كالغناء، والموسيقى والحداء والإلقاء المؤثر. فالمشافهة، بكونها ذات دواع فنية تحرج الشاعر ، وبكونها ذات مستلزمات جمالية تلزم المتلقي ، قد تراجعت دون شك ، وإن لم تختف تماماً . ففي جينات النص الشعري الحديث ، وفي رحم القصيدة الولود دون توقف ، لا نزال نلمح بعض تلك المزايا المتسللة بحكم الوراثة ، والخطاب الشعري السائد ، وشكل الصلة المقترحة بالمتلقي ، وهيمنة الموضوع، أو تلك المتكونة بقناعات فنية وجمالية تنطلق من طبيعة النظر إلى مهمة الشعر في الحياة ودوره في المجتمع وصلته بما عرف عندنا (بـ « الجمهور »). وهو مصطلح فضفاض يتسع إلى حد الخروج عن أدبية الأدب وشعرية الشعر ، ليغدو اسماً لطرف مستهلك يفرض حاجاته على الشعر ، ويتخذ مظاهر فنية تخص نظم الشعر ولا تتعلق بجوهره .
لقد كان من الطبيعي بعد انتقال لقصيدة إلى طور التدوين بالكتابة ثم بالطباعة والخط أن يطرأ تغيير على بناها الداخلية(1)، فالطبيعة الشفاهية ـ الإنشادية قد فرضت تلقياً سمعياً ، لذا قام علم العروض عندنا على مراعاة تلك المعايير مما يتجلى في رصد العلل والزحافات وتكرار العدد الثابت من التفعيلات وفي شروط بناء القافية وما سجلت كتب العروض من عيوب في هذا المجال(2).
كما اشتق البلاغيون ـ تحت وطأة الطبيعة الشفاهية في توصيل الشعر ـ عدداً كبيراً من قوانينهم مراعاةً لمقام المشافهة. وذلك واضح في حرصهم على وصف المفردة بالفصاحة ووضعهم شروطاً لصحتها تتصل كلها بوقعها في الآذان، كخلوها من تنافر الحروف(3) أو التعقيد. فالكلام كما يقول العسكري إنما « يحسن بسلاسته وسهولته»(4) . وكما أن للكلام صفة البلاغة فإنه مرهون بالفصاحة التي تدخل في حد البلاغة أيضاً . يقول الفزويني : « البلاغة في الكلام مطابقة لمقتضى الحال مع فصاحته »(5). وإذا استعرضنا شروط فصاحة المفردة والكلام لوجدناها تدور حول الطبيعة السمعية للكلمات كنبذ التنافر والغرابة أو خلوص الكلام من ضعف التأليف والتعقيد وتتابع الحروف .
لقد أعطى الإنشاد ، بكونه صلة شفاهية مع متلق سماعي ، مزايا مادية للكلمة سلبتها فضاءها داخل النص الشعري. فهي توصف بالقوة والضعف أو بالرشاقة والجهامة بعبارة أسامة بن منقذ(6) الذي يعرف الجهامة بأنها « الكلمات القبيحة في السمع » رغم صحة معانيها. ويعرف الرشاقة بأنها « حلاوة الألفاط وعذوبتها » مؤكداً سهولة مخارج الحروف. وقد علل ابن منقذ عدم استعمال الوحشي من الكلمات بجهامته. ونبه إلى هجر التعقيد (= تعسير المعاني) والتقعير (= استعمال اللفظ الغريب جداً) مردداً قول الأصمعي : « أجود الشعر ما وصل معناه إلى القلب مع وصول لفظه إلى السمع » .
عند هذه النقطة نصل إلى مشكلة اتصاليه خطيرة. فالمشافهة بين الشاعر ومتلقيه لم تعد مقتصرة على نسيج النص وأبنيته ـ أي مستويات العلاقة التركيبية ـ بل تعدتها إلى مستوى إنتاج الدلالة . فالمعاني يجب أن تتزاحم مع الألفاظ في الوصول إلى       « سمع » المتلقي(7)… ولا يمكن تأجيل أي عمل إدراكي حتى تمام النص. ولهذا هيمنت فكرة وحدة البيت واستقلاله معنوياً وبنائياً في نظم الشعر ونقده عند العرب. فأي إرجاء أو تأجيل في استيعاب المعنى لا يناسب مقام المشافهة وعملية التلقي بالسماع. وهكذا نستطيع تعليل ما اشتق النقاد العرب من متطلبات تخص إتمام المعنى في البيت وجعلهم امتداده إلى ما يليه عيباً يدخل في العروض والقوافي أيضاً، وأعني به التضمين(8) الذي ينتج عادة عن تنازع الوقفة العروضية مع استيفاء الدلالة. وقد تجلت المتطلبات الإنشادية في مظاهر أخرى منها : جمال الابتداء والانتهاء(9) أو تحسين المطالع والأواخر.. وهي قيم معيارية مشتقة من الطبيعة الشفاهية للقصيدة العربية ، وما تتجه إليه من إدهاش المستمع ومخاطبة أذنه . بهذا لا تعد القافية أداة تذكرية مجردة فحسب ، بل هي خصيصة إنشادية موسيقية تلائم طبيعة الإنشاد ونشأة الشعر العربي شفاهياً .
2- الإنشاد / الجمهور : تعديل المقولة الشفاهية
ارتبط الشعر بالإنشاد منذ ظهوره ، كما اقتصر على الأناشيد الدينية في البدء « فكانت جزءاً من الشعائر الدينية التي تقام لعبادة ربات الشعر »(10)، كما تصاحب الطقوس الدينية التي يجريها الكهنة حول مذابح الأرباب والربات. وربما خرجت الأناشيد أو الأغنيات عن إطار الشعائر الدينية لتلقى في المآدب والمفاخرات(11) أو احتفالات الخصوبة وتطهير الأرض وتمهيدها للزرع أو الحصاد. وتتمدد وظيفة المنشد لتضاف إلى رواة الشعر ومنشديه فضلاً عن كتابه وهم المعروفون بالمنشدين الملحميين أو المغنين(12) الذين كانوا يضيفون إلى (أو يعدلون في) النصوص لأنها شفاهية لم تدون بعد . كما تصاحبهم القيثارة أو الآلات الموسيقية الأخرى .
ولا نستبعد أن تكون مهمة رواة الشعر عند العرب قريبة من وظيفة المنشد الملحمي على مستوى الإلقاء والتلقي ، رغم أن منشدي السير الشعبية والمتون السردية الأخرى في فترات لاحقة هم أقرب إلى أولئك المنشدين الذين تخصصوا في إنشاد الملاحم لدى الإغريق. فالمنشد في بعض المدن العربية يحث مستمعيه للمشاركة في الأحداث التي يرويها وجدانياً. كما ترافق قراءته الموقعة مقاطع موسيقية على بعض الآلات كالربابة(13)، وذلك يعكس كون الثقافة العربية نشأت في حاضنة شفاهية ذات مظاهر دينية وتاريخية ولغوية و أدبية(14) ، وما زال ذلك مستمراً في إنشاد الشعر بمصاحبة الربابة لدى الغجر.
وهذا يفسر ارتباط الشعر بالغناء والتوقيع الموسيقي مما انعكس بنائياً في الموسيقى الخارجية التي تشكلها التفعيلات وهيئة البيت وجرس القوافي ويعطي هذا الانتظام الفني سمة محددة للنوع الشعري ترتبط به. فلا يمكن تخيل (شعر) بدونها. ويمكن قراءة مطالع بعض الملاحم الشعرية القديمة لنرى أنها تتوجه إلى مستمع ضمني يطابق المستمع الخارجي [المتلقي الحقيقي] وأنها تبدأ بعبارات الغناء(15) كما في ملحمة جلجامش والإلياذة والأوذيسة:
فغنِّ بذكره يا بلادي ـ جلجامش .
تَغنّي أيتها الربة بغضب أخيل ـ الإلياذة.
غنِّ يا ربة الشعر عن الرجل الرحالة ـ الأوذيسة .
وهذا يضارع ما يرد في المقدمات الطللية للقصائد الجاهلية [قفا نبك].. فالشاعر يشرك الآخرين في مهمة الوقوف والبكاء أو الاستعداد للغناء ولا يقدم موضوعه إلا عبر وسيط يتغنى من خلاله [البلاد أو الربات أو الصاحب ..]، وهذا انعكاس فني (داخلي) للطبيعة الشفاهية في مقام التقبل الجمالي. فالإنشاد ليس إلقاء توقيعياً فحسب ، بل ميزة فنية ترتب على الشعر أعرافاً داخلية سنراها ممتدة حتى عصرنا .
وإذا كان الجمهور غير مخاطب مباشرة في الشعر الشفاهي القديم [الملاحم أو المطولات] بل عبر وسيط ، فإن مقولة الجمهور عادت مجدداً ، لا لتشرك المتلقي في إعادة صياغة النص ، بل لتجعل منه مستهلكاً تتجلى من خلال إطرابه وإمتاعه الظاهرة الموسيقية للقصيدة، ويتحقق فعل الإنشاد جمالياً . لقد بدأ العرب طور المشافهة في نظم الشعر وإلقائه إنشاداً حين لم يجدوا لهم كتاباً يتضمن أفعالهم، « فتدبروا الأوزان والأعاريض فأخرجوا الكلام أحسن مخرج بأساليب الغناء فجاءهم مستوياً .. »(16) كما يقول النهشلي مشيراً إلى ما في الشعر من « التياط بالقلوب ومدخل لطيف إلى النفوس»(17) .
وبهذا تم تعديل دور النثر الذي هو أصل الكلام عندهم. وظل الغناء مقياساً لشعرية الشعر، والحد بينه وبين النثر حتى في مرحلة الكتابة والتدوين . فحين يميز النهشلي أصناف الشعر يراها في ثلاثة: « فشعر يكتب ويروى. وشعر ينبذ ويرمى»(18) ولعل مآل الشعر إلى الرواية هو الذي يحدد مصيره في هذه المقولة . فحتى عند كتابته تتقرر ميزته بالرواية. كما أن سماعه غير كاف لروايته إن لم يقم فيه ما يوجب تكرار إنشاده.
والجمهور في ذلك كله ملتقى أفق الغناء والإنشاد ، ليس له إلا إعادة تشكيل الإيقاعية الملازمة لوحدات النص والكشف عنها لتأكيد النوع واستخلاص الأنماط المثالية للنظم . ونجد في هذه الصلة الفنية استمراراً للصلة الدينية بين المنشد القديم وجمهوره . كما نجد لها مظهراً آخر في الصلة بين شعراء الأحزاب في العصور الإسلامية وجمهورهم . وأخيراً في الصلة بين شعراء الأسواق العربية في الجاهلية ومستمعيهم ، وبين الشعراء وجمهورهم بالمعنى الاجتماعي ففي مطلع العصر الحديث وعصر النهضة ، أو في تقرير جماهيرية الشعر وخدمته الاجتماعية في أطروحات الفكر النقدي الواقعي أو الاجتماعي عندنا ولكن الإنشاد هنا يقود إلى عدة مآزق أبرزها:

  • التضحية بفنية النص الشعري وتراجع المزايا والخصائص الداخلية والعودة إلى هيمنة الموضوع .
  • ربط شعرية الشعر بالخارج وفرض قوانين لا شعرية على كتابته وتلقيه .
  • إضعاف أبنيه الشعر اللغوية والتصويرية وتلك التي لا يستوعبها مقام الإلقاء والمشافهة كالمعاني البعيدة والتأمل والفكر الشعري وكلما يمكن توصيله عبر كلية النص أو يتم تأجيله حتى اكتمال أبنيته.
  • التفريط بوحدة النص الشعري لإعلاء شأن الوحدة البيتية مما يفكك النص ويربك نزعته الكلية ونظرة الشاعر الموحدة .
  • الالتهاء بمصاحبات الإنشاد ومؤثرات التلقي السمعي مما لا يترك أثراً في استعادة الشعر بالقراءة والتأمل .
  • تقليص مهمة التلقي وحصرها بالاستماع ، والتلذذ الذوقي أو العاطفي ، بحثاً عن وسط جماهيري افتراضي .
  • التنازل عن مزايا الكتابة الشعرية وما تتيحه سطوح الورق وتقنيات الخط والطباعة .
  • تجميد أفق القارئ وحصره في الاستجابة المباشرة والعادية للملفوظ الشعري .
  • إلغاء الخبرة البصرية للقارئ وما يمكن أن يلمحه دلالياً عبر تنضيد النص .

فضلاً عن ذلك كله ، تريد مقولة الشعر والجمهور أن تخاطب وسطاً يتشكل بالحماسة والغناء وتسطيح العبارة الشعرية وتبسيطها، وتغييب الثقافة والموقف الخاص المنطلق من وعي الشاعر . فاستبدال مصطلح الجمهور بالمتلقي أو المتقبل أو القارئ ليس اقتراحاً نظرياً بل مطلب عملي لإنجاز وجود النص وإظهار شعريته التي لا يستطيع الجمهور الشفاهي أن يحققها .


