الهايكو: الحداثة ولو في اليابان!

 
يحمل شيوع كتابة القصيدة القصيرة جدا أو الهايكو في شعرنا المعاصر دلالتين في اعتقادي:هما علامة صحة في المجمل والمحصلة.أولاهما:مواصلة الشعراء الحداثيين العرب بحثهم عن أشكال مبتكرة وكيفيات جديدة للمحمول الشعري، ومحاولة اجتراح طرق جديدة لتخليص قصيدة الحداثة ( الوزنية والنثرية) من رتابتها وتقليديتها .وثانيتهما:البحث عن مراجع ومؤثرات مغايرة لما ألف الشعراء احتذاءه في تجاربهم السائدة، فقد مر بالحداثة الشعرية العربية زمن طويل يقرب من سبعة عقود وهي تستلهم المؤثرالغربي بشقيه الانجليزي والفرنسي ومؤخرا ببعض التجارب في اللغات الاجنبية الأخرى. لكن الالتفات إلى الشرق وتحديدا لتجارب اليابان بماضيها الفكري والفني هو الجديد في تغير المراجع والمؤثرات.
لكننا لا نستطيع إغفال الظروف الموضوعية والمبررات الفنية الداخلية التي أوجبت هذا التأثر، وشيوع ما عرف من قبل بقصيدة الومضة أو القصيدة البرقية التي تتكتل في عدد محدود من الأبيات لعله تطوير للقصائد المقطعية –ذات المقاطع المتعددة-أو استلهام لبعض التجارب التراثية في النثر والشعر، كقصائد البيت الواحد أو المقطعات و التوقيعات التي غدت فنا مستقلا في الكتابة العربية سنجد اثرها في القصة القصيرة جدا بجانب الأخبار والحكم و الأمثال المختزلة.
ومن هذه المؤثرات الموضوعية الميل العام في التلقي أو المزاج المترافق مع إيقاع الحياة المتسارع وتداول المخترعات الحديثة التي أوجبت الإيجاز ملاءمة لشكلها او طبيعتها التوصيلية كالبرق والفاكس و الهواتف والرسائل النصية في الأجهزة المحمولة والبريد الإلكتروني والإعلانات والثقافة الصورية عبر القنوات البصرية .
لكن الحماسة المفرطة والإقبال الجمعي الآتي من تقليد للسائد أو الموضة الشعرية  تجعلنا -كقراء ومتابعين لجدل الأشكال في الممارسة الكتابية – نفضي بقلقنا من أن تصبح الهايكوات وسيلة أخرى للتكرار والتماثل الصوتي، بحيث لا يكون ثمة تميز أو خصوصية لا سيما والكثير من كتبة الهايكو لم يطلعوا على مبرراته الفنية وموضوعاته وتاريخه كنوع شعري.ولم يتم التعرف الكافي على نماذجه كما تداولها  في سفرها من موطنها القديم –اليابان- عبر الترجمات شعراء عالميون مثل أوكتافيو باث وجورج سيفيرس وبورخيس والنوبلي السويدي ترانسترومر وظهرت باللغات الأوربية انطولوجيات ومختارات من الهايكو وكتب بليث – عامي 49 19و1964 تاريخها بتوسع ودقة كما وضع أنطولوجيا شاملة لهذا الفن.لكن تأخرنا المعتاد في اللحاق بالظواهر جعل ترجمة هذا العمل لا تتم الا مؤخرا حيث ظهرت ترجمة الشاعر الراحل بدر الديب لكلاسيكيات الهايكو رغم أن كتابة الهايكو تجاوزت بداياته اليابانية التي اقتصرت على وصف الطبيعة أو المواقف العاطفية من الموجودات وما يدور حولها من ظواهر.وأهم ما في التطوير الذي شهدته الهايكو هو تنويع موضوعاتها وارتباطها بالذات الإنسانية بشكل أكبر، وكأنها انسحبت من وصف الخارج غلى رصد الدواخل والأحاسيس، مع الحفاظ على ذلك التوتر اللغوي والاكتناز الدلالي وهو ما يوجبه التكثيف والإيجاز الملازمان لهوية الهايكو النوعية وتميزه بين الاشكال الشعرية .
ربما غاب التعمق في فلسفة الزن أو الكونفوشيوسة او التصوف عن مراجع كتاب الهايكو العربي لكنهم بكل تاكيد مدركون لما يمكن تسميته بتر الاستطالات والترهلات الصورية واللغوية والإيقاعية، وانتفاخ القصائد بما لا يضيف لمحتواها. وهي دوافع تناثرت كمظاهر في كتابات مبكرة لجبران وبعض شعراء مجلة شعر في المرحلة التبشيرية من ظهور قصيدة النثر، ولكنها صارت اليوم وسيلة تعبير تعززها القنوات الاتصالية وبشكل خاص تلك المواقع والوسائط الافتراضية ،حيث لا بد من إيجاز وتكثيف لملاحقة التواصل والتفاعل الحي المتاح عبرها. وليس بعيدا أن تظهر تجمعات ومنتديات للهايكو ومختارات وموسوعات تؤرخ للقصيدة المختزله
و المكثفة في شعر الحداثة العربية كما هو حاصل في كثير من بلدان العالم.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*