سرد الحرية- تقديمي لرواية هيرتا مولر-حيوان قلب -ترجمة د.علي منصور

دار شرق غرب-برلين-2011
يمكن تلخيص الثيمة الأساسية لكتابة هيرتا مولر بأنها قضية الحرية في المقام الأول .هناك من رأى بعد حصول الكاتبة على جائزة نوبل للآداب2009 أنها تمثل سرد الأقليات المعذبة، أو الغربة اللغوية ، والاشتغال على التمركز القومي لكونها عاشت حقبة طويلة من حياتها وراء أسوار رومانيا تشاوشسكو؛ فكانت معاناتها من الدكتاتورية مضاعفة: كمواطنة وكألمانية في بلد آخر.
وعندما تتحدث مولر عن أدبها  وعبر اهتماماتها المتعددة: روائية وقاصة وشاعرة ومقالية ومترجمة تقول إنها تكتب عن الدكتاتورية لأنها (لم تعرف شيئا آخر ولم تر شيئا آخر) .
كان عليها مثلا أن تقابل مترجمة روسية محترفة لتصحح لها مفرداتها أثناء الدراسة ، ولكن في غابة بعيدا عن الأنظار كي لا يراقبها احد.
بطلات روايتها هذه(حيوان قلب ) هن أيضا يذهبن إلى الغابة ليلاقين عشاقهن، بعيدا عن الأعين ، متعرضات للعقاب في أية لحظة و.يغدو( الراندي فو) بترميز الفتيات وتشفيرهن للقاءات الغرامية عملا فدائيا يمارسنه بسرية وخوف.
الحرمان هو أول ما يطالعنا في الرواية.لولا الطالبة  التي تروي عنها صديقتها وزميلتها في السكن الجامعي لا تفارقها عادات الريف وثقافته. لكن العوز يظهر على فتيات السكن اللواتي يحولن السخام  الأسود مثلا إلى مادة تجميل، ويتبادلن الجوارب ، ويسرقن من  بعضهن اللوازم العادية .
لكن السرد في (حيوان قلب ) ينتصف للمضطَهدين ، فيبدو الجلادون والقتلة بصورة كاريكتيرية  تذكرنا بجنرالات ماركيز المضحكين في روايات  مثل (مائة عام من العزلة) و (خريف البطريرك). هنا سيكون للنقيب بيله المراقب  الدائم للفتيات كلب يحمل اسمه نفسه كناية عن وحشيته ولا إنسانيته.. في (حيوان قلب) وأعمال مولر الأخرى ليس ثمة فواصل بين المتخيل السردي والسيرة الذاتية ؛ فهي تقترض من يومياتها الكثير، وتسرّب إلى أعمالها أجزاء من حياتها ذاتها ، فالمعاناة ممكنة وسوف تتكرر مادامت الدكتاتورية مستمرة بخطابها الفاشي الذي لا يوفر مثقفا أو فقيرا، مواطنا أومن الأقليات .يتصاغر الفرد بينما الديكتاتور يعلو ويتضخم : تصور مولر مشاهد ملتقطة من يوميات العسف في رومانيا كما عاشتها.عندما يزور الدكتاتور مدينة يحقنون الشجر الذابل ليغدو أخضر عند زيارته ، ويغسلون الأبقار في الريف بمساحيق التنظيف .
في (حيوان قلب )على الجميع أن ينتموا للحزب ويحضروا الاجتماعات ويبلغوا عن زملائهم وأهلهم ؛ فتغدو الوشاية عنصرا فاعلا في الحياة والخوف سلوكا عاديا : الخوف من كل شيء حتى من الأهل .
السرد نفسه تصيبه عدوى الخوف والحلم بالحرية ، فالساردة في( حيوان قلب) ليست واحدة ، بل هي تختفي لتروي بدلها ساردة أخرى ، والمشاهد البصرية مرمزة دائما رغم أن مولر تحتفي بالتفاصيل بشكل لافت: إنها تشتغل كناسجة: خيوط تلتقي ببعضها وتتقاطع .هكذا نقرأ الوقائع والمصائر والنهايات في (حيوان قلب) .
واللغة نفسها في حالة خوف أيضاً: تلغي مولر هنا علامات الترقيم الضرورية ، ولا نعرف للجمل حدودا واضحة ؛  فليس من نقاط ولا علامات استفهام ولا أقواس أو فوارز عدا نقاط نهايات المقاطع .ونلاحظ أن الرواية مكتوبة كجملة واحدة ، فلا فصول  مرقمة أو معنونة ، ولا مساحات  بيض لانتقال الأحداث،  ما يجعلها عسيرة على الفهم ، بالإضافة لما نقلته الكاتبة  من تقاليد اللغة الرومانية ونحوها ؛ فكان عنوان الرواية نفسه إشكاليا  ، فنقله إلى العربية مترجمو سيرتها بصياغات مختلفة.
مولر تريد أن ترينا القسوة داخل القلوب .ثمة حيوان في قلب كل فرد.هذا بعض ثمار شجرة الدكتاتورية –والتي كان لها شواهد في بلداننا أيضا فهاجت تلك الحيوانات لتقتل وتمارس الجريمة بوحشية- .أما النسخة الإنجليزية من الرواية فقد تجنب مترجمها إشكالية التركيب اللغوي ؛ فوضع لها عنواناً دلاليا جديدا هو( بلاد الخوخ الأخضر) . تعد (حيوان قلب ) أفضل ما كتبت مولر  بشهادة النقاد والقراء ، ومنهم سكرتير الأكاديمية الملكية السويدية مانحة نوبل ،  لما تميزت به تقنيتها الحديثة  وأسلوب السرد الروائي فيها  واشتمالها على إشارات بليغة لأحداث لن تسقط من الذاكرة الإنسانية   ، وحيث المونولوجات المطولة، و استكناه  دواخل الشخصيات ، وكشف خوفهم ، وحذرهم من الآخر، وأحلامهم  المقموعة أيضا. وهي درس في ما يمكن أن تفعله الدكتاتورية من مسخ للنفوس ، وتشريع للوحشية التي تجعل الفرد يفكر بالهرب من وطنه أو  الانتحار.
المذهل هو تطويع الكاتبة للغة نفسها ولفاعليتها السردية وصفا وحوارا واستبطانا ، ومزجها  الذكي لسيرتها بخيالها ، و انسيابية وصفها وسردها بغربتها اللغوية: كمواطنة مولودة في قرية ألمانية ضُمت بعد الحرب إلى رومانيا .لكن الحرية هي الملخص الذي تفرزه الرواية على المستوى الدلالي ، وهي الجملة التي تقال في النهاية ويجب ألا تثير الضحك كما تقول الكاتبة في مطلع الرواية وختامها: إذا تكلمنا ضحك منا الآخرون!
وسيضاف  لمعرفتنا بهيرتا مولر الكثير عبر  هذه الترجمة  العربية الرصينة والمدققة  لغرض مضاهاة لغة مولر وسردها العذب  واحتواء دلالاتها السياقية التي يمكن تعميمها – شأن الأدب المكتوب من أجل الحرية- لفضاء إنساني أوسع ، أرى أن العربية من أكثر الأمكنة واللغات حاجة له.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*