3- غناء السيرينات
عندما اققترب أوديسيوس بسفينته من جزيرة السيرينات الشاديات ، ضلل صوت غنائهن الساحر بعض رفاق أوديسيوس ، وتحطمت سفنهم وغرقوا. فتذكر أوديسيوس نصيحة الساحرة كيركي (سيرس) فوضع قطعاً من الشمع ي آذانهم ليعطل حاسة السمع عندهم مؤقتاً . أما هو فقد ربط نفسه بحبال قوية إلى صاري السفينة ليمتنع عن النزول إلى السيرينات وهن يغنين غناء جميلاً وسط أشلاء الضحايا الذين سحرهم غناؤهن. ولم يطلق رفاق أوديسيوس سراحه أو يفكوا وثاقه حتى ابتعدوا عن جزيرة المنشدات(19) .
تلك الأمثولة تعيدنا إلى إغراء النشيد والتوقف عن الوصول إلى الغرض . فالغناء الجميل يعيق المبحرين إلى أوطانهم ، ويربطهم بنغماته العذبة فيلتهون بها عن مقاصدهم. وكأن النظم مسحور بغناء المنشدات الجميلات في جزيرة السيرينات. وعظام القصائد الملقاة على شواطئ الجزيرة تشير إلى الضعف إزاء غواية الغناء وإغراء الإنشاد. فما سر هذا السحر في تطريب الشعر وتلطيف مداخله إلى النفوس؟
يقودنا المعجم إلى مستويات وضعية اصطلاحية تفتح أفقاً إلى مفهوم الإنشاد وما يختزن من مدلولات. فالنشيد في اللغة : رفع الصوت ويقال « الناشدون » لمن يطلبون الضوال التائهة من الإبل ، فيأخذونها ويحبسونها على أربابها . ونشدت الضالة : ناديت وسألت عنها ، أي رفعت نشيدي (صوتي) بطلبها . والنشيد أيضاً : الشعر المتناشد بين القوم واستنشدته الشعر أي انشدنيه ، ونشد الشعر وأنشده : أشاد بذكره وأنشده إذا رفعه(20) . وبهذا المستند القاموسي نرى مطابقة واضحة بين الصوت والشعر ، وبين رفع هذا الصوت وإلقاء الشعر أو البحث عن الضالة . وهي مستويات تؤكد التكيف الفني للقصيدة لتصبح « نشيداً » يوجهه الصوت وارتفاعه في محاولة للوصول إلى أذن المستمع وإبلاغه فحوى رسالة النص التي تسيرها القناة الاتصالية وتعدلها حسب مقتضياتها. وتتآزر بنية النشيد المرتفعة الصوت ، المباشرة ، الهادفة إلى وصول أذن المتلقي السماعي ، مع المشافهة كما تنص عليها المعاجم. فالشفاهي : غليظ الشفتين . وشافهه : كلمة مشافهةَّ وأدنى شفته من شفته ليكلمه(21). إنها تؤكد بث الرسالة وتسلمها قولاً لا كتابة . حتى صارت الكلمة (بنت الشفة) في إشارة إلى أصلها ورحمها .. رغم أن المشافهة صارت نشيداً عالياً .
وإذا كان الإنشاد هو سبيل القول الشعري ، فهيئة المنشد ومدى أثره في المتلقين يتعدى مضمون رسالته وبنيتها. فهو يتوخى التأثير بما يسميه جيمز مونرو(22) « عادات عون إيقاعية » كالتلويح بالأقواس والعصي . كما يؤكد النقاد العرب ضرورة عناية الشاعر بمظهره الحسن كـ : نظافة الثياب وأناقة الهندام والرائحة العطرة . ويصاحب ذلك صفات نفسية توحي للمستمع بالثقة كطلاقة الوجه ، ومراعاة استجابة السامعين ، وتلوين الإيقاع ، وصوغ التكرار أو التأكيد حسب مقتضى حالهم(23). وما هذه الفروض المطلوبة من المنشد إلا مظاهر لأثر القناة الاتصالية في بناء الرسالة . فأي أثر لقصيدة ما لا يتحقق إلا بأدائها صوتياً ببراعة .
إلا أن أخطر ما في الشروط التي وضعت للإنشاد تلك التي تتعلق بمفهوم الإنشاد نفسه. أي التي تتعدى وضع الشاعر منشداً إلى تكييف النصوص فنياً لتلائم مقام الإنشاد والمشافهة، كما مر بنا من قواعد تخص الاستهلال أو المطالع وخواتم القصائد واستقلال البيت وأدائه معنى واضحاً لا يوجب فكراً وتوخي لغة خاصة تناسب السمع ، وكذلك  اختيار القوافي والبحور. ويرى المنظرون لقيام الشعر على الإنشاد روعته سبباً في حجب عيوب الشعر(24)، كما رأوا أن بناء شعريته قائم على « جمالية الإسماع والإطراب التي حولها الاستخدام السياسي الخاص ، والإيديولوجي العام، إلى نوع من جمالية الإيصال الإعلامي ، بحيث يكون الشعر فناً قولياً يؤثر بطريقته الخاصة في نفوس الناس »(25)، ويتبع ذلك تقنين نقدي شفاهي استمر حتى بعد مرحلة الكتابة. فتعين على القصيدة المكتوبة لغرض القراءة ، أن تؤدي ضريبة الموسيقى التي ارتبطت نشأتها بها . وكثيراً ما جعلت هذه الأعراف الشفاهية موقف النقد ساذجاً ، إذ يعطي للقصيدة المسموعة ما لا تستحق إذا ما قرئت . وهذا ما حصل لطه حسين مع بائية أحمد شوقي التي نالت الإعجاب الشديد لدى سماعها من متلقين ، مختلفين هيئة وبيئة ، حين قرأها أحد الحاضرين « في شيء من الإتقان في الصوت وإخراج الحروف وتقطيع الوزن ، وقذف القافية ، كما تقذف الحجارة ، فرضينا وأعجبنا ، وتحمس بعضنا وصفق ، وافترقنا على أنها قصيدة رائعة ». ولكن معاودة قراءة النص (المكتوب بعد زوال أثر الإنشاد) ترينا أن الإعجاب الأول لم يكن ، إلا ظاهرة اجتماعية (26).
ملاحظة طه حسين هذه ترينا ببلاغة وعمق ما يصنعه أفق الانتظار بتعبير نقاد القراءة والتلقي. فالمتلقي لقصيدة شوقي هو نفسه في حالي الاستماع والقراءة ، إلا ان استقبال النص في حال السماع جرى بضغط مجاور وبتوجيه اجتماعي من تلك المعايير التي توصف بأنها « معايير شائعة أو شعريات ملازمة للمذهب »(27) . فالمتلقي هنا يحاول أن يكون أفق انتظاره متطابقاً مع ما في ذاكرته من أفراد النوع المسموع .. وما لديه من خبرة جمالية في قراءته .. فالنص لا يسعى إلى تعديل منظور المتلقي في هذه الحالة بل مطابقته وطمأنته ، وهذا هو سبب الحماسة والفرح واللهفة التي تصاحب التلقي الشفهي وتجعل المستمعين يبارون الشعراء في إكمال أبياتهم أو استعادتها أحياناً . وهذا هو الخطر الأكيد في استمرار الإنشاد ظاهرة لمقام المشافهة وخلق المتلقي الشفهي الذي لا يرضى بما يعدل (أو يغير) مناظير استقباله للنص أو المشاركة في إعادة إنتاجه بما يصبه عليه من ذاته . فلقد غدا المتلقي (باسمه الجديد : القارئ) هو « المصدر النهائي ـ لا للنص فحسب ـ بل للمعنى والتأريخ الأدبي »(28).
أما على المستوى البنائي فإن الضرر الذي يلحقه الإنشاد، مقترحاً للصلة بالمتلقي يتمثل في هذا السيل من التصنيفات للحروف (حروف المد واللين)، وللقوافي ورويها، وللتناظر بين الحروف، وغرابة الكلمات… وكلها ينطلق من وعي شفاهي للقصيدة لا يراعي هيئتها المكتوبة وأثر ذلك في إنتاجها أولاً. فالشاعر إذ يفكر بالوسيط الناقل لنصه ويضع لمتلقيه حساباً فإنما يؤدي فروضاً نصية ذات مظاهر فنية. وإذا كان ينظم قصيدته بـ وعي شفاهي ويرسلها بـ قناة شفاهية و يموضع داخل نصه متلقياً شفاهياً ويفترض حالة الإنشاد وسيلة إبلاغية فإنه بذلك يخضع لـ أربعة مؤثرات لها أثر خطير في هيمنة الأنماط والقوالب الصياغية المباشرة كما سنرى. أما الشاعر الذي (يكتب) قصيدته فيحس بالوسيط الذي سيري القارئ جسد النص ويراعي وجوده المادي. كما أنه يحسب لقارئه وعملية القراءة حساباً عند الكتابة . ويوجه القراءة وفق الحالة التي سيعاين بها القارئ نص الشاعر وهو يصدر أصلاً عن وعي كتابي وثقافة كتابية وفكر ثقافي مكتوب هنا لا تعود الطبيعة الصوتية للحروف مثلاً أية قيمة في عملية القراءة.
سنحاول في الصفحات التالية أن نشخص الأنماط والقوالب الصياغية التي ظل لها في النص الحديث تأثير يمس بنية هذا النص ويوجه عملية القراءة ، ونتعرف على بقايا مرحلة المشافهة والإنشاد بمزاياها البنائية مما يشخّص الهوية الأسلوبية للنصوص ويفسر سبب سطحيتها ومحافظتها وحرصها على التنغيم وتمسكها بالوزنية والغنائية التي تفرضها استخدام بعض الأنماط والصيغ أو القوالب الصياغية المكررة . وأعني بمصطلح القوالب الصياغية ـ متابعاً منظري النظم الشفاهي ـ تلك الأساليب والبنى المنتمية « إلى مستودع تقليدي جمعي »(29)، وأحاول الكشف عن الأنماط الشائعة ذات الرس الشفاهي رغم أردية الحداثة التي تتدثر بها ، وفضاء العصر الذي تنتج فيه نصوصها .
4- الحداثة المتراجعة / التنظير الحديث للإنشاد
سمينا بعض أسباب انتعاش الإنشاد ونشاط الشفاهية في عصرنا وأجملناها بالنظر النفعي للشعر، أي تحقيق استجابة مادية مباشرة وفي تكييف الدور الاجتماعي للشاعر بما سمي جماهيرية الشعر. والدفاع الفني عن الوضوح وازدراء الغموض والتعقيد بحثاً عن المعاني المباشرة التي يفهمها المتلقون دون عناء … لأنهم متلقون سمعيون ، لادراكهم حدود تنتجها الحاسة المستخدمة في التلقي وفي الاعتقاد بأن موسيقى الشعر لا تتجلى إلا في الإنشاد.
ويمكن أن نعاين نموذجين للدفاع عن الإنشاد يمثل في أحدهما علي الجندي (الشعراء وإنشاد الشعر) الجانب التقليدي المستند إلى تاريخية النوع الشعري وصلته الأولى بمتلقيه ، فهو يقرر « أن الشعر ينشد ولا يقرأ. والأصل فيه أن ينشده صاحبه . وأن ثمة شروطاً يجب على المنشد اتباعها .. وأموراً يتهيأ بها للإنشاد .. »(30)، كما يسوق أمثلة لعذوبة النغمة واستخدام البحور المناسبة والقوافي الملائمة .. وهو بذلك ينطلق من الإحساس بأن الإنشاد موهبة لها مظاهرها النظمية وأثرها في المستمع . وبهذا يثبت للنصوص المنتجة في عصرنا الحاضر ـ وهو ذو ثقافة كتابية ـ ما كان يصح في مجتمع شفاهي ماضي ذي ثقافة ملفوظة ، إلا أن المحاولة الأكثر خطورة هي التي يقررها إبراهيم أنيس في كتابه « موسيقى الشعر » ، إذ يعقد فصلاً خاصاً للإنشاد والغناء مفرقاً بينهما مؤكداً أن الإنشاد « عنصر من عناصر الجمال في الشعر لا يقل أهمية عن ألفاظه ومعانيه . وحسن الإنشاد يسمو بالشعر من أحط الدرجات إلى أرقاها  كما أن سوء الإنشاد قد يخفض من قدر الشعر الجيد.. »(31). وهكذا يرى أنيس أن التدوين وانتشار القراءة أدياً إلى فقدان الشعر جماله الموسيقى .. وحياته وحرارته . ويربط بين عاطفة الشاعر وأوزان شعره التي يتوخى أن تكون محدودة المقاطع لأسباب إنشادية إذ يرى أن أقصى ما يستطيعه المرء في الإنشاد ، دون مشقة وإجهاد ومع وضوح الألفاظ هو ذلك القدر من المقاطع الذي نجده في البحر الطويل أو البسيط. فالمنشد يحتاج إلى إعادة التنفس بعد كل بيت من أبيات هذين البحرين، إن لم يكن في وسط البيت الواحد(32). وبهذا يربط أنيس بين الحاجة الجسدية ، عند الإلقاء وإنشاد الشعر، وضرورات النظم الداخلية. وهو السبب عينه الذي رفضت من أجله نازك الملائكة محاولة كتابة الشعر المدور إذ تقول : « إن ذلك ـ أي التدوير ـ غير سائغ ولا مقبول لأن الغنائية في تفعيلات الشعر تفقد حدتها وتأثيرها ، فضلاً عن أن تواتر التفعيلات الكثيرة مستحيل لأنه يتعارض مع التنفس عند الإلقاء .. وهو لترادفه السريع ممل رتيب يتعب السمع …»(33). وموقف نازك من صلة الشاعر بالجمهور وضرورة مراعاة الإلقاء هو الذي جعلها تفكر في صعوبة التنفس والضيق وأتعاب السمع … ويؤكد موقفها الشفاهي هذا ما تذهب إليه في مسألة القافية وضرورة وجودها في الشعر. فهي ترى أن الشعر الحر ، بسبب عدم ثبات طول أبياته وأشطره وتنوع عدد تفعيلاته «يصير الإيقاع فيه أقل وضوحاً ويجعل السامع أضعف قدرة. على التقاط النغم ..» والحل لديها يكمن في « مجيء القافية في آخر كل شطر ، سواء أكانت موجودة أم ممنوعة، يتكرر إلى درجة مناسبة ، يعطي هذا الشعر الحر شعرية أعلى ويمكن الجمهور من تذوقه والاستجابة له »(34). ومقام المشافهة هو الذي يملي على نازل موقفها هذا ، إذ هي لا ترى في النسيج الداخلي للشعر الحر ما يبرر إيقاعيته وموسيقاه لذا تؤكد البحث عن أدوات إيقاعية خارجية تلائم المتلقي السمعي ، أبرزها: القافية وما تحدثه من (رنين) يثير في النفس أنغاماً وأصداء كما تقول(35). وهي بذلك تحتكم إلى الأذن وما ترتبه جماليات الاستقبال السمعي. ولا تكاد تختلف بهذا عما قرره القدامى حول الأضداد المعيبة التي تمجها الآذان ، وتخرج عن وصف البيان(36).
إن السطح الكتابي للقصيدة ، وجسدها المعروض للقراءة ، لم يخفتا صوتها الذي ظل هويتها في نظر بعض النقاد والشعراء وصلتها بمتلقيها.
يقول محمود درويش:«وهل في وسع الشعر أن يجدد إنتاج حياته بغير هذه الحلق.. وبغير هذه الأذن .. وبغير هذا الاتصال ؟ ليس مقياس الشاعرية أن يقرأ الشعر – من وضع هذا المقياس ؟ – بل أن يسمع ، أن يغني . وأن يعاد إنتاجه على مستوى علاقته »(37).. وذك يفسر لنا إلحاح درويش على بنية النشيد وإكثاره من استخدام لفظه « النشيد » وامتثاله لمتطلبات إيقاعية خارجية كما سنرى . ويشارك درويش إحساسه هذا الشاعر نزار قباني إذ يقول (في قصتي مع الشعر): « كانت حروف الأبجدية تمتد أمامي كالأوتار ، والكلمات تتموج حدائق من الإيقاعات . وكنت أجلس أمام أوراقي كما يجلس العازف أمام البيانو، أفكر بالنغم قبل الكلمات . كنت أعتبر القصيدة نوعاً من التأليف الموسيقي »(38). وكلام الشاعرين ينقل مادة الشعر من أساسها المكاني [القراءة العينية] إلى فضاء زماني [الاستماع] فيستبدل الصوت بالكلمة تماثلاً مع الموسيقى التي تعد فناً زمانياً في أساسها لأنها تعتمد النغم … وتتوجه للأذن وطبيعة تلقيها لا للعين القارئة.
لقد جرى الحديث في النقد العربي ، المهتم بالدلالة ، عن دور القراءة في استنباط قوانين النص ، وذلك ما يؤكده الجرجاني الذي يطالب المتلقي بألا تكون الألفاظ حجباً بينه وبين ما يسميه بلطائف النص ، لأن لها أسراراً لا طريق للعلم بها إلا الروية والفكر . فهو لا يقيم السماع سنناً للصلة بين النص ومتلقيه ، لأن الألفاظ ليست إلا زينة يجب تجاوزها إلى المعاني الثواني أو « معنى المعنى » الذي يتطلب جهداً عقلياً للاستدلال عليه(39) ، وهذا ما لا يدركه التلقي السمعي في رأينا.
5- مزايا وراثية / من الشفة إلى الورقة :
عند هذه النقطة من بحثنا سننتقل إلى تشخيص بعض المزايا الشفاهية الوراثية التي ظلت متداولة رغم انتقال الشعر إلى مرحلة الكتابة والتدوين ، ورغم لا فتات الحداثة التي تعلو مسيرة شعرنا العربي. ويمكن أن نعد من هذه المزايا عدداً كبيراً يبرز بعضه في النص العربي الحديث ضمن لا وعي جمعي يردد التقليد بشكل أنماط وصياغات مترسبة عن مراحل المشافهة ، وقد أعطتها الأطروحات النظرية الخاطئة حول استقبال الشعر ودروه في المجتمع وصلته بالجمهور الكثير من شرعيتها وترسخها وعوامل بقائها . بينما لجأ بعض الشعراء إلى تكريس تلك المزايا عن قصد بسبب منظورهم إلى ترتيب عناصر النص وأثره الفني في متلقيه ، وهو ما يمكن وصفه بالخطاب الشعري التقليدي أي الممتثل لتقاليد فنية تستقي هويتها من تلك المزايا الصوتية التي كرستها مرحلة المشافهة والإنشاد ، وامتد أثرها إلى البناء الفني للنص وحقوله الدلالية التي ينتجها نسيجه المعروض للتلقي . وقد استقصينا بعض هذه الظواهر وبحثنا عن أمثلة لها في الشعر الحديث هي مجرد عينات للدراسة وتأكيد أطروحتنا حول استمرار الشفاهية كتقاليد في شعرنا الحديث دون حكم معياري أو نقدي على تلك النصوص أو أصحابها،،ن فسجلنا أبرزها كالآتي :
أ) المستمع الضمني وحسن الإنشاد
يكتب بعض الشعراء شعراً حديثاً لمتلق ضمني محدد بالمستمع دون سواه من أنماط المتلقين . وهذا يوجب اختبار زوايا الالتقاء بأفق هذا المستمع واجتراح وسائل «مسرحية » و « أسلوبية » للاستحواذ على إعجابه أو التأثير عليه . ومن ذلك مراعاة ضمائر الخطاب عند التلفظ وحسن الإلقاء أو الإنشاد . وقد ترسخت هذه الميزة بعد انتشار المذياع واتخاذ الإذاعة وسيلة لقراءة الشعر. فأصبحت الإذاعة تنقل مزاياها الجهرية إلى القصيدة ودخلت ضمن مكونات الشاعر ومتلقيه وأنعشت الطاقات الشفاهية التي أهملت زمناً(40). ويصاحب ذلك انتشار التسجيلات الشعرية لشعراء ذوي جمهور محدد بفعل الأفكار والإيديولوجيات وفي أعقاب الحروب أو النكسات التي مر بها الوطن العربي. كما امتزج بهذا الشعر المكتوب لغرض الإلقاء شيء من الأداء المسرحي يتعمده الشاعر كنوع من العون الإيقاعي للتأثير على مستمعه .
ولا تزال مهرجانات الشعر والجلسات المخصصة لقراءته تعرض لنا أنماطاً من هذا الامتثال للصلة القديمة بين الشاعر وجمهور مستمعيه. وأذكر هنا أن شعراء مغرقين في الحداثة ، تدعو قصيدتهم للتأمل بسبب بنائها المركب، تعمدوا اختيار قصائد تناسب مقام المشافهة حين اشتركوا في القراءات الشعرية الشفوية . ومنهم أدونيس الذي اختار للإلقاء في أحد مؤتمرات الشعر العربية أن يقرأ قصيدته « الوقت » لما فيها من إيقاعية عالية متجسدة في تفعيلات بحر الرمل المتعددة الحركات والسكنات ، وفي تقفيتها الواضحة وازدحامها بالأسئلة المتوترة والمخاطبات .. وتتميز بخاتمتها المقفاة التي تمثل بيت قصيد أو قراراً موسيقياً(41). وفي مطلعها يقول أدونيس :
حاضناً سنبلة الوقت ورأسي برج نار
ما الدم الضارب في الرمل ، وما هذا الأفول؟
قل لنا ، يا لهب الحاضر ، ماذا سنقول؟
ويختمها بقوله:
كاشفاً للوقت أسرار هواه
هكذا يعترف
أنه الضليل ، والخارج ، والمختلفُ
فالقصيدة ذات اتجاه خارجي دلالياً وإيقاعياً ، تتميز لغتها بالقوة والاندفاع سواء باختيار ((الحال)) في مقدمة الجمل الشعرية في المطلع والختام [حاضناً / كاشفاً] أو في جرس قافيتها الذي يتخلل أبياتها أو في تفعيلاتها المموسقة.
أما الأسئلة فهي تعزز المطلب الدرامي للقصيدة المسموعة لكي تثير ذهن متلقيها. وهي فرصة لدمج أفق المتلقي بأفق الشاعر ونصه ، ويناسب ذلك كثرة الصفات والتكرار والهيجان اللغوي والصوري.
وينبني على ذلك الكشاف موضوع القصيدة ، ودخولها في المباشرة ، وتنازلها عن التخفي وراء التقنيات الأسلوبية المتمثلة في تغييب المعنى وترميز القصد. وذلك كله يحفظ للشاعر الصلة المفترضة بمتلقيه السمعي الذي كان له موضع مهم عند بناء القصيدة. وذلك كله يحفظ للشاعر الصلة المفترضة بمتلقيه السمعي الذي كان له موضع مهم عند بناء القصيدة. وقد اتسع في الأعوام الأخيرة نطاق كتابة الشعر السماعي المكتوب أصلاً للإلقاء وتخصص فيه شعراء كثيرون وصار سمة لحركة شعرية واسعة في بعض الأقطار العربية . فكل ما يكتبه الشاعر التونسي منصف المزغني مثلاً يدخل في هذا الباب ويتابعه في ذلك مقلدون كثيرون  … فعبر دواوين متعددة أصدرها المزغني في الأعوام الأخيرة يحس القارئ أن الشاعر ينشد شعره ويكتبه للإلقاء. فهو يلح في التقفية ويختار أبياتاً قصيرة يشحنها بالمفارقات القائمة على النكتة أو الضحك الذي يسببه التجنيس أو أختلاف فونيم الكلمات ، كأن يضع ((قابور)) بطلاً لقصيدته الطويلة ((قوس الرياح)) ويتلاعب بأحرف أسمه(42):
قاف: أول حرف القبر والباقي بور
هذا وقد ورد في شهادة الدكتوراه إن أسمه الكامل قابور بن قراقوش الإخ ميري
كما يكتب بعض الأبيات متعسفاً فيها القافية لتلائم الإلقاء(43).
كذب الطبيب الألمعي
ولم يع
ما يدعي
إذ قال
لست بطالع
من قبل شهرٍ تاسع
كذب الطبيب المدعي
فيفرط بتشديد (الياء) في البيت الأول. والتنوين في كلمة (طالع) و(تاسع) لتناسب التقفية. وفي ديوان آخر يضم قصيدة طويلة (اغتيال عياش الكسيبي واعتذاره بالانبعاث في حرب قادمة) ، نجد وسائل مماثلة إذ يستثمر النبر الإيقاعي المتاح في اللهجة المحلية ليخلق تقفيات مصطنعة كقوله:
أناخ للصوص على رمل واحه
أفاقت صباحاً
فلم تلق غير نواة التمور وروث السياحة(44).
فالقافية لا يظهر أثرها إلا بالإلقاء على الطريقة العامية لتصبح الهاء ألفاً (واحا ، صباحا / السياحا).
إن هذه الاضطرارات اللغوية وخرق بعض القواعد الصرفية أو النحوية والخروج على التفعيلات (رغم أن القصائد موزونة) وتمحل القافية واللجوء إلى الجناسات الداخلية الكثيرة والمفارقات ، تمثل استجابة لهاجس المستمع الضمني الذي يكتب الشاعر قصيدته له ويلقيها عليه. وقد أنتبه بلند الحيدري إلى الميزة الإنشادية في شعر المزغني ، فقال إن هناك تداخلاً بين الرؤى التشكيلية والإلقاء في شعره ، وشخص ما سماه بمسرحة القصيدة(45) ولكي يؤكد هذه الدرامية ، تخصص المزغني في قصائد تتناول أشخاصاً كان أخرهم الرسام الشهيد ناجي العلي ، مما يتيح استثمار بني السرد والمعطيات الدرامية: كالحوار والقص والتداعيات والتضمينات المتعددة التي تقترب من الكولاج. إلا أن عصب تجربة المزغني يظل في التلاعب بالكلمات وخلق المفارقة كما في قوله عن العلي إنه مولود وموؤود … أو يستفيد من قطع الكلمة وبترها لتوليد دلالة(46).
وضاق المساء
فماذا سأرسم
أجاب:
((منامك أرسم
ورن الصدى … سم))
ويشارك المزغني شاعر آخر من مصر هو محمد أبو دومة الذي تقوم قصيدته على شعرية الإنشاد وتسطيح الأفكار فهو يبدأ بخطاب ويكثر من التقفيات الداخلية ويأتي بضرورات إيقاعية وصرفية غير مقبولة لخلق التأثير في مستمعه.
((أمحمدنا يا أصبح … يابن صعيد كنانتنا يا صدح الشمس.
إذا شربت عيناك خدود الهيفا واستعسلت الرشف ؛ أذكرنا!
قيل : يا صنع الله الألطف … حين الثوب الأرهف حول القد الملتف  … التف…  حتى لا مس … هامس … وشوش … أفشى … شف …))(47).
ولعل هذه النماذج وسواها مما سيرد في التطبيقات التالية تؤكد ما نذهب إليه من أن الشاعر يضحي بلوازم الفن الشعري ومتطلبات التحديث من أجل تحقيق جماهيرية الشعر وإرضاء سامعيه ، رغم أن الشكل الحديث يفترض ، إضافة إلى الاستغناء عن البيت والقوافي الثابتة ، ما نسميه الفكر الشعري والانفتاح الدلالي العميق الذي يشرك القارئ في عملية القراءة … مما لا يمكن أن يتحقق بالتوجه صوب المتلقي السمعي.
ب) المباشرة .. والوضوح:
في شعر معد لإلقاء لا يستطيع الشاعر إلا أن يجلو أفكاره ومعانيه بشكل شديد الوضوح لإبلاغ مضمون قصيدته الذي يتصل غالباً بموقف سياسي أو إيديولوجي أو للإفصاح عن غرض وجداني مباشر ليست القصيدة إلا تنويعاً متكرراً له. ولهذا نستطيع أن نسمي بعض القصائد الشهيرة في جماهيريتها كدفاتر نزار قباني على هوامش النكسة وقصيدته « بلقيس » و « ثلاثية أطفال الحجارة ». وفيها جميعاً يبدو الشعر ككتابة فاعلة، منهزماً غير ذي دور. تبدأ قصيدة « بلقيس » والشاعر ينعى زوجته  بلقيس ويخاطب جمهوره بطريقته في إثارة الحزن وتقريع الذات:
شكراً لكم
شكراً لكم
فحبيبتي قتلت.. وصار بوسعكم
أن تشربوا كأساً على قبر الشهيدة
وقصيدتي اغتيلت..
وهل أمة في الأرض..
إلا نحن ـ نغتال القصيدة.
وفيها نلاحظ العناية بالاستهلاك الذي يمثل مفارقة دلالية مهمة؛ لأن الشاعر يشكر المخاطبين من حيث يريد هجوهم أو إثارة غضبهم معمماً ذلك كعادته:
قتلوك يا بلقيس..
أية أمة عربية تلك التي
تغتال أصوات البلابل؟
أين السموأل؟ والمهلهل؟ والغطاريف الاوائل؟
فقبائل أكلت قبائل..
وثعالب قتلت ثعالب
وعناكب قتلت عناكب.
ونلاحظ إلحاح الشاعر على التقفية واستثمار جرسها، حتى في اختيار أسماء الشعراء عشوائياً [السموأل المهلهل] دون مراعاة مكانتهما في الشعر العربي والتاريخ، إضافة إلى حشو زائد يمثله البيت الأخير الذي لا يضيف إلى تدرج مستوى الدلالة شيئاً بل يضعفها أو يقصيها أحياناً. ويتكرر ذلك في « ثلاثية أطفال الحجارة » وخطابها الحماسي العاطفي المتجه إلى وسط غاضب، ومستمعين من نوع خاص، يرفض معهم الكتابة والشعر. ويحرض باسمهم أطفال الحجارة كي يواصلوا ثورتهم على الجميع:
آه.. يا جبل الخيانات
ويا جبل العمولات
ويا جبل النفايات
ويا جبل الدعارة
سوف يجتاحك ـ مهما أبطأ التاريخ
أطفال الحجارة.
عند هذا المستوى من المباشرة ينكشف المعنى ولا يظل للشعر من أسرارن يبحث عنها متلق من نوع آخر، الذي يستقبل الشعر بأذنه فيشارك الشاعر نشيده.
وعلى مثل هذه الموضوعات دار شعر نجيب سرور الرافض لا سيما في «التراجيديا الإنسانية » و « الكوميديا الإنسانية » و « بروتوكولات حكماء ريش »، المتميزة بطغيان مضامينها ووضوح غرضها وطبيعتها المباشرة رغم اكتناز شعر نجيب بالرموز والتضمينات مما يعكس ثقافته ووعيه الاجتماعي، إلا أنه محاصر بالوزن والعبارات القصيرة المتوترة وهاجس السخرية مع الرغبة في الإبداع بأقل عدد من الأبيات وهذا ما يوضحه المجتزأ الاتي من « التراجيديا الإنسانية » وأبياته  التي تحاور مستمعاً ضمنياً:
كانوا قالوا: « إن الحب يطيل العمر » .
حقاً.. حقاً.. إن الحب يطيل العمر
حين تحس كأن العالم باقة زهر
حيث نشف كما لو كنا من بلور
حين نرق كبسمة فجر
حين يدق القلب كما عصفور
ولا يخفى أن هذا الأسلوب يمثل نمطاً صياغياً تبلور منذ الستينيات ليغدوا قالباً يجتره الشعراء المجددون. وله هيئتان مشهورتان: البدء بحقيقة كلية ثم التنويع عليها؛ أو البدء بالتنويعات لتخليص حكمه أو مقوله. ويمكن أن نعد المجتزأ السابق من نجيب سرور مثالاً للنمط الأول. أما النمط الثاني المنطلق من موقع قريب فيمثله أمل دنقل الذي كان الإنشاد عنصراً مهماً في شعره، كجزء من شعرية قصائده. فثمة دائماً فيض شعري إلى الخارج؛ إلى مستمع تصله أجزاء البيت والنكات السوداءٍ والعبارات المعدلة عما هو شائع، وأجده في ذلك امتداداً لشعر سرور مع تخفيف الموقف السياسي اليومي وتحويله إلى موقف إيديولوجي عام أو اجتماعي يستنجد بالتاريخ ورموزه أحياناً. والنموذج المثالي لهذا التوجه هو نصه الشعري « مقتل كليب ـ الوصايا العشر » .
ولو وقفت ضد سيفك كل الشيوخ
والرجال التي ملأتها الشروخ
هؤلاء الذين يحبون طعم الثريد
وامتطاء العبيد
وأكاد أجد تناصاً واضحاً بين مقطع صغير لنجيب سرور من قصيدته « كلمات غير متقاطعة » وقصيدة أمل دنقل « مقابلة خاصة مع ابن نوح » وهو ما التفت اليه نقاد وقراء كثيرون… فقصيدة أمل ـ التالية في تاريخ نظمها ـ تستفيد من أبيات سرور الأربعة حول رجل يرفض أن يركب السفينة عند الطوفان، ويضع بدل ذلك لغماً في المركب! وتقدم قصيدة دنقل موقفاً مشابهاً يرفض الصعود في السفينة. كما نجد لديهما مخاطبات مباشرة [مثل أيها السادة..] أن تقمص مقابلات إذاعية، أو ملصقات إعلانية طريفة تقطع سير القصيدة لتؤكد التوجه المضموني أو الفكرة فيها.. كما يشتركان في الإفراط الإيقاعي من خلال الحرص على التقفية وتواليها دون تراوح أو تغيير فتبدو أشبه بنظم ثنائي أو رباعي أحياناً، ولتكريس لإ إيقاعية النص الإنشادية في شعرهما عناية ببيت القصيد، أو القرار الإيقاعي، الذي يوضع ليترك صدى في ذهن المستمع. فالمقارنة بين سرور و دنقل تحتاج إلى مبحث خاص لتأكيد ما هو مشترك بينهما سواء على مستوى الدلالة أو الإيقاع واستخدام الرموز وتوظيف المأثور الشعبي والنكتة السوداء.. مع المحافظة على المغزى، أو المضمون المنكشف، بمباشرة لا يخفيها تعدد الصياغات أو تنوعها. ونستطيع أن نعزو ضعف بعض الصياغات و نثريتها و تقريريتها إلى الامتثال للرغبة في الإبلاغ دون مراعاة المطالب الشعرية.. ويقدم لنا كثير من الشعر الفلسطيني أو المكتوب عنها عربياً، لا سيما في مراحل المقاومة الأولى، نماذج لفهم شفاهي لجماهير الشعر. ونحن لا نريد أن نمثل لذلك بنماذج من النظم التقليدي المتمثل لفهم سائد للشعر، قائم على حدود الوزن والقافية وغير ذلك من القوانين المستقرة، بل سنأخذ عينات مما كتب تحت لا فتة التحديث ونجد في كثير من هذا الشعر ما يشبه البيانات الجماهيرية التي تتحد فيها الصياغات والمضامين لتخدم القضية الوطنية والفلسطينية في خدمة مباشرة يعلو فيها الشعاري والسياسي في المقام الأول.. وذلك يقربها من موضع الإنشاد والمشافهة.
في ديوانه « طائر الوحدات » يقدم أحمد دحبور « بياناً للفقراء » معداً للإلقاء لا للمطالعة أو الاستيعاب البصري، فمضمونه يمثل مهمة تتضاءل إزاءها المهمات العشرية الأخرى، كما يخاطب في قصيدته (.. وعرفنا كيف يضيء الماء) صفوف الجمهور المستمع لنصه:
أتحدث هذي الليلة عن جسر الفرح الكسور
عن واحدة لا يعرفها الصف الأول
وتعذب آخر صف في هذا الجمهور .
ولا شك في أن ثمة « تصميماً »  مسبقاً على مخاطبة صفي الجمهور (الأول والأخير) خاضعاً لمطالب تحتمها مسرحة القصيدة واستباق أثرها في الجمهور كمتلقين سماعيين. ولأجل ذلك يوظف دحبور أحياناً الشعر الشعبي الفلسطيني والأغنيات وأشياء فولكلورية لها صداها المباشرة عند الإلقاء.
وفي كثير من شعر الانتفاضة (أي الذي كتب في مناخها وتحت تأثيرها) نجد نزوعاً مضمونياً يسرب شحنة الشعر إلى الخارج، فيكون المغزى المنكشف المباشر أشبه بمانعة صواعق تمتص ما تبعث به صواعق الشعر وتحول دون تسربه إلى الداخل.. وهو نموذج يوازي شعر المقاومة في مراحله الأولى. وإذا لا نجد لشعر الانتفاضة مثل هذا العذر بسبب المنجز الفني المضاف بعامل التراكم، ودخول التحديث الشعري مراحل متقدمة.
في ديوان خاص بثورة الحجارة (الاسم الأول للانتفاضة) يقول الشاعر إبراهيم الخطيب.
اسميك صخراً.. وأولئك أمراً.. فتحمل راية قحط
بن قحطان حين استكان
بأحسن حال
وأهدأ بال
وأبهى عقال
وأحلى عباءة
وباع الذي باعه وأشترى ما يود شراءه
وهذا مجتزأ يقد مثالاً لأنماط الصياغة الشائعة الأبيات القصيرة المقفاة والعبارات الساخرة والتلاعب بالأسماء لإنجاز تورية ساخرة)، وهو ما شاع في كثير من القصائد ذات الهم الفلسطيني وقصائد الانتفاضة بخاصة كما في قصيدة حيدر محمود « من يوميات أبي الزمان الطياني »: (أستقيل من الشعر على بعد ثلاثين حرباً..)، قصيدة خالد محادين « العشق والحجارة ». فالحجر يمنح الشاعر شفته الغاضبة. وقد شاع مثل هذا التوظيف المباشر للنص المعد للإلقاء في الشعر العراقي خلال فترات من الحرب العراقية ـ الإيرانية،. وتمثّل قصيدة يوسف الصائغ « أين الشعر.. وأين الشعراء » نموذجاً لهذه النصوص المكتوبة أصلاً للإلقاء، فهي تخاطب شعراء المهرجان الشعري السابع عشر ببغداد عام 86. وفيها يكلم الصائغ المهرجان ويتحدث عن إمكان هجوم الأعداء على قاعة المهرجان.
لكني أسألكم:
ماذا يمكن أن تفعله ـ نحن الشعراء
لو أن الأعداء
هجموا هذي الساعة،
واقتحموا القاعة؟
ماذا لو غلّقت الأبواب
وقال القائل:
يا شعراء الوطن الباسل
يا كل الشرفاء
فلينظر كل منكم
أين يقاتل… ؟
وهي القصيدة التي افتتحها بتضمين من الشعر العربي القديم (ما للوفود مشيها وئيداً..) في إشارة صريحة إلى مقام المخاطبين من الشعراء. وهي أبيات ضمنها أمل دنقل أيضاً في قصيدته « البكاء بين يدي زرقاء اليمامة » مع ملاحظة التحوير الذي أجراه الصائغ (الوفود / الجمال) لمراعاة المتلقين من وفود المربد. ولا يمكن أن يقدم الشاعر ورؤية فنية دون تضحيات وهو يعد قصيدة تناسب الأجواء الخارجية التي سيلقيها فيها. فوجود المستمع الضمني، أو المخاطب الخارجي، يفرض هذا الوضوح ومراعاة مطالب غير شعرية، أو التوسل بأداة عون إيقاعية ليست إلا بقايا من عادات الشعراء عند الإلقاء في المواسم، تحف بالشعر وهي ليست منه.
جـ- الأنماط الفنية للشفاهية الجديدة :
تعرفنا في الفصول السابقة على أنواع من القصيدة المتمثلة للحس الإيقاعي الإنشادي، سواء ما كان منها مكتوباً للإلقاء المباشر أو ما كان مكتوباً بهذا الهاجس دون إلقاء. وكان مصدر تشخيصنا لطبيعتها الإنشادية ما توفر فيها من مزايا نرى أنها تناقض بناء القصيدة الحديثة التي كان أول دواعي حداثتها تحقيق استقلالية النصوص من النظم بضغط المناسبة أو الغرض واستثمار النثر لكسر حدة الهيمنة الإيقاعية للوزن الذي يحاصر الدلالة كما يحاصر البناء ويضحي من أجله الشاعر بوحدة القصيدة. ومن أبرز الأنماط التي سجلها هذا البحث:
* النزوع الدرامي الذي يمثل حنيناً لمخاطبة الآخر والتلذذ بمخاطبته وتحقيق الصلة معه شفاهياً سواء أكان هذا المخاطب جامعة أم فراداً، النفس أم الآخر، الوطن والمدينة أم الطلل والأثر المكاني. ويتيح الحوار ـ وهو أشد المظاهر الدرامية شيوعاً في الشعر الحديث ـ أن يجرد الشعر شخصيات متحاورة يمكنه أن يغذي من خلالها نزوعه الإنشادي، وهذا يصبح في قصائد بارزة في شعرنا مثل « مصادرة منشور سري » و «مقاضاة رجل أضاع ذاكرته » و « الهبوط الأول » لعبد الرزاق عبد الواحد. رغم تنوع حواراتها بين الديالوج والمونولوج والخطاب المجرد أو التداعيات.. وهي تخضع لمزايا الإنشاد من حيث التركيز على الجمل القصيرة والتقفية وبعض التضمينات المثيرة.. وفي قصيدة طويلة لبلند الحيدري هو « حوار عبر الأبعاد الثلاثة » تكون أنا الشاعر أساساً في المخاطبات التي تجر القصيدة إلى إيقاعية النشيد وصوته العالي ونبرتها الخطابية:
يا كلكم
يا غيبة الحاضرين
يا أنتم المارون كل لحظة ببيتي المنكفئ الأضواء والحاملون ليلي الثقيل في صمتكم المرائي
أنا.. هنا.. أموت من سنين
أزحف من سنين
خيطاً من الدماء بين الجرح والسكين.
وفي قصيدة محمد القيسي « عز الدين القسام » يعزز الحوار تغريب شخصية الثائر عز الدين القسام من خلال لقائه باللداوي:

  • أنا عز الدين القسام.

هل تأذن لي
أن أقضي الليلة في بيتك؟

  • عز الدين القسام:

« لا أعرف أحداً يحمل هذا الاسم » .
ولكن القيسي يستفيد من تقنية القناع كما سنرى ليخفف الحضور المسرحي المباشر والخطابي للقسام وليدفع القصيدة إلى مناطق الرمز. أما الشاعر محمد الفيتوري الذي يقول « أنا لا أختار إيقاعاتي إنما تختارني هي » فإنه يستسلم لحوارات مكثفة ذات طباع صوفي تغليف عباراتها الرموز المعبرة عن الوجد. فلا نكاد نستطيع تشخيص الطرف الآخر في مخاطباته.

  • انكسر.. فانكسرت
  • احترق.. تحترق أو تضيء

جاء الصوت

  • يكتمل الطقس، حين تصير المحبة لؤلؤة

في فم النار

  • قلت: وبرهان عشقي
  • قال: احتراقك.

وقد تمون المخاطبات في إطار النفس فيخاطب الشاعر خارجياً يعطيه اسمه أو صفاته كما حصل في قصيدة يوسف الصائغ « استيقظ يا يوسف » وهو يستعين بقناع الذات لتوصيل حوارية جماهيرية عن رجل يحلم أنه استشهد في الحرب.. ولا يخرج عن إطار هذه الحواريات خطاب الآخر، وهو في قصيدة « طقسان للموت » لأحمد المصلح مرثي تعلم برحيله في البيت الأول. ثم يخاطبه الشاعر في البيت الثاني (عدنان يا صاحبي.. ) ويعود إلى مخاطبة الغائب في الجزء الأخير من القصيدة مما يؤكد تنوع الأصوات فينا لمناسبة الإنشاد.. وقد يكون الإهداء أحياناً سبباً في « قراءة شفاهية » كما في قصيدة ممدوح عدوان « العياذ بالجرح » المهداة إلى علي الجندي. فهي تحافظ على زاوية الخطاب ومناجاة المهدي إليه حتى نهايتها مع مراوحة ذلك بالأسئلة والتضمينات وسواها من الوسائل الإنشادية التي تتجه بالنص إلى إيقاعية خارجية. وقد يكون الإنشاد عائلياً كما يفعل إبراهيم نصر الله إذا يضع الأب مخاطباً خارجياً لتوصيل هموم ذاتية بمعنى إفاضتها إلى الخارج عبر الخطاب:
يا أبي
بعد سبع وعشرين من سنوات الدماء
بعد سبع وعشرين أنشودة
بعد أن عبر الشعر في
وغادرني مرحي والطفولة
اكتشف الآن
أني كبرت على ألفة الطيبين.
وقد تكون الأوطان والمدن والأطلال هي المخاطبة، وذلك نمط شائع يكون الإنشاد فيه أوسع وسطاً وأعم، إلا أنه لا ينجو من إيقاعية النشيد، وأمثلته كثيرة ومعروفة سأنتقل منها إلى الحديث عن نوع أكثر سمواً وتعالياً من أنواع المخاطبات والمناجيات هو خطاب الإله أو محاكاة الأدعية والصلوات كما في قصيدة محمود درويش « إلهي لماذا تخليت عني » وفي قصائد كثيرة، وأمل دنقل في « العهد الآتي » وتكون لهذا النوع من الخطاب المتعالي قوة الصلاة الجماعية التي تشد المتلقين في مقام المشافهة.
* التكرار. وهو سمة تمتاز بها الملامح الشعرية القديمة التي ألفت وتداولها الناس شفاهياً. وبصورة خاصة ذلك التكرار المعتمد على الألفاظ وطاقتها الجهورية. فظاهرة التكرار والإعادة تفسر عادة بأنها استعانت من المنشد « ليستعيد إلى ذاكرته ما سينشده من أبيات تالية ». وقد أصبحت هذه السمة ذات هوى في نفوس العشر المعاصرين، وجعلوا لها أنماطاً متعددة فمنها ما يختم به النص أو يتكرر بين ثناياه كلازمة أو يتتابع دون حساب معين. ولقوة التكرار الإيقاعية نرى أن الشعراء يستعينون به حتى دون حاجة إلى تنويع القافية كقوله محمود درويش:
فيا وطن الأنبياء.. تكمل
ويا وطن الزارعين.. تكامل
ويا وطن الشهداء.. تكامل
ويا وطن الضائعين.. تكامل.
ولا نجد عناء في تخيل الإيقاعية المتوخاة في مثل هذه الأنماط الإيقاعية ـ الإنشادية، فالشاعر يستعين بالنبر ليقف عند الفواصل ويخلق الإيقاع المطلوب.. والتكرار هنا يتمحور ويتركز حول كلمة تعاد بصفتها محوراً. وللشاعر محمود  درويش مقدرة فائقة بالتفنن في التكرار واشتقاق أنماط خاصة به، كأن يجعل الكلمة ـ المحور خاتمة للبيت الأول وبداية للبيت التالي:
النائي أصوات وراء الباب. أصوات تخاف من القمر
قمر القرى. يا هل ترى وصل الخبر
خبر انكاسري قرب داري قبل أن يصل المطر
مطر البعيد. لا أريد من السنة
سنة الوفاة سوى……
إذا تقوم القصيدة كلها على تكرار إضافي تولده نهاية البيت. وقد يختار الشعراء كلمة عامية الاشتقاق أو الدلالة ويكررونها في صدى اتصالي مع جمهور مستمعين كما حصل في قصيدة فاضل العزاوي في قصيدته الطويلة « الصحراء » مستفيداً من الوقع الشعبي لكلمة (هلهولة):
هلهولة !! للصحراء الوثنية
هلهولة !! للريح على الأسوار
هلهولة !! للعربي الواقف في المنفى
هلهولة !! ……………………………………………
ونلاحظ أن النبر هنا سيحقق محصولاً اتصالياً جيداً ورد فعل قوياً من جمهور يتصل بالنص عبر حاسة السمع. وهذا النمط الصياغي الشفاهي له تنويعات كثيرة في شعرنا الحديث، لأنه لم ينتهي عند حد ويمكن توليد صياغات متعددة، كما في تكرار اسم (نعمان) في قصيدة إبراهيم نصر الله:

  • نعمان في الجنوب
  • نعمان في الشمال
  • نعمان في البكاء.. والموال
  • نعمان في الرصاص
  • نعمان في الخلاص
  • نعمان ………………………………………

* التضمينات بالتناص من خلال المفارقة أو تعديل النصوص المضمنة، أو استدعاء أغنيات أو أدوار شعبية، كما فعل أحمد دحبور إذا ضمن أهازيج وأغنيات فلسطينية في « رسالة شخصية جداً .. » ليكتمل إطار الحزن الذي يغلف حديثه عن الأم ويحقق أثره في متلقيه.
وأحياناً يلجأ الشاعر إلى قطع إيقاع قصيدته متحولاً إلى ما أسميه « إيقاع الأغنية » فيقدم مقطعاً صغيراً يمتاز بإيقاعه غنائية وتقفيه صارمة، ثم يتركه إلى متن القصيدة الأول كما في « قصيدة بيروت » لمحمود درويش التي تتكرر فيها هذه الأغنية:
قمر على بعلبك
ودم على بيروت
ياحلو من صبك
فرساً من الياقوت
قل لي: ومن كبك
نهرين في تابوت
ياليت لي قلبك
لأموت حين أموت
ولا نستطيع وصف امتياز هذا القطع إيقاعياً إلا بالرجوع إلى المتن نفسه، وملاحظة الانتقالة الإيقاعية الحادة في النص. ومثل ذلك نجده لدى أمل دنقل الذي أفرد الأغنية تحت عنوان داخلي هو « إيقاعات »:
سرحان يا سرحان
والصمت قد هداك
حتى متى وحدك
يخفرك السجان
* تتعزز التضمينات أو الاقتباسات التناصية بما يصدم أفق انتظار القارئ، فيأتي الشاعر ببيت مشهور أو قول ليحوره خالقاً صدمه مدهشة كما فعل أمل دنقل:

  • (جبل التوباد حياك الحيا

وسقى الله ثرانا الأجنبي !)

  • و ـ (وطني لو شغلت بالخلد عنه

نازعتني ـ لمجلس الأمن ـ نفسي !)
* يسمى بعض الشعراء قصائدهم بجزء من بيتها الأول. وهو تقليد شفاهي حيث كانت الملاحم تعرف بالكلمات الأولى منها: مثل: ملحمة هو الذي رأى « جلجامش » و (عندما في العلى) ملحمة الخليقة البابلية.. وقد بنى محمود درويش عناوين جميع القصائد في ديوانه «ورد أقل» على الكلمات الأولى من أبياتها مع تغيير طفيف أحياناً، إذا يحذف بعض الكلمات ليصل إلى ما بعدها مثل عنوان قصيدة «على السفح، أعلى من البحر، ناموا ». فالبيت الأول منها هو: « على السفح، أعلى من البحر، أعلى من السرو، ناموا ». ويمكن تفسير هذا الفن في العنونة بأنه للتعلق بذاكرة المتلقي.
* تحسين الاستهلال والعناية بالخواتم ، وقد وجدنا شعراء الحداثة الممثلين للإنشاد يعتنون بالمطالع الشعرية ويجعلونها مقفاة غالباً وهي ذات دور في توجيه النص وخلق فضائه دائماً. أما الخواتم فهي أشبه ببيت القصيد في الشعر القديم أو القرار الإيقاعي الذي يشعر معه المستمع بأن المعزوفة الموسيقية أو الأغنية أشرفت على النهاية فتترك في نفسه أثراً وتخلد في ذاكرته. والأمثلة كثيرة حول دور المطلع والختام المقفي في خلق إيقاعية إنشادية يؤازرها التكرار أحياناً.

