في استذكار الشهيد حميد ناصر: أية شمس وأي شجر؟

 

     أية شمس ؟ أي شجر ؟ وأينَ البيت…؟ في استذكار حميد ناصر
    
 -1-
لا يسعفني في موقف الاحتفاء هذا بالشهيد الكاتب والفنان حميد ناصر الجيلاوي إلا ما أضمره له من تذكرات، هي خلاصة معايشتي له صديقاً وقريباً في السبعينات التي كنت نصفها الأول أعمل مدرساً للغة العربية في إعدادية الكوت…في المدينة التي عدت إليها عودة عكسية، بمعنى أن الناس كانوا يهاجرون ويهجرون أواخر الستينات مدنهم وقراهم صوب بغداد، بينما كنت أتشوق في حنين غريب إلى العمل في الكوت، حيث الجذور التي أنتمي إليها وبيت الجد في ريفها القصي…آخر فلاّحي العائلة الذي مات في غرفة صغيرة فوق سطح بيتنا المكتظ ببغداد وفي حي فقير هو حي الحرية…، كنت أسمع من والدي عن أقارب كثيرين لم يتسنَ لي اللقاء بهم قط…لكن اسم حمود ابن ناصر الشبوط الطالب في دار المعلمين يتردد كثيراً فهو من الأقارب الذين لم تسلبهم الهجرة أو تجذبهم السيرينيات المغنيات ببغداد بأصواتهن الجميلة وإطار الرخاء والترف الظاهري…، ويوم قدم أحد طلابي بإعدادية الكوت – وأنا أناهزهم سناً وأتبسط معهم كي لا يشعروا أنني بغدادي- ليدعوني للقاء قريب لي…لاحَ من بعيد شبح نحيف بسمرة غامقة وتحت الإبط كتاب وجريدة وكيس ورقي وأشياء لا أذكرها ستكون جزءاً من صورة حميد ناصر أو حمود كما تسميه العائلة والبطاقة الرسمية…
ابتسامة عريضة يداريها بحركة كفه أو يغطيها بيديه وهو يتعرف عليّ وذهبنا بعد الدرس إلى سوق المدينة لنجلس في مقهى شعبي وتبدأ من هناك علاقة صداقة تجاوزت القرابة بأشواط ليكون حميد صديقاً حميماً يفضي لي بهموم السياسة والدراسة ثم العمل في التعليم وحتى الزواج، صرت بعد أيام جزءاً من يوميات حميد وصار جزءاً من يومياتي، أتعرف على المدينة معه، اجتاز سدة الكوت وأتأمل معه فوران النهر وهو ينهض من جديد تدفعه البوابات المفتوحة لتجدد شبابه ثم ليتوزع في أنهر تخرج من أبطه قبل أن يستدير معانقاً المدينة صانعاً منها شبه جزيرة جميلة ومهملة… نعبر معاً ونتأمل السمك المستسلم للمصائد دون إرادته ثم لسيل الفقراء وعرباتهم وسياراتهم الخشبية، منعرجين يساراً إلى الفيصلية التي ترفض اسمها الجديد ( العزة) وتلتم حول بيوتها الفقيرة لأدخل غرفة حميد بين غرف البيت البسيطة حيث مكتبته وهمومه وأحلامه…
كان يكتب ويخفي ما يكتب ويسألني بخجل إن كان ما يكتبه ( قصة) أم شيئاً آخر…
كنت منذ البدء أخشى عليه من السياسة..، فكرياً لم أكن بعيداً عن فكره اليساري وبعض قناعاته الماركسية لكنني سياسيا لم أجد في الحزبية مكانه الصحيح وكان ذلك مثار جدلنا رغم تفهمه لاعتراضي المبني على فكرة حرية الكاتب وعبودية الالتزام دون التشكيك بأيدلوجية ما….
كيف نتصالح وهو الكائن السياسي المنخرط صغيراً في الحركة الشيوعية ؟ لم نجد ملاذاً سوى الأدب … فصار مفتاح صلاتنا ومحطة استراحة له- من مشاويره الغامضة في شوارع الكوت والريف وسفراته المفاجئة لبغداد وسواها- ولي أيضاً من التدريس ومراراته وآلياته المزعجة…، وحين غبت أكثر من عامين مطلع السبعينيات للتدريس في عدن بعد استقلال جنوب اليمن من الاحتلال البريطاني كان حميد قد كبر ونضج وفكر جدياً بالزواج من فتاة خلق منها متعلمة وسياسية وهي الريفية البسيطة بطيبتها وشجاعتها وشخصيتها المميزة…كانت قرابتهما مني تتيح لي التعرف على مدى صدق حبهما… حتى في واقعة تسمية ابنه البكر ( شفيع ) توازياً مع إعدام المناضل النقابي السوداني ( الشفيع) فصار اسم الولد مناسبة سياسية…لكنها كانت اكثر منه تحمساُ للتسمية…
