حوار أجراه الشاعر محمد عيد إبراهيم- القدس العربي 2001

 
التقاه : محمد عيد إبراهيم
 
حاتم الصكر واحد من نقاد العراق الذين يتعاملون بلغة نقدية حديثة مع الأدب، وقد تقلد عددا من المراكز الأدبية داخل العراق وخارجها، وهو الآن يعمل مدرسا جامعيا في الجمهورية العربية اليمنية. وفيما يلي حوار معه دار حول رؤيته للشعر خاصة لقصيدة النثر، وما المحددات المرجعية والجمالية والإيقاعية لها. كما قام بعملية رصد آنية لحركة الشعر العراقي، وغير ذلك من قضايا إبداعية تخص نقد الشعر وعالمه الجمالي:
 
هل يمكن أن نعيد تقييم حركة الشعر الحر بعد ما يزيد عن نصف قرن، حتى لا نبالغ فيما أنجزوه؟
بعد ما يزيد عن نصف قرن من انطلاق شرارة التجديد الشعري، يمكننا إعادة تقييم الموجة الأولي في حركة الحداثة الشعرية. ولكن بشرط استذكار الإطار العام لها، والسياق الذي جاءت فيه كي لا نبالغ في حجمها أو نعمل علي تقزيمها بسبب إسقاطات عارضة.
إنني أعد المنجز الشعري لجيل الحداثة الأول ضربا من الاستدارة في مسار الشعر العربي، وتغييرا في مسار الشعرية العربية ذاتها. لأن المحاولات التي سبقت تلك الحركة لم توجه للجسم الشعري العربي سوي رضّات عابرة، ظلت أسيرة نظامه وآلياته. لأن الظروف التي تهيأت لما عُرف بحركة الشعر الحر ـ رغم ما لنا علي المصطلح من احتراز ـ لم تتهيأ للمحاولات السابقة عليها. ومن أبرزها الصلة الصحية بالشعر الغربي الحديث وتأثير التبدلات الاجتماعية والحضارية في الحياة العربية.
وأعتقد أن فحص منجز حركة الشعر يتعدى النصوص إلي ما رافقها من حِجاج ومنافحة وتمرد، أسهمت كلها في خلق ملامح (خطاب) حداثي شامل، ومشروع تجديدي واسع.

هل يمكن تحديد مرجعيات جمالية لقصيدة النثر العربية ضمن التراث؟ وبم تتميز في التعبير عن نص الوجود؟ وماذا يستدعي السرد فيها؟
لقصيدة النثر مرجعيات جمالية وفنية واضحة. بعضها يتضح عبر معاينة الأنواع الشعرية التي تتنزل منها هذه القصيدة، وانفتاحها علي الأجناس الأدبية، هذا علي المستوي الفني أو النصي. أما علي المستوي الجمالي والمتعلق بتقبلها واندراجها ضمن الشعرية العربية وسيرورتها فله حكاية أخري طبعا.
لقد شُغل المدافعون الأوائل عن قصيدة النثر، لا سيما أدونيس، باقتراح سلالة تحدرت عنها قصيدة النثر لمنحها شرعية الوجود، وهوية الشعر. فوجدوا ذلك في النثر، في مناطق النثر المتوهجة، وفي الإشراقات الصوفية تحديدا، والنثر العربي الناصع الذي تمثّل في (كتابة) حرة، ذات طابع جوانيّ وفيض وجداني تأملي. والتمثيل هنا يعيد أسماء الخراز والنفري والتوحيدي والحلاج وأعلام الصوفية، وأدب المهمشين والشطّار وحتى رسائل الفلاسفة وكتب الحب العربي.
لكنني لا أجد في هذه الكتابات رسّا أو جذرا نوعيا. بمعني أنها تشتغل في حقل آخر، فهي تنطلق من النثر نفسه، وتلبي أعرافه وتقاليده، ضمن إطار حاد، تتعين علي أساسه، وتتحدد شعريتها.
أما قصيدة النثر فيمكن البحث عن جذورها في مدارج الشعر ومراقيه، وفي الكلام الأدبي نفسه. في السرد المضمن داخل الشعر. وفي الأنواع القصصية المحيلة إليه. ولا ضير ألا نجد لها سلالة واضحة. ولكن قد نجد لها مبررات أو مستندات تقوّي حضورها الآني، وتمنح كتابتها دفقا وجوديا لا عونا نصيا أو فنيا.