  • التجنيس الداخلي وجناس القلب والفنون البديعة التي أخذت مكانة مهمة في القصيدة الحديثة. وهي باتجاهها لبناء اللفظة وعلاقتها بسواها من الألفاظ تحقق العناية المطلوبة في بناء القصيدة الفاهية. وتتنوع التجنيسات بين استغلال طاقة الحرف وتبدلات موقعة وجرسه وتجانسه مع سواه واختلاف معناه ، وبين قلب موقعة ليؤدي معنى آخر. والهاجس وراء ذلك إيقاعي صوتي أي أنه يحقق قيماً موسيقية خارجية ذات سمة إنشادية فيعضها يقوى أثره في النبر كقول إبراهيم الخطيب(83).

لك الكف والصف والعزف كيفاً وكمّاً
وأعجب ماذا يدل الإطار من القار فوق الجبين
أيعقل أم يعقل الرأس من تحت العقال
وفي قصائده الأخيرة يكثر محمود درويش من المجانسات أو العبارات المكررة مقلوبة أو متولدة من نفسها مثل: ترث السماء من السماء، ينقلها الكلام إلى الكلام ، يحملها اليمام إلى إليمام ، نهايتنا بدايتنا – بدايتنا – نهايتنا ، هاجر هاجرت نحو الجنوب ، نحبو ونصبو ، ما سوف يحدث للقصور إذا أستقرت في القصور ، وأتى البعيد من البعيد(84).

  • كخلاصة يمكن القول إن تلك المزايا وسواها هي من بقايا المرحلة الشفاهية التي أستمرت بشكل مكونات لوعي المتلقي الشفوي فيصطنع لنصه رغم انتمائه إلى الحداثة ما يجعله ملبياً لدواعي الإنشاد والتلقي السماعي. إذا كان بعض الشعراء يستثمر تلك المزايا لخلق أنماط طريفة من الصياغات الشعرية الخاصة ، فإن البعض الآخر يطمئن إلى تلك الصيغ ويستخدمها لتحقيق صلته بالجمهور. وهذا ما لحظناه في المجانسات واللعب اللفظي الذي ينادي الشاعر من خلاله متلقياً لا يهمه أن يذهب مع النص في رحلة فكر وتأمل ، بل يكتفي منه بالمعنى المؤدي على قدر ألفاظه المسموعة. إن جماهيرية الشعر والصلة به ليستا مقصاتين من هموم التحديث لكنهما ليستا غاية يضحي من أجلها بالفن الشعري وبناء النصوص ، فالشعر هو الذي يخلق الذائقة ويرسخ تقاليد تداوله. وهناك من الإيقاعات القائمة على الصور والأفكار والأبنية الحديثة ما يؤمن الصلة بالمتلقي دون تحديد تلك الصلة بالإنشاد والاستماع أو بالموسيقى الخارجية وحدها ، بينما يخضع الشعراء ومتلقوهم إلى مؤثرات معرفية وإيقاعية عصرية كثيرة لا بد من استثمارها على صعيد القراءة والتقبل.

 
 
* الهوامش والمراجع

  • حاتم الصكر : الشعر والتوصيل ـ بغداد 1988، ص16.
  • د. صفاء خلوصي: فن التقطيع الشعري والقافية ـ بغداد ، ط 6، 1987، ص 207.
  • القزويني: التلخيص في علوم البلاغة، شرح البرقوقي، بيروت، د.ت، ص 24ـ 26.
  • العسكري: كتاب الصناعتين ، تحقيق د. مفيد قميحة ـ بيروت، ط 2 ، 1989، ص 33.
  • القزويني : التلخيص ، ص 33.
  • أسامة بن منقذ: البديع في البديع في نقد الشعر، تحقيق عبدعلي مهناـ بيروت 1987، ص : 233 ـ 235.
  • يؤكد ذلك أبن خلدون في المقدمة ، تحقيق حجر عاصي ، بيروت 1983، ص 356 ناصحاً الشاعر بأن يقصد من التراكيب ” ما كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الفهم” المحدّد عنده بالذوق الذي تمنع استيفاءه بلاغياً تلك المعاني المعقدة الموجبة لاستعمال الذهن بالغوص عليها . ويمكن أن تعد ظاهرة الأرتجال تأكيداً جديداً للشفاهية كما في شعر الكاظمي . يراجع محسن غياض : الكاظمي ـ بغداد 1987ص 89.
  • خلوصي : فن التقطيع ـ 279.
  • أدونيس : في الشعرية العربية، بيروت 1985، ص 13 . وأنظر أسامة بن منقذ: البديع: ص 400 وما بعدها، وتأكيده على أن يتحرز الشاعر في ابتداءاته مما يُتطير منه ويُستحقر في الكلام ، وأن تكون أواخر القصائد حلوة المقاطع.
  • محمد صقر خفاجة : تاريخ الأدب اليوناني، القاهرة، الألف كتاب ـ 61 ، ص 36.
  • د. أحمد عتمان : الأدب اللاتيني ودوره الحضاري، 1989 ص 15.
  • د. أحمد عتمان : الشعر الإغريقي تراثاً إنسانياً وعالمياً ، 1984، ص 68.
  • و14) عبدالله إبراهيم : السردية العربية ـ رسالة دكتوراه ـ بغداد 1991 ، ص 162 و17.
  • حاتم الصكر : الشعر والتوصيل ، ص 41.
  • و17 و18) عبدالكريم النهشلي : الممتع في صنعة الشعر، تحقيق عبدالساتر ونعيم زرزور، بيروت 1983، ص : 18 و229و25.
  • هوميروس : الأوذيسه ، ترجمة دريني خشبه، ط 2 ، بغداد 1987، ص 175. وأنظر : أحمد عتمان :ا لشعر الإغريقي ، ص 30.
  • و21) أبن منظور : لسان العرب ـ طبعة بيروت ـ 19 ، م3 ، ص : 634 ـ 635، وم2 ص 337.
  • جيمز موترو : النظم الشفوي في الشعر الجاهلي، ترجمة د. فضل بن عمار العماري، الرياض 1987 ـ ص 30.
  • علي الجندي : الشعراء وإنشاد الشعر ، القاهرة 1969، ص 95، وأنظر ابن وهب الكاتب: البرهان في وجوه البيان ، تحقيق د. أحمد مطلوب ود. خديجة الحديثي، بغداد 1967، ص 183. وقوله أيضاً ص 184 ” والذي يجمع المعنيين في بيت أشعر من الذي يجمعهما في بيتين” .
  • علي الجندي : الشعراء وإنشاد الشعر: 13.
  • أدونيس : في الشعرية ـ ص 23.
  • طه حسين : حافظ وشوقي ، القاهرة ـ بيروت ، د. ت، ص : 39 ـ 40.

(27و28) روبرت سي هولب: نظرية الاستقبال، مقدمة نقدية، ترجمة رعد عبدالجليل جواد،، ص 52، وص132. .

  • جيمز مونرو : النظم الشفوي ، ص 68.
  • علي الجندي : الشعراء … ص 21 ـ 44 ـ 147.

(31، 32) د. إبراهيم أنيس : موسيقى الشعر، بيروت ط 4، د.ت، ص 181 وص 194.
(33و34و35) نازك الملائكة : قضايا الشعر المعاصر ، بيروت 1962، ص: 97ـ 98و 162، 163.

  • ابن وهب : البرهان … ص 175.

(37و38) حاتم الصكر: الشعر والتوصيل ، ص : 20 ـ 21، وص 20.

  • حاتم الصكر: منزلة المتلقي في نظرية الجرجاني النقدية، مجلة المورد، بغداد ، العدد 2، 1990 ، ص 111.
  • حاتم الصكر: الشعر والتوصيل ، ص 65، وإبراهيم أنيس : موسيقى الشعر، ص 183.
  • أدونيس : كتاب الحصار، بيروت 1985، ص : 5 ـ 19.

(42و43) منصف المزغني: قوس الرياح (1) أربد ، تونس، 1989 ، ص 29، 80.

  • منصف الزغني : اغتيال عياش الكسيبي ، تونس 1982 ، ص 12.
  • بلند الحيدري : مقدمة ديوان (حنظلة العلي) للمزغني، ص11. وكذلك الغلاف الأخير للديوان .
  • المزغني ، حنظله العلي ، ص 49، ويلاحظ ديوانه الأخير (حبات) بيروت 1992.
  • محمد أبو دومة : تاريخ أوراد الجوى، القاهرة 1990، ص : 71 ـ 72 .

(48و49) نزار قباني : قصيدة بلقيس ، بيروت 1982، ص 1 و6.

  • نزار قباني : ثلاثية أطفال الحجارة ، بيروت 1988، ص 23 . وتراجع ملاحظة إبراهيم خليل في كتابه ” الانتفاضة الفلسطينية في الأدب العربي” ، عمان 1989، ص58، حول أجترار قباني في القصيدة، مألوفه اللغوي المعروف. وأنه لا يقترح جديداً على صعيد الإيقاع .
  • نجيب سرور : مختارات من الأعمال الشعرية ، بغداد 1980، ص 115.
  • أمل دنقل: الأعمال الكاملة ، القاهرة، د.ت،ص276.
  • مقطع نجيب سرور : المختارات ، ص 51. وأمل دنقل في الأعمال الكاملة ص 339.
  • من المعالجات المشتركة بين سرور ودنقل : الاستعانات الإنجيلية وصياغة التعاليم الدينية والأسفار والمزامير والصلوات، واستخدام القناع التاريخي عبر شخصيات مشهورة ، إضافة إلى المفارقة وتحريف التضمين.
  • أحمد دحبور : طائر الوحدات ، بيروت 1973 ، ص 43.
  • إبراهيم الخطيب : ألوذ بالحجر، عمان 1989 ، ص 48.
  • ينظر إبراهيم خليل : ” الانتفاضة الفلسطينية ..” لمزيد من نماذج الشعراء : عبدالرحيم عمر ومحمد القيسي وإبراهيم نصر الله وعلي الفزاع وكذلك حيدر محمود (الأعمال الكاملة) ص 174 وخالد محادين (الأعمال الكاملة) ص 295، عمان 1990.
  • يوسف الصائغ : المعلم ، بغداد 1986، ص 94.
  • أمل دنقل : الأعمال … ، ص 86.
  • تغيير ألفاظ النص حسب حاجة الجمهور المتلقي ميزة شفاهية يرصدها جيمز مونرو في النظم الشفوي .. ” ص 75.
  • عبدالرزاق عبدالواحد : الأعمال الشعرية ـ م1 ، بغداد 1991، ص : 392 ـ 589 ـ 561.
  • بلند الحيدري : حوار عبر الأبعاد الثلاثة، بغداد 1972 ، ص 97.
  • محمد القيسي : رياح عز الدين القسام، بغداد 1974، ص 64.

(64و65) محمد الفيتوري : شرق الشمس غرب القمر، الرباط 1987 ، تنظر المقدمة ـ ص 13، ص21.

  • يوسف الصائغ : المعلم ، ص 106.
  • أحمد المصلح : طقوس خاصة للفتى كنعان ، عمان 1988، ص 62.
  • ممدوح عدوان : يألفونك فانفر، دمشق 1977، ص 51.
  • إبراهيم نصر الله : أناشيد الصباح ، عمان 1984، ص 63.
  • محمود درويش : ورد أقل ، الرباط 1986، ص 81.
  • مثل قصائد ديوانه ( العهد الآتي) و بخاصة : صلاة، وسٍفر ألف دال ـ الأعمال … ص: 222 ـ 242.
  • ملحمة جلجامش وقصص أخرى عن الطوفان ، طه باقر، ط5 ، بغداد 1986، المقدمة ، ص28.
  • محمود درويش : مختارات شعرية، تونس 1985، ص 129. وينظر النمط الأخر للتكرار النبري، ص190 في المختارات.

هي آخر الطلقات : لا
هي ما تبقى من هواء الأرض : لا
هي ما تبقى من حطام الروح : لا
بيروت … لا

  • جيمز مونرو: النظم الشفوي ، ص 53.
  • محمود درويش : هي أغنية هي أغنية ، ط2، بيروت 1986، ص 65.
  • فاضل العزاوي : الأسفار ، بغداد 1976، ص 115.
  • إبراهيم نصر الله : نعمان يسترد لونه ، بيروت 1984، ص 89.
  • أحمد دحبور : طائر الوحدات ، ص 5.
  • محمود درويش : مختارات ، ص 155.

(80و81) أمل دنقل : الأعمال الكاملة ، ص 210، وص 340 ـ 341.

  • محمود درويش : ورد أقل، ص 31.
  • إبراهيم الخطيب : ألوذُ بالحجر ، ص 50.
  • محمود درويش : أرى ما أريد ، الرباط ـ 1990.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
بعض مشكلات توصيل الشعر
 

من خلال شبكة الاتصال المعاصرة

 
 
 
 
 
 
 
 
مهما يكن تحفظنا حول مبدأ التوصيل ،  ومقدار وروده في توجه الشاعر وهو ينشئ نصه ،فان الإبلاغ أو توصيل الرسالة حاضران في افتراض وجود متصل ومتصل به ووسيلة اتصال .
أن التوصيل هنا وصف خارجي لا يحتم مزايا فنية داخلية أي أن البحث لن يلزم القصيدة بمهمة توصيلية داخلية بحثاً عن مغزى أو معنى ،  لكن التوصيل هنا مفهوم إجرائي بحت  يفرضه سياق استهلاك النص الشعري .
فالمقترح المقابل كالبناء أو الأداء سيرتب كذلك صيغة اتصالية توصيلية ما ،  بالورقة التي يكتب عليها النص والعين التي تطالعها . وذلك يقتضي العودة إلى طفولة الشعر حين كان فنا شفهيا يلقى لتتلقاه الاسماع .
ولا بد أن تغير وسيلة الاتصال يرتب تغيرا  في كيفية التوصيل وهذا هو ما يحاول البحث أن يثبته .
أن خط سير القصيدة القديمة كان يتم بالشكل الآتي :
شفة ،  أذن
بينما أصبح بفعل عوامل التدوين ،  والطباعة فيما بعد يتم بالشكل الآتي : يد ،  عين .
فالمهارات المفترضة في التوصيل الشفهي سوف تتغير قطعاً لصالح المهارات اليدوية .
كما أن السطح الذي يتم عليه التوصيل والاتصال ،  سوف يتكيف تبعاً للمهمة الجديدة .
لذا فالورقة ستكون مشاركاً أساسياً في النص ببياضها وانفتاح سطحها ،  كما كان الصوت كوسيط ناقل ذا دور في تكوين بنية القصيدة الشفهية ذات الجرس .
***
ويفترض هذا البحث أن وسائل الاتصال الحديثة التي عرفها عصرنا قد أثرت بشكل وبآخر على بنية القصيدة .
فالمخترعات الاتصالية السمعية والبصرية ( هاتف ،  برق ،  تلفزيون ،  سينما…) كانت ذات أثر مباشر انعكس لا في التعامل مع هذه المخترعات كآلات توصيل فحسب بل في مزاياها التوصيلية التي تركت أثراً في القصيدة .
لقد مرّ موقف الشاعر العربي من هذه المخترعات بطورين :
الأول : موقف الانبهار بها ووصفها من الخارج كأشياء معجزة لا يحدها وصف . بل هي داخلة في غرض الوصف فحسب .
ويمكن التمثيل هنا بشاعرين : الرصافي في العراق وحافظ ابراهيم في مصر(1). فالرصافي يصف التلغراف والسينما كما يصف المخترعات  الجديدة الأخرى كالساعة والقطار والتومبيل والبليارد والباخرة ومواد الحرب الكيمياوية ونادي الألعاب الرياضية وزلزال مسينا والبواخر الحربية .
وأية قراءة لنص من هذه النصوص تكشف . موقف الانبهار ازاء المخترع والسذاجة التامة التي طبعت النظر اليه .
فالتلغراف أو الأسلاك البرقية في شعر الرصافي هي في الكون ( سر الأسرار ) لأنها تختزل المسافات .
وهذا الاحساس باعجازها الزماني والمكاني هو سبب الانبهار بها . فهي ذات ( نفوذ في جميع الأقطار ) وتنقل الخبر في آن كملمح الأبصار . أما لدى حافظ فالحاكي ذو الميزة الاسترجاعية الذي يحتفظ بالزمن ما هو إلا ( الجماد الناطق ) لكنه أصدق الرسل وأكثرهم أمانة ..
مثل هذا التعامل مع المخترع السمعي أو البصري ظل مهيمناً على اللوحة الشعرية في عصر الاحياء المتزامن مع النهضة العلمية التي دخلت إلى الأقطار العربية . وغالباً ما فرض وصف المخترع قالباً شعرياً واحداً أخذ صفة أدائية أو بنائية جامدة هي واو ربّ المحذوفة . .
فأغلب قصائد وصف المخترعات تبدأ بهذه الواو كقولهم :
ودبابةٍ .. وقاطرةٍ .. وخرساء .. وفدفدٍ ..
الثاني : موقف التأمل في مغزى المخترع وانعكاسه الوجداني أو الشعوري ومقدار ما يتركه من جرس إذا كان صوتياً ،  ومن رؤى أن كان عينيا .
لقد وقف نزار قباني ذات مرة ازاء الهاتف ليدخله في لعبة الغزل فأصبح عنصر توصيل يحمل حرارة العاطفة و(يسكب النار على الجرح القديم )كما يقول نزار عن صوت حبيبته القادم عبر الهاتف (من خلف الغيوم ). لكن هذه المشاركة العاطفية بين الآلة كموصل والقصيدة ،  لا تتم باندماج تام . فالصوت خارجي وليس جزءاً من الحالة .
أما في قصيدة سامي مهدي : اللقاء (2) ،  فان البناء كله يقوم على تقنية الهاتف فالصوت الثاني مختزل في أجوبةيقولها  الصوت الأول ،  المتكلم . وهو الوحيد الذي نسمع صوته .
فاللقاء إذن محادثة من طرف واحد . لذا فهي مرتبكة شعورياً ارتباكا  مقصوداً يستفيد من انقطاع الصوت وعزلة المتحاورين ليوصل احساساً مشابها :
أنا اشتقت اليكم كلكم .. لكن
أقول : اشتقت
لكن هاهي الأشغال تترى
وأنا تعبان
والأطفال ..
أمس اشتقت
قلت : اشتقت
وإذ ينتهي الصوت بالانقطاع والتلاشي نحس الأزمة الوجودية التي تخفيها القصيدة وراء استعارة تقنية الهاتف (3) .
هذه المزاوجة بين الخارج ،  شكل الاتصال ،  والداخل ،  بنية التوصيل ،  تتطلب وعيا حضارياً بالمخترع ذاته والمواءمة بين الصوت والأعماق .
***
في أحد فصول ملحمة جلجامش نقرأ (4) :
وبلغت رعود الإله أدد
عنان السماء
فأحالت كل نور إلى ظلمة
وتحطمت الأرض الفسيحة
كما تتحطم الجرة .
أن هذه المزاوجة بين صوت الرعود القوي الذي يبلغ عنان السماء ،  وبين قوة الضوء المصاحب لها ،  والذي أحال ( كل نور إلى ظلمة ) بعد أن أنطفأ وهجه ،  تثبت أن الشاعر العراقي القديم استوعب الصوت والصورة واستطاع أن يزاوج بينهما بعمق مستنتجاً أخيراً ما حل بالأرض إذ تتحطم كالجرة .
لا شك أن الشاعر يصف هنا زلزالا . لكنه لا يؤخذ بقوته ويندهش بل يستعين بقابلية التوصيل من خلاله .
ولم أجد في وصف حافظ لزلزال مسينا إلا وصفا ساذجا إزاء وصف الشاعر العراقي القديم .
فحين حدث الزلزال عام 1908 في بلدة بجنوبي ايطالية اسمها ( مسينا ) لم يجد حافظ من تفسير لذلك إلا أحد أمرين (5):
غضب الله ام تمردت الار          ض فأنحت على بني الانسان
وهو يؤحذ أيضا بقوة الزلزال وسرعة التدمير فيقول :
خسفت ثم اغرقت ثم بادت          قضي الامر كله في ثواني
الاتصال هنا غير تام لأنه ينبني على مشاهدة عينية خالية من التأمل .
يقول ابن حزم في فضل العين :
(( واعلم أن العين تنوب عن الرسل ،  ويدرك بها المراد . والحواس الأربع أبواب إلى القلب ومنافذ نحو النفس ،  والعين أبلغها ،  وأصحها دلالة ،  وأوفاها عملاً (( …. )) ولو لم يكن من فضل العين إلا أن جوهرها أرفع الجواهر وأعلاها مكانا لأنها نورية لا تدرك الألوان بسواها ،  ولا شيء أبعد مرمى ولا أناء غاية منها ،  لأنها تدرك بها أجرام الكواكب التي في الأفلاك البعيدة ،  وترى بها السماء على شدة ارتفاعها وبعدها ،  وليس ذلك إلا لا تصالها في طبع خلقتها بهذه المرآة .. (6)
وهذا الفضل المثبت للعين يفترض دخولها عنصراً تعبيريا في مستجدات الاتصال .
لذا كان من الطبيعي بعد انتقال القصيدة إلى طور التدوين بالكتابة ثم بالطباعة والخط أن يطرأ تغيير في بناها الداخلية .
لقد كان ( الإلقاء ) آفة خارجية فرضت تقاليدها على القصيدة العربية فسقطت كل مزايا العين التي يثبتها ابن حزم وانصرف الجهد إلى مزايا سمعية نتيجة كون قصيدتنا العربية قصيدة شفهية .
هذه الطبيعة الشفهية ،  الإلقائية افترضت تلقيا سمعياً بالمقابل . لذا فقد قام العروض عندنا على هذه المعايير .
كما اشتقت قوانين البلاغة ،  كفصاحة المفردة والكلام وبلاغتهما ،  وفق ذلك أيضاً .
أما قوانين النقد ،  كوحدة البيت وعمود الشعر فهي بدورها نتيجة طبيعية لتلك الميزة الشفهية .
أن تأخر القصيدة البصرية عندنا أفقد شعرنا براءته ،  وكثيراً من مزاياه الفنية . فالطفل إذ يرى مركبة فضائية انما يراها كاملة كما نراها نحن ،  وكما يراها عالم الفضاء. لكن كلا من هؤلاء ،  الطفل ،  نحن ،  عالم الفضاء ،  يبعث ( رؤيته ) إلى الدماغ محللاً ( الكود ) المتفق عليه ،  معطيا الإجابة . الطفل يقف عند الدهشة ،  والمشاهد العادي  يقف عند الحيرة وربما الاعجاب ،  أما عالم الفضاء فيستجيب علميا للرسالة المستلمة عن طريق العين .
والقصيدة كذلك ،  يراها القارئ بعينيه . فان كان لا يبصر في الشعر سوى ( كلمات ) مسطرة بنسق معروف فهو لن يفهم شيئاً خاصاً واضافياً.
وقد يراها قارئ عادي فلا يجد في ( ذاكرته ) ما يستجيب لهذه الرسالة .
وربما يراها قارئ ثالث ،  خاص ،  فتصل إليه برموزها ومحتوياتها التي تغلب جرسها الخارجي الذي تعاملت به الذاكرة طويلاً .
* الانشاد والالقاء :
من الغريب حقاً أن يلتقي عند الميزة الانشادية فرقاء متعددون . وذلك في ظني أمر محير .
فقد كان طبيعياً أن يحتفظ شعر ما قبل التدوين بهذه الميزة . فالابلاغ عموماً كان انشادياً . لنتذكر مثلاً الابلاغ بالمئذنة أو بالأجراس في المدن الصغيرة .
وهذه الطبيعة الانشادية : شفهية سمعية . تنطلق من شفة وتتوجه إلى اذن . لذا لم يكن مألوفا أن يكثر الشاعر من التدوير . وكان أمرا عاديا أن يكون البيت موحداً لكي يتم استلامه بسهولةكما هو شان نظمه . وفرضت هذه الطبيعة أيضاً الاهتمام بالروي ونبذ العيوب النغمية كالأقواء .
وتجر هذه الطبيعة إلى مزالق اخرى .
فمن مكونات الشاعر الأساسية أن يكون حافظاً غزيرا ا للشعر متفننا في الإنشاد حسب الغرض المطلوب .
ولم يكن غريباً أن تتعدد الموضوعات .
فالشاعر يميل نحوه القلوب مخاطباً المفرد المفترض أو المثنى المتوهمين أو الديار الخالية .
ثم تأتي الحماسة ليكون شعرها فخما سواء بالوزن أو اختيار الكلمات .
ومن مراعاة الانشاد عندهم : الاهتمام بالمطلع والابتداء . وحسن التخلص وربط الأجزاء والخروج والانتهاء .
ومن المزايا الشفهية الأخرى : التكرار وهو أمر نجده حتى في الملاحم القديمة .
وأخيراً استكملت القصيدة الشفهية متطلباتها بأن عاد الالقاء ينتعش بسبب اختراع الإذاعة ومكبرات الصوت .
وذلك جرَّ على الشعر رجعة ذوقية انتعش بسببها الشعر التقليدي .
ولا يزال الأمر محيراً . إذ كيف يلتقي محمود درويش ونزار قباني معاً في تزكية الميزة الانشادية؟ يقول نزار (7) :
( كانت حروف الأبجدية تمتد أمامي كالأوتار . والكلمات تتموج حدائق من الايقاعات . وكنت أجلس أمام أوراقي كما يجلس العازف أمام البيانو افكر بالنغم قبل الكلمات . كنت أعتبر القصيدة نوعا من التأليف الموسيقي) .
ويقول درويش (8) :
( .. وهل في وسع الشعر أن يجدد انتاج حياته بغير هذا الحلق .. وبغير هذه الاذن .. وبغير هذا الاتصال ،  ليس مقياس الشاعرية أن يقرأ الشعر ،  من وضع هذا المقياس ،  ،  بل أن يسمع ،  أن يغنى . وأن يعاد انتاجه على مستوى علاقة .. ) .
ويذهب إلى رأي قباني و  درويش باحث آخر ألف كتابا في انشاد الشعر هو علي الجندي  الذي يرى أن الشعر العربي مختص بالانشاد وان الشعر ينشد ولا يقرأ (9) ..
وهذا المزلق خطر حقاً لأنه قد يرتب اقتران الحداثة بالانشاد وهذا ما ذهب اليه  موريه في كتابه ( الشعر العربي الحديث .. ) حيث عزا تجديد المهجريين إلى تأثرهم بالتراتيل وبترجمة الانجيل مفرقاً بين اسلوب مسيحي موسيقي واسلوب اسلامي عقلاني (10) ..
أن الحل هو في استيعاب المزايا الشفاهية لصالح القصيدة المكتوبة لتصبح مؤثراً بصرياً .. كانتقال الرقى  والتعاويذ من الكلام ،  كمؤثر صوتي ،  إلى الكتابة .
أن الضوضاء التي تصحب الانشاد والالقاء هي من أكثر معيقات الاتصال كما يرى بالمر (11) .
أن فنوناً كثيرة اضمحلت لصالح المخترع بمقابل هذه الردة الذوقية . ففن الرسائل والتوقيعات ذبل ومات بسبب اختراع التلكس وتقنيات البريد العالية (12) .
لقد صارت الكتابة مسرح العين .
بينما ظلت الإذاعة مسرحاً للاذن .
* الشعر في عالم متغير
أحاول هنا ،  أن اناقش افتراضا أساسياً تنبني عليه نظرتنا إلى مستقبل الشعر ،  وان بدا لأول وهلة اننا نهتم بماضي الشعر وتاريخيته وصلته بالانسان .
هذا الافتراض ،  موضوع النقاش ،  هو انحسار الشعر عن الحياة  اليومية وبعده عن لائحة اهتمام الانسان  العادي حتى آل شيئا فشيئاً إلى فن خاص في عالم يتغير لصالح الشعر ظاهرياً باعتباره مادة ثقافية وعاملاً حضارياً .
أعني أن الشعر العربي وهو يرافق الانسان منذ طور الرواية الشفاهية قبل نشاة الكتابة ،  حتى الآن ،  كان الفن الألصق بالانسان فرداً مستهلكاً ومنتجاً في الوقت نفسه ،  فلماذا اذن هذا الانحسار الشعري الذي نشكو منه بينما يفترض التقدم العلمي ورقي الحضارة البشرية أن يتعزز موقع الشعر وتنضاف إلى عوامل قبوله وجماهيريته حيثيات اخرى يفرزها ارتقاء الحياة وتقدمها ولا أظن أن أحدا من القائلين بشعبية الشعر وجماهيريته يستطيع اقناعنا بأن حالة الشعرفي العالم كله توحي بعكس ماذهبنا اليه.فقد اصبح الشعر فن النخية تعبر من  خلاله عن نظام خاص من منظومات الذهن وشكل منعزل من أشكال التعبير العاطفي ،  لا تجد  ،  أي النخبة ،  إلا حيزاً قليلاً لقبول اطروحاتها بعد أن كان الشعر فن المجتمع الأول في عصر الانسان الاولى .
أن اقرارنا بعزلة الشعر ونخبويته لا يعني اننا نريد تكريس عزلته أو تأكيدها .. بل البحث عن أسبابها من خلال صلة الشعر بالخارج .. بالعالم المتغير ،  يعطي فرصة كبيرة لتأمل  الأزمة ورؤية المستقبل مهما بدت قاتمه لا تدعو للاطمئنان .
لم يكن الشعر وليد الصدفة أو الاكتشاف المفاجئ كالنار مثلاً .. انه عودة إلىالاعماق  وبحث عن وسيلة تعبير تعادل ما يزخر به الكون من أسئلة عصية على الادراك
وازاء الألغاز الكثيرة داخل الانسان وخارجه كان الشعر طقسا خاصا ارتضته الجماعة وسيلة للتعبير عن هواجسها المشتركة ،  فكان الشعر وسيلة الطقوس البدائية بمواجهة الطبيعة والمخاوف ،  والألغاز وصولا إلى السحر والعرافة .
لقد كانت طقوس الديانات الأولى ،  تؤدي شعراء ،  وكذلك الأدعية والمواكب وأغاني الصيد والأفراح والمراثي والحروب ،  رغم أن وسائل انتقال الشعر محدودة بالحواس الاعتيادية : الكلام الشفوي والسماع ثم الترديد الجمعي .
إلا أن ذلك لم يحل بين الشعر وجمهوره ،  فصار الشعر أداة التعبير الانسانية الأولى حتى إذا جاءت الكتابة لجأ الانسان إلى تدوين أشعاره والاعتناء بنظمها وتدوينها وتعليقها ،  مما ساعد على سيرورتها بين الأجيال وغدت جزءاً من الموروث تتعهده الأمم والشعوب بحرص وحب لأنه جزء مهم من شخصيتها .
لقد ساعد الشعر حتى ذلك الوقت على طرح المشكلات الانسانية الكبرى التي تواجه الحياة ،  فكان وسيلة المسرح كما هو وسيلة المعبد .. وكان للمطولات والملاحم الشعرية دور انتقال المواجهة الانسانية مع الخارج إلى مرحلة المواجهة العامة أي معاينة عدة مشكلات في وقت واحد مما يتطلب ذهنا مركباً يتلقى عدة محاور في وقت واحد ..
أن هذا الافتراض مشتق من المطالب الفنية للملحمة والمسرحية فالقص في الأولى ،  والصراع في الثانية ،  يتطلبان مواجهات متعددة ،  وشخصيات أكثر تعددا .. وكان على الشعر أن يحيط بها كلها ويوصلها إلى المستمع والقارئ ملبيا حاجة الانتقال من ( القطعة ) الغنائية ذات الغرض الواحد إلى ( الملحمة ) ،  ( المسرحية ) بما تتطلبان من شروط فنية وموضوعية .
وفي هذه المرحلة أيضاً لم يقف الشعر بعيداً عن الحياة ولم يتخلف بل كان يواصل مرافقة الانسان في تعرفه واكتشافاته ،  ولم يكف عن دوره وسيلة للتعبير تحيط بالموقف ولا تعجز عن استيعابه .. ولم يكن الشعر حتى ذلك الوقت فنا غريبا أو خاصا.
لقد كان المنشدون يرددونه في الطرب ،  والمحاربون يستجيبون للحماسة التي يثيرها فيهم ،  كما كان المؤرخون يضعون بواسطته خلاصة ما يريدون أن ترويه أسفارهم الضخمة .
والمعجز في خصوصية الشعر انه يعود إلى الانسان مركزاً لدائرته مهما بدا أن تلك الدائرة تتسع مبتعدة عن مركزها .
فظل للشعر دوره في التعبير عن هموم الانسان الذاتية ،  وعن انفعالاته وعواطفه ،  وذلك سبب آخر لحضوره الحي الفاعل عبر أدور التاريخ المتعاقبة ،  وسر اتصاله بالناس واتصالهم به .
وأشد من ذلك اعجازاً في رأيي ،  شعبية الشعر ،  فالناس ليسوا متلقين جيدين فحسب ،  بل هم مؤلفون ممتازون أيضاً . أن ( روح ) الشعر لا تزال تلتمع تحت غبار الحياة اليومية ،  متوهجة عبر الأمثال والحكم والمأثورات والحكايات . انها ( وسيط ) جيد ينقل شعر الحياة ويعكس ايقاعه المتوحد بايقاع الآخرين .. والمندمج بحياتهم .
أن الاحتجاج بشعبية شاعر معاصر ما ،  وانتشار شعره في المجالس والبيوت والمدارس والمكتبات ،  غير وارد في مناقشة افتراض العزلة الشعرية . فالحديث هنا عن الجمهور لا بكونه متقبلاً استهلاكياً ،  يسمع الشعر ويقرأه بل بكونه وسطا ناقلا لروح الشعر ،  مندمجاً فيه عبر نظمه وتأليفه والاحتفاظ بجوهره في شكل جزئيات حياتية متفرقة ،  أن العزوف عن الشعر ،  في عصرنا ،  أمر محير حقاً يخالف مقدمات المنطق ونتائجه كما تفرض المحاكمة العقلية السليمة .
فالإنجاز البشرية على مستوى التقنية وتحديث الحياة وتيسير سبلها ،  يحتم الارتقاء بالفنون مجسداً باتجاهين :
الأول : ذاتي يخص الفن جنسا وما تتحكم فيه من قوانين وشروط .
فالحداثة الشعرية واللغة والايقاع والأوزان وغير ذلك هي من الأمور الذاتية التي تخص فن الشعر ( مثلاً ) وهو يتطور ويتغير مستجيباً لايقاع الحياة المتغير والعالم المتطور .
لم تعد ثمة أغراض شعرية ،  وليس من ميل كبير لشعر المسرح أو المطولات . تنازل الشعر عن بعض قوانينه التي أملتها مراحله الشفهية الأولى كالقافية ووحدة البيت .. وذلك كله من مظاهر الارتقاء الذاتي لفن الشعر داخلياً .
الثاني : خارجي يتصل بالوسط الشعري وما يتصل به من مكونات . فكما أن للشاعر مكونات خاصة ،  فلجمهور الشعر مكوناته أيضا .
أن شاعراً في أرض بلا ميراث شعري ،  لا يمكن أن يجد طريقة واضحة إلى جمهوره ،  فهو يخاطب أفراداً بلا ماض شعري ولا ذاكرة شعرية ولا خبرات قراءة. كما أن شاعراً في عالم تسوده الأمية ،  والادراك الجزئي الساذج لا يستطيع أن يبلغ مرحلة التأثير في الآخرين لانه غير مفهوم ،  منعزل وغريب ،  هذا إذا اعتبرنا امكانية وجوده  متحققة . فهو بدوره وليد عالمه ،  لا اعتقد انه قادر على تكوين ذاكرته الخاصة خارج الجماعة .. وهكذا نجد في شعر العالم الزراعي غير ما نجد في شعر العالم الرعوي من قيم وأغراض وأساليب ومفردات وصور وأخيلة ..
ولابد أن نجد في شعر عالم صناعي متطور غير ما نجد في شعر عالم بدائي متخلف .. فلكل من العالمين شعره الذي تسمح به درجة رقي الحياة والهامش الذي تخصصه للفاعليات العقلية ومنها الشعر .
أن المنطق يرشح الشعر في عالمنا اليوم لدور الموصل المبلغ بالاحتكام إلى ( التمهيد ) الذي تخلقه العلوم والفنون وهي تتطور في عالم يتفوق على نفسه ويتقدم مرتادا المجاهل والالغاز .
أن الانجاز البشري يعد عاملاً خارجيا مناسبا لازدهار الشعر وتوسيع نفوذه .. فالمعارف ترقى بالانسان إلى مستوى ادراكي جيد يتطلبه الوقوف على اسرار التأليف الشعري وهو لم يكن متهيئاً للانسان الأول المجرد من تلك المعارف .
هذه الحقيقة تستند إلى ميزات الشعر الذاتية من جهة ،  والى شروط قبوله وتذوقه من جهة أخرى .
أننا نعلم يقيناً ،  مقدار الصعوبة التي تواجه فرداً أمياً في الاستماع إلى قصيدة شعرية والتقاط معانيها والوقوف على أسرارها وحكمتها . لكننا متأكدون من الدور الذي يؤديه المذياع مثلاً أو الشاشة إذا ما قدمت القصيدة ذاتها من خلالها .
أن عناصر الالقاء أو التصوير تختصر كثيراً من الصعوبات على مستوى مادي ملموس فالشعر هنا مسموع أو مؤدي بطرق تساعد في انجاز المهمة الابلاغية للشعر .
أما الجوانب البلاغية ،  التصوير والمعاني والوسائل اللفظية فهي الاخرى ميسرة بما تقدم الحياة الحضرية للانسان من سبل ادراك وطرق فهم لم تكن للانسان الأول دون شك .
* السؤال :
يريد هذا الجزء من البحث أن يضع للسؤال عن دور الشعر في الحياة شكل صياغة مستقبلية ضمنا .
فنحن في هذا الجزء من المقالة نسأل عن سبب انحسار الشعر في عالمنا وبعده عن الانسان بعد أن كان جزءاً من يوميات حياته حتى تخيل المؤرخون أن بعض الشعوب ،  ومنها العرب ،  كانوا يمارسون حياتهم شعراً في المخاطبات والأحاديث العادية .
أننا نسأل باحثين عن الإجابة ،  مفترضين أن تقدم الحياة ووسائل العيش والادراك والفكر تجعل الشعر اكثر قبولاً في الأذهان وتنقله إلى صلب الحياة .
لكن شيئاً من ذلك لا يحدث .
أن الشاعر ،  ولنكن جريئين في تشخيص ذلك ،  غير مفهوم الا بحدود ضيقة ،  لا لأنه يرطن ،  أو لان الأساليب الشعرية معقدة ،  أو لأن الشعر لم يعد يهتم بالحياة ..
أن العزلة الاضافية التي يعاني منها الشعر ذات صلة بموقعه كوسيلة تعرف واكتشاف وحدس. فالاعماق التي كان يرتادها الشاعر ،  والغيب الذي يخترق حجبه ،  وجدت من يرتادها ويخترقها ،  لقد تخلى الشاعر عن الابهار كما انحسر دور الساحر والكاهن والعراف .. ففي العلم اجابات ترضي غريزة السؤال في الانسان .
لكن المكان الذي اخلاه الشاعر للعلم كان كبيراً .
فالموسيقى ظلت فن الجماهير ،  تسمعها وتلتذ بها كما تؤلفها وتطورها حسب متغيرات العصر وايقاعه .
ولم يقتلع دور الموسيقى أي نوع من التقنيات في عالم الصوت .
لقد ظلت الموسيقى ،  بعد أن تطورت وواكبت الحياة المتغيرة ،  وسيلة تعبير عن مشاعر وعواطف وانفعالات لا غنى للانسان عنها .
فلماذا كان الفراغ الذي تركه الشعر كبيرا إلى حد انحسار الحساسية الشعرية الموروثة ،  وانعدام نقطة الحس الشعري ،  والالتقاط الذي كانت عليه الجماهير في اطوار الحياة السابقة ،
أن استقراء الشعر بالعلم ،  والفنون ،  ووسائل الاتصال ،  سوف يسهم في كشف جوانب الازمة الشعرية .. ازمة انحسار الشعر وعزلته وضعف فاعليته .
كما أن جماهيرية الشعر يقصد بها سعة الوسط المتلقي أو ضيقة . ولا نعني بجماهيريته أو شعبيته مقدار امتثاله الهموم الاخرين وامالهم أو تعبيره عنها . فأزمة انحسار الشعر تشمل اجناسه وانواعه واغراضه كلها . فالشعر المكتوب أصلاً في شأن من شؤون الناس العامة ،  يعاني هو بدوره من تجاهل الناس له ازاء تقبلهم واستجابتهم لرسائل اخرى تقول ما يقوله الشعر بطريقة اخرى .
ولا بد من التذكير بأن طقوس الصيد والصلاة والحرب وغيرها ،  كانت تؤدى  بشكل جمعي ،  ومن ذلك تولد الأداء المسرحي جميعاً بمعنى اشتراك الكورس في تجسيد المسرحية . ولا تعني وقفتنا عند جذور الانشادارتهانن بالماضي الشعري.
فان اثارة هذا الموضوع لا تهدف إلى الوقوف عند تاريخية الشعر ،  بمعنى تحليل ماضيه   وسيرورته فحسب ،  بل تهدف إلى تلمس مستقبله وفق مسببات عزلته التي قد نفلح في تشخيص بعضها عبر وقفات تالية  .
 