– 2-
في عودتي التالية للكوت حتى مغادرتي لها صيف عام 1975 للعمل في بغداد، كان حميد قد تشعبت به الهموم والملاحقات والمضايقات المعيشية والسياسية، وكان يظهر بصعوبة في مدينته ويتعرض للمضايقات التي حاول التخلص منها بالعمل في الريف والبقاء في مسكن والده رغم أنه لا يتسع لهم جميعاً…وسط أشياء البيت المتناثرة تلوح في غرفة ضيقة ذات سقف واطئ مكتبة حميد ورسومه….
رسوم حميد بالقلم الرصاص وألوان بسيطة ( ألوان خشبية ومائيات ) كانت تأتي تالية لاهتماماته بالقصة القصيرة..وكنت ألاحظ دقة خطوطه ورهافتها رغم أنه يتركها غالباُ كدراسات وتخطيطات فهو يضع أغلفة كتب زملائه وأصدقائه. وتعلو قصصه على الورق وهو يدسها في أيدينا مستكشفاً آراءنا بما يكتب…
وحين سلمني مخطوطة مجموعته القصصية الصغيرة الحجم ( بيت للشمس والشجر ) كان قد وضع لها أكثر من غلاف…واحترت وأنا أحاول الإجابة عن سؤاله حول أفضل الأغلفة… فكلها معبر ومتقن وجميل وفيه توزيع جميل ومتناسب للكتل والخطوط والعناوين..لكني وجدتها فرصة مناسبة لإعلان رأيي بأنه يقتل الرسام داخله لصالح القاص المقتول أصلا لصالح المناضل…
-3-
السياسة لم تكن مهنة أو احترافا بالنسبة لحميد ناصر. إنه نموذج نادر لمناضل تشده الأرض إلى ترابها…، في نقاشاتنا لم يكن يذكر شيئا من قراءاته واستدلالات النظرية الماركسية التي يؤمن بها رغم إحاطته بها بدقة وصبر.. فهو لا يمل القراءة في أي ركن أو واسطة..كان يحيلنا إلى الحياة التي تغلغل حميد في مساماتها وتخللت مساماته أيضاً…
الفقر حول حميد…في وجوه أسرته وجيرانه ومحلته وحتى مدينته.. في وجوه طلابه وأصدقائه .. ومنه أستمد ثوريته ولهفته للتغيير…
صراحته الصارمة الممزوجة بحبه المفرط للنكتة وحسّه الشعبي المميز… جعلته ذا شخصية نادرة بين رفاقه…وكنت أحس من مجالسته أن كثيرين من رفاقه يضيقون بطغيان شخصيته في كل جلسة أو ندوة أو حديث رغم محبته الواضحة للجميع….
سيقودني ذلك إلى الحديث عن أسلوبية حميد في كتاباته سواء ما نشر منها كالمجموعة القصصية أو ما لم ينشر وتيسَّر لي قراءتها كرواية وأكثر وبعض النصوص الوصفية والمسرحيات…فحميد واقعي شفاف و شاعري وكنت أُسمعه نقدا للواقعية كتمثيل للخارج وما يسمى بالواقع ككتلة واحدة منظور إليها من زاوية إيدلوجية ، وأن النقل الحرفي للواقع أو عرضه انتقاديا على الطريقة الروسية لا إبداع فيه… لكن حميد كان يرد دائماً بأن ما يحاوله هو شئ آخر غير تمثيل الواقع وتصويره فوتوغرافيا، لذا كان يتخير أبطاله الهامشيين والمسحوقين وحاملي الثقة والتصميم في الوقت نفسه يتخيرهم ويرسمهم بدقة…
قراءاته للرواية العالمية في السنوات الأخيرة كانت ترشحه لكتابة رواية بلغة بعيدة عن المباشرة…وبلغة شفيفة فيها من الشعر رؤاه وصوره.
-4-
كيف إذن استذكر حميد شهيداً آثر الجميع بين خصال كثيرة، وكاتبا متعدد الجوانب، وإنسانا نادر المثال…؟
أستذكره بعيداُ في الزمان والمكان
ولكن بقرب القلب والضمير…
شاهداً على نزف هذا الوطن وجرحه المفتوح وسواده الأبدي.
 -5-
نم أيها الأسمر النحيل
بعيداً عن بيتك الذي أردته سكناُ
للشمس والشجر
أية شمس؟
هذه الكرة النارية التي تشوي القلوب والأجساد…
وأي شجر؟
هذا الذي قطعت أغصانه العواصف والقنابل…
لم تبق سوى الأضرحة…
وشواهدها
وساكنيها….
ونحن نلوّح لهم…ولك من بعيد
 في رقدتك الأخيرة
دون ( شفيع ) أو نسمة واسطية
ولكن ببسمتك الهازئة بدنيا ليست لأحد….
   
 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*