لماذا تعادي الأصولية الثقافية قصيدة النثر، مع أن النثر في الحضارة العربية أهم من الشعر، رغم شيوع العكس؟
قصيدة النثر جاءت أصلا لتهدئة الهيجان اللغوي والعاطفي والإيقاعي الذي طبع إيقاع القصائد الموزونة بأقدار متفاوتة (عمودية أو حرة). وقدمت، كمبرر لحياتها، اتهاما واضحا لحضور الوجدان الطاغي وأنا الشاعر ولوازمهما. وهي تريد في برنامجها غير المعلن ـ أي المسكوت عنه ـ أن تقلل كمية الشعر في القصيدة… هذا الذي يملؤها حتى تفيض به أو تختنق.
وهي بذلك تهدم وتبني معا. وتلك إحدي عللها وأبرز مآزقها. ولا أظن أن نصا آخر ـ سواها ـ توجهت إليه هذه الأسئلة أو مر بهذا الاختبار القاسي، عبر حياة الشعرية العربية كلها.
إن الشعر الحر مثلا (والمنثور) قد أعفي من سؤال الإيقاع وموقع الأنا في النص الشعري، أو سؤال المرجع وحضوره أو غيابه. لكن تلك الأسئلة وسواها لا تزال معلنة علي لائحة قصيدة النثر التي صاحب ظهورها سؤال يمسّ مصير الشعر نفسه: وجوده وكيفيته معا. فهي (قصيدة) تضاف إلي النثر، كما يضاف هو إليها. وذلك تلازم أو تضايف عسير، أحس به الأوروبيون أيضا وتنبهوا لجملة مفارقات في فنيتها بدءا من اسمها المحير والملتبس والمشوش…

ألا تري أن تلك الأمور تحتم اختلافا وتقترح مغايرة؟
ولهذا كان تفرد قصيدة النثر أحد أسرار عُسرها وسهولتها (تصوُّر سهولتها) في الوقت نفسه.
هل يمكنك رصد بعض المحددات الإيقاعية لقصيدة النثر؟

الإيقاع نفسه كمصطلح مُرحَّل من الموسيقي يعاني من الضبابية واللاتعيُّن. فكيف إذا أردناه وصفا لقصيدة هاربة من النمط الموسيقي المتخلق في الشعر بتلازم التفعيلات والقوافي ونظامك الأبيات؟
إن وجود الإيقاع في نص شعري مموسق، هو أمر غير متعين أو محدد، فكيف نراه في رتبة موسيقية أدني تقف فيها قصيدة النثر المتنازلة عن تلك الموسيقي التقليدية؟
هذه معضلة في نقد قصيدة النثر. ولا أدري إذا كان كتّابها أنفسهم قد عانوا قلقها؟ هم مستمرون في تجريبها وكتابتها دون التفات إلي هذا القلق النقدي القرائي المتصل بوجودها.
لقد أخرج بعض نقاد الغرب قصيدة النثر من الأنواع الشعرية ذات المستوي الإيقاعي، واعتبروها قصيدة دلالية أي يمكن لنا فحص مستوي الدلالة فيها، وأنا أشير هنا إلي رأي جان كوهين في كتابه بنية الشعر الذي كان يفحص مستويات البنية قواعديا وإيقاعيا وصوتيا، فلم يجد ميدانه في تجارب قصيدة النثر.
الحديث عن (محددات) إيقاعية، أجده أكثر واقعية من البحث عن (إيقاع) شامل لقصيدة النثر. فالمحددات تنبثق من النصوص نفسها، وتهب للقارئ ما يرشده إلي دخول عالمها، لا للبحث عن تجسدات معنوية صغري، ومحاور دلالية كبري، ولا لتأشير صور تقليدية يعضدها المجاز المنمط بلاغيا، بل لكشف (انتظام) الأبنية الشعرية وتتبع ذلك الانتظام من خلال الأدلة اللسانية وتنضيد القصيدة خطيا، والاستعانة بالسرد مما يستدعي ترتيب ضمائر التلفظ بعدا وقربا من مركز النص، ومعاينة الانضباط السردي علي هذا الأساس. وهو الأمر الذي لا يراعيه كثير من كتّاب قصيدة النثر، لا سيما القادمين إليها من أجواء القصيدة الغنائية بحضور الذات حضورا قويا وطاغيا.
لقد جربت شخصيا في أحد كتبي أن أحتك نقديا بقصيدة لأنسي الحاج. وجدتها تتمتع، رغم فوضاها الظاهرية، بانضباط سردي مدهش، فيها ألفة سهلت مهمة إجراء تحليل نصي لها، يستفيد حتى من محور الصوت والتركيب والجملة الشعرية، ومن تنامي عضوية القصيدة ودلالتها طبعا.