 
من الانشاد إلى التأمل *
 
(( السمع : أبو الملكات اللسانية ))
ابن خلدون
ما الذي خسره الشعر بتحوله من طور الانشاد إلى القراءة ،  أي من مخاطبة ( الاذن ) المستمعة إلى ( العين ) المبصرة ،
أن الشعر في حالتي الاذن والعين يخاطب ذاكرة المتلقي ،  ولكن بظروف مختلفة تكونها في الحالة الأولى ايقاعات السمع وطبيعة الصوت ملقى ومسموعاً ،  وتكونها في الحالة النائية مشاهدات العين ووظيفة الابصار رؤية وتأملاً . وكان لكل منهما بعد ذلك قوانينه المنعكسة في التلقي والتقديم ،  وقبل ذلك في طبيعة الفن الشعري ومواصفات القصيدة ذاتها .
لقد تركت الاذن شكل استجابتها على فن الشعر بصورة واضحة ،  فكانت القصيدة وسيطا بين شفة واذن . ولم تستطع أن تغفل الطبيعة الوظيفية للحاستين ،  ويبدو الأمر ذا أهمية أن نحن وضعنا أمامنا موقع القصيدة حسب المعادلة التالية :
-شفة ،  قصيدة ،  إذن ،  ذاكرة .
ونقارنها بها أصبحت عليه المعادلة ذاتها في طور القصيدة المكتوبة :
-يد ،  قصيدة ،  عين ،  ذاكرة .
فشعر ذو رنين أو همس ،  لن يجد له فاعلية في قصيدة تكتبها يد لتصنعها امام عين .. هكذا يصبح مستحيلاً أن نفهم تقنية بصرية في قصيدة معاصرة ( كالتنقيط أو البتروالقطع  مثلاً ) أن نحن نقلناها إلى قصيدة شفوية . كما أن الأمر يصبح معكوساً أو يجب أن يصح أن نحن نقلنا طبيعة شفوية ( كالتكرار واطرادية القافية ) إلى قصيدة معاصرة . ( ولا نريد أن ندخل باب الاستحالة مسترجعين مؤثراً ايقاعيا مباشراً كالموسيقى والغناء والحداء …).
لا اعتقد أن ميزة تطورية عضوية لم تكن ذات أثر في عمليتي قول الشعر وتلقيه من بعيد ،  إذا ما نحن قارناالشعر  بالفن التشكيلي . فاللوحة ظلت وسيطاً بين يد وعين حتى يومنا .. وكذلك المسرح الذي لم يفقد كثيراً من خواصه الأولى حتى بعد ظهور المخترعات الصوتية أو الاذاعية ..
أما النثر فقد بدأ مكتوباً . أن نشأته أصلاً كانت باعتباره فنا عيانيا ،  باستثناء الخطابة بالطبع فهي ترث من الشعر كثيراً من المؤثرات كالسجع والعناية بالشكل .. وهذا بالدرجة الأولى يفسر لنا انقراضها وانحسارها جنسا نثريا مستقلاً في عصور الكتابة. ان الناثر لا يخسر شيئا من فنه وهويستجيب لشروط المعاينة البصرية.لكن الشاعر وهو يرسل اشاراته عبر الكلمات مطلوب منه ان يحيط بنظام الكتابه ويطوع فنه للاستجابة حسب جهده وقدراته وموهبتهايضا.
ان الشاعر في طور الانشاد مضطر إلى تفتيت القصيدة ( البدء بغرض ثم التدرج عبر الأغراض وصولاً إلى الغرض الرئيس ) لكي يلفت إليه الأسماع ،  وليضع متلقيه في ( الحالة ) وهذا نوع من استمالة الأذن إلى الاستماع ،  ومحاولة انتشالها من نثر الحياة وأصواتها المجانية للقيام بدور جديد هو تلقي نظام كلامي مختلف .. ذي سياق دلالي بعيد عن الاستخدام اليومي المألوف .
ولعل هذا اسهام في تفسير تفتت القصيدة العربية الموروثة وتعدد أغراضها. وهو بقدر آخر محاولة في الدفاع عن أهم صفاتها العمودية لا لتزكيتها أو اقتراحها شكلاً مستقبليا بل لبيان ظرفية تلك الصفة التعددية ،  والاشارة إلى انتفاء الحاجة لها بعد استبدال الحواس في التلقي .
 
 
*الجذر الملحمي للانشاد
*هذه الطبيعة الشفوية الانشادية في شعرنا الموروث ،  انتقلت إليه كصفة ملازمة للشعر الشفوي منذ عرف الانسان هذا الفن وقرنه بالغناء بعبارات الغناء ،  والانشاد والحداء . فليس مصادفة مثلاً أن تبدأ ثلاث ملاحم شعرية مهمةبهذه البدايات. والملاحم المقصودة هي( : جلجامش ،  الالياذة ،  الاوديسة) ولنقرأ استهلال الملاحم الثلاث (13
–    جلجامش :
هو الذي رأى كل شيء
فغني بذكره يا بلادي
–    الالياذة :
تغني أيتها الربة بغضب أخيل بن ببليوس ذلك الغضب المدمر الذي نكب الأخيين بآلام لا تحصى .
–    الاوديسة :
((غنّ يا ربّة الشعر عن الرجل الرحالة الذي هام يجوب الآفاق بعد أن دمر مدينة طروادة  المقدسة . ))
ولا أريد أن نفهم الغناء بمعناه المباشر بل بمعنى أوسع يشمل التضرع والدعاء والبـكاء …. أيضاً .
وهذا التفسير يجعل مقدمات المعلقات والقصائد الجاهلية مشاريع لهذه الأطروحة ( الانشادية ) ،  فعبارات مثل : قفا نبك ،  وأغراض مثل البكاء على الأطلال  في مستهل القصائد  القديمة ،  ما هي إلا استجابات للطبيعة الانشادية التي تتوضح جلياً في الحداء والرجز بصور خاصة .
فالحداء : صوتا وحركة وايقاعاً يعبر عن الاستجابة لسير الابل ،  والرجز يستجيب  للدواعي التي نظم فيها أيضاً كالحرب والمناجزة .
 
وقد ترتب على هذه الطبيعة الإنشادية أمور كثيرة تدخل في نسيج الشعر قديما وحديثاً وفي بنيته الايقاعية بصورة خاصة .
فالتكرار الذي نراه في صفات أبطال الملاحم ،  وإعادة أبيات كاملة ( في ملحمة جلجامش  خاصة ) ما هو إلا انعكاس لأثر العلاقة بين شفة المنشد واذن المستمع ولا يستبعد أن تكون بعض أنماط التكرار ،  اضافات وضعها المنشدون والرواة فيما بعد .. لأغراض ليست شعرية : كالرواية ولفت الانتباه .. كما يتضح أثر الانشاد في توخي الوضوح والابتعاد عن الرموز والاستعارات وكل ما يسبب غموضا في النص ،  فالاذن لا تتيح فاصلاً ذهنياً لتشكيل صورة مرئية للكلمات بعد بذلها جهداً وظيفياً في تلقي أصوات تلك الكلمات والاهتمام بجرسها المتمثل في القوافي المتتابعة . ولهذا كانت الملاحم مقفاة رغم طولها ،  ولا يستثني من ذلك إلا ملحمة جلجامش التي لم تلتزم بقافية . وهذا أمر يدعو إلى دراسة موسيقاها من قبل المختصين بأدب العراق القديم إذ لابد من وجود بدائل ايقاعية تربط السمع بالانشاد ليس التكرار إلا واحداً منها .
يقول هوميروس في الاوديسة  مبررا الوضوح والفهم السريع : ( الناس في الغالب يثنون على الأغنية التي تسبح .. اليهم نغماتها للوهلة الأولى . ) .
وهذا القول يذكرنا برأي النقاد العرب القدامى الذين تكونت ذائقتهم في ظل تلك الطبيعة الشفوية حين قالوا : أن أعذب الشعر ما كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الأفهام .. أو ينبئك صدر البيت عن عجزة .
وفي مطالع الشعر الشفوي تفسير آخر للطبيعة الخاصة ،  فنحن نجد الشاعر يجمل غرضه وظائف ذاتية مستقلة في سرعة الفهم أولاً : وفي الرواية الشفهية والاذن دون حساب لتحليل الصورة بصرياً ،  وانشاء عادة التأمل التي تناسب الانتقال إلى طور القصيدة المقروءة .
لقد استمر الشعر العربي زمنا طويلاً يواصل تقاليده الشفوية وسط عالم متغير .. للمتلقي فيه موقف موحد يمكن أن ( يقرأ ) بواسطته وفي ضوئه ،  قصيدة مكتوبة ويحيط بمعانيها ودلالاتها الكلية بينما يصر الشعراء على مخاطبة أذنه ،  فيأتوه مدججين بالفاظ ذات وقع تستدعي السماع لا التأمل ،  وبدا لذلك أن الشعر يواصل عزلته وسط قوانينه بينما تتحرك الحياة وفق قوانينها .
كان لا بد إذن أن تكسر الحداثة تلك العزلة بتأكيدها وحدة القصيدة عضوياً والتحام أجزائها وفك ارتباط البيت بالجملة الشعرية التي لا تقف عنده . كان لا بد أن يعلن الشعراء المحددون نهاية سلطة البيت الشعري بانتهاء سلطة الاذن وموسيقها .
فهل جرى ذلك اسهاماً في كتابة  شعر جديد ،  لعالم متغير ،
* وظيفة الشعر في عالم متغير 
هل يخلي الشعر موقعه لفنون نثرية نشأت في عصر الكتابة كالرواية مثلاً،  هل كف الشعر عن أداء وظيفة تأملية في عالم متغير ،  مركب الحواس ،  متشابكة  أبعاده وحدوده وواقعه ،
هل اخلى الشعر موقعه لأدوات اكثر عصرية ام اراد استخدام تلك الادوات بروح القصيدة الشفوية ،
تلك اسئلة جوهرية : تسهم الاجابة عنها ،  في تأمل الازمة الشعرية التي لا نعاني منها وحدنا … كما يبدو .
أن الشعر السماعي لا يتيح تغييراً الا داخل وسائله المألوفة ،  فلا شيء يتغير إلا من خلال بنية البيت الواحد والقافية الموحدة والوزن ذي التفعيلات الثابتة .
أن الحاجة إلى مثل ذلك الشعر ، أملتها طبيعة استهلاك الشعر ،  فالاسواق والمناجزات والارتجال والانشاد ،  تبرر استمرار الشعر في وظائفه الشفوية ،  لانها أقرب إلى تلك الاصعدة واصدق تعبيراً ،  اما نقل تقاليده إلى مستحدثات العصر كالاذاعة مثلاً ،  فهي عملية تراجع  وتأخير وتجاهل للطبيعة العصرية المتغيرة .
ونصل عند هذه النقطة إلى مناقشة ما يتركه استمرار المزايا القديمة من انفصال واغتراب متبادل بين القارئ والقصيدة .
ان الشعر الاذاعي يداعب سمع المتلقي بالطريقة المألوفة قبل الكتابة ولا تدخل الكتابة عنصراً إضافياً في تقنيات القصيدة .
أي أن التركيز على الالقاء والتأثير من خلاله وبواسطة هيأة الكلمات لا مدلولاتها والسير إلى الحاسة السمعية يجعل مهمة القصيدة ووظيفة الشعر ،  معادة ،  مقلدة ،  فاقدة لمعاصرتها . أن اختراعا جيدا ،  كالمذياع ،  يجب أن يضيف إلى مبررات وجود الشعر في الحياة ،  مبرراً آخر ،  باستخدامه في المسرحيات مثلاً أو المطولات لا أن يستثمر في وظيفة انشادية اجترارية .
 


* طبائع شفهية موروثة
هل انت ايتها الكلمات اساطير أم أنت آس  الموتى ؟
الشاعر السوريالي روبرت وسنوس
 
لم يكن الحديث عن الشعر في عالم متغير ،  محاولة لرهن عملية الكتابة بوظيفة الحواس البايولوجية ،  فانتقال القصيدة من وسيط شفوي إلى وسيط يدوي ،  واتجاهها إلى العين لا الاذن ،  لم يكن يعني تغير الاداة وظيفياً بل يشمل كذلك ميزة التخيل التي يقوم عليها الشعر .
فالكلمات في القصيدة لا تطلب استثارة معانيها القاموسية ،  بل ظلالها وايماءاتها مستعينة بالعلاقات الجديدة التي منحها ( نظام ) الشعر واستفادتها من مجاورة الكلمات الاخرى في خلق الصور التي تعد ابرز مظاهر التخيل .
ان  ذاكرة المتلقي لا تستطيع استيعاب الافق التخيلي الذي ترسمه الكلمات في قصيدة شفوية ،  لذا يظل التشبث بالمعاني المباشر مبرراً إذا ما ظل للحواس دورها الوظيفي وهو أمر تحتمه طبيعة القصيدة الشفاهية ،  أن اليد ،  وكذلك الشفة من قبل ،  تنقلان عالما تصنعه الكلمات ،  ومن المفترض أن تحلله الذاكرة المتلقية لتعيد بناءه وفق الرموز المبيته المتفق عليها بين ذاكرة الشاعر وذاكرة عصره ممثلة بذاكرة القارئ .
ويأتي ضمن هذا السياق دور الرمز والاسطورة بعد أن نحرر الكلمات من معانيها القاموسية ،  الأقرب إلى الذهن ،  والأسهل في التفسير ،  ولكن أي رمز واية اسطورة يمكنهما استثارة معنى مستقلاً إذا ما جاءا في سياق معنوي ولم يمثلا الا اضافات تراكمية للمعنى المبيت في القصيدة والخاضع لغرضها العام الذي لابد أن تندرج فيه ،
أن الرموز لا تعدو أن تكون في حالة كهذه الا معاني اخرى للمفردة وسياقات أفقية لغرض القصيدة ،  تختلط بالوظائف البلاغية الجاهزة التي تم تبويبها وترتيبها امتثالا للوضوح والافصاح والابانة التي ترادف البلاغة .
هكذا يصبح للرمز ( معنى ) مباشراً كأية مفردة وللصورة اقيسة منطقية تحتويها وترتبها في الذهن جاهزة مفهومة .
فالاستعارة كالتشبيه توجب وجود شيئين ،  يقوى المعنى في أحدهما على حساب ضعفه في الثاني  .
ويستبق النتائج منذ الأسطر الأولى . وهذا واضح في الملاحم التي بيبين المؤلفون أغراضها منذ البدء .. فكأنهم بذلك يريحون ذهن المتلقي ويهيئون حاسة السمع لدورها التقليدي بعد أن توضح اتجاه القصيدة . أن خطورة استمرار هذه الميزة تتجسم أن نحن اعتبرنا النقد يستقي أحكامه من قوانين الشعر المعاصر له ،  ويكفي هنا التمثيل بالنقد الجزئي والتجزيئي الذي ساد في المحاولات النقدية الأولى المتجهة إلى لفظة أو معنى خاص ويتجلى في تركيزها على الافهام والوظيفة الابلاغية للشعر بالمعنى العضوي البحث للابلاغ أو الايصال . فترتب على ذلك ذم الغموض والخلط بينه وبين التعقيد ،  ولنلاحظ أن كتب البلاغة تخصص أبواباً للتعقيد اللفظي تتناول المفردة بذاتها أو مجاورة لسواها .. وهذا هو أوضح تأثر بقوانين القصيدة الشفوية والامتثال لوظيفة الكلمة في الشعر من حيث جرسها أولا .
أن السمع ظهر حتى عصر ابن خلدون على رأس الملكات اللسانية وامتد ليدخل في صلب المناقشات النحوية فكان السماع قرين القياس كما نعلم في كثير من المسائل الخلافية بين أتباع المدارس النحوية المختلفة .
بل أن الطبيعة الانشادية خلقت قارئاً أيضاً يروى له الشعر مصدراً بكلمة ( قال ) أو ( انشد ) وهما فعلان مترادفان في الدواوين الشعرية الموروثة عندنا حتى بعد مرحلة الكتابة.
أن اية استجابة تأملية لا تتم في حالة القصيدة الشفوية لأن ذلك يرتب جهداً مزدوجاً لا تؤديه الحواس بسبب طبيعتها .
وكان الانتقال إلى طور القصيدة المكتوبة يستلزم التخلص من كثير من تلك المزايا الشفوية التي لا تزال مهيمنة على القصيدة وهي تشهد تغيرات كثيرة حولها دون أن تتأثر بها .
وهذا سبب مباشر لعزلة الشعر التي تساءلنا عنها .
 
* وحدة البيت .. وحدة القصيدة
في كتابه المهم عن الشعر الاغريقي يؤكد ، . أحمد عثمان أن الأغنية الجماعية لدى الاغريق كانت مرتبطة بالرقص مما اثر على طبيعتها لان الرقصات كانت غالباً ثابتة وشكلية ومستعارة ،  فاتسمت الكلمات بذلك أيضاً .
ولما شعر الاغريق بأن الشكل العروضي للاغاني الجماعية يحتاج إلى بعض التعديل ،  اتبعوا البنية الثلاثية فصارت الأغنية مكونة من ثلاثة اجزاء رئيسية . ويمكننا قياس تلك الملاحظة على شعرنا العربي عكسياً .
إذ كان ارتباطه بالغناء سبباً لتشطيره وتخفيف وحداته العروضية ليلائم اللحن وذلك ما حصل في الموشحات التي فتحت بابا لكسر ثبات البيت ذي الشطرين .. وحدثت بذلك النقلة السماعية الكبرى في الشعر بعد أن كانت في الجاهلية تتبلور في البحث عن قيود اضافية تؤكد التوافق الموسيقي كوحدة القافية والروي ( الحرف الأخير منها ) . واجدني محتاجاً هنا لذكر الأقواء والأصراف والايطاء التي عدها علماء العروض والقوافي عيوباً . فالاقواء والاصراف ينصبان على اختلاف روي احد الابيات في الحركة عن باقي ابيات القصيدة ، كقول النابغة :
زعم البوارح أن رحلتنا غدا
وبذاك خبرنا الغراب الاسود
لا مرحبا بغدٍ ولا اهلا به
ان كان تفريق الأحبة في غد
فاختلاف الروي في كلمة ( الأسود ) المضمومة عن باقي الأبيات ( المكسورة ) كان عيبا استدعى الاتيان بالمغنيات لتنبيه الشاعر إلى غلطة فتم تصحيح البيت ليغدو ( وبذاك تنعاب الغراب الاسود ) .
وهذا العيب المثبت في كتب العروض ما هو الا صدى للطبيعة السماعية التي تحكمت في الذائقة وكونت الحساسية الشعرية .
ومثل ذلك يقال في ( الاصراف ) الذي جعلوه اصطلاحاً لاختلاف الروي ضما وفتحا .
أما( الايطاء ) فهو تكرار القافية بعد ثلاثة ابيات أو أربعة وهو أمر لا ترتاح له الأذن وان تطلبه المعنى وأملته ضرورة استيفاء الغرض .
ويبدو الأمر أشد ضرراً حين يتناول الجملة الشعرية التي يوصلها البيت فالنقاد العرب اشترطوا أن يكون البيت الشعري تاما بنفسه مغتنيا عن سواه في المعنى .. وهو يحتمي بحد القافية جدارا بينه وبين تاليه أو سابقه من الأبيات في ذات القصيدة ،  فغدا البيت هو الجملة الشعرية بتمامه ،  وقد عدوا اكمال معنى البيت في تالية عيبا اطلقوا عليه مصطلح التضمين وضربوا  له مثلاً بقول الشاعر :
 
فقلت له لما تمطى بصلبه
وأردف اعجازاً وناء بكلكل
الا ايها الليل الطويل الا انجلِ
بصبح ،  وما الاصباح منك بأمثل
 
وهم بذلك يهملون دواعي المعنى من اجل اتمام البيت لان حاسة المتلقي السمعية لا تستطيع استيعاب المعنى الممتد إلى البيت التالي .
وفي مثل هذه الشروط : لا يصبح لترابط الأبيات ( معنويا ) أي مدلول ، كما ان البلاغة تعزز ذلك فالاستعارة لتتنازل عن االمعنى الاول لانها تؤدي الاخرالجديد الذي يتضح لصالح اختفاء الاول ،  ولكن لابد من أن نلحظ ( وجود ) هذين الشيئين حتى في حالة الحذف .
بل أن ( الكناية ) ذاتها وهي اختزال رمزي رائع لصورة متخيلة ،  بليغة ،  لا تكاد تجد لها تحليلا تخيلياً مناسباً لدى النقاد القدامى ،  لأنها مندرجة في مفهوم التقابل بين شيئين: محذوف وموجود ،  لخلق شيء ثالث ينبئ عنهما أكثر مما ينبئ عن تخيل جديد والا دخل باب الاستحالة والتعقيد .
فقولهم عن الرجل الكريم ،  الذي نستدل على كرمه بكثرة ما يوقد لضيوفه من نار وما تتركه من رماد ،  أنه ( كثير الرماد ) يعد مثلا لكناية مشروعه ،  مصممة لذاكرة شفوية لا يشغلها تحليل صورة بقدر ما يشغلها استلام صورة ،  اما قول أبي تمام ( ماء الملام ) فهو أمر محال استوجب الاعابة والرفض من معاصريه لاستعصاء ادراك الصلة بين الأول والثاني في خلق الركن الثالث الجديد المتخيل .
ومثل هذا يقال في أية استعارة أو كناية تفلت من شباك الأقيسة المصممة لتناسب الذوق المتكون شفاها .
ثمة جرس خفي ،  وايقاع صاخب ،  مسموع ،  خطابي واضح ومباشر،  تخلقه عملية التخيل الممتثلة للقياس البلاغي ،  ملبية حاجة المتلقي للامتثال لذوق عصره ومعارفه ووسائله الاستهلاكية ،  وهذا ما يتوفر في كنايات واستعارات  أبي تمام ومدرسته ،  تلك التي تؤسس تخيلا يدرك بالاحساس المتأني الذي يخالف الطبيعة الانشادية السائدة .
 
* الالقاء : خاصّيّة شفهية موروثة
ليست الكلمات في النظام الشعري ( غطاء ) أو قشرة  نزيلها لنعثر على المعنى المخبوء أن قاعدة كهذه ستحيل الكلمات إلى توابيت تخفي جثثا ،  تتشابه في مباشرتها واحالتها للمعنى القريب ،  السمعي المقرون بدلالة شائعة . وإذا كان هذا الدور يناسب شعر العصور السابقة للكتابة ،  فهو غير مناسب لعصور الكتابة ،  حيث صار للكلمة ظل توحيه ولم تكتف بمعنى تنقله .
انها الان ليست وسيطا فحسب بل عنصر فاعل في عملية التخيل . وفي دور كهذا لا يعود لشكل الكلمات وجرسها الا دور ثانوي ،  القافية هنا كظاهرة صوتية سوف تتراجع لتنطلق الكلمات بحرية اكبر منشئة ظلالها،  خالقة ( معانيها ) الاخرى اسهاماً في التخيل هذه الفضيلة المثبتة للنثر بحكم انطلاقه من قيد النغم ( وزنا وقافية ) عادت الان لتصبح احدى فضائل الشعر أيضاً .
فحين تحرر الشعر من اسر الانشاد وامتاز على النثر بقدرة الاشتراك في ( الشكل ) المكتوب ،  فارقه السحر والتعازيم والرقي والطقوس الاخرى المعتمدة على جرس الكلمات في أداء وظيفة الابلاغ .
فالشعر بخضوعه ،  هو الآخر ،  لقوانين الكتابة ،  كان يحاول الا يقع في قيد جديد ،  اضافي يحتمه نظام النثر ،  أو الشكل الجديد المكتوب للشعر .
لقد كان الشعر بهذا ،  يجاري ايقاع مرحلة جديدة ،  يلائم بكثير من الصعوبة ،  ذاكرة عصر جديد ،  وايقاعه ،  وذوقه ،  ووسائل استهلاكه.
ويجدر بنا أن نذكر هنا بما رافق الكتابة من تحولات حياتية هائلة .
أن نظام الحياة يتغير ،  وكذلك مظاهرها المختلفة .
ولتكن الحرب مثالاً محدداً نجري عليه اختبارنا لتخلف القصيدة الشفوية . فإذا كان الشاعر يستطيع أن يكون محفزاً ومشجعاً في حرب تعتمد المواجهة الفردية ( رجل ازاء رجل ) ،  فانه لا يستطيع أن يفعل ذلك في حرب تتطور فيها الة الحرب وما اخترعه البشر من اجهزة بدائية بالقياس إلى عصرنا ) ترسل نيرانها من بعيد ،  ومن وراء استحكامات قوية لا نزال نجد اثارها في المدن الاسلامية القديمة ،  وطرق بنائها وفنون عمارتها .
أن المحارب اصبح يواجه عدوا لا يراه . يرمي اليه ناره ولا يواجهه الا في ذروة المعركة حيث لا فرصة لقول شيء شعراً كان ام نثراً .
هنا تصبح الحرب ( حالة ) لا موقفاً عابراً ،  حالة يتهيأ لها الشاعر قبل وقوعها ويستعيد أجواءها بعد انتهائها, أما دوره المباشر فيها فقد انتهى تماماً .
وذلك اكسب الشعر فرصة انعاش المخيلة وتنشيط عملية التخيل بمقابل تخليه عن مهمة التحريض ( الصوتي ) المباشر من خلال الاراجيز والاهازيج التي كانت تصاحب استعداد المعسكرين للقتال والمبارزة .
وهذه المهمة الجديدة لا تنفي اسهام الشعر من قبل في ( صنع ) مخيلة أو التعبير عنها مخيلة عامة جمعية عناصرها مشتركة ،  تغيب فيها الخصوصية أن الفرق بين المهمتين يلخصه الفرق في التعبير عن حالة والتعبير عن موقف…… لقد ذاب الفخر الفردي وتصوير البطولة المفردة بعد أن اتسع مدلول الحرب وامتزجت رؤاها حتى صارت حالة .
ولم يكن أمام المتنبي بد من أن يغير نظام القصيدة الحماسية استجابة لمهمتها الجديدة مدخلا المعتقدات والأساطير والصور . موغلاً في العمق ومازجاً احياناً بين أكثر من صورة ،  الأمر الذي استعصى على أقيسة البلاغيين الجاهزة كقوله في فتح سيف الدولة لقلعة الحدث وما فعل بجيش الروم عند هجومه على القلعة .
ضممت جناحيهم على القلب ضمّةً
تموت الخوافي  تحتها والقوادم
فالتخيل هنا لا تؤديه ذاكرة اجترارية ،  تصف الواقعة من ( موقف ) الحماسة ،  بل ذاكرة مركبة تستدعي مشاعر وانفعالات ورؤى .
أن المتنبي يستفيد هنا من الجيش التقليدي إلى مقدمة ومؤخرة وقلب وجناحين ثم ( تستدعي ) ذاكرته ما توحيه الاجنحة والقلب من تشبيه الجيش بطائر ينزع عنه سيف الدولة ريش الخوافي والقوادم ( التي لا يطير بدونها ) .
فيعود ضم الجناحين على القلب اكثر قسوة من نسبته إلى نظام الجيش .
لقد قامت المخيلة هنا بمزج صورتي الجيش والطائر بقرينة لغوية واحدة هي الأجنحة والقلب ،  ولكن باثراء عملية التخيل التي تؤدي في النهاية إلى ابراز ما للمدوح من قوة ،  وما اصاب جيش العدو من انكسار .
بذلك تكون وقفه المتنبي هنا تأمليه لا انشائية وصورته تخيلية لا وصفية سواء في منطلقها عند النظم ،  أو عند تلقيها . في وقفة المتنبي استيعاب لحالة كونتها الواقعة كلها وليس التعبير عن ( موقف ) عابر منها .
لقد حسب الشعراء المقلدون دوماً ،  أن ملامح القصيدة المتبلورة في وجهها الشعري مهددة بأوصاف النثر الذي ارتبطت به عن طريق الكتابة . فالقصيدة المقروءة لابد لها أن تختلف عن قطعة نثرية مقروءة ،  وحسب المقلدون أن الطبيعة الانشادية الموروثة عن عصور ارتباط الشعر بالغناء والحداء والانشاد . هي العلامة الفارقة في ذلك الوجه الشعري المهدد بالافناء لذا حاولوا جهدهم احياء تلك الطبيعة سواء بتثبيتها فنياً داخل القصيدة أو بإضفاء عوامل خارجية غير شعرية عليها .
فمن البواعث الفنية المنقولة وراثة يمكن أن نضرب مثلاً بالعمود الشعري الذي جاء اقتراحه في العصر العباسي ( ردة ) ذوقية واضحة ازاء تغير ايقاع الحياة لصالح شعر جديد متحرر من ثبات المطالع وتعدد الأغراض وقدسية البيت الموحد ذي الشطرين ،  موحد التفعيلات ،  المختوم بقافية القصيدة كما أن العنت الذي لاقته حركات التجديد تؤكد استحواذ المزايا الشفوية ( وبعضها شكلي ) وسيادتها في مقاييس النقاد والشعراء . اما العوامل الخارجية فيمكن أن نمثل لها بالميل إلى نظم العلوم والاداب الشكلية وانتشار أغراض لا شعرية كالتاريخ الشعري والألغاز والألعاب الشكلية ( قراءة الأبيات من الآخر إلى الأول أو نظم قصائد معجمة الكلمات ) وواضح أن تلك الأساليب المفارقة للتطور ،  تعتمد أصوات الكلمات لاايحاءاتها ،  وظاهر النظم والتأليف دون اعماقه .
لذا عاد الالقاء ليزدهر من جديد وريثا للانشاد وتعبيراً عن استمرارية التقاليد الفنية في نوع ،  يجب ان يستجيب للتطور .
الخطورة هنا لا تكمن في شكل التوصيل في جوهره . فالشاعر يبحث عن أدوات تقوي قصيدته القائيا في حلم الافتراق عن النثر . وهكذا ساد الفهم الخاطئ لشعرية القصيدة ( تمييزاً لها عن النثر ) وهكذا أيضاً حوكمت النماذج الحرة الأولى في شعرنا العربي .
 
لقد جرى الاحتكام إلى ما فيها من ( انشادية ) ضمن خطأ موسيقى سائد يعد الشعر قسيما للنثر باعتبار الوزن والقافية في الأول وغيابهما في الثاني .
أن القصيدة الحرة وهي توزع وحدات الوزن الشعري توزيعاً متنوعاً حسب الحالة ومقتضيات الأداء . وتكسر رتابة القافية الموحدة وشطري البيت الشعري الموروث انما تستجيب لذائقة عالم يتغير في موسيقاه وازيائه وطعامه ومسكنه وطرق مواصلاته ووسائل عيشه كلها ،  فمن غير المعقول بعد ذلك ان تحافظ القصيدة الحرة ( الحديثة في وقت اقتراحها ) على امتثالية سلبية للموسيقى التقليدية المتلخصة في الوزن والقافية .
ومن هنا كان على الشعراء ،  اندماجاً في عالمهم المتغير ،  ان يتعاملوا مع مخترعات عصرهم أيضاً وفق الطبائع الجديدة للقصيدة التي تقول ما تريد همساً وباحالات واشارات مستحدثة ومعارف جديدة .
لكن اقدم المخترعات واوسعها انتشاراً ،  وهو المذياع عاد ليحيي ما أوشكت القصيدة الحرة ذات الطبيعة البصرية ( نسبة الى حاسة البصر ) ان تجعله نسيا منسيا من الطبائع القديمة وفي مقدمتها الالقاء البديل المعاصر ،  في الاقتراح السلفي الجديد ،  للانشاد .
 
*المذياع : صورة عصرية لوعي متخلف
أن الشعر اذ يتحرر من قيد يجد نفسه داخل قيد آخر . يبدو في ذلك تخليص لتاريخ الشعر الذي هو تاريخ صراعه ضد القيود . فالنثر اقرب الفنون إلى الكتابة ،  اوجب على الشعر قيوداً كثيرة صارت من مزاياه لاحقاً . اذ فقدت القصيدة اجنحتها وارتبطت بارض بيضاء هي الورقة عليها راح الشاعر يؤسس مخيلة ويسورها بالصور ويؤثثها بالاساطير والرموز . كانت القصيدة تنتقل تحت وصاية النثر من طور الرواية الشفوية إلى طور المعاينة : من الانشاد إلى التأمل . وكان عليها أن تجد قوانينها الجديدة . أن تعثر على قيود بديلة لا تقل جوارا وعسفا عن سابقاتها . وباختراع المذياع راح النثر يعود إلى طور الانشاد هذه المرة . واستوجب الامر أن يعود الشعر كذلك .
فالاذاعة كانجاز صوتي تنويجا لعالم من المخترعات السمعية . وهكذا أخذت تنقل مزاياها الجهرية شيئاً فشيئاً إلى القصيدة بازدهار السماع الذي تنعشه الإذاعة وينقله المذياع إلى كل اذن .
كما تأثرت مهمة القصيدة الابلاغية بهذا المخترع فترتب لذلك ظهور مزايا فنية تتعلق بالوضوح وانكشاف الغرض ومراعاة المتلقي مستمعاً مرة أخرى . وكان ذلك يجري على حساب القصيدة الحرة التي اقامت حداثتها على اساس التخيل والتأمل .. بينما أجرى ذلك المخترع عملية انعاش سريعة لنمط من الشعر المعتمد على الالقاء . اوشك على الانقراض .
وليست المنافسة هنا لصالح الحداثة على أية حال . فالشفة عادت لدورها الاولى ،   كما عادت الاذن متلقياً أول وضاعت تأملات القصيدة الحديثة وعالمها المتخيل الحدسي  جزءاً فجزءا .
أن ذلك اسهم ايضا في خلق قواعد نقدية متخلفة ترث المزايا الانشادية لتصنع منها نظما وقوانين .
بهذا وحده نستطيع أن نفهم مسألتين:
–    المباشرة والخطابية السطحية في الشعر التقليدي
–    ورفض الذوق العام للمحاولات التجديدية القائمة على هجر الالقاء كوريث للانشاد .
واعتباره عنصراً خارجياً لا شعريا .
من هذه الخلخلة الذوقية والفجوات التاريخية ما بين استقرار القصيدة المكتوبة وعودة القصيدة الانشادية نستطيع أن نتلمس جزءا من معاناة الشعر وعزلته .. فهذا احد وجوهها متمثلا في التنازل عن وسائل علمية مضافة يفترض انها تعزز تطوره وموقعه في الحياة .
لم تصبح الإذاعة حتى الان وسيلة انتشار للشعر بالمعنى الواسع ،  فلا الدراما الشعرية مزدهرة ،  ولا اقتراب الجمهور من الشعر اذاعياً يتم بشكل متواصل . بينما مقابل ذلك يتم ازدهار انماط من الشعر الشفوي الذي يبعد المخيلة والتأمل ويشيع جوا خطابياً لا تنتعش فيه الا ذاكرة آلية تحلل الكلمات وفق معانيها الرادفة . أي تعاملها بكونها الفاظا ذات معنى . وذات جرس يخدم النغم المكشوف المباشر المتمثل في القافية.
 
* دوافع .. واستنتاجات
لماذا البحث في تاريخية الشعر ونحن نسأل عن موقعه في عالم متغير .
–    لاننا نرى أن الخلاف ( الفني ) الظاهري اعمق من مجرد الخلاف حول اشكال مستحدثة واخرى تقليدية ، –          أو حول توزيع التفعيلات وتوصيف الشعر والنثر لتحديد جنسهما ضمن الاجناس الأدبية .
أن الاشكال اوعية أفكار ،  وانعكاس طبائع وتجسيد وظائف .
وهذه السلسة من الوقفات ،  رغم استحواذ الايقاع على مساحتها ،  محاولة في ارجاع الازمة إلى جذورها الاستهلاكية أي إلى تلقي الشعر صوتاً وكلمة مكتوبة مقروءة ثم كلمة مكتوبة مسموعة .
 
* الخط عاملاًً بصرياًًً
بالانتقال إلى مرحلة التدوين ،  أضيفت إلى اللغة وظيفة بصرية جديدة لم تكن تنطوي عليها المفردات حين استخدمت كأصوات منطوقة قبل أن يعرف الانسان الكتابة .
هنا أصبح للمفردة إلى جانب دلالتها وهي منطوقة مسموعة ،  مستوى دلاليا اخر باعتبارها مكتوبة مرئية .
وازاء هذه الوظيفة الجديدة للمفردة ،  كان لابد أن تطرح مشكلة التوصيل ،  فالكتابة الان وسيلة اتصال تخرج باللغة إلى قناة جديدة حين تشرك العين ،  حاسة الابصار ،  في عملية تلقي الدلالات . للكلمة الان هيأة وكيان بعد أن كانت صوتاً . فالكتابة ” محاولة للتعبير عن الواقع الصوتي .. أو نقل الظاهرة الصوتية السمعية إلى ظاهرة كتابية مرئية ” (14) وذلك الانتقال وذلك الانتقال يرتب على تلقي الكلام متطلبات جديدة . فالاذن وحدها كانت تشارك باعتبارها مركزاً للسمع ،  في تحليل الأصوات اللغوية بينما تتعطل الحواس الاخرى . لقد تآزرت العين بعد مرحلة الكتابة مع الأذن لإعطاء الدلالات حضوراً مجسداً وصارت الكتابة ” محاولة لنقل اللغة من بعدها الزمني المنطوق إلى بعد مكاني مرئي ” (15) .
لقد ترسخت بالكتابة ،  وظائف بصرية لم تكن مسندة من قبل للكلمات وأصبح لهذه الكلمات حضور ( جسدي ) يشكل جزءا من دلالتها . ففي مرحلة النطق كان صدى الكلمات ذا أثر واضح في تشكيل وصفها من حيث التأثير في سامعها.
وهذا يعلل اعتماد المقاييس البلاغية لدى العرب على الأصوات التي تتحصل من النطق فشاعت ضمن المقاييس البلاغية مصطلحات مثل السهولة أو التعقيد وتنافر الحروف والكلمات .. فمن شروط الفصاحة في المفرد ” خلوصه من تنافر الحروف والغرابة ومخالفة القياس ” (16) ومن شروط الفصاحة في الكلام ” خلوصه  من ضعف التأليف وتنافر الكلمات والتعقيد ” وظل العمل بهذه المقاييس سائداً لارتباط الشعر خاصة ،  والأدب عامة بالالقاء الشفهي والتلقي السمعي قبل أن تترسخ بالكتابة وظيفة البصر ودور العين في تحديد الاستشارة المطلوبة .
أن الكتابة أضعف دون شك العوامل الخارجية المسندة إلى الكلمات باعتبارها رموزاً صوتية ذات معان محددة في الذهن وعادت إلى الكلمات معانيها المرتبطة بهيأة أو صورة ،  فكانت بذلك تعود إلى أصل نشأة اللغة حين لجأ الانسان الأول إلى الكتابة الصورية لتجسيد المعنى المقصود .
لقد عرفت الكتابة في فجر التاريخ في العراق القديم ومصر والصين ومنها انتقلت إلى العالم . فلا غرابة أن تظل الكتابة العربية ذات جماليات خاصة ،  صورية تخاطب العين ،  وجمالية تكمل المعنى .. وهي الوظيفة التي أنيطت بالخط العربي الذي يجب علينا أولا أن نفرق بينه وبين اللغة العربية التي سبقته دون شك معبرة عن المعاني برموز صوتية بينما كان الخط يرسخ شخصية جسدية للكلمات تنضاف إلى معانيها الراسخة في الذهن ،  والمستثارة بالنظم والتأليف . ولما كان الخط بتعبير ابن خلدون ” من جملة الصنائع المدنية والمعاشية ” (17) فقد طرأ عليه الترف والفقر تبعاً للازدهار والانحطاط في مستوى المعيشة … فكان الخط أولاً انعكاساً للترف والاستقرار ،  والتجويد فيه ضرب من اكتمال اسباب المدنية مما يدفع الانسان إلى التفكير بالوسائل قبل الغايات . وهو في ذلك شأنه شأن الملبس وسواه من مستلزمات الحياة التي نشأت أول أمرها تعبيراً عن حاجة وضرورة ،  ثم طرأ عليها التجويد والتفنن حتى صارت ،  وهي وسائل محددة ،  غايات في ذاتها .
والى مثل هذا نستطيع ارجاع المبالغة في وضع قواعد ثابته وتفريعات كثيرة للخط العربي الذي تفرد بجماليات خاصة بين اللغات المكتوبة حتى صار وسيلة تزينية فدخل إلى الفن الشكيلي ليعطي اللوحة ابعادا بصرية جديدة تستثير خبرات العين ليس من جهة اللون أو الشكل بل من جهة المفردة أو الحرف (18) .
وهذه الاستعانة بالبعد المكاني المرئي للكلمات نقلت اللغة إلى وظائف جديدة في تزيين المعمار مثلاً ،  كما كانت من قبل ذات وظيفة مشابهة حين كان العرب ينقشون على القبور حكما ومواعظ واشعاراً ذات دلالات فكرية .
لقد أضاف العامل الديني ،  بعد ظهور الاسلام والدعوة إلى التعلم ،  سببا قويا للحاجة إلى التدوين وما تلاه من حاجة نشرء الدولة ودواوينها . وهذا الامر استمر كمؤثر حتى في وضع أصول الخط العربي الذي خدم كتابة المصاحف وساهم في الزخرفة والتزويق (19) .
أن اعتماد الخط وسيلة للتوصيل ،  بما جاء معـه من جماليات جديدة ،  رتب أن يكون غاية في ذاتة مما أشرك العين في لعبة دلالية اخرى لم تكن واردة في عصر الانشاد والخطاب الشفهي . وهذه النقلة تجسدت في الشعر فالخط الذي كتبت به الدواوين صار جزءا من عامل بصري لا يمكن اغفاله عند التوصيل لما تتركة الكلمة المكتوبة من استثارات وظلال جديدة . فالتعقيد الذي اغفاله عند التوصيل لما تتركه الكلمة المكتوبة من استثارات وظلال جديدة . فالتعقيد الذي فرضته الأشعار المخطوطة يتجاوز الدلالة الصورية المباشرة التي اقترنت بالالفاظ في أطوار الكتابة الأولى ( المسمارية مثلا أو الهيروغليفية .. ) فالتغريب الان يتم على مستويات متعددة : فالكلمة ذات معنى مبيت متفق عليه يستثار بالتلفظ ثم أصبحت ذات معنى يستثار بالنظر مصحوباً بهيأة مجسدة ومزوقة بالخط المترف هذه المرة .
ويجب علينا أن ننتبه لما حصل من تغيرات في هيأة الكلمة بعد مرحلة التدوين الخطي . فقد أصبحت لها شخصية ساهم الخطاطون في تكريسها حتى وهم يخطئون في النسخ أو يضيفون ظلالا شكلية للكلمة دخلت في بنيتها شيئا فشيئاً ولم تنفصل عنها لأسباب ليست بعيدة عن استنساخ المصاحف وقدسية الكلمة المكتوبة وعدم التلاعب بصورتها فشاع ما كان أصله الخطأ في الاستناد وتركز في الذهن .
ويبدو أن الأمم الاخرى عانت ذلك ايضاً .
يقول أولمان  مبينا جناية النساخ ” أنصاف المتعلمين ” انهم مسؤولون ” عن كثير من الأوهام في الهجاء الانجليزي ” (20) ضارباً المثل بالحروف الصامتة التي لا تلفظ . وهي مقحمة بالخطأ لأن الأصل اللاتيني لتلك الكلمات لم يحتو على تلك الأحرف الزائدة .
يتحصل لنا من هذا التفريق بين الخط واللغة أن الاضافات الجمالية التي غدت جزءا من التلقي البصري للنص هي جزء من عوامل خارجية واستعانات غير مقصودة بالتأليف أصلاً ،  والا فان اللغات الأخرى التي تستعين بالهجائية العربية ستكون مطابقة بظلال من المعاني الجديدة التي ليست من الواقع الصوتي لتلك الكلمات في الأصول المنطوقة لتلك اللغات .
 
الخط : وصفة حداثة أم تراجع ؟ 
بعد هذه الوقفة ،  لابد أن نتأمل المحاولات الجديدة التي تقترح الخط حلا لمشكلة التوصيل   . أن الناظر في المخطوطات العربية سيجد (21) أن جماليات الخط تدخل في نسيج العبارة وصلب التأليف سواء أكان المؤلف دينياً أم أدبياً .
إلا أن وظيفة الخط تأخذ بعدها كوسيلة توصيل في مخاطبة العين حيث يراد التأثير في القارئ . وهذا يفسر لنا احتشاد كتب الجفر والفلك بالاشكال التي تؤلفها الكلمات الخالية من أي معنى أحياناً .
فكما كان السحرة وبعض الكهان يسجعون دون ( قصد ) التأليف أو توصيل المعاني ،  فالجفريون والفلكيون ،  بمعنى ربط الطالع بحركة الأفلاك يحاولون اعطاء كلامهم قوة مؤثرة اضافية مستعينين بهيأة الكلمة ،  محاولين نقل ( الاثر ) إلى القارئ كما كان السحرة من قبل يحاولون نقل ( الأثر ) باللفظ .
ولكن .. الا تتغير قوانين الأثر المخلوق في المتلقي بعد أن تغيرت الوسائط ،
بكلمة أخرى فالبلاغة والفصاحة ستتغير مقاييسها لان ما هو معقد أو متنافر سيصبح سهلاً بالمعاينة البصرية ويترتب على ذلك أن ( بلاغة الاثر ) سوف تتغير بتغير الوسيط المؤثر فالاشكال الجفرية والاعداد أزاحت الكلمات لان الاثر المطلوب قد يخلق بالهيئات دون المعاني … احتكاماً إلى الحاسة هذه المرة . ولا يستطيع قارئ الشعر الحديث وناقده أن يتغافل عن المقترحات الكتابية لتحديث القصيدة العربية .
فالعين مقصودة الان ومخاطبة لغرض الحث على الاستثارة . وهذا يفسر لجوء بعض الشعراء إلى الاسهم والمربعات والمثلثات والخطوط في قصائدهم ،  وكأنهم يقدمون المثل المقابل لاستعانة الرسامين بالكلمات في لوحاتهم .
أن العوامل الكتابية هنا لا تعتني بالشخصية المترفة التي أعطاها الخط العربي للكلمات بل تحصد حاصلاً انبته الخطاطون والنساخون عبر قرون عديدة حتى قرنوا اللفظ بهيأته المكتوبة ..
وقد استخدم أدونيس خاصة كثيراً من الأشكال الخارجية في ديوان ( مفرد بصيغة الجمع ) الذي بدت فيه حماسته لهذا المؤثر الشكلي دون أن يضيف ما يعزز احساسنا بالمعاناة الشعرية المنقولة الينا عبر هذا المقترح الشكلي .
اننا نحس بالاعتماد على الواقع المرئي للكلمات والاشكال ولكن بتقدم هذه الوسائل حتى تصبح غاية في ذاتها .
وهذا يؤكده تفتيت العبارة بتناظر محسوب والتلاعب بالاحرف تلاعباً مقصوداً .
ولكن محاولة أدونيس هذه تعتمد المنطلق الديني أيضاً وتحيل إلى المعاني التي تذكر بالكتابة الطقسية للمصاحف :
أحد = دح1            الأرض
دائماً يصنع طريقاً لا تقود إلى مكان
أ ، 1
منفية بقوة الحضور
كالهواء
وهي هي
كل شيء يتغير تبقى
أن1 = أن1
أن هذا المجتزأ يعتمد تفتيت حروف ( أحد ) الدالة على الله وحروف الفعل ( دحا ) بدلالة السهم المضاعف المشير إلى الأرض مذكراً بخلق الأرض وبدء طريق الانسان عليها حاملاً عذابه بأناه ( أنا ) هي الباقية أي الجوهر الانساني(23) .
* * *
لقد كتب أدونيس هذه التجربة عام 1975،  ( بدأ بها عام 1973 ) ولم يكررها في دواوين لاحقة بمعنى اعتمادها أساساً في الاتصال لغرض التوصيل .
إلا أن أثر هذه المحاولة الادونيسية سوف يقود إلى ظهور تجارب لاحقة تعتمد الخط العربي كاملاً دون تنقيه جماليته الشكلية التي ارتبطت أصلاً بالتدوين القراني . ففي عام 1981،  نشر الشاعر المغربي محمد بنيس ( بيان الكتابة ) (23) الذي تعدى حماسة البيانات الشعرية إلى اقتراح الخط المغربي ( دون سواه ) شكلاً لكتابة الشعر الحديث وكأنه يعزز بهذه الدعوة نوعاً غريباً من الحداثة يقع في مشكلة جديدة وهو يدأب مخلصا للخروج من مشكلات التوصيل في عصر تعقدت وسائل اتصاله واشتبكت إلى حد التداخل .
 
بيان الكتابة : المقترح المغربي لحداثة تراجعية :
بانتقال الشعر إلى مرحلة التدوين ،  ضعف العامل الصوتي وفقدت العناصر الصوتية تأثيرها المصاحب للنص شيئاً فشيئاً .
لقد جرى التأكيد ،  من خلال هجر اللفظ المنطوق ،  على هيأة الكلمة ومكانها في البياض المخصص للنص ،  الذي تملأه الكتابة عادة .
أن الكتابة تفرض ” طابعاً خطياً مستقيماً وسمة تنابعية ووجودا مادياً في الفضاء لا يملكه الكلام .. ” (24)
وكان لابد أن يحاول الانسان كسر الرتابة الجديدة التي خلقتها الكتابة ،  بمقابل الرتابة القديمة التي كانت تخلق بالأصوات .
ومن أجل ذلك قامت محاولات كثيرة معروفة في التراث كما أنها شائعة في الفنون البصرية الحديثة كالاستفادة من الاعداد والخطوط والمساحات الهندسية والحجوم وكذلك من التقاط والزخرفة القائمة على التلاعب بالتقاطع والتوازن والتناظر وخلق الزوايا والأشكال التي تتيحها مبادئ التجاوز والتقابل والتعاكس وسواها …
أن المحاولات ( الحديثة ) لا تتعدى كثيراً  المحاولات الزخرفية القديمة لأن وظيفة الشكل في الحالين تزيينية لا عضوية .
وهذا الوصف لوظيفة الشكل يرتب النظر اليه ،  أي الشكل ،  باعتباره كماليا أو تكميليا .
وانه شيء خارجي يجلب إلى النص بعد الانتهاء منه . فهو زائد ووصفه بالشكلية الخارجية يسلبه أية وظيفة بنائية أي لا يمنحه دوراً في التوصيل رغم أنه مقترح يلبي حاجة الاتصال بالاخر الشكل في هذا المقترح يظل طرفا في ثنائية ازلية : طرفها الاخر هو المضمون . وهنا يغدو الشكل قشرة أو غلافاً ولا يندمج ضمن عناصر النص التي ينبني بها ويقوم متخذاً هيأته النهائية .
لقد ألهى الشكل الرسامين الانطباعيين مثلا فجعلهم يركزون جهودهم في نقل ما ( تبصره ) عين الانسان لا ما ( يعرفه ) عن الاشياء بعلمه وادراكه .
وهكذا صنع الخطاطون العرب قواعد علم مكتمل لكنه منعزل قائم بذاته . وأصبح من المستحيل صهره في بناء مجاور سواء كان رسما أم شعراً فلا بد أن يطغى كمال الحرف المخطوط وتسود روحه أو يشع طقسه حتى يثقل على العمل ولا يذوب في بنائه .
لقد أعطت المخطوطات العربية هيأة مخصوصة للخط العربي يتدرج الاحساس بها من البصر إلى الادراك العقلي . فأول ما يستثير البصر في المخطوط العربي ،  ذي المادة النثرية أو الشعرية ،  قدسية الكلمة المخطوطة وبهاؤها المتكامل بشخصيتها التي يتآزر الماضي ( كزمن مدرك ) والحاضر ( المكان المرئي ) في ترسيخها ونقل تأثيرها الذي غدا شيئا فشيئا تأثيراً رتيبا فيه من التماثل والتتابع مثل ما في الكتابة العادية وما في اللغة المنطوقة .
ولما كان الخط يرتبط بصرياً بالكتابة التي حفظتها المصاحف فقد انتقلت اليه قدسية مشابهة .
أن أي مشروع خطي انما يستمد جزءا من كيانه من ذلك الاشتراك المرجعي الذي لا ينفصل عن وظيف الخط الجمالية .
لكن جزءاً اكبر من كيان المخطوط يتحصل في وعي القارئ من ( مضمون ) المخطوط وما يرسل بواسطة الخط من معان مقصودة أصلاً ،  تجد في المخطوط ( وعاء ) مناسباً لها .
وحين زخفت المخترعات الطباعية الحديثة على عالمنا ،  تلمس المنتج ما في هذه المخترعات من اختصار للجهد والوقت من الحفاظ على جوهر الرسالة المبلغة إلى القارئ . لذا احتل الحرف الطباعي مساحة البياض وأزيح الحرف المخطوط إلى هامش ضيق من الاستخدام التكميلي كالعناوين مثلا ..
وحتى هذا الجانب المتبقي لم يجد فيه الخطاطون فسحة كافية اذ حلت في السنوات الأخيرة ،  الحروف الجاهزة بأحجامها الكبيرة وأشكالها المبتكرة محل المخطوطات من العناوين الكبيرة ..
أن هذا الانتقال يفرض ،  رغم كونه خارجيا ،  تبدلا في البنى إذ لم تعد للنص المكتوب تلك الرهبة أو الرصانة التي ترتبط بالخط .
وهكذا فقدت بعض النصوص مكملاتها الطقسية إذ لم يبق معنى لتسخير الكتابة عاملاً مساعداً في توصيل التجربة الصوفية مثلاً مادام الحرف المطبوع قد حل محل الحرف المخطوط الذي يخلق بعد امكانيات للافكار الموصلة في مثل تلك التجارب . ولكن هذا الانتقال فرض تبدلا مقابلا إذا لم يعد بالإمكان الحديث عن شعر مخطوط تدخل فيه الكتابة عنصراً بنائياً مكملاً عناصر النص الآخرى .
فالغربة في النص الصوفي المطبوع ،  المقتلع من طقسه هي نفسها ،  الغربة التي نحسها في نص حديث مخطوط ،  يرتبط من خلال الاثر بأنواع من الشعر تتخذ الخط استعانة خارجية أو موصلاً شكلياً .
وكان هذا هو التحفظ الأول ،  الجوهري رغم شكليته ،  على مقترح الشاعر المغربي محمد بنيس الذي تضمنه ( بيان الكتابة ) الصادر 1981،  .
ففي شبكة معقدة من وسائل الاتصال المعاصرة ،  وبعد أن دخلت خبرات القارئ البصرية طوراً جديداً من التكيف ،  لا نستطيع العودة إلى وسائط قديمة ( تغربت ) بفعل الانقطاع الزمني أياً كان مبرر أحياء تلك الوسائط .
أن الدعوة إلى ( تغيير مسار الشعر ) (25) ،  ( خرق الجاهز ) بواسطة ( انفتاح النص على البصر .. ) واقتراح العودة إلى الخط المغربي ،  التي نصت عليها فقرات البيان المذكور ،  تتقبل الفحص والمراجعة . فخلافاً للبيانات المتحمسة السابقة ،  يقدم بيان بنيس وصفه محددة هذه المرة .
الوصفة المقترحة تبدأ بحجة الخلخلة والتغيير لكنها في سياق اثبات جدواها ،  تقع في الشكلية .
أن قول البيان ” ليس الخط حلية تضاف إلى الكلام ،  إلى الصوت ،  إلى الزمان … ”
يحاول جعل المقترح مناوئا للانشاد . فكأن رفض مقترح الخط المغربي ،  يعني العودة ( إلى الصوت .. إلى الزمان ) أي إلى جعل الكلمات في الشعر اشارات ( أو رموزاً ) صوتية . وهذه مغالطة كبيرة يقع فيها البيان .
فالتقابل هنا يتم بين كتابة شعرية سائدة كشكل مطبوع يتسع لبنى متنوعة ،  وبين كتابة مقترحة كشكل مخطوط تستدعي زمنا ماضياً محدداً لتحوله ،  بالكتابة ،  إلى مكان مرئي .
ولا أستطيع بكوني قارئاً أن أفصل بين ذاكرتي وذاكرة الكتابة الخطية التي غدت بدورها منظومة من الرموز والاشارات . بمعنى أن مقترح تغيير مسار الشعر بوسيلة اتصال بصرية هي الخط ،  تعيد إلى ذاكرتي حضوراً زمانياً لا يمكن فصلة عن هيأة الكلمة الشعرية المخطوطة بالخط المغربي تحديداً .
ومادمنا متفقين مع قول البيان بأن الخط ليس حلية ،  بل بنية ،  فأن التحرر من دلالة هذه البنية المقترحة أمر مستحيل . وهذا هو الاعتراض الجوهري الأول الذي أحس به بنيس فسبق المعترضين ليورده في البيان قائلاً ” بعضهم يقول أن الخط المغربي متمنع الاستعمال في كتابة تحررية مادامت تاريخية محكمة الوصل بالسلطة والمتعاليات ” .
ويعني بنيس بأحكام الاتصال السلطوي للخط المغربي ،  سيادته من حيث الرقعة الجغرافية في ظرف تاريخي ،  سياسي ،  فهو ” لا يقتصر على المغرب السياسي ،  ولكنه المغرب الجغرافي الذي أنتج وأبدع خصوصية هذا الخط ” .
وهنا يأخذ الاعتراض بعداً جديداً يضاف إلى ( تاريخية ) الخط المغربي . فالخصوصية المغربية تفتح الباب واسعاً لمقترحات مماثلة يتصل كل منها بخصوصية كتابية مرتبطة بتاريخ هذا القطر وجغرافيته . وسوف يتحصل بعد ذلك اقتراح ( كتابات ) شعرية عربية ،  يجد القارئ العربي المقصود بالصلة ،  أن عليه استيعاب أشكالها كلها، وتدريب بصرة على استدعاء ذاكرة كل منها للربط بين خصوصيتها ودلالتها المعاصرة .
وهذا هو موجز الاعتراض الثاني على المقترح المغربي .
أما تبرير العودة إلى الخط المغربي بوصفها تحريراً لمكبوت وعودة لعشق نائم .. ( ألغاه الخط المشرقي ) فهي محفوفة بنوايا اقليمية تتعارض والحداثة فهي تجزئ المشكلة التي يعاني منها الشعر العربي . وتحاول حصرها بأداة الكتابة .
أن وحدة الثقافة العربية هي التي تمنح التجديد والتحديث هوية المستقبل لصلتها بجذور الانسان في وطننا وبحثها عن حلول حقيقية وصادقة لازمته .. أما القول بأن ” الوحدة هي التي تنبثق عن فروقنا المتعددة ” فهو قول يحمل الاعتراف بالفروق التي لا يقرها الشعر وهو يتوجه إلى جوهر معبراً عن جوهر . اذ كيف نقتترح وصفات حداثية انسانية ونحن نقول بفروقنا المتعددة ،  تلك التي تستلزم حداثة تراجعية كما في المقترح الانف ؟
* * *
 