وإذا كان هذا الأمر ممكنا في نص لشاعر من شعراء قصيدة النثر في مرحلتها الأولي ـ مرحلة مجلة شعر تحديدا ـ وكما في شعر أدونيس والحاج خاصة، فأحرى بشعراء الجيل الثاني أن ينتبهوا إليه في نصوصهم.
حدد لنا بعض الأسماء الشعرية التي تروق لك في السنين الأخيرة؟

التسميات تخذل المسميات غالبا. والتمثيل مهما اتسعت رقعة الممثَّل بهم، سيظل ناقصا لأنه يحتكم إلى الذاكرة لا إلي الدراسة والفرز. لكنك تريد أسماء. وسأذكر لك أسماء. لكنها ستكون (أسمائي) أي التعبير الذوقي الآني في لحظتي الراهنة. وهي ليست لحظة نقدية قطعا لأنها مرتجلة. فهي لا تعطي إجابة جامعة أو مانعة. هل ستسمي ذلك اعتذارا مسبقا عمن سيفوتني ذكر أسمائهم. لك أن تعد ذلك كذلك.
وسأذكر هنا سركون بولص، صلاح فائق، عباس بيضون، أمجد ناصر، حلمي سالم، سيف الرحبي، زكريا محمد، خالد المعالي، طالب عبد العزيز، قاسم حداد. وسأذكر محمد بنيس في بعض كتاباته النثرية القليلة، والجيل الشاب كله في العراق ومصر ولبنان والمغرب. ومن اليمن عبد الكريم الرازحي الذي أود لو قـُرئ بشكل واسع. وسأذكر من الشاعرات ميسون صقر وسهام جبار ولينا الطيبي…
هؤلاء وسواهم يمنحون تجربة قصيدة النثر، وهي تجربة قصيرة زمنيا بالمعيار الإنجازي الفني لا الإرهاصات والمقدمات، ما يؤكد توسعها وانفتاحها على معطيات جديدة سواء في الموضوعات أو الأساليب وينطلقون من الإيمان بها والإحساس بطاقتها وإمكاناتها. وهذا شيء مهم عندي.

كيف تري الشعر العراقي الراهن، ومن يمثل أفضل التجارب الشبابية؟
الشعر العراقي الآن، يواصل جهوده رغم وجود العراقيين أنفسهم كشعب مستهدف. ورغم أنهم يواجهون ما يمكن استعارة رواية ماركيز لوصفه: الموت المعلن والمسكوت عنه أيضا.
ولعل أحد أسرار وجود العراقي العنقائي، يتهرب إلي الشعر أيضا. ففي مطحنة الألم التي صنعها الحصار مع سبق الإصرار، لا يكف الجسم الشعري العراقي عن الحياة بفاعلية لافتة. وهاك بعض مظاهر هذه الحياة الفعالة: وجود الأجيال إلي جانب بعضها البعض، ومواصلة مغادرة الشعر إلي أقصي تخومه حرية وتجديدا، وحوار الأساليب بعنف ومسؤولية، وتعدد الأسماء لدرجة الجنون… واستمرار الإصدارات الشعرية داخل العراق وخارجه.
أليس هذا كافيا لوصف مشهد الشعر في العراق بأنه كفاحي وعصامي وفريد؟ هناك مدرسة للجواهري، تلاميذ للبياتي، وسعدي، وأنا حريص علي الفواصل بين الأسماء لأنها تعبر عن رواية وأسلوب وذائقة مختلفة. هناك حسب الشيخ جعفر، وسامي مهدي، وحميد سعيد، ومحمود البريكان، وعلي جعفر العلاق، خزعل الماجدي وزاهر الجيزاني، الصائغ ونصار وعبد الزهرة زكي، رعد عبد القادر وطالب عبد العزيز، حسين عبد اللطيف وعلي الطائي، نصيف الناصري، وعبد الرزاق الربيعي، وعشرات الأسماء الآخرين حتى ممن يسمي اليوم جيل التسعينيات.

كيف يمكن الاستفادة من وسائط الميديا في عرض الشعر، حيث يمكن أن تقدم مشحونة بطاقة تفوق المجاز القديم أحيانا؟
أنا أري أن إخضاع الشعر لاشتراطات الاتصال السمعي أو المنظور (إذاعة وتليفزيون وقنوات بصرية مشابهة) فيه إرغام للشعر على أن يتكيف على وفق هذه القنوات التي تتمحور أساسيات عملها (آلياتها) علي المباشرة من جهة، والاستعانة بوسائل غير شعرية تحمل معها اشتراطات خطيرة، بعضها يعمل علي تسطيح الشعر وفقدان هويته اللغوية لصالح متع البصر والحيل المصنوعة المجتلبة من سياق آخر تماما…
ولا أظن أن المباراة قائمة بين (مجازات) تصنعها وسائل الاتصال الحديثة، ومجازات اللغة وفضاءاتها. فالأمر أبعد من ذلك وأخطر وأكثر ضررا. لأنه يمس بؤرة القصيدة وتمددها في أنحاء المعني والبنية عبر القراءة.
لكن ذلك لا يعني معاداة التطور التقني بصورة عفوية أو فطرية أو رفض التكنولوجيا رفضا شاملا بدافع التخلف. إننا نريد لوسائط الاتصال الجماهيرية أن تساعد القصيدة علي أن تصل بوجودها الافتراضي الذي تكوّن وتشكّل شعريا وليس بدافع تكييف الملفوظ الشعري نفسه ليشف ويسهل، ويدخل في سياق لعبة الإبهام والمتعة البصرية العابرة.

القدس العربي – 11/11/2001

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*