تتبين الآن ثلاثة اعتراضات أساسية على المقترح المغربي الذي تضمنه بيان الكتابة مؤداها :
1-      تاريخية المقترح أي ارتباطه بحلقة محددة من الزمن الماضي لا يمكن معاينة المقترح منفصلاً عنها .
2-      جغرافية المقترح تفتح الباب للقول بوصفات أخرى ذات مبررات مكانيةتتصل
بهذا القطر أو ذاك وخصوصية الكتابة فيه .
3-     انعزالية المقترح ومحليته بالعودة إلى تقابلات مصطنعة واستحواذات متخيلة ( ثقافة مشرقية ،  ثقافة مغربية ) وسوف يولد ذلك كله انغلاقاً لا ينفيه مجرد استبعاده في النيات بينما يؤكده الحديث عن عشق مكبوت للخط المغربي حان اوان تحريره .والاعلان عنه.ان البيان بضيف عبئا جديدا على النص الشعري ..وهذا يضاف لاعتراضاتنا الانفة.ويمكن وصفه يانه اعتراض فني.فالخط المغربي كموصل مقترخ يرهن التجربة الشعرية بشكل مرئي محدد متناظر ومكرر بسبب تكريسه ومحدد ببعدي الزمان والمكان وشيئا فشيئا تصبح دلالاته رموزا مبيتة في وعي القاريء لا تفاجيء ولا تصدم .
أن ذاكرة الخط المغربي بتشويهاته وجمالياته معا تضيف عبئا جديدا إلى نص منشغل بالوصول في شبكة معقدة من سبل الاتصال .
أن عليه أن يجتاز ركاماً من خبرات بصرية خلقها المحيط ليصل إلى ادراك القارىء .
وهنا يضيف الخط المغربي قشرة أخرى تغلف الكتابة الشعرية . ويبعد النص الشعري خطوة اضافية عن مركز الاتصال بالآخر .
أما بالنسبة للمنتج ،  الشاعر ،  فالخط المغربي سيظل هيأة خارجية عليه أن يكسو بها جسد النص فيبدو ملفوفاً بغير عناية أو تفصيل .
أن الشاعر سوف يغلق على نصه بهيأة الخط المغربي بزي محدد ثابت ،  وحدته تباعد التأثير المتحقق بالشكل المطبوع واستغلال البياض .
البياض في المقترح المغربي تابع لهيبة الخط وجمالياته لا للنص وضروراته واشتراطاته .
* * *
 
بعد صدور بيان الكتابة بدأ الشعراء المغاربة المجددون يصدرون دواوينهم مكتوبة بالشكل الخطي المقترح ،  فكانت تعيد إلى الاذهان صورة المخطوطات العربية المستنسخة التي كان الخط فيها وسيلة اتصال بصرية عفوية . وهذا ما تظهره مقارنة صفحة مصورة من أي مخطوط عربي (26) وصفحة اخرى من ديوان مكتوب بالخط المغربي . لقد عهد الشعراء إلى سواهم ،  أمر انجاز الأشعار وخطها .
وهذا يؤكد شكلية المقترح الخطي وخارجيته . فإن وظيفته البنائية كعنصر داخل في النص ،  تتعارض والعهدة به إلىخطاط او كاتب اخر. كما أن تلك الدواوين لم تتحرر من هيبة الخط الا نادراً . بمعنى أن الشعراء حافظوا على  ( سياق ) الخط والجملة الشعرية المكتوبة التي تتحدر عن جملة تراثية لم تكتف  بالخط (27) .
كما نشأ اشكال جديد هو صعوبة القراءة وربما تعذرها أحياناً . وقد يقع قارئ ما في التباس غير مقصود . وهنا تصبح الحلول البصرية مصدر التباس اضافي مصدر التباس اضافي أو تشويش لم يكن موجوداً في الدواوين المطبوعة .
ومن معاينتنا لعدد من تلك الدواوين نجد هذا التشويش من جهة ،  والتماثل من جهة أخرى ،  والتناقض بين الشكل الخارجي والمحتوى من جهة ثالثة .
أن الفاصل الذي يخلقه الخط المغربي ذو الهيأة المخصوصة ،  هو الذي يعيد هذه المسألة التقليدية : مسألة وحدة الشكل والمحتوى .
فحين يقول الشاعر عبدالله راجع (في الصفحة المصورة  من ديوانه)(28):
أنتم يا من تستوطنكم تخطيطات الفارابي يا فرسان الكلمات المدهونة بالزيت . (انا نكتشف الان عصوراً اخرى تطلع من جلباب .
الصمت . )
لا نملك إلا نسأل حقيقة عن أي الاثنين تستوطنه ( تخطيطات الفارابي ) : الشاعر أم المخاطبين ،
ونسأل أن كان الشاعر حقاً يكتشف ( عصوراً أخرى ) بهذه الوسائل التراجعية ،
 
ثم نسأل فنياً : عن جدوى هذا التقطيع البيتي الذي فرضه طول السطر المخطوط فوضع الشاعر كلمة ( الصمت ) في سطر منفصل ،
ومن شعراء الخط المغربي اضافة إلى بنيس وراجع ،  الشاعر أحمد بلبداوي الذي نشر ديواناً مبكراً سابقاً بيان الكتابة هو ( سبحانك يا بلدي ) عام 1979،  الذي كان أقل تجريبية ومغامرة من الدواوين اللاحقة. إلا أن بلبداوي يعود عام 83 لينشر بالخط المغربي أيضاً ديوان ( حدثنا مسلوخ الفقر وردي ) الذي جعله معرضاً شكلياً لأنماط من التشكيلات ولم يكتف بالخط (29) .
فهو يستعين بالدوائر والأشكال الزخرفية ويستدعي احجام الرقم الطينية واشارات المرور ويستغل الطاقات التزينية في الكلمة المخطوطة ،  وهو من حيث ينجح في خلق ايقاع نفسي متوازن بين مادة الديوان وشكله ،  ينبهنا إلى أن هذا الشكل المقترح ينجح في جانب محدد من التجارب وهي التي تماثل تجربته في اصطناع شخصية رجل فقير يحيل إلى ابطال المقامات ،  وهو نموذج للانسان المستلب الذي يرى كل شيئ ولا يعرف كل شيء رغم هزائمه .
لقد كان ديوان بلبلداوي اكثر طواعية للخط المغربي ،  لاسيما وقد كتب ( رتله ) بخطه كما يقول ،  محققاً ذاتية ما لهذا المقترح الجمالي .
ويلاحظ القارئ أن ( باب النمل ) في ( حدثنا … ) منشور في ( سبحانك …. ) بشكل مغاير . ومقارنة القصيدة في الديوانين تتيح لنا التثبت من استنتاجنا القائل بمجانية الخط كأداة موصلة تبعاً لشكليتها وخارجيتها .
ونستطيع معاينة نماذج اخرى دون أن نجد في المقترح مسوغاً ،  فها هي دواوين اخرى كتبت في تونس بشكل اكثر وضوحاً (30) . ونلاحظ خلوها من الاستعانات الخارجية ( الأشكال والاعداد والخطوط … ) مما يدعم الاعتقاد بأن وراء كتابتها مخطوطة ،  دوافع لا صلة لها باحياء ماض ،  للتوسل كأن تكون ضرورات الطباعة وازمتها وراء ذلك ،  ولم تشفع ببيانات نظرية .
ختاماً : نستطيع الخروج من معاينة كل ذلك مزودين باعتقاد أن هذا المقترح لا يقدم حلا لمعضلة الاتصال أو مشكلة التوصيل بل يزيدهما بلبلة من حيث تكريس تاريخية محددة منغلقة ومنعزلة . وان الحداثة الوحيدة المتحصلة هي حداثة التراجع أي الاستعانة بالانقراض لكسب التجدد وهذا شيء تؤكد استحالته طبيعة الاشياء ..

*هوامش واشارات

1)   راجع الجزء الثالث من ديوان الرصافي ،  شرح وتعليق مصطفى علي ،  ط2 ،  دار الشؤون الثقافية ،  بغداد ،  ص254 وصف الباخرة الحربية في قصيدة الحرب في البحر
وكذلك في الجزء الرابع قصائده في الساعة ، 56 والقطار ، 42 وسفر في التومبيل ، 109 والتلغراف ، 19 ولعبة البليارد ، 261 وفي الجزء الخامس راجع وصفه للسنما العراقي ، 261 والسنما الوطني ، 263 .
ثم قارن ذلك بقصائد حافظ ابراهيم في طبعة المطبعة الأميرية بالقاهرة لديوانه ،  ، 1 ، 6 – 1954 ومنها قصائده في البورصة ، 162 والزلزال ، 164 وفي الجزء الثاني ،  ، 4 ،  1953،  قصائده في البواخر الحربية ، 58 والحرب الكيماوي ، 79 .
2)   سامي مهدي ،  أوراق الزوال ،  مطبعة الأديب البغدادية ،  ، 1 ،  1985 ، 40-44.
3)   حللت القصيدة مفصلاً في كتابي ( الأصابع في موقد الشعر ،  مقدمات مقترحة لقراءة القصيدة ) ،  دار الشؤون الثقافية ،  بغداد ،  ، 1 ،  1986 ،  ،  (316 – 370) .
4)   الإله أدد إله الرعود والزوابع وكذلك الرياح والجو والاخطار ،  ملحمة جلجامش ،  طه باقر ،  ، 5 ،  1986 دار الشؤون الثقافية ،  بغداد ،  ،  ،  155 – 156 .
5)   ديوان حافظ ،  ، 1 ،  ،  ،  164 ،  169 .
6)   طوق الحمامة في الألفة والألاف ،  ابن حزم الاندلسي ،  حققه وقدم له : صلاح الدين القاسمي ،  مشروع النشر المشترك ،  طبعة دار الشؤون الثقافية ،  بغداد ،  1986 ،  ،  92 – 93 .
7)   قصتي مع الشعر ،  نزار قباني ،  .
8)   محمود درويش ،  خمسون عاماً بلا لوركا ،  اليوم السابع ،  22 حزيران / 86 ،  15 .
9)   الشعراء وإنشاد الشعر ،  علي الجندي ،  دار المعارف بمصر 1969 ،  الصفحات 10 ،  22 وغيرهما .
10) س. موريه ،  الشعر العربي الحديث ،  مصر ،  1969 ،  ، 123 وص 243 – 425 .
11) بالمر:علم الدلالة ،  ترجمة مجيد الماشطة ،  الجامعة المستنصرية ،  بغداد 1985 ،  ،  20 إقرا ملاحظته القيمة في أن الانسان لا ينقل الرسالة فقط بل يخلقها .
12) د. محمد الهادي الطرابلسي ،  مستقبل الاجناس الأدبية ،  بحث على الآلة الكاتبة مقدم إلى المؤتمر الخامس عشر للاتحاد العام للادباء والكتاب العرب ،  ،  ،  5 – 6 .
13) ملحمة جلجامش ،  طه باقر .
الإلياذة ،  مطبوعات كتابي .
الأوديسة ،  ترجمة عنبرة الخالدي .
(14 ،  15) اللغة العربية عبر القرون ،  ، . محمود حجازي ،  المكتبة الثقافية ،  القاهرة ،  1968 ، 1 .
16) التلخيص في علوم البلاغة للقزويني ،  طبعة دار الكتاب العربي ،  بيروت ،  ، 24 وما بعدها .
17) مقدمة ابن خلدون ،  طبعة دار مكتبة الهلال  ، 267 .
18) يراجع كتاب الفنان شاكر حسن ال سعيد ،  الفن يستلهم الحرف ،  البعد الواحد،  وزارة الاعلام ،  بغداد ،  1971 وكذلك مقدمته لتخطيطاته المنشورة في كتاب بعنوان (الحرب والسلام) دار الشؤون الثقافية ،  1986 .
19) موسوعة الخط العربي ،  ناجي المصرف ،  ، 1 . ، 2 ،  تراجع المقدمة الفنية بصورة خاصة ،  وزارة الثقافة والاعلام ،  بغداد 1984 .
20) دور الكلمة في اللغة ،  ستيف أولمان ،  ترجمة ، . كمال محمد بشر ،  مكتبة الشباب ،  القاهرة ،  1973 ،  ، 38 .
21) الصفحة المصورة من مخطوط عربي ،  توضح التناظر المحسوب في عدد الاسطر وكذلك الشروح والهوامش .
22) النص من ديوان ادونيس ( مفرد بصيغة الجمع ) ،  دار العودة ،  بيروت ، 16 مع ملاحظة أن مقترح ادونيس طباعي لا خطي بالمعنى الفني .
23) بيان الكتابة ،  محمد بنيس ،  نشرة أولا في ( الثقافة الجديدة ) المغربية ،  ، 19 ،  1981 ،  وأعاد نشره في كتابه ( حداثة السؤال : بخصوص الحداثة العربية في الشعر والثقافة ) ،  دار التنوير ،  بيروت ،  1985 ، 9 .
24) البنيوية وعلم الاشارة ،  ترنس هوكز ،  ترجمة مجيد الماشطة ،  دار الشؤون الثقافية ،  بغداد ،  1986 ،  ،  ،  (124 – 125) يلاحظ وصف الاشارات الصوتية بأنها رمزية بطبيعتها . بينما تميل الاشارت المكانية البصرية إلى أن تكون تمثالية بطبيعها .
25) حداثة السؤال ،  بخصوص الحداث العربية في الشعر والثقافة ،  ، 18
26) يمكن القارئ أن يقارن  صفحة من مخطوط عربي أصولي ،  وأخرى من ديوان عبدالله راجع ( سلاماً وليشربوا البحار ) لمقارنة الاجترار والتماثل الشطري والرتابة التي يعكسها الشكل المقترح .
27) سلاماً وليشربوا البحار ،  سلسلة الثقافة الجديدة ،  الدار البيضاء ،  ، 1 ،  1981 ، 54 .
28و29) سبحانك يا بلدي ،  شعر ،  أحمد بلبداوي ،  مؤسسة بنشرة ،  الدار البيضاء ،  1983،  .
30) كتاب الماء كتاب البحر ،  محمد الغزي ،  ديميتر ،  1982 ،  تونس ،  ودواوين المزغني والوهايبي في السلسلة نفسها.
 
 

الشعرية العربية من القصد إلى الأثر
 

 
 
 

  • مدخل

نحاول في بحثنا استشراف ماهية الشعرية العربية الجديدة التي تقترح كيفيات تعبيرية مغايرة للموروث في الشعرية العربية عبر تاريخها المستند إلى فهم تمييز الشعر وتعريفه على أساس مبدأ (القصد) أي اصطناع غرض مسبق لتأليف الشعر وانتظامه البنائي انطلاقاً من حدّ الشعر بحدود معروفة أبرزها الوزن والقافية لإيصال الملفوظ الشعري على أساسها واستبعاد ما ليس مستوفياً لتلك الشروط حتى إذا حصل به أثر مشابه لأثر الشعر في المتلقي ، وهي النظرية التي يقوم على أساسها مقترح الشعر الحر إلى حد ما ، ومقترح قصيدة النثر في مجمل آراء كتابها ونقادها الذين يرون أن شعريتها متحصلة بما تخلقه من (أثر) في متلقيها رغم تنازلها عن عناصر الشعر الموزون المقفى والكيفيات الإيقاعية المتوفرة في النظم المألوف منذ القدم.
ويستعرض البحث آراء أرسطو في ( فن الشعر) حيث حصر الشعرية بالمحاكاة والتمثيل وجذّر بذلك مفهوم (القصد) الذي تابعه فيه النقاد العرب القدامى.
بمقابل ذلك استندت الشعرية العربية الجديدة القائمة على مفهوم (الأثر) إلى مرجعيات غربية ترى توسيع مفهوم الشعرية ليشمل كل ما ينخلق من أثر بواسطة الملفوظ الأدبي رغم عدم انتظامه على وفق الكيفية التي وصل إلينا بها الشعر العربي التقليدي.
وفي هذا المجال نفحص التوسيعات الممكنة في الشعرية العربية الحديثة والقائمة على مفهوم (الأثر) كالشعر المنثور وقصيدة النثر التي نناقش مصطلحها ومفهومها وإفادتها من السرد (كميزة نثرية) وما يصاحب ذلك من تعيينات زمانية وتحديدات مكانية وشخصيات وتلفظات حوارية.
وفي الجزء الأخير من البحث نتوقف عند من اسماهم البحث الجيل الثاني من كتاب قصيدة النثر وهم الذين يمارسون كتابة هذا النوع في العقود الأخيرة من القرن الماضي، بعد أن أتم شعراء الجيل الأول (في مجلة شعر) المهمة التأسيسية التي لا تخلو من أخطاء وتجارب متعجلة ، ونرصد هنا تبدل المرجعيات المؤثرة في تجربة شعراء الجيل الثاني ، وكذلك النظرة إلى الموضوع الشعري ولغة النص وعلاقاته التركيبية.
فبعض النصوص المدعية الانتماء إليها لا تتجاوز نثر الأبيات الشعرية وإيهام القارئ بمغايرة الشكل السائد دون الاستناد إلى مبررات فنية مقنعة.
يتحدد إطار بحثنا إذن بدمج أفق قصيدة النثر بتشكل الشعرية العربية الحديثة لا النظر إليها خارجها عبر استخدام مفهوم (الأثر) ومستجدات مفهوم (التلقي) وتكوين القارئ.
 
2-تنويعات وألون .. في تاريخ الشعرية:
يضم تاريخ الشعرية في الغرب نظرتين (أو منظرين): سلفية وحديثة ، وذلك ما تعطينا إياه المعاينة التاريخية للشعرية في الكتابة العربية: الموروثة والحديثة أيضاً.
فشعرية أرسطو تنحصر في (التمثيل) وتتحدد في (المحاكاة) حصراً ، وقد جرت قراءة  أرسطو زمناً طويلاً على هذا الأساس ، وفي قراءة حديثة يرى تودوروف أن مؤلف أرسطو في الشعرية لم يكن موضوعه هو الأدب ، وبهذا المعنى لا يرى مكاناً فيه للشعر كما أنه لا يعده كتاباً لنظرية الأدب بل هو كتاب في التمثيل (المحاكاة) عن طريق الكلام يصف فيه أرسطو خصائص الأجناس الممثلة أو المتخيلة ويعني بها الملحمة والدراما. (1)
ولعل تودوروف يشير بذلك إلى إغفال الشعر الغنائي في كتاب أرسطو الذي يشير إشارة عابرة لكنها ذات أهمية كبيرة ، إلى تراجع العناية الاصطلاحية والنقدية بهذا الشعر.
يقول أرسطو ” أما الفن الذي يحاكي بواسطة اللغة وحدها ، نثراً أو شعراً – والشعر إما مركباً من أنواع أو نوعاً واحداً – فليس له اسم حتى يومنا هذا “. (2)
وأول ما بلفت الانتباه في هذه الإشارة ، تخصيص أرسطو لشعرية القصيدة الغنائية بالمحاكاة بواسطة اللغة وحدها ، فكأنه يحصر هذا النوع من الشعر بالفاعلية اللغوية أو أنه لغة أولاً ، رغم إسناده وظيفة المحاكاة له.
وتستوقفنا أيضاً ملاحظته حول انتماء أنواع من النثر إلى هذا الفن الذي يحاكي باللغة وحدها ، فقد قُرن بالشعر نثراً يجمعه به التمحور حول اللغة وحدها ، وهو بذلك يقرب مناطق الشعر من النثر ، ولا ننسى هنا ملاحظته الثالثة حول هذا النوع الفني من جهة تسميته ” فهو ليس له اسم حتى يومنا هذا ” كما يقول. وذلك يعكس الحيرة إزاء خصائصه المحاكاتية وقيامه على اللغة وفضاءاتها الصورية دون العناية بالمحاكاة الكلامية حواراً أو قصاً أو وصفاً (في الدراما أو الملحمة).
ويمكننا أن نصنّف شعرية أرسطو بأنها إذ حصرت الشعرية في التمثيل والمحاكاة ، فإنما جذّرت مفهوم (القصد) الذي سنتحدث عنه لاحقاً ، واشترطت قيام الشعرية على قصد المحاكاة في مقامي التوصيل والتلقي معاً. أي في بناء القصيدة وقراءة المتلقي .
وإذا كانت المؤلفات المكتوبة في الشعرية تحذو حذو أرسطو في مؤلفه لفترة طويلة من الزمن ، فإن المؤلفات العربية الكلاسيكية لم تكن استثناءً في ذلك فهي تعد الكتابة الشعرية (قصداً) يعمد إليه الشاعر ويتوخاه ، ومن هنا جاء مصطلح القصيدة أي ما قصدنا أن يكون شعراً ، إذا نلاحظ قيامها على نُظم وقوانين تخرجها من الصدفة أو الاتفاق ، وتبعدها إجناسياً عن سواها من فنون الأدب النثرية ، كي لا تدخل أفراد هذه الفنون في الشعر ، وإنْ تحقق فيها أثر الشعر أو وقعه في النفوس.
وإذا كانت قصدية النظم عند أرسطو تقوم على تجسيد المحاكاة فإن النقاد العرب حصروا تلك القصدية بالإيقاع الخارجي أو التطريب الذي نراه يهيمن على تعريفاتهم الشهيرة للشعر بأنه ” كلام موزون مقفى …” أضيفت إليه المحاكاة في المرحلة التي تأثر فيها النقاد والفلاسفة العرب بمنطق أرسطو ومؤلفاته(3) ، وهكذا يستبعد النقاد من دائرة الشعر كل ما يخلق أثراً مشابهاً لأثره في المتلقي ، لأنه لم يقصد إلى نظمه قصداً ، فالشعر كلام يقصد به الوزن والتقفية أما إذا اتفق ذلك في الكلام على غير قصد .. فلا يُعد شعراً (4) ، وذلك الحصر القصدي سيكون ردّاً على متهمي القرآن بأنه شعر حتى في الآيات التي وردت موزونة ، كما أنه يبعد النصوص النثرية العربية القائمة على التجليات الذاتية والتجريد مما يتضح في النثر الصوفي خاصة.
وهكذا أصبح أي بحث في إيقاع الشعر غير مجدٍ ، ما دام لا يؤكد الحقائق الموسيقية الخارجية التي اكتشفها الخليل في الشعر العربي ، والمنطلقة من كون الشعر كلاماً موزوناً. (5)
ويترتب على ذلك حصر الأثر الذي يخلقه الشعر في المتلقي أيضاً ، وتخصيصه في (القصد) من النظم ، ويلاحظ أدونيس أن هناك توافقاً في القصد بين قول الشعر وسماعه ” أي أن هناك توافقاً مسبقاً بين القصد الذي يدفع الشاعر الجاهلي لتأليف قصيدته ، والقصد الذي يدفع الجماعة أو القبيلة لسماعها”. (6)
أي أن نظم الشعر قصدياً وتلبية لمتطلبات أو معايير جاهزة مسبقة ، قد استقر في وعي متلقي الشعر أيضاً ، فصارت مهمة عمود الشعر مثلاً مهمة فنية ينجزها الشاعر وهو يكتب قصيدته ، وجمالية يتوخى المتلقي استخراجها عند سماعه القصيدة ، وهنا تتوسع دائرة القصد وتصادر جمالية (الأثر) أو الوقع الذي تخلقه القصيدة في المتلقي ، ويبحث عنه هو أيضاً في القصيدة.
ولا نملك أية محاولة تسبغُ على الأثر المنخلق بغير الشعر مشروعية الوصف الشعري إلا في مقترح حازم القرطاجني حين يتحدث عن شعرية (الشعر) و(القول الشعري) ، إذ ربط بين الشعرية والتخيل دون محاكاة ، وسمى ذلك قولاً شعرياً ، وتوسع الفارابي فنصّ على أن القول إذا كان مؤلفاً مما يحاكي الشيء ولم يكن موزوناً بإيقاع فليس يُعد شعراً ولكن يقال له قول شعري(7) ، ولا نكاد نعثر على تفصيلات لائقة بالأقوال الشعرية المميزة عن الشعر فهي تختفي شأن المحاولات النثرية القريبة من الشعر ، وإذا كنا لا نملك أدلة نصيّة على وجود مثل هذه الكلمات في تاريخ الشعرية العربية ، فإننا نحتكم إلى التلقي العربي للشعر ، فسوف نجد العرب – وبالرغم من استكمال صورة القصيدة وإيقاعها عندهم – لا يتوانون عن الظن مثلاً بأن القرآن شعر ، وينسبون لبعض العبارات صفة الشعر ، وذلك لا يصدر قطعاً عن جهل أو خلط ، بل نتيجة احتكامهم إلى معيار الأثر الذي يحسّه المتلقي بغير صور الشعر المعروفة.
وأشير هنا إلى أن كتاب أرسطو في الشعر ، ألمح سريعاً إلى الأثر الذي تخلقه المحاكاة في النفوس فقال ” إن الناس يجدون لذة في المحاكاة” كما سمّى الغرض من تأليف الحكاية بطرق معينة لكي لا يكون الأثر الشعري جميلاً ” وتوقف عند الطابع الخاص بأنواع الشعر أي الأثر الذي يحدثه كل منها كإسناده إلى المأساة مهمة (أو أثر) التطهير.(8)
ننتهي من وصف الشعرية الموروثة بقيامها على المحاكاة والقصد ، لنعاين ما آلت إليه الشعرية بعد أن لمستها مناهج النقد الحديثة ودرسها العاملون في حقل نظرية الأدب ، فكان فك ارتباط تاريخ الأدب بالأدب أول خطوة باتجاه دراسة أدبية الأدب أو اتخاذ الأدب ذاته موضوعاً للدراسة ، ثم تبلورت الخطوة التالية في الانتباه إلى أن الأدب فنّ لغوي تجدر دراسته انطلاقاً من خصائصه اللسانية حيث ” تكون اللغة في آن واحد الجوهر والوسيلة ” بعبارة بول فاليري (9) ، ولكن ذلك لا يعني إغلاق ميدان الشعرية أو حقلها بازاء العلوم الأخرى ، فقد انفتحت دراسة الشعرية على علوم إنسانية كثيرة في مقدمتها اللسانيات والتأويل ودراسات علم نفس اللغة ، وصار على دارسي الشعرية فضلاً عن التوسع في دراسة فنون النثر ، معرفة القارئ وقراءته وما يحدد حكمه (10) ولا يعني استقلال دراسة الشعرية أو قيام علم الأدب والأدبية – أي ما يجعل من عمل معين عملاً أدبياً – انغلاق حقل الشعرية أو ظهور صنمية نصية جديدة لا تقل خطورة وضرراً عن الدراسات التقليدية التي تتجه إلى دراسة الأدب من خلال الكاتب وسيرته وحياته ومزاجه النفسي .. الخ.
ويلتفت جان كوهين إلى أن الشعرية التي هي :علمٌٌ موضوعُه الشعر تجري هذا المصطلح بتوسع شديد في كل موضوع (خارج أدبي) ” من شأنه أن يثير هذا النوع من الإحساس فنقول عن منظر طبيعي أنه شعري..” (11) وذلك ما يؤكده جاكوبسون الذي استند إلى نظام (المهيمنة)  في الرسالة الشعرية بحسب الوظيفة التي تتصدر العمل ” فإذا كانت الشاعرية – أيّة وظيفة بلغت في أهميتها درجة الهيمنة في أثر أدبي – فإننا سنتحدث حينئذ عن شعر” (12) وأحسب أن هذا (التوسيع) يمهد لقبول ما ليس منضوياً ضمن إطار النظم ، ويلفت الانتباه إلى وحدة الفنون وانتشار روح الشعر في أشكال ومقاربات لم تكن على لائحة المهتمين بتوليد قوانين الأدب وتقصيد أساليبه ، وقد جرى ذلك على مستوى التلقي أيضاً ، فذهبت جهود القراء إلى مؤلفات نثرية ليتلمسوا أثر الشعر فيها وتسمي سوزان برنار كتاب نيتشه (هكذا تكلم زراوشت) واحداً من هذه الآثار التي “توافقت مع حمى البحث عن نداء الحياة وحيوية الإيقاع والصور أيضاً”.(13)
ويبرز هنا عامل أخر يعزز هذا التوسيع من خارج الشعر المكتوب ، وأعني به الترجمة الشعرية من اللغات الأخرى ، فالترجمات الشعرية تبلبل منظور القارئ وأفق تلقيه لأنها تمنحه إحساساً (أو أثراً) شعرياً بكلام لا يخضع للقواعد القارة في نفسه ونتيجة لخبرته بالنوع الشعري المعروف ، فكانت الترجمة سبيلاً لتصحيح منظور القراءة ، وتمهيداً لقبول النثر في الشعر (14) ، وهذا ما حصل – على سبيل التمهيد- في تقبل الكتابة الشعرية العربية الحديثة. ولا شك أن الأشكال الشعرية المطورة (الشعر الحر والمنثور خاصة) كانت لها مساهمة واضحة في الوصول إلى قوانين جديدة تتسع لتقبل ما ليس بنظم شعري تقليدي وقراءته على أنه شعر.
أما في تاريخ الشعرية العربية فالمسألة تأخذ بعداً آخر أكثر عقلانية ومحافظة بسبب من ضخامة الجسم الشعري العربي الموروث ، وقوة الإيقاعية الشعرية المستقرة ، واكتمال دراسة النظم الشعري من جوانبه المختلفة ، وتكوّن أفق القراءة على وفق تلك القواعد التي أضحت جزءاً من ماضي الأمة وتاريخها القومي الذي يجب ألاّ يُمس كأي مقدس أخر إلى جانب اختلاط تاريخ الأدب وسيرة الشاعر وإيديولوجية النصوص المجسدة عبر أغراضها وموضوعاتها ومضامينها ، مما رتّب أولويات فنية وجمالية يتأخر بسببها النظر إلى شعرية العمل الأدبي وقوانينه النصية ، فكان ذلك المركز القوي الطارد لأية محاولة للخروج على تقاليد الشعر ورسومه وقوانينه ووضعها في الهوامش المنسية ، وكان علينا أن ننتظر طويلاً لإحياء – وإنعاش – المنظور الشعري الخالص المنقى من العوامل غير الأدبية أو تلك الآتية من خارج النصوص.
وظل الجسم الشعري العربي يرفض بشدة أية نتاجات مغامرة أو طارئة على آليته واستمر مفهوم القصد على مستوى التوصيل الشعري ، والتلقي الجمالي مهيمناً على التصور العام للقصيدة وفهم شعريتها.
وإذا كان الشعر المنثور قد سبق ما عرف بالشعر الحر (متعدد التفعيلات والقوافي) ، فإن ذلك لم يكن إلا خدشاً بسيطاً على سطح ذلك الجسد المتكون في سياق تاريخي. وفي مرحلة لاحقة هي لحظة الحداثة المعلنة لكتابة قصيدة النثر سيعاد النظر بنصوص الهوامش ويعاد ترتيبها في سياق جديد من التطور النصي النوعي بعد أن أضعفت حلقات التجديد في النصف الثاني من هذا القرن أجزاء من مداخل هذا الجسد ومنافذه ، وفكّت – بصعوبة بالغة – ارتباط التاريخي بالأدبي ، وعزلت دراسة الأدب عن مُنشئه وبيئته وتاريخيته ، وإن ظلّ ذلك على المستوى المدرسي قائماً حتى يومنا.
ولا شك في أن جهود النقاد العرب المستنيرين بالمناهج النقدية الحديثة – كان لها الأثر الفاعل في ذلك – بالرغم من أن بعضنا لا يريد أن يرى هذه الحقيقة أو يتفحصها ، إلى جانب المنجز النصي نفسه وهو يتراكم كماً ونوعاً واتجاهاً ، وهذا لا ينفك أيضاً عن الاعتقاد بالحرية وحق التجريب والمغامرة مما تبلور على المستوى الإنساني والحياتي في الحقبة ذاتها التي استدارت فيها الشعرية العربية لتركن إلى قوانين ونُظم وأساليب جديدة ، وكان آخر الصلات بالمناهج الحديثة ذات الفاعلية الشديدة في قبول الأشكال والأنواع الشعرية الحديثة ؛ تأثر النقاد العرب بمناهج القراءة وجماليات التقبل التي نبهت إلى (الأثر) عبر إحياء دور القارئ وفعل القراءة الذي يُبنى العمل الفني بوساطته حيث لا يعود جوهر العمل ومعناه إلى النص – ولا إلى كاتبه بالضرورة – بل إلى تلك الإجراءات التي ” يتم فيها التفاعل بين تخيل القارئ والبنى النصية” (15) ولهذه الانتقالة في تاريخ الشعرية من النص إلى القارئ وقراءته دور مهم  في إعادة الهيبة للتلقي بعد حذف المحمول الإيديولوجي وخدمة الجمهور وتلبية حاجاته المباشرة في فهم النص ، وأصبح للقارئ وقراءته مهمة ترتيب تاريخ خاص للأدب وللأنواع والأجناس الأدبية ولأفرادها من النصوص ، وبذا انتعشت نظريات الأثر أو الوقع وتراجعت المقصدية(16) وبالضرورة تراجع ما استنته من سنن وثوابت وقواعد للنصوص.
وباستنفار خبرة القارئ ومعرفته أصبح ممكناً التعويل على قدرة القراءة في استجلاء شعرية النصوص الحديثة ، وتقدمت قصيدة النثر لتخاطب عبر الوقع والأثر وبندائها الشعري المختلف ، أفق قراءة المتلقي وتبحث معه عن مناطق الشعر فيها ، والقارئ الحديث يكف الآن عن التحدث (عن) النصوص أو التحدث (إليها) ، مستبدلاً ذلك بالحوار معها ، وهذا ما سمح بترسيخ التوجهات الشعرية الحديثة واستمرار انطلاقتها وتكونها ، وقد أعاد النقاد العرب قراءة النصوص التراثية على هذا الأساس ، ووجدوا فيها من خلال الخطاب النقدي المتجدد المناظر والرؤى ما لم يكن مكتشفاً من قبل بوساطة القراءة التاريخية أو المضمونية أو النصية المنغلقة.
وصححت نظريات القراءة وجماليات التقبل مسار الخطاب النقدي الذي انبهر بالبنوية والأنساق النصية المغلقة فترة من الزمن ، حتى غدت النصوص اليوم موضوعات تصب عليها الذات القارئة شعورها ووعيها وخبرتها ومعرفتها وتعيد خلقها وتجسيدها.
 
3-قصيدة النثر: الخصائص النصية والمزايا الجمالية.
لاحظ الدارسون ما في مصطلح (قصيدة النثر) من تناقض ظاهر (17) وتشويش إذ أنه يجمع نقيضين بالإضافة ، وكان المصطلح يمثل التناقض المفهومي لهذا النوع الحديث ، فمفهوم قصيدة النثر كان مختلطاً في المحاولات الغربية والعربية المبكرة بالنثر الشعري، أو الشعر المنثور القائم على التداعيات ، والمناجيات ، والفضاءات الصورية، وبلاغات العبارة ، والصياغات المجنحة ، المميزة بسيل من الهيجانات اللغوية والعاطفية والخيالية.
كما أن الازدواج والتناقض كامنان في قوانينها المقترحة كما شاعت أوائل الستينيات لدى شعراء مجلة (شعر) وتبريرهم النظري لمحاولاتهم المبكرة ، حيث نقلوا ملخصاً لما رأت سوزان برنار أنه مميزات أو خصائص لقصيدة النثر  جرى النقاش حولها وتصويبها مثل الكثافة والإيجاز والتوهج والمجانية. (18)
دون الالتفات إلى سلسلة تناقضات أكثر أهمية تبدأ من اسم قصيدة النثر المحيل إلى ضدين: قصيدة / نثر ، وتمر ببنائها العام الذي يقرن النظام بالفوضى ، وصولاً إلى دلالتها القائمة على اشراقيتها الداخلية بمقابل نزوعها الشكلي المجرد واستبدالها الغنائية بالسرد.
ولم ينتبه الكتاب المبكرون إلى ميزة أخرى أشارت إليها برنار تكمن في طبيعة قصيدة النثر التي تقودها إلى ” التواطؤ باستمرار مع أجناس قريبة منها كالأقصوصة ” (19) فهي إذ تنازلت عن الإيقاع الخارجي تماماً ، أفسحت حيزاً كبيراً لاستضافة السردي في الشعري انطلاقاً من جوهرها الدلالي حيث ” أن العناصر الدلالية وحدها تكفي لخلق الجمال المطلوب” كما يلاحظ كوهين الذي يصف قصيدة النثر بأنها (قصيدة دلالية) (20) ويتعين علينا هنا ألاّ نفهم الدلالة كنتيجة حتمية لوجود الدال والمدلول احتكاماً إلى المعاني القريبة وتنضيد النص خطياً ، ففي الشعر تختزن القصيدة دلالتها في منطقها الخاص ، وبنائها ، ووحدتها ، وفي بلاغة الصياغات، وما في لغة القصيدة من توترات صورية ، وتوازيات إيقاعية ، ومطابقات ، وتكرار ، وتعينات سردية تعكسها ضمائر التلفظ ، أو المحاورات ، والوصف ، وسوى ذلك مما يقوم باكتشافه القارئ الذي يتولى تنظيم المقروء وبناء الدلالة.
ومن أبرز مهمات القارئ التي ينجزها بفعل القراءة ، إظهار قوة التناص التي يدخل فيها النص المكتوب بعلاقات متنوعة ومختلفة السبل مع سواه من النصوص المتعددة والمختلفة بدورها ، والمتسعة للإشارات ، والتعليمات ، والتضمينات ، والمعارضات ، والمفارقات ، وسواها من أشكال التناص الممكنة ، وهي تشكل عبئاً على القارئ ، وتتطلب جهداً معرفياً وخبرة وإحاطة تعوز الكثير من القراء ، فتفوتهم حكمة القصيدة ودلالتها وبلاغتها ، فيرمونها بالغموض غالباً أو المجانية والفوضى.
ولا شك في أن تقنيات السرد المجتلبة من النثر أساساً ، تتطلب تنظيماً يناقض  الفوضى الظاهرية في قصيدة النثر ، وهذا مظهر أخر لتناقض قصيدة النثر وصعوبة تقبلها وتلقيها ، ومن أبرز مظاهر التنظيم في السرد ذلك الانضباط الواضح في الضمائر وتسلسل القص ، وإحكام الوصف ، وإدارة التلفظات والمحاورات بكثافة تجافي الترهل الصوري والهيجان اللغوي والسيولة العاطفية في الشعر الموزون، وأوضح تنافر يحسه القارئ بين الشعر والنثر هو رفض الغنائية كوجهة نظر أو موقع يتموضع فيه الشاعر بأناه الضخمة ، مسلطاً ذاته على الموضوع ، مسخّراً تراكيب اللغة والصور والدلالات والإيقاعات لإنجاز المهمة الغنائية لقصيدته ، فيما يدعو السرد لتهدئة مظاهر (أناه) بازاء (أنا) النص و(أنا) العالم كقطبين لازمين – إلى جانب (أنا) الشاعر – في كل عمل شعري.
ويميل المنظور السردي إلى البحث عن تجسدات أو تعينات للأفكار المعبر عنها سردياً، فيما يسم التجريد كتابة الشعر ، وتصنع اللغة فيها فضاءاتها الخاصة التي تتحصن عبر الأنساق ، بسياق خاص لا تُفهم إلا من خلاله.
ويجر هذا التمركز الفضائي المجرد قصائد الشعراء إلى مزيد من التجريد ، بمقابل التمدد الثقافي المكثف الذي يهبه النثر للأفكار وهي في حالة تعين وتجسد ، وهذا ما يدعونا للقول بثقافة النص الشعري الحديث كبديل للغنائية التلقائية والفجة.
ويلزم الأمر تكثيفاً واقتصاداً حيث تشتت الترهلات اللغوية والاستطرادات مراكز السرد وبؤرته وأصواته وفضاءه وتسمياته ، ويكون النثر في حالة كهذه متجهاً إلى (أثر) المكتوب في القارئ لا إلى (القصد) من البناء الأدبي وإنجاز برامج النص وخططه المسبقة رغبة في الاندراج الآلي ضمن المألوف والشائع ، أو المكرس.
وأخيراً يكون قطب النثر في مصطلح (قصيدة النثر) ومفهومها داعياً لإنجاز (قراءة) أو تحقيق نص كتابي على مستوى التوصيل الفني والتلقي الجمالي ، فيما يتجه الشعر إلى مناطق المشافهة في الإرسال والتقبل لتحقيق المهمة المقصودة من نظم الشعر.
وذلك يدعو إلى تحقيق موسيقى خارجية في الشعر تحف بالأفكار والدلالات والبنى النصية ، وتنقل الرسالة الشعرية بمواصفات هذه الموسيقى ومستلزماتها ، سواء أكانت داخلية كالمجانسات والتصادي اللفظي والتراكيب اللغوية ، أو خارجية تتعين بالوزن الشعري وثوابته العروضية ، وبالقافية وتراتبها البنائي الضدي.
بينما يقدم النثر (إيقاعات) تنجزها النصوص داخلياً ، وتكون في العادة وراء المكتوب أو داخله ، لا أمامه أو خارجه ، وهذا الفرق بين موسيقى الشعر وإيقاع النثر هو الذي يخلق مساحات الأثر المتحصل في أفق قراءة المتلقي ، ويدعوه إلى ملاحظتها ، لا كما تقدم نفسها في الشعر بخطابية ومباشرة وغنائية حادة ، بل بهدوء وتسلسل ومنطق يتسم به النثر خاصة.
أخيراً يتطلب النثر (انصهار) عناصر المكتوب انصهاراً قوياً ، تذوب فيه خصائص ما يقذف النص إلى مصهره من استعانات ورؤى وعناصر ولا يظل لها وجود مستقل يمكن انتزاعه أو سلخه.
أما في الشعر فإن العناصر (تتحد) محتفظة بخصائصها ومزاياها ، منفرطة ضمن واحدية النص ومركزيته المتحصلة من الطابع الغنائي للشعر ، المتحصل بدوره من تراكم أفراد جنس الشعر عبر تاريخ قراءته وكتابته.
ويمكنني أن أصل إلى التناقض المفهومي في مصطلح قصيدة النثر من خلال المقارنة التالية:

الشعر

النثر

الفوضى
القصد
الترهل الصوري
الأداء المعنوي
الغنائية
الواحدية النصية
التمركز الذاتي

التجريد

المشافهة
الاتحاد
الموسيقى

التنظيم
الأثر
التكثيف البنائي
الإنجاز الدلالي
السرد
تعددية التناص
التمدد الثقافي
التعيين
القراءة
الانصهار
الإيقاع

ولا يعني ذلك بأي حال (إطلاق) هذه المزايا على النصوص ، لأنها تتخفف في سعيها إلى التحديث من كثير من معوقات توصيلها ، وتنجز حداثتها على أساس وجودها كنوع متقدم في الكتابة الشعرية المعاصرة.
 
4- المعاينة النصية :الفرضيات النظرية والتعيينات المتحققة
كخلاصة ، واستمداداً من مؤثرات القراءة والتقبل ، والانتقال من القصد إلى الأثر ، أقول إن دراستي تقترحلقراءة النوع الجديد – قصيدة النثر – أن نقوم ببعض الإجراءات منها:

  • منظور السرد المهيمن على قصيدة النثر .
  • مهمة تنظيم المقروء النصي التي يقوم بها المتلقي .
  • معاينة شعرية الأثر .
  • ملاءمة الفوضى والتنظيم في النصوص .
  • تعقب الدلالة داخل النص لا المعاني المجتزأة.
  • ملاحظة التنضيد الخطي للنص ومفاتيح القراءة كالعتبات النصية وسواها.
  • تغيير أفق القراءة لتلمس الإيقاع الداخلي البديل عن الموسيقى الخارجية.
  • تجاوز أفراد النصوص إلى النوع نفسه.

والملاحظة الأخيرة تدعو إلى قراءة المقترح ذاته دون الحكم عليه بسبب الإخفاقات والإدعاءات التي ترافق البدايات النوعية غالباً ، وهذا يجعلني في هذه النقطة من البحث أدعو إلى عدم التوقف عند نصوص الجيل الأول من كتاب قصيدة النثر،  وسنلاحظ أولاً أن الجيل الأول الذي التف حول مجلة (شعر) وباتجاهات متباينة يمثلها أدونيس وأنسي الحاج وشوقي أبو شقرا قد حمل في تجاربه بما أنها مبكرة ورائدة ، كثيراً من أخطاء البدايات سواء في الحماسة التبشيرية والتطرف في المغايرة والمغامرة والاختلاف ، مع جزء ضروري من الخسائر يتطلبه التبرير النظري والمنافحة عن النوع الجديد الملعون من أطراف متعددة ، يقع بعضها قريباً من موقع التحديث المفترض لقصيدة النثر ، وأعني كتّاب ما يعرف بالشعر الحر .
وأحاول في هذا الجزء من الدراسة أن أستمد أسانيدي وأدلتي من المستندات النصية للجيل التالي لشعراء (شعر) ، وهم الجيل التالي أو الثاني في حلقة كتابه قصيدة النثر العربية . ولاشك في أن لي من المبررات الخاصة ما يسمح بهذا التجييل سواء في مكونات هؤلاء الشعراء وقناعتهم النظرية ، أو طبيعة نصوصهم والمؤثرات التي وقعوا تحتها ، والأفق الذي وصلت إليه تجاربهم بفعل تراكم الكتابة ، وترجمة النصوص، ودرجة الوعي بقصيدة النثر على مستويين:
كتابتها من قبلهم أو تلقيتها من طرف القراء والنقاد .
والإحاطة بتجارب هذا الجيل تستدعي مسحاً واستقراء ومتابعة لا أزعم أنني أتوفر عليها الآن ، وهي ليست من مهمات البحث أصلاً .
وأول ما ألاحظه في هذا المجال – كمزايا عامة مشتركة – أن هذا الجيل يبدأ الكتابة وتنهض نصوصه من أرض أكثر استقراراً واطمئناناً للنوع الجديد ، بينما كانت أرض الانطلاق للجيل الأول أشد تموجاً وقلقاً ، بفعل الرفض الذي قوبلت به قصيدة النثر مطلع الستينيات ولعقود لاحقة ، واختلاط الأنواع المكتوبة المشوشة على النوع المقترح (تجارب يوسف الخال وجبرا وتوفيق صايغ مثلاُ في الشعر الحر أو المنثور الذي كان ينشر ضمن السياق الخاص بقصيدة النثر) وغياب الأساس النظري النقدي الواضح الذي يعزز تلك الاختلاطات ويشير إلى المستجدات الفنية والجمالية المبررة لقصيدة النثر . فضلاً عن المشاكسة والموقع الدفاعي الذي اضطر شعراء الجيل الأول إلى تغييم أو تعتيم كثير من المفاهيم والمبادئ الأساسية لكتابة قصيدة النثر ، فكان من أبرز مظاهر ذلك ، الإحساس بأن كل (كلام) منثور في أسطر دون وزن وقافية ينتمي إلى قصيدة النثر ، أو أن جذرها الأوربي كاف لمغايرتها واختلافها وغربتها .
لكن الحماسة الأولى واختلاط المكتوب وحسّ الاغتراب في تجارب الجيل الأول يجب ألا تقلل من أهمية ما كتب من نصوص ، وما أنجز من مهمات على طريق مشروعية قصيدة النثر العربية وجمالياتها ، الأمر الذي نتلمسه في تأثير شعراء ذلك الجيل في تجارب الجيل التالي أو الثاني وكتابة نصوصهم ، بالرغم من أن ذلك ليس حكماً عاماً أو مطرداً ونهائياً . كما أنه لا ينقص قيمة التجارب الجديدة أيضاً ، بل هو أمر طبيعي ومنطقي وليس التنصل منه والاستنكاف أو الاستعلاء عليه إلا إدعاء فارغ لا يقول به الشعراء المعنيون بتطوير كتابتهم. (20)
إن الانتقال من الغنائية في الخطاب الشعري التقليدي من خلال النزوع الدرامي في القصيدة التجديدية ، إلى قصيدة النثر المستندة أساساً إلى السرد ، يلخص بشكل من الأشكال موقف (الشعري) من تقبل (النثري) واستثماره ، وامتصاص مزاياه داخل بنية القصيدة ، ولم يتم هذا الانتقال إلا بصراع قوي بين الغنائية والدرامية .وقد ظل أثر الغنائية واضحاً حتى في تجارب شعراء كبار من الجيل التحديثي الأول (وأدونيس خاصة) حيث تهيمن (الأنا) الشعرية على زاوية الخطاب وتحرك القصيدة ، بما في الغنائية من موسيقى ومباشرة وصوت عال .
لكن الجيل الثاني ينصرف إلى داخل النص ، ويبني بلاغة النص الحديث على حياد لغوي وصوري وعاطفي ظاهري ، بينما يخفي موقع الشاعر وأناه بذكاء ودراية ، حتى لتحس به في مقدمة القصيدة أيديولوجياً وفنياً رغم اختفائه كمتلفظ .
وهذا هو أبرز جوانب الاقتراب من السرد في قصيدة النثر.
لكن السرد يأخذ تعينات متعددة نحاول هنا إجمالها كمظاهر نصية ، يمكن لنا أن نسوق الأدلة النصية عليها ، وهذه المظاهر هي :

  • تحديد البؤرة النصية أو المولّد والمركز وهو أبرز مهمات القارئ .
  • الاختزال والتكثيف الصياغي سوءً ما أتصل بطول القصيدة وقصرها أو بدلالتها .
  • بنية التكرار بشتى أساليبها .
  • البناء المتنامي تجسيداً للوحدة والكلية النصية .
  • تحرير الواقعة من تسلسلها وإدماجها في سياق الوقائع الشعرية .
  • اعتماد التناص وإذابة عناصره المتنوعة رمزاً وإشارة وتضميناً في النص الجديد.
  • نظام الجملة وطرق الصوغ وبناء النص لغوياً بتنظيم دقيق .
  • تعينات السرد المكانية والزمانية والتسميات والمحاورات .
  • استثمار سطح المكتوب خطياً ودمجه في المتن النصي .
  • تمازج أفاق الدلالة وتنوعها رغم طغيان السخرية والتمرد .

وأحسب أننا بذلك نقترب من أفق جديد للشعرية العربية المنفتحة على التحولات الفنية النوعية في المصطلحات والمفاهيم ومستجدات القراءة والتقبل.
 
وقبل ن نعرض المستندات النصية نحترز بالقول إن اختيار النماذج المرفقة أو المستشهد بها لا يعني أية معيارية أو تفضيل لنص على سواه من نصوص الشاعر نفسه أو غيره من الشعراء. فليست مهمتي هنا الإشادة بتجارب معينة وتهميش ما عداها بل كان المعيار الوحيد هو انتساب كتّاب النصوص إلى الجيل التالي لرواد القصيدة النثرية، ومن زاوية فنية كان الهدف من المعاينة الإشارة إلى المزايا التي استقرأناها عبر قراءتنا المستمرة لنماذج قصيدة النثر، وذلك يعنى بالضرورة وجود هذه المزايا والخصائص في نماذج لم ندرسها لأسباب واضحة تتعلق بالإطالة وتوفر النصوص.
وفي تشخيص البؤرة النصية أو المولّد المركزي للنص سوف نستعين بالعتبات النصية، ومن أبرزها عنوان القصيدة وإهداؤها أو المفتتح الذي يتصدرها، ومكان كتابتها وزمانها.
ففي نموذج جان دمو “مسالك غير سالكة”(21) يضعنا الشاعر إزاء طريق مغلقة وخواء وعبث ولا جدوى. فالمسالك توجد ليسلكها الناس وصولاً إلى أهدافهم. لكنها هنا عصية، غير سالكة يؤازرها الخذلان الشخصي المتحقق من تقابل صورة الأحلام العريضة الطموحة (أرخبيلات) وصورة خوائها وانقراضها وتحولها إلى أوهام، تنتهي بجملة قاطعة مباشرة: “لا انتظار بعد”.
وهذا ما نراه أيضاً في نص خالد المعالي “(22)خيال من قصب” حيث يشدنا العنوان المضاعف، بما هو وجود نصي، فهو عنوان للقصيدة وللديوان أيضاً. وذلك يوجّه القراءة صوب مركزية النص الذي يشف عن وجود ضبابي أيضاً. هنا “خيال” ضعيف لجسد غائب، خيال من قصب هو بعض لعب الطفولة وفروسيتها الدونكيشوتية. لكنه خيال خاسر. ومن هذه البؤرة تتولد جمل النص الكبرى على مستوى الموضوع والصياغة. فالخيال مغطى برماد جزر، يغرق في زمنه الذي مرّ كالنكات المضحكة. وكل شيء هنا يكتسب قوته من الماضي. أما الذي ظل فهو الخواء: الأثر في قعر الفنجان الفارغ والبيوت المحترقة في الشمس.
ولا يكاد القارئ يجد أية صعوبة في تعيينٍٍٍٍ “الحالة” الشعرية في النموذجين، وتصبحٍٍٍٍٍٍٍ الصياغات تعزيزاً لوجود البؤرة أو المولّد المركزي الذي يصل عبر سلسلة صور تؤكد اتجاه القصيدة ويتوحد فيها أفق القراءة وأفق النص دون بلبلة أو غموض. وهذه المهمة الموضوعاتية لا تسطح النصوص أو ترهنها بالمباشرة الفجة أو الخطابية؛ لأن وجود أنا الشاعر رغم كثافته؛ يشير إلى ما حوله في تأمل حزين وبائس هو بعض مزايا القصيدة النثرية التي تكاد تعبر عن مزاج سوداوى لـه ما يبرره حياتياً وفلسفياً.
في نموذج عباس بيضون “سلالم”(23)، تأمل ظاهراتي عميق يتحول فيه المكان إلى شيء للتأمل، بعد إسقاط الشعور والوعي على وجوده. فالخلاء وحده يمكن “سماعه” يصعد درجات السلام. والإنزياح المتحقق بالفعل “أسمع”، مسنداً للخلاء، يحفزنا ونحن نتأمل سلالم النص على تخيل الوحشة القاسية؛ ليس سوى “خطوات مفقودين” لكنهم موجودون وطرقهم مأهولة. في هذه اللحظة تتأثث القصيدة بحضور قوى لغياب هؤلاء المفقودين وهم يشدوننا إلى خطاهم الحاضرة التي تصنع “ثرثرة السلالم”. إن قصر القصائد الثلاث (تتراوح أبياتها بين 11 و14) لم يشعرنا بأي فراغ أو بتر، بل نحس ٍٍٍٍٍٍٍٍٍأن أية إطالة هنا ستكون ترهلاً لا يخدم تعميق بؤرة النص أو نقطة انبثاقه. ورغم أن الموضوع واضح والذات متقدمة فيه، لم نشعر بثقل الغنائية أو المباشرة؛ لأن البؤرة ترسل إلى أطراف النص وتعيد إليها تأملات وصوراً تتنوع قرباً وبعداً، لكنها ليست مناسبة للتغني وتأكيد الأنا الطارئة على الموضوع. وفي نموذج زكريا محمد “القتلى”(24)، نجد ثيمة تستدعى موضوع نص عباس بيضون “سلالم”، لكن التقنية هنا مختلفة. فالشعر يبدأ بسؤال، ويحرف الدلالة من الشجر إلى القتلى. ونحس دون تسمية أن الطفل يسأل والكبير يجيب. وإذا كان مفقودو بيضون قد ملأوا الطرقات والسلالم بخطاهم، فإن قتلى زكريا محمد ينتظمون في صفوف كطلاب مدرسة أو صف أشجار طويلة، لكنهم لا يستطيعون دخول المدينة، لأن قاتليهم- الأحياء طبعاً – ينتظرونهم بالسهام والنيران عند أبواب المدينة المقفلة.
كأن النص جملة شعرية واحدة محورها السؤال وإجابته. وتلك بلاغة التكثيف والاقتصاد في قصيدة النثر. أما الدلالات التي تثيرها النصوص السابقة، حتى بعد كشف بؤَرها ومراكزها المولدة، فهي كثيرة تحف بالأبيات وتمتد بعد نهاية النص، بل ربما أثارت الكثير بعد الانتهاء منها.
شعراء قصيدة النثر لا يسمّون موضوعهم، لكنهم يداورونه ويناورونه للإمساك بطيفه الذي يتسلمه القارئ كما يمسك رجل الآثار بلُقية مهشمة ليصنع لها وجوداً ودلالة
و معنى.
ويلزم لٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍتحديد بؤرة للنص أن ينتبه القارئ إلى التكثيف والاختزال الصياغي سواء أكانت القصيدة شديدة القصر (من بيتين أو ثلاثة) وهو ما عرف بقصيدة الومضة(25)، أم قصيرة تطرد ببنائها المحكم أية استطالات أو ترهلات.
وصعوبة هذا النوع من القصائد بالغة القصر لا يكمن في بنائها المقتصد وتمام دلالتها فحسب، بل في حاجتها إلى قارئ نظير لإيقاعها، يمكنه إدراك حكمتها وبلاغتها ولا يبحث عن شروح أو تمددات لفظية وصورية وعاطفية باذخة، قارئ يتعقب أثر النص في نفسه ولا يبحث في النص عن كل شيء وجودا تاماً ومكتملاً.
في ثلاثة أبيات يرينا فرج العشة ما في الشعر من تمرد ومروق في قصيدة عنوانها “شعر”(26):
 
فتىّ بهىّ
عصى أمه
وتزوَّج النار
ويرسم صلاح فائق في أحد مقاطع قصيدته “مقاطعات وأحلام” لوحة متناظرة الأطراف(27):
رجل يلاحق طائرة
بعينيـه
طائرة تلاحق رجلاً
بقنبلــة
هذه النصوص، بكلمات تتراوح بين ست وثمان، تتطلب استقصاءً طويلاً على مستوى الدلالة. فهي تعيّن موضوعها وتحكم صياغته على مستوى التركيب. فنص صلاح فائق يقوم على تقديم “رجل” مرة “وطائرة” أخرى، ويغيّر الجار والمجرور “بعينيه/ بقنبلة” ليسمح لقارئه تخيل المشهد العنيف: براءة الرجل الأعزل (يلاحظ الطائرة بعينيه) وبشاعة الحرب (طائرة تلاحقه.. بقنبلة).
والتكثيف يتحقق أحياناً بالتكرار الذي يبنى المشهد جزءاً. وعلى هذا تقوم قصيدة عقيل علي(28) “امرأة3” حيث تتصدر الأبيات العشرة كلمة “أسمعك” متبوعة بموتيفات مصوغة أحوالاً في الغالب؛ فلا نحس مللاً بل نتسلم تأكيداً على وجود المرأة المتكرر:
أسمعك في الجسد طيوراً معبأة
أسمعك في شبح يحتفى بتسلّقى
أسمعك تترنمين وأنت فمى
أسمعك في النهارات مسفوحة…
ونخشى عند القراءة أن يسترسل الشاعر ويصعب توقف النص، لكنه يجد نقطة النهاية في خلاصة بليغة ترتفع بالنص فوق الميوعة العاطفية أو الغزل العادي:
أسمعك في القصيدة، وأنت فرحى كله
ويكون التكرار متراوحاً بين بيت وآخر (أو ثلاثة) مع الاحتفاظ ببناء الجملة الشعرية في نص أمجد ناصر “أغصان مائلة”(29) حيث يتصدر الفعل “أريد” متبوعاً بمصدر مؤول ومفعول به:
أريد أن أنظف رأسى
من بقايا الموعظة والكلمة الطيبة
أريد أن أنظف قلبي
من حطام الحب الأول وشظايا الزجاج.
أريد أن أنظف عيني
من شِباك القمر الممزقة
وستائر النوافذ الموصدة
فالصياغة المحكمة هنا تؤازر التكرار المتراوح الذي ينبهنا في كل مرة إلى عضو أو جزء من الجسد، ثم المجرور المراد تنظيفه، وهو عنصران دائماً:
أريد أن أنظف

 
 

رأسي قلبي عينيّ صوتي
من بقايا الموعظة من حطام الحب الأول من شباك القمر الممزقة من أكسير الأغنية
والكلمة الطيبـة وشظايا الزجاج وستائر النوافذ الموصدة والنداءات المعقوده والنداءات المعقودة

ويستمر هذا التقسيم المتكرر ليخلق إيقاعاً داخلياً خاصاً يعضد الدلالة وينبه إلى الانزياحات الشعرية التي يقوم عليها النص سواء باقتران المتخيل بالواقعي (شباك القمر/ ستائر النوافذ) (حطام الحب/ شظايا الزجاج) أو تحوير الاستعارة (سيماء السلالة/ أغصان شجرة العائلة)…
وكي لا يظل القارئ منتظراً ما يريد الشاعر، تستدير القصيدة في نهايتها إلى إرادة إيجابية ليعلن الشاعر:
أريد أن أمشي وحيداً
وأغلق باب الحظيرة ورائي.
وإذا كانت هذه القصيدة تُبنى على تكرار متصدر أو متقدم على أبياتها، فثم نص آخر هو “تعزيم”(30) يجمعه التكرار في أواخر أبياته التي تختتم بالبياض مؤنثاً (بيضاء) ومذكراً (أبيض) وصيغة المثنى منهما (بيضاوان-أبيضان):
يدك الجاهلة على الركبة البيضاء بيضاء
الكاحل الذي يلمع في ليل عينى أبيض
كتفاك السامقان أبيضان ولوح الصدر أبيض…
وكما يلاحظ القارئ، فثم تكرار للبياض في البيت نفسه أحياناً، إلى جانب التكرار غير اللفظي، والمتحقق بذكر أعضاء جسد المرأة وأشيائها بحيث تتراتب عمودياً في البدايات أسماء لأعضاء الجسد ولوازمه، وفي النهايات تتراتب ألفاظ البياض.
أما النهاية فتحقق المفارقة اللّونية لصالح البياض فيصبح الدم المسفوك: دم الشاعر أبيض أيضاً – مع تكرار أبيض مرتين.
نلاحظ هنا تعقيد التكرار وحصاره للقراءة فكأنه قوسان يؤطران الملفوظ الشعري كله، لكنه إطار ذو منفعة – إلى جانب متعته – إذ يشعر القارئ بطغيان البياض ويوصل رسالة القصيدة الحسية المتعالية كالابتهالات الكهنوتية أو قصائد نشيد الإنشاد – وهي تحيلنا إليها بالصياغة وتأليف الجمل قصدياً.
وأقل من هذا التكرار تعقيداً ما يغدو جمعاً خطياًّ غير مركب ينتهى بحاصل الجمع أو النتيجة التي ينتظرها القارئ؛ لأن نقصان الجمل يرشح هذا الانتظار. ومثالنا هو نص قاسم حداد “من كل ذلك”(31) حيث يتصدر حرف الجر (من) كل بيت من أبيات القصيدة محققاً إيقاعيتها الداخلية المميزة بالتقاط الموتيفات وصولاً إلى النتيجة:
من وجع النوافذ التي…
من التربص للحلم…
من الشهقة الأخيرة…
من الرسائل
…أتكوّن كتاباً يتحول إلى صفرة السنابل…
ولكن أسلوب التكرار بتنوعه الذي يسمح به فضاء النثر والاسترسال الصياغي يعكس – كذلك – الانضباط البنائي المتنامي في قصيدة النثر، سواء أكان التكرار معقداً أو بسيطاً. إذ يمكن حتى في النوع الثاني (نموذج قاسم حداد) أن نشكّل تصوراً مجرداً للتكرار يوضح الفرق بين النوعين، غير أنه يؤكد الدقة الصياغية وتوخى الوقع من تأكيد التكرار:
وجع النوافذ
التربص
من           الشهقة ………. أتكون كتاباً ……….
الرسائل
تضرّع الخبز..
ويكون التكرار مقطعياً في نوع ثالث يخدم البناء المتنامي ويزيد ارتباط المقاطع في بنائها وتطوير الدلالة معاً. ونموذجنا، هنا، لعبدالرحمن طهمازى “جنازة أنكيدو”(32) المكوّن من تسعة مقاطع مرقّمة، كل مقطع يضم عدداً من الأبيات يساوي رقم المقطع”
المقطع – 1 – بيت واحد
المقطع – 2 – بيتان
المقطع – 3 – ثلاثة أبيات …
لكنها كلها تبدأ بالبيت الأول نفسه:
الطبيعة سقطت من يدى
وهي إشارة لموت أنكيدو ورثاء جلجامش له. والتقطيع هنا ليس شكلياً بحجة توافق المقاطع رقماً وأبياتاً بل هو يخدم النمو ووحدة النص الكلية؛ إذ تتصاعد نبرة الأسى والرثاء من مقطع إلى آخر حتى تنتهى بمناداة أنكيدو (أو ندبه) ثلاث مرات.
ولم يتوقف البحث عن تكرار كلمة أو عبارة بشكل عشوائي لأن هدفنا هو إبراز التنظيم الذي تتسم به قصيدة النثر بمقابل فوضاها الظاهرية المتحصلة من انفلاتها الإيقاعي، بالقياس إلى الرتابة الوزنية والتقفية الثابتة أو المتناوبة.
في نص طالب عبدالعزيز “أصدقاء”(33)، تنمو القصيدة وتتصاعد وحدتها تجسيداً ووضوحاً بوسيلة التكرار غير المتناظر الذي ينكسر بالاستطراد فلا يغدو حاصل جمع أو نتيجة:
البكّاؤون
البكّاؤون أصدقائي
الذين مرت السيوف على أعناقهم
ولم تترك إلاّ بريقها في الأكتاف
البكّاؤون
الذين ساروا أمامي إلى المناحر
ونحيبهم في أضلاعي
نحيب قطارات تائهة
الذين حلّ عليهم الظلام قبل الأوان
الذين…
وتنتهى القصيدة بالخبر المؤجل ثلاثة عشر بيتاً لنعرف أنهم، أي الأصدقاء، أزهر عليهم الرمل/ واخضرت الفيافي/.. وماتوا من الاختفاء.. ويستطيع الشاعر بين قوسى المبتدأ وخبره، أو المطلع والخاتمة، أن يؤثث القصيدة صورياً ويتوسع في تفاصيلها التي لا تشط عن مركزها أو تنأى.
وإذا اعتبرنا العنوان المنكّر “أصدقاء” لافتة أو عتبة، فإننا لن نجد “وقائع” أو حالات لأصدقاء حقيقيين، بل هم أطياف ورؤى مشخصة. فالقصيدة تحرر الواقعة (واقعة الصداقة) من سلسلة تراتبها اليومي أو المباشر وتخرجها من سياقها الحياتي (=اللاشعرى) لتضعها في تراتب  أو تسلسل أو سياق جديد لا حياتي (=شعري) وذلك يطلق فضاء الصورة الذي يحلّق إليه القارئ – وفيه – ليتسلم وجوهاً غريبة لهؤلاء الأصدقاء “الذين إذا ساروا تبكي الريح/ وإذا أقاموا تصعد الأنهار منازلها في السماء”.
وإذا كانت قصيدة طالب عبدالعزيز تنطلق أساساً من واقعة عامة غير متعينة مكانياً، وذلك يسهّل تحريرها أو تحويرها لتغدو واقعة شعرية، فإن فاضل العزاوى في قصيدته “عندما وصلنا إلى بيت كافكا متأخرين”(34) ينطلق من واقعة متعينة المكان مشخصة الأحداث، ذات مرجعية جغرافية وثقافية محددة هي زيارة منزل فرانز كافكا. لكنّ ما يقدمه فاضل العزاوى ليس إلا رحلة خيالية ورقية يلاقى خلالها سامسا بطل رواية كافكا (المسخ) وجوزيف ك بطل (المحاكمة) ثم يصل أخيراً ليجد كافكا ميتاً فوق سريره/ يحدق من النافذة؛ لقد كان وصولهم متأخراً، والواقعة انتهت حياتياً وشعرياً. لكن ما رأوه في الطريق جزء مهم من هدف الوصول إليه، فهو “موقف” فكرى أو معرفى من كافكا المذعور (بدلالة بطليه سامسا و ك).
وفي نص قريب من نص فاضل العزاوى في مرجعيته يكتب خزعل الماجدى “عكازة رامبو”(35)، وهو نص طويل يتوكأ على مفردات من حياة أرثو رامبو ويتابع خطواته في تطوافه ويعرض مأساة اغترابه ومرضه. لكنه يحكى عن كائن آخر لا تحدد الوقائع التي عاشها في حياته الحقيقية مفردات حياته الشعرية، أي تلك التي يشكلها النص.
وفي “نشيد إلى مدينة مستعادة”(36) يكتب سركون بولص عن مدينة غير مسماة، لكنها مهجوّة في البيت الأول إذ يخاطبها:
قاتلة القصائد بكل الوسائل الممكنة..
وإذا ما عدنا إلى العنوان “نشيد…” لاستطعنا تلمّس السخرية التي ينظر من زاويتها سركون إلى مثل هذه المدينة: قاتلة القصائد ورامية الأجنة في المزابل ومهمشة السكارى والشعراء وملوثة الفضاء بالدخان.. لكنها ليست مدينة أرضية. إنها مصنوعة من شعور ووعي خاصّين، وهي “مستعادة” كما يشير العنوان، بمعنى أنها تنبثق من الذاكرة. وفي التناص الذي يتوسع ليشمل مفهوم إعادة حياة عدد من النصوص في النص الجديد، والالتقاء بها في أفق القصيدة، نجد معالجات مختلفة تتدرج من:

  • الإشارة إلى النص الأول واستدعائه بدءاً من العنوان، ومن خلال أبرز دلالاته. وهو نوع بسيط من التناص، يغدو للنص الأول فيه دور البؤرة، وتتسع موجات القصيدة بدءاً منها.

ونموذج هذا التناص قصيدة “ليل” لسيف الرحبى(37) المهداة (إلى امرئ القيس). وهي تقترب – وتبتعد – من ليل امرئ القيس، مرة بتضمين عباراته “أرخى سدوله” و “لم يرخ سدوله بعد”، وأخرى بالابتعاد عنه مسافة كافية لإثارة دلالاته. فصورة امرئ القيس “وليل كموج البحر” تتحول في نص الرحبى إلى:
ليل…
على شواطئه تُلملمُ الصرخةُ
أشلاءها من فم الغريق
لكن جوهر التناص قائم على إنتاج نص جديد يتأمل الليل ويضفي عليه صفات عصرية:
ليل لا يمكنك أن تقطعه بمنشار
أو تعتقله في كأس

  • استثارة جوهر النص الأول دون تفاصيل، ليقوم بمهمة شعرية خالصة في النص الجديد. ونموذجه قصيده نورى الجراح “الحائكة”(38). فالحائكة في القصيدة عمياء، تحيلنا إلى بنلوب مستغرقة في الانتظار من خلال حياكتها المتجددة لما فضّت من نسيج قديم. وهكذا الشاعر بـ(أناه) المعترضة في القصيدة لا ينزل ولا يصعد، باق بأطراف كسيرة على مقعد…

تتناظر الصورتان بشكل يعمق الحزن والخسارة:
الشاعر : ــ لا ينزل ولا يصعد ولا يذهب ــ على مقعد ــ طراف مكسورة
بنلوب : ـــ تفض ما تحوك ــ مستغرقة ـــ عمياء
فيتخلق بهذا التناظر المقتصد والمؤثر مشهد عبثي يضج باللا جدوى والخواء.

  • إعادة بناء النص الأول بعد تحوير متنة ودلالاته. وهذا ما فعله فاضل العزاوى في تمثل منزل كافكا ومصير أبطاله المذعورين في قصيدته التي مرت بنا. وقد تغنى شعراء قصيدة النثر في تناصاتهم، معطين القارئ مهمة الاندماج النصي من خلال ثقافته ودمج معرفته بمعرفة النص. وهذا يتجلى حتى في عناوين بعض القصائد والمجموعات الشعرية مثل عنوان أمجد ناصر (سُرَّ من رآكِ)، وعقيل علي (جنائن آدم)، وسركون بولص (الحياة قرب الأكربول)، وسواها مما يدمج أفق القارئ بنصوص متعينة بوصفها متونا، أو متراكمة بوصفها متخيلات نصية، تضيف ثقلاً للموضوع أو زاوية المعالجة الشعرية، وأحياناً لغة القصيدة او خطابها الخاص.
  • وأهم أنواع التناص المحاكاتي ما ينصرف إلى تمثل لغة نص آخر أو أسلوبه ، وذلك ما أنجزه حلمي سالم في ديوانه (دهاليزى والصيف ذو الوطء)(39) حيث يرينا هذا المقتطف، مثلاً، استعارته لغة المدونات العربية الشعبية ذات المنحى الحكائي – وألف ليلة وليلة تحديداً:

أيها الإنسى الدفين
هيتَ لك أيها الإنسى الدفين
خضّنى وأخبرنى: هل وراء كل صخرة إيقاع
كان يقبع لي في الهشيم فاتناً وردياً
جاءتنى التي جمعتنى عند: لا تلتم
فأعلمتنها أننى سأكتب:
فحيح المدى فخاخ
وهذه الرمال أفئدة…

  • ومنه التناص القائم على استثمار سطح المكتوب، ومحاكاة المخطوطة العربية القديمة في الهيئة الكتابية وتوزيع الأسطر الشعرية والعناوين والاستدراكات والهوامش، حتى تبدو الورقة جزءاً من مخطوطة لا يتردد الشاعر في شطب (أو تعديل وتغيير) عبارة، والإشارة بالأسهم وكتابة الأبيات في حواشى الصفحات وهوامشها، واستخدام الخطوط وعلامات الحساب والحروف المفردة. وقد أنجز رعد عبدالقادر عملاً شعرياً كاملاً بالخط أسماه (جوائز السنةالكبيسة)(40) يقوم على هيئة المخطوطة مازجاً الشكل السطحي للنص المكتوب بخط اليد، بمحتوى كامل من خطاب المخطوطة: السحر والأدعية والصلوات والتكرار والاستطراد متجاوزاً خطأين قاتلين في محاولات سابقة عليه أرادت استعارة شكل المخطوطة من حيث كتابة القصائد باليد دون استثمار خطاب المخطوط فظل المحتوى عصرياً ينافر الإطار التراثي، وكذلك النزعة التخطيطية أو الخطية في الفن التشكيلي حيث تعنى الحروفية أحياناً إلصاق الحرف في عناصر متنافرة على جسد أو سطح اللوحة، فتؤدي الحروف والإشارات والعلاقات البدائية دوراً زخرفياً خالصاً.

إن الإفادة من التناص، هنا، تمنح قصيدة النثر إيقاعاً خاصاً تقرأ على أساسه، وهو يجعل لها كياناً علائقياً يحيل الى ما يذخر القارئ من تجارب، ويثير من خلال الوقع أو الأثر المتحصل بالقراءة كوامن الشعر في وعى المتلقى ودواعي الحرية والرفض في أعماقه التي تجمدت وجفت بما اعتراها من تكرار للنماذج، ورتابة في الرصف، وقعقعة إيقاعية صاخبة، وجعجعة لغوية فارغة، وهيجانات عاطفية مبتذلة.
وفي نصوص أخرى سنجد الاحتفاء بالسرد يتخذ أشكالاً كتابية، وهيئة خطية مناسبة، يكرسها كمال سبتي في قصائده منذ دواوينه الأولى ، وسنجد ذلك في ديوانه الأخير (آخرون قبل هذا الوقت) حيث يستثمر السطر النثري كاملاً لإنجاز البنية البيتية المدورة، كتأثير منقول علن قصائد التفعيلة المدورة ، ويبدأ في قصيدته الملحقة بهذا البحث (42) بتثبيت أو تحيين الزمان: (الشتاء قرب البحر) مؤاخياً معه المكان (شتاء / بحر) وتتداعى بعد ذلك أفعال السرد (أخرج… ينبئني .. لم يصل … أصغي) وتحضر الشخصيات: (البحارة / صيادون / عجوز / غريب) مع المحافظة على ضمير السرد الأول (المتكلم) وعنصر الوصف والمكان: (ساحل / حانة / مأتم ..) وهكذا يخضع السرد المرسل من وجهة نظر الشاعر ، لإكراهات الشعر فلا تنمسخ هويته أو خطابه.
ويغدو التاريخ أحياناً موضوعاً للسرد الشعري ، ولكن بصياغة جديدة ، وتفسير مشاكس كما يفعل عبدالرزاق الربيعي في قصيدته (سد مأرب) (43) حيث يعيد سبب انهيار السد إلى (مزاح موجة تسللت بين فخذيه) أما الثقب الذي حصل في السد فهو(ثقب) أصاب التاريخ نفسه ، وتستوقفنا الوداعة الظاهرية للنص ، وحيادية الراوي ، بينما يعبئ نواياه لتظهر في نهاية النص.
وفي ديوان (الأرض المرة) لباسم المرعبي تتصل الأسطر الشعرية كما في الكتابة السردية ، رغم أن النص المختار له في الملحق (44) لا يمثل هذه النزعة ، حيث الأسطر الشعرية قصيرة تناسب جملة المتدافعة التي تلح بالتكرار (تنكسر – أسأل – كف ..) وهو يجمع الموتيفات المتناثرة (تنكسر الطفولة / تنكسر الفراشة) في بناء ثلاثي ينتهي بنتيجة لتلك المقدمات (تجبرين القلب) لنكتشف أن ذلك كان (أضعف الأحلام) في استعارة لتعبير شعبي شائع (أضعف الأيمان) أو أقلها تحصيلاً .. لذا جاءت صوره قليلة وعباراته موجزة.
وتهيأ لي أن أعايش ولادة نصوص شعرية يمنية لأسماء ذات وعد وحضور في جيل ثالث من كتاب الحداثة الشعرية ، سأمثل لنماذج منهم بقصيدة لمحمد الشيباني مهداة لصديقه الشاعر الراحل نبيل السروري (45) والشيباني ممن يبدو النثر واضحاً في كتاباتهم الشعرية ، حيث تأخذ الجملة الشعرية شكلاً معقلناً ظاهرياً رغم احتدامها بالرفض والتمرد ، وإحساسه الحاد بالموت الذي يعطيه صورة (حائك لا يضاهى) ، كما نلاحظ ميله لرصد جزئيات جسدية مصغرة يتم تكبيرها ، كاليدين ، وانعكاس الموت كظاهرة عليهما.
وتختار نبيلة الزبير ضمير المخاطب ، لواحدة من قصائدها القصيرة (تشكيل) (46) التي تتلاحق جملها المتقطعة ، تعبيراً (أو معادلاً) عن لهاث شعوري ، يغدو تقطع أو انقطاع الجمل ، مرادفاً للشعور نفسه ، وكذلك كثرة علامات الاستفهام التي يتوجب مراعاة وجودها ، مع النقاط الكثيرة بعد الكلمات وبينها أحياناً … لتخلق تشكيلاً لونياً مجرداً … ويأتي نص أحمد الزراعي ذو المخيلة التصويرية الواضحة في ديوانه الأول (أسلاف الماء) احتفاء نصياً بالطبيعة وهي في حالة ظاهراتية فذة : يسقط عليها الشاعر وعيه وإحساسه ، رغم أن النص المختار (ريشة في الموت) (47) لا يمثل تماماً ذلك الوعي ، لأنه يمتثل لنقل فكرة الموت أيضاً ، ولكن عبر استدعاء غيلفيك وهرقليطس ، إلا أننا نجد النهر أيضاً رغم بعده الفلسفي الحاضر عبر مقولة هرقليطس..
وفي نص (محمد محمد اللوزي) (48)  وهو أكثر زملائه جرأة ومشاكسة واستدعاء قرائياً للماغوط في نصوصه الأولى – نجد احتجاجاً على الحرب التي لا يعرف لها سبباً ، وتعرفه غرفة الجنرال وحدها ، بجمل شعرية قصيرة ، ومتعمدة البساطة والوضوح والمباشرة ، لكنها تصنع أخيراً مفارقتها الحادة ، التي تشي بالسخرية والتمرد معاً…
وفي نص لشاعر متقدم عن زملائه في عمر تجربته الشعرية هو / محمد حسين هيثم ، نرى استثمار المتوازيات أو (الثنائيات) بين ما تريد المخاطبة ، وما يريد الشاعر ، وهو هنا يرسم صورة نمطية لحضور المرأة كمناسبة لإظهار أفكار الشاعر ، وتفرده ، وبحثه عن حريته (مقهى عادل / عشب /أصدقاء …) ولا شك أنه أفاد من انقسام القصيدة هذا ، فجعل متوازياته تتناظر كالظل والضوء ، فإن ما تريد المرأة هو قصيدة فحسب ، بينما يقف الشاعر في ضوء رغباته وبراءته. ولاشك أن لهيثم تجارب نثرية أخيرة يتفوق فيها على منظوره الرؤيؤي والفني معاً كما تجلى في نصه المختار (49) الذي يمثل موجه أولى في قصيدة النثر اليمنية. وأما نص علي المقري (50) فيمتلك مقدرة خلق نص ذي بؤرة عددية ، يتقشر عن فكرة واحدة : التعمير أكثر من الأجيال السابقة ، بأبتكار طريقة في العد ، لكنها بعد أن تتناقص غلافاً غلافاً ، ونصل إلى أصغر نوياتها (الثانية) نجدها تساوي العدم أيضاً ، فهو امراً محتوم ولا مفر منه .
والملفت هنا تقنية القصيدة التي تشبه بناء يتآكل أو يتهدم جزئية فأخرى حتى الوصول إلى لبّه … ولا يخفى الإحساس بالزمن هنا ، مع ملمح المشاكسة الساخرة واللهو مع الموت الذي ظل شاغلاً ينهب رؤى الشعراء كما يترك ظلاله على أبنية نصوصه المتكيفة في أساس حكمته …
 
هوامش وإحالات :

  • تودوروف : الشعرية ، ترجمة شكري المبخوت ورجاء بن سلامة ،ط ، دار توبقال ، الدار البيضاء 1990، ص 12، ص24.
  • أرسطو : فن الشعر ،ترجمة عبد الرحمن بدوي ، دار الثقافة ، بيروت د.ت، ص5 .
  • يرد مصطلح (المحاكاة) واضحاً في منهاج البلغاء للقرطاجني ، ولدى الفارابي أيضاً. يراجع : عبد الله الغذامي : الخطيئة والتكفير من البنيوية إلى التشريحية ، النادي الأدبي الثقافي ، جدة 1985 ، ص 19 .
  • إبراهيم أنيس : موسيقى الشعر ،ط4 ، مكتبة الأنجلو المصرية ، القاهرة . 1972، ص 6 .
  • حاتم الصكَر : مالا تؤديه الصفة ، دار كتابات ، بيروت 1993، ص 29 .
  • أدونيس : الشعرية العربية ، دار الآداب ، بيروت 1985 ، ص27 .
  • ينظر : الغذامي ، ص 19 . وتعريف الفارابي للقول الشعري بأنه التمثيل .

تنظر : رسالة في قوانين صناعة الشعر للفارابي ، تحقيق عبد الرحمن بدوي ، ضمن كتاب أرسطو السابق ، ص 151 .

  • ينظر : أرسطو ، فن الشعر ، ص 3 .
  • تودوروف ، ص 23 .
  • نفسه ، ص 84 .
  • جان كوهين: بنية اللغة الشعرية ،ترجمة محمد الولي ومحمد العمري ، دار توبقال، الدار البيضاء 1986 ، ص 9 .
  • جاكوبسون : قضايا الشعرية ، ترجمة محمد الولي ومبارك حنون ، دار توبقال ، الدار البيضاء 1988، ص 19 .
  • سوزان برنار : قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا ، ترجمة د. زهير مجيد مغامس، دار المأمون ، بغداد 1993، ص 181-182 .
  • نفسه ، ص 31 وما بعدها .
  • روبرت سي هولب : نظرية الاستقبال ـ مقدمة نقدية ، ترجمة رعد عبد الجليل جواد ، دار الحوار ،اللاذقية 1993 ، ص 175 .
  • لا نعني بالمقصدية هنا ما أصطلح عليه نقاد القراءة والتقبل في تسمية النوع أو تجنيسه ووجود القصد في (ذات) الكاتب ، بل التخفف في (القصد) لكتابة النوع شرطاً لتحقيق شعريته كما هو حاصل في النهاية الأدبية القديمة. ويشير إلى تناقض مصطلح قصيدة النثر كل من : جاكوبسون ، ص 10 . وسوزان برنار ، ص 19، 270 ، 143 . وعربياً أشار أدونيس في مقدمة الطبعة الرابعة لأعماله الشعرية الكاملة ،بيروت 1985 ، ص 5 وما بعدها ، إلى تناقض المصطلح الذي أشاعه هو نفسه في كتاباته الأولى . ويقترح مصطلحاً آخر لا يقل بلبلة عن السابق ، هو ( كتابه الشعر نثراً) وهو مصطلح يجسم ائتلاف النقيضين ويباعد بينهما ، بعملية الكتابة المنصبة على الشعر بوساطة النثر.
  • هذه الخصائص تلخص معربة بإيجاز عن سوزان برنار ، وترد في مقدمة ديوان (لن)لأنس الحاج ، تراجع الطبعة الثانية منه ، بيروت 1982 ، ص 19 . وتقارن بماورد في كتاب برنار : قصيدة النثر .. ، ص28 ، 151 حيث تذكر (المبادئ الأساسية) لقصيدة النثر فتسمي الحصر ، والإيجاز ، وشدة التأثير أو كليته، والوحدة العضوية ، والمجانية ، والكثافة ، وتركز على ما فيها من فوضى وتنظيم معاً . وهو أشد تناقضات قصيدة النثر التي لم يتنبه لها كتابها العرب المبكرون .
  • سوزان برنار ، ص 265. وفي باب الإفادة من الخصائص السردية والعناصر الحكائية وشيوع السرد في الشعر منذ السريالية . يراجع : الصكر ، ص 93 .
  • كوهين ، مصدر سابق ، ص 10 .
  • يلاحظ الدارس وهو يستقصي مؤثرات الجيل الأول في لاحقيهم أن شعراء (الشعر الحر) بالمعنى الانكلو ـ سكسوني (جبرا وجماعته) لا يملكون تأثيراً محدداً وواضحاً في الشعراء التاليين لهم بإستثناء محمد الماغوط الذي استهوت الشعراء مطابقاته الصورية وقيام قصيدته على المفارقة الساخرة والجارحة ، مع التقاط الموتيفات الذكية وربطها ببعضها تحت رايات الرفض والتمرد والمشاكسة.
  • جان دمو : أسمال ، دار الأمد ـ بغداد ، 1993 ، ص33.
  • خالد المعالي : خيال من قصب ، منشورات الجمل ـ كولونيا 1994 ،ص71.
  • عباس بيضون : أشقاء ندمنا ، دار النهار ـ بيروت 1993 ، ص59.
  • زكريا محمد : الجواد بجتاز أسكدار ، دار السراة ـ لندن 1994 ، ص71.
  • وعرفت هذه القصيدة القصيرة جداً باسم آخر هو “الجملة الشعرية” وكتبها في العراق بكثرة خزعل الماجدي ورعد عبدالقادر.
  • فرج العشة : BARFLY ، دار الأرض ـ قبرص 1992 ، ص79.
  • صلاح فائق : مقاطعات وأحلام ؟ ، لندن ، 1984 ، ص69.
  • أمجد ناصر : أثر العابر ـ مختارات شعرية ، دار شرقيات ـ القاهرة 1995 ، ص85.
  • أمجد ناصر : سر من رآك ، ط2 دار جلجامش ، 1995 ، ص85.
  • أمجد ناصر : سر من رآك ، ط2 ، دار جلجامش ، 1996 ، 43.
  • قاسم حداد : يمشي مخفواً بالوعول ، دار رياض الريس ـ لندن 1990 ، ص72.
  • عبدالرحمن طهمازي : أكثر من نشأة لواحد فحسب ، منشورات الجمل ـ كولونيا 1995 ، ص34.
  • طالب عبدالعزيز : تاريخ الأسى ، دار الشؤون الثقافية ـ بغداد 1994 ، ص22.
  • فاضل العزاوي : في نهاية كل الرحلات ، منشورات الجمل ـ كولونيا 1994 ، ص72.
  • خزعل الماجدي : عكازة رامبو ، دار الأمد ـ بغداد ـ وهو قصيدة طويلة .
  • سركون بولص : الحياة قرب الأكروبول ، دار توبقال ـ الدار البيضاء 1988م ، ص39.
  • سيف الرحبي : رجل من الربع الخالي ، دار الجديد ـ بيروت 1993 ، ص21.
  • نوري الجراح : مجاراة الصوت ، دار رياض الريس ـ لندن 1988 ، ص16.
  • حلمي سالم : دهاليزي والصيف ذو الوطء ، دار رياض الريس ـ لندن 1990 ، ص40 .
  • رعد عبدالقادر : جوائز السنة الكبيسة ، دار الشؤون الثقافية ـ بغداد .
  • كمال سبتي:”آخرون قبل هذا الوقت”، نينوى للدراسات والنشر،دمشق2001، ص 39.
  • عبدالرزاق الربيعي: “جنائز معلقة” ، نشر خاص، مسقط 2000.
  • باسم المرعبي : “الأرض المرّة”، المؤسسة العربية للدراسات، بيروت 1998، ص 97.
  • محمد الشيباني :”تكييف الخطأ”،اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، صنعاء 2001، ص 12.
  • نبيلة الزبير: “تنوين الغائب” ، الآفاق للطباعة والنشر ، صنعاء 2001 ، ص 31.
  • أحمد الزراعي:”أسلاف الماء” ، مركز عبادي واتحاد الأدباء، صنعاء 2002، ص 60.
  • محمد محمد اللوزي:”الشباك تهتز العنكبوت يبتهج”، نشر خاص، صنعاء2001، ص60.
  • محمد حسين هيثم : “أكتمالات سين” ، دار الهمداني ، عدن 1983 ، ص 125.
  • علي المقري: “يحدث في النسيان” ، مركز عبادي واتحاد الأدباء، صنعاء 2003، ص 37.

 
مصادر البحث ومراجعه
 

  • أدونيس (علي أحمد سعيد) : الشعرية العربية ، دار الآداب ، بيروت 1985.
  • أدونيس: الأعمال الشعرية الكاملة ، م1 ، ط4 ، دار العودة بيروت 1985م.
  • أرسطو : فن الشعر ،ترجمة عبدالرحمن بدوي ، دار الثقافة ، بيروت د.ت.
  • أنيس (إبراهيم) : موسيقى الشعر ، ط 4 ، مكتبة الأهجلو المصرية ،القاهرة 1972م.
  • برنار (سوزان) : قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا ، ترجمة : د. زهير مجيد مغامس، دار المأمون للترجمة ، بغداد 1993م.
  • تودوروف (تزفيتان): الشعرية ، ترجمة شكري المبخوت ورجاء بن سلامة ، ط2، دار توبقال ، الدار البيضاء 1990م.
  • جاكوبسون (رومان): قضايا الشعرية ، ترجمة محمد الولي ومحمد العمري ، دار توبقال الدار البيضاء 1988م .
  • الحاج (أنسي) : لن ، ط2 ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت 1982.
  • الصكَر (حاتم) : ما لا تؤديه الصفة ، دار كتابات ،بيروت 1993م.
  • الفارابي: رسالة في قوانين صناعة الشعر ، تحقيق عبدالرحمن بدوي ، ضمن كتاب (فن الشعر) لأرسطو ، السابق في هامش3.
  • الغذامي (عبد الله ) : الخطيئة والتكفير من البنيوية إلى التشريحية ، النادي الأدبي الثقافي ، جدة 1985م .
  • كوهين (جان) : بنية اللغة الشعرية ، ترجمة محمد الولي ومحمد العمري ، دار توبقال ، الدار البيضاء 1986م.
  • هولب (روبرت سي) :نظرية الاستقبال ـ مقدمة نقدية ، ترجمة رعد عبد الجليل جواد ، دار الحوار، اللاذقية سورية 1992م .

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*